فتاة وامرأة سوريتان في لبنان
لبنان يكرس الصورة الفوتوغرافية الراصدة لكيمياء العالم

 شهد لبنان، وبيروت بشكل خاص، خلال سنة 2016 اهتماما متصاعدا بفن الصورة الفوتوغرافية كممارسة مُتعصبة للواقعية، بعيدا عن شعوذات الفن التشكيلي المعاصر الهائم في استنطاق المرئيات، على النحو الذي يستنطق به المحقق العام البريء والملصقة به جرائم من شتى الأنواع، وإذا كانت الكيمياء هي ممارسة غير مرخص فيها قانونيا، فالفوتوغرافيا أعطتها بعدا توثيقيا شبه علمي أجاز لها التصرف في مظاهر الواقع بيد سحرية، لا تدّعي السحر أبدا، حتى تنفذ بهدوء إلى الجذور التي أتاحت نموّ صور الواقع الأكثر بداهة.

العرب ميموزا العراوي 

 

بيروت – سؤال يفرض ذاته أمام الصور الفوتوغرافية المبنية على مفردات واقعية، ولكنها في الآن ذاته تقدم نصا ضمنيا يحيل المُشاهد إلى أبعد مما يراه أمامه جليا وواضحا وغارقا في “العادية”.

لماذا الآن، وتحديدا خلال سنة 2016 حيث تجلت هذه النزعة إلى الواقعية “المعاصرة”، إذا صح التعبير؟ ربما بسبب تخمة الصور المُعدلة ديجيتاليا أو المتحولة أو المركبة التي يشهدها عالمنا، والملل منها ومن رؤيتها يجتاح حياتنا العامة والخاصة، وربما أيضا لأن الواقع حاذى الغرائبية التي أصبحت أكثر من المُتخيل، ولا سيما في ما يتعلق بالفظائع وأثرها على التكوين النفسي للبشر.

ربما بات تصوير مفردات الواقع الأكثر عادية، كتصوير “كنبة” يجلس عليها أحد الأشخاص، أو علبة على طاولة، ضربا من ضروب الشعائر السحرية التي تعيد النظر إلى “العادي”، ولكن هذه المرة مع تشبيكه بحس تأويلي واسع.

لم تعد الرموز وفهمها ما يقلق الناظر فحسب، فما يقلقه أيضا هو تلك البراءة الأولى التي تجرده من دفاعاته ومعلوماته، وهو أمام محاولة لاستيعاب معنى “العادي” وكل ما يستطيع الإشارة إليه.

صور فوتوغرافية تتميز بنص شعري متصل كل الاتصال بالوقائع الاجتماعية والبيئية والنفسية حتى من الناحية الشكلية

 شعرية الواقع

 ليس في توجه الفن التشكيلي المعاصر الذي شهدته بيروت خلال هذه السنة من محاولة للفكاك من قيود المرئيات أيّ شيء بشع أو مرفوض، بل على العكس، يكفي أنه تطوّر بصري وحتمي لكل التجارب الفنية التي اشترك في تكوينها البشر، لكن فن الفوتوغرافيا الذي حضر بشكل كبير في المعارض الكثيرة التي شهدها لبنان ربما لا يكون إلاّ ترجمة لحاجة ملحة إلى القبض على زمام الحوادث، والمشاهد بعد أن فلتت من نطاق الاستيعاب لكثرتها ولوحشيتها، ولا سيما في منطقة شرق الأوسط.

ثمة معارض لمصورين غير لبنانيين، ولكن تبقى أدنى أهمية من الصور التي قدمها اللبنانيون من حيث المواضيع، فقد التقط معظمهم مشاهد طبيعية تقارب المشاهد السياحية مع بعض التفنن في استخدام التقنيات التصويرية المعاصرة.

أما الصور التي قدمها مصورون لبنانيون فتشير إلى عودة تأملية إلى ما جرى في لبنان في فترة الحرب، وخاصة حول آثارها في المجتمع والأفراد على السواء. لا رثاء لما كان ودمرته الحرب، لا حنين إلى اللحظات المضيئة التي عرفتها المنازل في أوج موجات الدمار، ولكن مجرّد ابتسامة فيها شيء من البرودة وربما الحيادية التوثيقية، ابتسامة ترى وتصوّر، وفي صورها تلك تعيد توصيف وتقييم الأمور.

