1_49

الدكتور (( صباح قباني )) ومسيرته بالإعلام والفن الضوئي والدبلوماسية


الدكتور صباح قباني
ومسيرته بالإعلام والفن الضوئي والدبلوماسية

إعداد : صالح ابراهيم
كمال جمال بك
الدكتور صباح قباني شقيق المبدع الراحل نزار قباني وحفيد الرائد المسرحي أبو خليل القباني …
عمل مديراً للتلفزيون السوري ودبلوماسياً مثل سوريا بالخارج وهو مصور فوتوغرافي مبدع من الطراز الرفيع … سبق وأجريت معه لقاء * برفقة العملاق المصور الدكتور مروان مسلماني لصالح مجلة فن التصوير اللبنانية عام 1985م منن مدينة دمشق … *((المراسل في سوريا : فريد ظفور ))


تولى إدارة التلفزيون منذ اليوم الأول لبثه في الثالث والعشرين من تموز عام 19600 بالموازاة مع مصر

د. صباح قباني
ننطلق بهذه الزاوية في أولى روادهع مع الدكتور صباح قباني من خلال كتابه :
( من أوراق العمر – مسيرة حياة في الإعلام والفن والدبلوماسية) الصادر عن دار الفكر في دمشق عام 2007.. والذي يوثِّقُ لمراحل في سيرته الذاتية، وعبر هذه المرايا تتوثِّقُ مراحل هامة مرت بها سورية .
والدكتور صباح قباني هو أحد رواد العمل الإذاعي في سورية وأحد مؤسسي التلفزيون العربي السوري حيث تولى إدارته منذ اليوم الأول لبثه في الثالث والعشرين من تموز عام 1960 ..
وأما مذكراته فتستعصي على التلخيص كما قالت عنها الأديبة غادة السمان : لأن صاحبها قام بذلك وهو يخطها كمن يقطر حقلا من الياسمين الشامي في زجاجة عطر ..
ولعل هذا الأمر هو ما دفعنا إلى الاعتماد على الكتاب كركن أساسي في مادتنا بعد حصولنا على موافقة الدكتور صباح ، مشفوعة بأريحية في الحديث ودماثة في الأخلاق بعد أن علم أن هذه الزاوية في موقع الهيئة العامة للإذاعةة والتلفزيون ستمتد إلى الأسماء الإعلامية التي أثرت حياتنا الفكرية والثقافية بما هو مفيد وممتع ما يشكل جزءا هاما من ذاكرة الوطن..
وسنقتبس من هذه المذكرات ما يتعلق بالإذاعة والتلفزيون ، مزودين هذه المادة الكتابية برابطين : مادة أرشيفية من ذاكرة التلفزيون ، ومادة أرشيفية إذاعية مع الدكتور صباح وعنه ، ويمكن نسخهما ..
ونكتفي بالإشارة إلى أن كتاب ( من أوراق العمر ) يضم سيرة الفنان التشكيلي والإعلامي والحقوقي والدبلوماسي صباح قباني متنقلاً بين حيّه (مئذنة الشحم) في دمشق إلى باريس حيث حصل على الدكتوراه في القانون وما بينهماا وما بعدهما من عطاءات متصلة في الإذاعة والتلفزيون السوري ووزارة الثقافة والبعثة الدبلوماسية السورية في الولايات المتحدة.
وقد صدّر المؤلف كتابه بحديث الذكريات عن والده توفيق قباني أحد المناضلين ضد الانتداب الفرنسي في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين والذي أسس أول معمل لحلوى الملبّس في سورية، كما أسس جده من قبل أبو خليلل القباني أول مسرح غنائي عربي،وعن بيت الأسرة وعن المدرسة التي تعلم فيها، واختتمه بالكتابة عن بعض من رسمهم بريشته وقلمه ومنهم: أحمد السمان – سعيد الجزائري – شاكر مصطفى – عبدا لسلام العجيلي – فؤاد الشائب – نزار قباني..
وللدكتور صباح قباني بصمات واضحة في الإذاعة والتلفزيون لاتزال مستمرة حتى اليوم , ففي إذاعة دمشق هو أول من ابتكر موجز الأخبار ، حيث كانت الإذاعات تقدم فقط نشرات الأخبار الكاملة بما فيها إذاعة دمشق . فأوجد موجز الأخبارر كل ساعة لمدة ثلاث دقائق فقط . كما أوجد التقاسيم التي تسبق الأذان أو تلاوة القرآن الكريم . إذ رأى أنه من غير السليم أن يتم الانتقال من أغنية طربية إلى تقديم أذان الظهر أوالقرآن . فوضع بينهما فاصلاً من التقاسيم على الناي أو العود أو القانون. ولا يزال هذا الأمر متبعاً في إذاعة دمشق حتى ا ليوم كما أخذته الإذاعات العربية الأخرى.كما ابتكرالعديد من البرامج التلفزيونية ومنها برنامج ( الأسرة السعيدة) الذي كانت تقدمه أنذاك ناديا الغزي . وهو أول برنامج تلفزيوني للتوعية الصحية.‏
الإذاعة

