17202758_1316223651803678_6357286472043647882_n

التكوين لا يأتي من عبث، وفي نمو الشخصية وتطورها، هناك العديد من العوامل والظروف التي لها بالغ التأثير، فالطبيعة من تلك العوامل والمؤثرات، وهي قادرة على التدخل والتحكم في الصفات الجسدية لأبنائها البشر، حسب مناطقها ساحلية أم جبلية كانت أو حتى من البوادي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، خصبها مهما تغيرت فصولها، فإنها قادرة على إغناء وإثراء الفكر والمشاعر والأحاسيس، وكيف إذا كانت الأم الطبيعة التي أتكلم عنها، هي من أجمل البقاع السورية وأكثرها نضرة وجمالا. ضهر صفرا في طرطوس، من الضيع السورية، التي وربما بحسب البعض، تبالغ في عطائها أو في تميّز أبنائها، والدليل على ذلك حالة من حالات لأشخاص من نفس المنطقة، الرسام التشكيلي والمصور الفوتوغرافي والعازف والمؤلف جورج عشي، صفات تقدمت اسمه، وربما هناك أكثر، فبين الريشة والألوان، يستمتع برسم البورتريات التي تحمل توقيعه بحقيقتها ووضوحها. ومن بين زحام الأشخاص وتبدّل الأماكن، عينه قادرة على التقاط أجمل الصور الفوتوغرافية عبر كاميرته. وعندما يستأنس وحدته منصرفا في التفكير، يلعب على وتر الكمان بكلمات يختار منها الأجمل والأعذب كي تكون أغنية تنبض بالحياة، ولا يمكن لزمن مهما طال أن يُطفئ نبض عاطفتها بالنسبة لنا نحن المستمعين، وبالنسبة لأهل الاختصاص من الملحنين، رقتّها وانسجامها مع اللحن، لا تتطلب التعديل أو التغيير بمكان ما.
صحيفة «الوطن» حاورت الفنان المتعدد جورجعشي، وإليكم بعضاً من محطات مهمة في حياته…

أنت من ضهر صفرا/ محافظة طرطوس إلى أي مدى الطبيعة تؤثر في تكوين شخصية الإنسان وكيف أثرت في فن جورج عشي وتعدد مواهبه؟
الطفل كالجدول الرقيق المنساب تحدد مسيرته التضاريس التي تواجهه، وتحدد عذوبته الأرض التي ينساب فيها وهو كالورقة البيضاء يكتب عليها الزمن والطبيعة تفاصيل مستقبلية وتوجهاته. نعم.. أنا من قرية جميلة اسمها ضهر صفرا، وهي كلمة آرامية تعني بالعربية جبل الصباح، وهي مسقط رأسي وأجمل قرى العالم، كما يعتقد كل إنسان أن مسقط رأسه هو أجمل أمكنة الدنيا، وقد حفرت هذه القرية في ذاكرتي الطفولية كل الأشياء الجميلة.. أشجار التين والرمان والزيتون والزهور تزنر حدائق البيوت والطرقات الترابية المتعرجة وحفر الماء في الشتاء وصوت المطر والرعد والبرق وصياح الديك وزقزقة العصافير وخوار البقر، وأصوات البشر من حولي تصبّح بعضها البعض في الصباح وتجتمع لاحتساء القهوة، بينما الرجال يذهبون إلى الحقول المحيطة أو إلى أعمالهم سيراً على الأقدام أو بانتظار البوسطة التي ستقلهم إلى المدن والبلدات القريبة إلى بانياس أو طرطوس أو حتى إلى اللاذقية لقضاء بعض حاجاتهم الأسبوعية. كانت والدتي حين صادفها أبي لأول مرة تسكن في قرية اسمها الخراب، وهي على مسافة عشرة أمتار من شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وفي المد تصبح المسافة ثلاثة أمتار، وهذه القرية تبعد عن مسقط رأسي ثلاثة كيلومترات، كنت في الصيف أقطعها مشياً على الأقدام، لأصل إلى البحر، ومنذ ذلك الوقت أصبحت بيني وبين البحر علاقة حميمة، وكنت أحياناً أنام هناك في بيت خالي«نجيب حربا» أستمتع بصوت البحر وأمواجه والنوارس التي كانت تمر من هناك، وأرافق أبناء خالي في زورقهم حين يبحرون لصيد السمك. أنا لم أكن أراقب ذلك بل أستمتع وكانت هذه الصور تتوالى في ذاكرة طفولتي.

كان والدك مدرس لغة عربية، ألهذا أصبحت شاعراً ومتذوقاً للكلمة؟
أبي من قرية سبعل اللبنانية، وكان قد تلقى علومه في مدرسة الجمهور اللبنانية وتفوق في الأدب العربي وعمل أستاذاً للغة العربية، وجاء إلى ضهر صفرا في عام 1919 وبقي فيها، وبدأ نشاطه بتأسيس مدرسة في القرية مع عدة أشخاص، وساهم في إنعاش القرية ما أوجد له مكانة بين أهلها، وبالتالي انعكس هذا على اهتمام الأهالي بإخوتي وبي أيضاً، وكانوا ينادون والدي بالمعلم وكنت أنا أدعى جورج بن المعلم.