أغلب ما يلفت النظر في الأعمال الفوتوغرافية اللبنانية، هي أن في معظمها تضع المصور الفوتوغرافي اللبناني كحكيم مُشبع بالتجربة الحياتية والبصرية وهو يطل على ما هو أبعد من خراب الدول المجاورة له؛ يطلّ على الآثار المستقبلية للبلدان المجاورة التي تعايش الآن الهلع الوجودي الذي داهمها من حيث لا تدري.

يتميز هذا النوع من الصور الفوتوغرافية بنص شعري متصل كل الاتصال بالوقائع الاجتماعية والبيئية والنفسية حتى من الناحية الشكلية، من هذه الصور نذكر تلك التي عرضت في صالة “جانين ربيز” وصالة “تانيت” وصالة “مرفأ” وصالة “صفير زملر” و”مركز بيروت للفن”.

طرحت المصورة اللبنانية لمياء أبي اللمع في معرض حمل عنوان “حقائق تتشابك” عبر النساء اللواتي صورتهن في لباس عسكري وهن في حميمية بيوتهن، آثار وتبعات الحرب اللبنانية التي امتدت من سنة 1975 حتى يومنا هذا في نفوسهن، وبالتالي في النسيج النفسي الخاص بالمجتمع اللبناني بأسره الذي هو، بالنسبة إلى المصورة، ليس إلاّ امتدادا من معاناتهن اليومية في صمت ينطق أكثر مما يخفي.

أما المصورة رانيا مطر فقد عرضت صورا فوتوغرافية ملونة تحت عنوان “الطفلة – المرأة”، والتي لم تخرج عن إطار عمل المصورة النفسي/ الاجتماعي الذي اشتهرت به، وهو يتمحور بشكل خاص حول النساء والفتيات الصغيرات في مواجهتهن لذواتهن وتفاعلهن مع بيئتهن الاجتماعية والسياسية.

أنوثة غير مكتملة

 نذكر أيضا معرضا للمصور اللبناني سيرج نجار تحت عنوان “نظرة أكثر دقة إلى العادي”، والذي قدّم فيه صورا لا تختلق إضافات لا لونية ولا شكلية، إذ تنقل مشاهد مدنية وواقعية تماما، ولكن من زوايا حاذقة ومختلفة تبرز الغرائبي فيها، وتحيد الواقعي/ العادي بعيدا جدا عن مجال التفكير.

ونذكر أيضا معرضا فوتوغرافيا مشتركا للارا تابت وميريام بولس وإلسي حداد وشاغيغ أرذوميان، حمل عنوان “أماكن مشتركة”.

ويضم المعرض صورا فوتوغرافية بالأسود والأبيض ترصد “العادي جدا”، تتأمله ثم تنقله كما هو، لا حاجة إلى تبديل أو تعديل أو إضافات لتكون الصورة صورة فنية، يكفي نقل المرئي إلى حيّز الصورة كما هو لكي يظهر الغريب/الوامض، الذي يعشش في كنف كل ما يمكن تسميته بالعادي أو الاعتيادي.

 الصور التشكيلية

 شهدت بيروت معارض لصور فوتوغرافية تحمل نبرة مختلفة عن تلك التي تبنت الواقع بشعرية باردة، إنها الصور التي “تنسخ الواقع” بذكاء وكفعل تحفيزي للذاكرة، وربما لا يخلو هذا الفعل من شعرية ما، تفتقر إلى الغنائية. نذكر من هذه المعارض، المعرض الذي حمل عنوان “عبر الغيوم: مختارات من مشاهد جوية”، والذي ضمّ صورا قديمة ونادرة للبنان وسوريا وفلسطين المحتلة.

بعض هذه الصور تذكر بلوحات تشكيلية محا تفاصيلها الزمن، فغاصت في رمزيتها ودلالتها على عالم امّحى بشكل شبه كامل، ولكن ظل شاهدا على واقع مشترك في روحه ومظاهره، واقع تتقاسمه تلك البقاع الخصبة من الأرض والخيال.

وهناك معرض آخر بعنوان “لبنان بلا روتوش” للمصور رولان صيداوي الذي يوثّق لما كان قبل زمن الدمار والتلوث والهجرات القسرية، لقد حضرت في الصالة صور عن أسواق بيروت القديمة وعن أماكن أخرى في سوريا وفلسطين المحتلة.