عندما عدت إلى الوطن عام 1953، حاملا شهاداة الدكتوراه في الحقوق الدولية بدأت بإعداد نفسي وأوراقي للالتحاق بوزارة الخارجية ،ولكن ما إن عرف (مدير الإذاعة)أحمد عسّة بعودتي حتى رغب إلي في أن أزوره . وحين جلست إليه بدأ يحدثني بحماسة بالغة عن حلم يراوده وهو أن يجعل من الإذاعة ، لا مجرد أداة بث عادية بل مؤسسة ثقافية وفنية تستقطب البارزين من أهل الفكر والفن وترعى المواهب الواعدة يوم لم يكن لدينا وزارة للثقافة ولامعاهد للتمثيل والموسيقا .. وأدركت عندئذ كيف أنه لعب على الوتر الحساس في داخلي .. وما لبثت أن وجدتني مأخوذا بطموح أحمد عسة وحماسته الفوارة ..فلبيت دعوته للعودة إلى الإذاعة وانخرطت معه لتحقيق ما كان يسعى إليه لوضع الإذاعة السورية في الصدارة بين الإذاعات العربية الأخرى . ‏
وكان أول ماقمنا به هو أننا استحدثنا هيكلية جديدة للبرامج، تعتمد عناصرها على الإيقاع السريع والتناول الجذاب في كل مانقدمه.. ففي ميدان الفكر والتوعية الثقافية ابتدعنا عشرات الزوايا اليومية التي لاتتجاوز مدة الواحدة منهاا الخمس دقائق، وتتضمن أحاديث فكرية واجتماعية وفلسفية وقانونية وطبية بلغة مبسطة عذبة، يقدمها اللامعون من أهل الثقافة والأساتذةالجامعيون.
ومن منطلق الإيجاز كنا رواداً في تقديم موجز للأخبار كل ساعة، وهوما أخذت به وبغيره من برامجنا الإذاعات الأخرى فيما بعد، والذي منها مثلاً برنامج (حدث في مثل هذا اليوم) الذي أصبح ركناً يومياً في الإذاعات والتلفزيونات العربية وكانتت الإذاعة السورية أول من أطلقه قبل أكثر من خمسين عاماً. ‏
وفي المجال الفني كان للإذاعة السورية حينذاك الدور الأكبر في تبني إنتاج الأخوين عاصي ومنصور رحباني وفيروز ونشره، كما حرصنا على تشكيل فرقة موسيقية متفرغة للعمل في الإذاعة، أي بعيداً عن العمل في الملاهي الليلية. ‏
وفي عام 1953 بدأنا بإصدار ( مجلة الإذاعة السورية)، وقمنا بطبعها في بيروت كي نضمن أناقة الطبع والإخراج والألوان، ولم تكن تتوافر عندنا المطابع الحديثة، وكلفنا برئاسة تحريرها الصحفي المتميز سعيد الجزائري وكان يساهم هو الآخرر في استكتاب البارزين من أهل الفكر، وفي اكتشاف أصحاب المواهب الأدبية الشابة في الشعر والقصة، ويشجعهم على تقديم إنتاجهم على الأثير أولاً ثم على صفحات المجلة.
ولحرصنا على أن نجعل لغة المذيعين سليمة لا تشوبها أية أخطاء نحوية، عمدنا إلى تعيين خبير لغوي، هو الشاعرحسن البحيري، ليجلس مع المذيع المكلف بقراءة الأخبار، ويراجع معه النشرة كلمة كلمة،ويصحح له ما أعوج من لسانهه قبل دخوله إلى الأستوديو.
وفي شهر نيسان 1954 صدرمرسوم بتعييني مديراً لبرامج الإذاعة، فتابعت عملية التطوير والتجديد فيها، وكان من أهم ماتم إنجازه حينذاك اكتشاف إذاعة دمشق للفنان عبد الحليم حافظ وتبنيها لأعماله قبل أية إذاعة أخرى. وظل هذاا الفنان الرقيق حتى آخر حياته يعترف لإذاعتنا بأنها كانت أول من قدمه إلى الناس في الوطن العربي. ‏
وفي أواخر عام 1955 آثرت أن اختتم مرحلة العمل الإذاعي، والتحق بوزارة الخارجية، فأدخل في مرحلة دبلوماسية،ما لبثت أن تخللتها مهمات ثقافية وإعلامية أخرى، أنيطت بي على غير انتظار. ‏
وحين أعود اليوم إلى تذكر تجربتي الإذاعية التي امتدت لأكثر من أربع سنوات فإنني أتبين ما اكتسبته من معرفة، فادتني في مختلف المناصب التي تقلدتها فيما بعد: ‏
1 ـ فمن الإذاعة تعلمت مبكراً أن للكلام الذي يطلق عبر الأثير لغته الخاصة التي تختلف اختلافاً تاماً عن لغة الكلام المكتوب على الورق.
وقد وجدت أن ذلك يصدق بصورة خاصة في أميركا مثلاً، خلال عملي سفيراً فيها، فالوقت الذي يتاح لك هناك لشرح وجهة نظر بلدك في التلفزيون أوالإذاعة محسوب أحياناً بأجزاء الدقائق والثواني ولا مجال للاسترسال. ولهذا فإن لغتك يجبب أن تكون شبيهة بلغة البرقيات التي تقول أشياء كثيرة بأقل ما يمكن من المفردات. ‏