متى بدأت علاقتك بالريشة وبالألوان؟
حين أصبح عمري خمس سنوات انتقلنا إلى اللاذقية، ودخلت مدرسة راهبات القلبين الأقدسين، وانتقل أبي من مدرسة ضهر صفرا إلى مدرسة الأب سالم كما كانت تعرف، وكنا نسكن في حي الصباغين، ولي في هذا الحي ذكريات جميلة جداً ورفقة رائعة كان لها الأثر الكبير في تنمية شخصيتي اليوم، وكان أبي بعد انتهاء المدرسة يأخذني معه إلى مكتبة النحات المشهور ميشيل أيوب، حيث كانت تحتوي على كتب غاية في الأهمية، على حسب قول والدي، وكان يمضي فيها الساعات وهو يقرأ، وأنا معه أقوم بواجباتي المدرسية، ثم أتمتع برؤية المنحوتات الرخامية التي أبدعها صاحب البيت. وفي المرحلة الإعدادية كانت رسوماتي تلفت انتباه مدرس مادة الفنون، وشاركت بمعرض المدرسة السنوي إلى جانب زملاء لي، ومنهم خالد المز الذي أصبح فيما بعد علماً من أعلام الفن التشكيلي، وكان والدي يشجعني كثيراً على الرسم والرياضة وخاصة الجمباز.

هل يمكننا القول بأن تعدد مواهبك كان لتعبئة وقت مع شخص كنت فقدته منذ زمن طويل.. وأقصد هنا الوالد؟
نعم.. في العام الدراسي 1953- 1954 حصلت الحادثة التي حولت مجرى حياتي كله بوفاة والدي عن عمر يناهز 64 عاماً، وكنت في الثالثة عشرة من عمري، وفقدت بذلك الرعاية التي كنت قد حظيت بها منه، وبدأت التخلف في دراستي من الحزن عليه، وبينما كنت الأول في صفي دائماً رسبت في امتحان الشهادة الإعدادية، فجاء أقرباء لنا من لبنان وأخذوني إلى مدرسة الفرير ماريست (الإخوة المريميون) في جونيه، وعدت من صف البروفيه، إلى السيرتفيكا الإفرنسية، ومع الوقت عادت ثقتي بنفسي هناك، وتفوقت حتى في دراستي وكان ترتيب نجاحي في السيرتفيكا الخامس على مدارس الفريرماريست في العالم. وعدت إلى الرسم، وفي أحد الأعياد الدينية قمت برسم جدران وملعب المدرسة برسومات أذهلت المدرسين هناك، وجاءت بعثة سينمائية فرنسية وصوّرتني أنا ورسوماتي.
في عام 1958 انتقلنا إلى حلب وحصلت ظروف أدت إلى تسريح أختي، التي كانت هي المعيلة الوحيدة لنا أنا ووالدتي وأخي الذي يقوم بخدمة العلم، فتوقفت عن الذهاب للمدرسة آنذاك لعدم القدرة على تسديد القسط السنوي المقرر، فقام بعض من زملائي في المدرسة بجمع القسط بينهم وأعادوني إلى المدرسة، فرفض مدير المدرسة آنذاك المبلغ منهم وأعادني هو دون أن أدفع قرشاً واحداً، فرسمت له لوحة بيتهوفن وهو يقود الأوركسترا في مؤلفه القداس الاحتفالي نقلاً عن لوحة معروفة وأهديته إياها وكان سعيداً جداً بها، ثم طلب مني رسم أيقونات له بأجر وقمت بذلك، لعلمه بأن المطلوب ليس قسط المدرسة بل أيضاً المأكل والملبس وأجرة البيت وبذلك الأمور مشت على ما يرام. وأعود إلى السبب الذي دفعني إلى متابعة هواياتي كلها، وهو أنني كنت أصبت باكتئاب قوي في السبعينيات من القرن الماضي، وحاول الأطباء في دمشق مساعدتي ولكنهم فشلوا فكتبت للدكتور هنري أيوب قريبنا من طرف والدته الذي كان مديراً لمشفى دير الصليب في جل الديب، فدعاني للمثول بين يديه، وعند زيارتي له سألني بضعة أسئلة، ووصف لي الدواء اللازم وطلب مني ألا أراجع أي طبيب في دمشق غير الدكتور فكرت خلف. وفي دمشق اشتريت الدواء وفتحت النشرة المرفقة وقرأت الأعراض الجانبية له فخفت أن استعمله، وتوجهت إلى الدكتور فكرت خلف، الذي ضحك من خوفي، وقدم لي تفاحة ثم أعطاني حبة من الدواء وقال لي «لا تخف أنا معك فإذا حصل أي شيء فأنا المسؤول فاطمأننت وأخذت الحبة. وعند عودتي للمنزل نمت حتى الصباح وكان وزني في تلك الفترة 49 كيلوغراماً، وتابعت تناول الدواء يوميا حسب وصفة الدكتور أيوب وخلال أسبوع بدأت الأمور تتحسن. وبينما كان الدكتور خلف يتابع حالتي الصحية، لاحظ في منزلي بعض الرسومات، وأبدى إعجابه الكبير بها وشجعني للاستمرار في الرسم، وفعلاً عدت ومن خلال تحفيزه أقمت أول معرض في صالة التبغ برعاية من الأستاذ محمد أحمد مخلوف المدير العام آنذاك، وشجعني كثيراً اقتناؤه لبعض اللوحات من كل معرض كنت أقيمه.