التقط رولان صيداوي صوره الفوتوغرافية تلك بالأسود والأبيض حسب اختياره الشخصي، إذ كانت تقنية الألوان موجودة في زمنه، أرادها -كما قال- أن تبدو “على حقيقتها”، قد يجد البعض في هذا التفسير غرابة ما، لأن اللون حاضر وبقوة في “الواقع” وفي المشهد اللبناني الطبيعي، ربما أراد الفنان من ذلك أن يركز المُشاهد نظره على الوجود البشري وأشكال البيوت والجبال والأشجار وغيرها من عناصر التأليف الشكلي، بمنأى عن تحولات الألوان السريعة تحت وطأة العوامل الطبيعية.

في هذا السياق نذكر أيضا معرض الصور الذي أقامه مركز “بيروت للمعارض” للمصور زياد عنتر، حيث استلهم فكرة مشروعه من كتاب كمال الصليبي “التوراة جاءت من جزيرة العرب”.

خاض زياد عنتر غمار التصوير الفوتوغرافي أولا كفنان تشكيلي له رؤية تصويرية خاصة أبرزت جمالية ضبابية اقتفت أثر المشاهد الجغرافية لتلال ومسطحات وصخور وجبال.

عنوان المعرض “ما بعد الصورة” يشي برغبة لدى الفنان باقتفاء أثر الصورة وأثر المشهد أكثر منها رغبة في تمثيل واضح للمعالم الجغرافية، جاءت أعماله تلك صدى للمشروع الأسطوري/ التوثيقي والتاريخي والأدبي بغض النظر عن حقيقة ما أثبته المفكر كمال الصليبي في كتابه.

في بعض الصور اعتمد اللون الأبيض حينا وفي بعضها الآخر لجأ إلى الألوان وتدرجاتها، كما التقط عنتر هذه المشاهد كمصور فوتوغرافي محترف عرف كيف وأين يمحو التفاصيل دون أن يخسر المشهد المصور روحيته.

حاضرات ينتظرن الغائب

أراد التوثيق الدقيق للمعالم، ولكن بطريقته الخاصة للطبيعة القاسية والجبال الشاهقة وتضاريس صخور جبال عسير الحادة، حضرت تلك الصور في كتاب بمحاذاة نصوص الروائي السعودي يحيى أمقاسم.

من ناحية أخرى، نذكر معارض قاربت الفوتوغرافيا بشكل فائق حتى كاد المشاهد أن يرى اللوحات التشكيلية، وكأنها صور فوتوغرافية موثقة لوقائع ولا تحمل أي إضافات أو نقصان تشكيلي.

نذكر من هذه المعارض معرض حمل عنوان “همس الغابات” للفنانتين كارين بولانجي وماريا كازون، فقد شكل هذا المعرض دعوة إلى عالم مُقلق بهدوئه، كثير البوح بما حدث في أرجائه، ولكن في صمت مغناطيسي يستحضر أجواء القصص الخرافية وفصولها التي تحدث غالبا في غابات بعيدة لا يمكن لبطلة أو لبطل القصة أن يعود، أو “ينجو” منها دون أن يحدث تغييرا كبيرا في مسار حياته أو في طريقة رؤيته إلى الحياة بشكل عام. إذا وصفت كارين بولانجي أن “مجرد التقدم نحو عتبة الغابة يمنعك من العودة إلى الوراء لتجد نفسك في مواجهة قدرك”، فماريا كازون ليست بعيدة البتة عن هذا المنطق.

تُعتبر ماريا كازون من أهم فناني “البرفورمانس” والتجهيز، وهي عادة ما تدعم أعمالها بصور فوتوغرافية ورسومات بأبعاد ثلاثية وبغيرها من التقنيات الحديثة.

ويأتي عملها التجهيزي هذا، وكأنه استكمال أو نقطة انطلاق للوحات بولانجي، لذا وجب هنا تذكية براعة صاحبة صالة “نادين ربيز” في لمّ شمل أعمال الفنانتين لأجل تكثيف التجربة الفنية وإعطائها بعدا مُضاعفا.

هكذا تجيء الصور الفوتوغرافية مرافقة للوحات تشكيلية ولها أصداء في أعمال فيديو، لتشكل جزءا لا يتجزأ من التجربة البصرية/ الوجدانية التي تأخذ موقفا واضحا من العالم الذي يتأزم من حولها.

وهكذا يتقدم المصورون نحو مواضيع صورهم على نحو شبيه بما وصفته المصورة الفوتوغرافية دايان آربوس “كل شيء هو فاتن وملهث جدا، أنا أتقدّم زاحفة على بطني، كما الجنود في أفلام الحرب”.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.