2 ـ كما أن عملي في الإذاعة أتاح لي أيضاً أن أتعرف على عشرات الأدباء والمفكرين والفنانين الذين استعنت فيما بعد بمواهبهم وقدراتهم عندما انتدبت أولاً إلى وزارة الثقافة ثم لما كلفت بتأسيس تلفزيون دمشق. ‏
التلفزيون
يوم عدت إلى دمشق من أميركا في 8 أيار 1960نبهني هذا التاريخ إلى أنه لم يعد يفصلنا عن موعد افتتاح التلفزيون سوى 75 يوماً،كان هذا يعني أن العد التنازلي قد بدأ. ‏
وهكذا سارعت إلى تفقد الاستعدادات المتوافرة بين أيدينا، وأعني بها الاستعدادات الإنشائية والهندسية والبشرية. ‏
فكان أن قصدت أولاً قمة قاسيون حيث محطة الإرسال والأستوديو الذي قيل لي قبل سفري إلى أمريكا إنه في طورالإنجاز، وقد أوفى الزملاء المهندسون بوعدهم وهيؤوا لنا مكاناً مناسباً يتيح، رغم ضيق مساحته، إطلاق برامج التلفزيونن في مرحلتها الأولى على الأقل.


وأما الاستعدادات البشرية، وهي الأساس فكانت مرضية إلى حد بعيد، فقد أسعدني جداً أن أكثر من انتدبوا للعمل في التلفزيون كانوا من زملائي السابقين في الإذاعة أو ممن تعاملت معهم خلال عملي مديراً للفنون بوزارة الثقافة،وكنتت على دراية تامة بمواهبهم وقدراتهم الإبداعية كما كنت على يقين أن هذه المواهب والقدرات يمكن إذا ما أحسن توظيفها، أن تتكيف مع الوسيلة الإعلامية الجديدة التي نحن مقبلون جميعاً على الانخراط فيها. ‏
وبادرت إلى عقد اجتماعات عمل يومية متتالية مع هؤلاء الزملاء، لنبلور معاً تصوراتنا للنهج الذي يتعين علينا أن نسير عليه، للوصول إلى التلفزيون الأمثل الذي نحلم أن ننجزه على أحسن صورة. ‏
وكان أمامنا العديد من التحديات:

‏فهذا الجديد الذي علينا أن نقدمه للناس كان شيئاً كالهيولى، شيئاً ضبابياً لا ملامح له، ولا أشكال معروفة، يمكن أن نسير على هداها، فهذا التلفزيون هو أول تلفزيون في المنطقة العربية وكان لابد أن نبتكر كل شيء من العدم. ‏
أما التحدي الثاني الذي جابهنا فهو كوننا في دمشق سنبدأ بالإرسال التلفزيوني في وقت واحد مع القاهرة (أي في 23 تموز 1960) مما خلق لدينا الكثير من التوتر والقلق، فالقاهرة تعني تاريخاً فنياً عريقاً ورائداً في المسرح والإذاعةة والسينما والفنون التشكيليةالتي تعد كلها أعمدة هامة يقوم عليها صرح الفن التلفزيوني وفي سورية لم نكن نملك من هذه الفنون إلا القليل القليل الذي يمارسه بعض الهواة بشكل متقطع. ‏
وهكذا كان علينا إذاً أن نمارس العمل التلفزيوني مباشرة، دون أن تكون عندنا الأرضية الفنية التي توصلنا إلى المحصلة التلفزيونية التي ننشدها. ‏
1 ـ أما التحدي الثالث فيتمثل بأنه لم يكن متوافراً لدينا، في الفترة الأولى أجهزة تسجيل :
(فيديو تيب )،لنسجل عليها برامجنا قبل أن نطلقها إلى الناس، كان كل ما نقدمه يجب أن يرسل على الهواء مباشرة، ما يعني مزيداً من التوتر والقلق خشية عدم الدقة في التوقيت والتنفيذ، فأي خطأ يشوب أي فقرة سنطلقها لن يكونن هناك أي مجال لتصحيحه أو للتراجع عنه.