ماذا عن التصوير الفوتوغرافي؟
في عام 1975 تمت دعوتي من وزير الثقافة العراقي طارق عزيز لإقامة معرض في بغداد، ولبيت الدعوة وقد تم اقتناء كل لوحاتي في بغداد، وعدت إلى دمشق، فاشتريت كاميرا احترافية وسجلت على بيت في مشروع دمر من خلال نقابة الفنون الجميلة وألواناً وفراشي لأتابع الرسم. التصوير الفوتوغرافي كان مجرد وسيلة لتسجيل ذكرياتي، وأحياناً كانت تصادفني لقطات فريدة أقوم بتسجيلها، ولم أكن أخطط لأن أكون مصوراً على المستوى الذي ينعتني به النقاد بالمصور العالمي أو الذي نشر صورته إلا في عام 1983. ففي هذا العام حضرت اللجنة العالمية لمعرض انتربرس فوتو إلى دمشق، وكان من برنامج زيارتهم زيارتي أنا بالذات، لست أدري من الذي أعطاهم اسمي، فاطلعوا على صوري الفوتوغرافية وألحوا علي أن أشارك في المعرض الذي سيقام بدمشق، وفي الفترة بين زيارتهم إلى إقامة المعرض، قمت بجهد كبير كي أشارك وتقدمت بست صور، حازت إحداها الميدالية الفضية للمعرض، وهي صورة البائع الأعمى. هنا لم يعد من مجال لكي تستخدم آلة التصوير لتسجيل الذكريات بل أيضاً للإبداع ولا يصح النزول عن الموقع الذي وصلت إليه.
ما حكايتك مع آلة الكمان الموسيقية؟
بدأت التعلم على آلة الكمان في اللاذقية وتابعت ذلك في حلب وبعد حصولي على الثانوية تقدمت بطلب عمل في المؤسسة العامة للتبغ، وعُينت فعلاً وانتقلنا إلى دمشق في عام 1961، وكنت أداوم قبل الظهر في عملي بالريجي وبعد الظهر كعازف كمان على القطعة في التلفزيون العربي السوري، ثم كعازف في الفرقة السيمفونية الوطنية التي تشكلت أيام كان المحامي نجاة قصاب حسن مديراً للفنون في وزارة الثقافة وقدمنا أول عمل غنائي (الأرض) من تأليفه وألحان عبد الرحمن الخطيب شقيق فايدة كامل، وقاد الأوركسترا وقتها الفنان المصري فؤاد حجازي على مسرح الحمراء بدمشق.

إذاً العزف على الكمان هو الذي حفزك كي تتوجه لقراءة وكتابة الشعر المحكي ثم الأغاني.. وبعدها اللقاء بالموسيقار الراحل ملحم بركات.. حدثنا عن هذه الأمور؟
بدأت كتابة الأغنية مع بداية عملي مع الفرقة الموسيقية للإذاعة والتلفزيون بدمشق 1961، ولكنها كانت محاولات لا تستحق الإشارة إليها إلى أن كانت مسابقة وزارة الثقافة لتأليف الأوبريت الغنائي 1967 وقد حصلت فيها على الجائزة الثانية عن مؤلفي (خيال الريح الأزرق). وفي عام 1975 خطر للفنان ممدوح الأطرش أن يقوم بإنتاج أوبريت غنائي فكتبت له أوبريت (عدلة بنت الدهان). وكان أن صدف وجود ملحم بركات في دمشق واقترحت على ممدوح أن يلحنها ويقوم ببطولتها ملحم بركات، واجتمعنا وتم الاتفاق بيننا وتم تلحين (أغنية آه لو فيي) التي يغنيها اليوم ربيع الخولي، (ولو بيكون علي الحق) التي يغنيها اليوم غسان صليبا وهاتان من سياق العمل وهما من ألحان ملحم بركات، وأعطى الأغنيات الباقية إلى عبد الفتاح سكر وآخرين، وتم تسجيل الأغنيات، وفجأة جاء أمر، ولا أدري ممن، بالإيعاز لعيسى أيوب بكتابة عمل آخر لممدوح الأطرش، فاستخدمت أغنياتي فيه، ما عدا الأغنيات التي لحنها ملحم رحمة الله، الذي لم يقبل إطلاقاً استخدامها في أي عمل ليس من تأليفي. وكنا من قبل قد تعاونّا أنا وملحم بركات في أغنية:ع الشام وديني، يا نسمة تشرين، وأنتم تدركون مدى نجاح هذه الأغنيات، وكان ملحم قال لي ذات مرة أنت الوحيد الذي لم أطلب منه تعديل كلمة واحدة في نصه الغنائي.

بقلم: سوسن صيداوي