2 ـ والتحدي الرابع كان يتعلق بضيق المكان الذي سنعمل فيه، أي أنه توجب علينا أن نحسر في مساحة صغيرة الديكورات اللازمة جميعها، لتتوالى في نطاقها فقرات البرنامج اليومي واحدة بعد أخرى، فهنا سيكون ديكور تقديم الأخبار،، وإلى جانبه ديكور برنامج الأطفال، ثم يليه ديكور برنامج المرأة أو ديكور المنوعات… وإذا كان ثمة تمثيلية ستقدم فهذا يعني أنه يجب إزاحة كل هذه الديكورات جانباً بسرعة، لتحل محلها ديكورات التمثيلية، الأمرالذي يستدعي سلاسة تغيير أجواء الأستوديو وإبدالها من حال إلى حال. ‏
3 ـ أما الطريق الوعرالموصل إلى المحطة فكان كابوساً حقيقياً، إذ كان يتوجب أن ننقل عليه إلى القمة كل يوم مستلزمات البرامج من ديكورات، وإكسسوارات، وأفلام، وممثلين، ومحدثين، ومذيعين، وأطفال وفنيين، وكان يتملكنا قلق دائمم من ألا تصل عناصر البرامج تلك، ولاسيما أفلام الأخبار، في الوقت المحدد لها بسبب وعورة الطريق. ‏
كانت هذه حالنا قبل أن يدخل التلفزيون عصر الأقمار الصناعية التي أصبحت تنقل الأحداث لحظة وقوعهامن أقصى الأرض قبل أن يرتد طرف الإنسان إليه. ‏
كل هذه الصعوبات أشعلت فينا توهج التحدي، وزادت في إيماننا، أنا والفريق الذي خضت وإياه تلك التجربة الرائدة، بأننا قادرون على التغلب على أية صعوبة، مهما تكن كبيرة، وأننا سنؤدي المهمة التي أوكلت إلينا كأحسن ما يكون الأداء. ‏
كان عددنا يومذاك لا يتجاوزالخمسين شخصاً: مخرجين، ومذيعين، ومحررين، وفنيين، وعمالاً وسائقين….. وكان كل منا يتدفق حماسة ويخالجه الإحساس، مهما كان موقعه، أنه يتحمل وحده مسؤولية إنجاز شيء جديد لوطننا اسمهه التلفزيون. ‏
ولكن السؤال الأساس الذي ألح علينا حين جلسنا لنعد برامج هذا التلفزيون: ‏
ماذا نريد أن نقول؟ ‏
وكيف سنقوله؟ ‏
وما هي هوية خطابنا الذي سنظهر فيه على الناس؟ ‏
وأقول بكل اعتزاز: إن رؤيتنا أنا وزملائي، منذ البداية كانت واضحة وتنطلق من عدة أساسيات: ‏
1 ـ إننا سنقدم التلفزيون منذ الساعة الأولى على أنه صديق جديد، يدخل البيوت أول مرة، وكنا نعرف أن الأسرة في بلادنا لا تدخل إلى بيتها إلا من يتمتع بمواصفات، تجعله موضع ثقة أهل البيت نساء ورجالاً وصغاراً وكباراً، فعلينا إذاً أنن نحرص على أن يكون التلفزيون هو ذلك الصديق الموثوق به الذي يدخل البيوت، ليشيع فيها المتعة المهذبة والثقافة الراقية، ومن هنا وجدنا أن علينا ألا نأتي مثلاً بالكباريه أو بمفهوم الكباريه ونقحمهما على الناس في بيوتهم عبر الشاشة التلفزيونية. ‏

يوم
اعتبرنا أن الشاشة الصغيرةالتي ستدخل إلى بيوت الناس هي نافذة انفتحت أمامهم على العالم.. عالم الثقافة والحضارة والمعرفة، ولذلك كان اهتمامنا الأول بذلك القطاع الأكبر من المواطنين والمواطنات، ممن لم تتح لهم ظروفهمم الاجتماعية أن يتزودوا بمختلف أنواع العلم والمعرفة. ‏
2 ـ وقلنا إنه مادام التلفزيون شيئاً جديداً في حياة بلدنا فإن كل ما سنقدمه فيه يجب أن يكون جديداً في الشكل والمضمون. ‏
ولكن كان أهم ما أطلقه التلفزيون في بداياته مجموعة من الوجوه الجديدة غيرالمحترفة التي سرعان ما استحوذت على إعجاب الناس وتعلقوا بها منذ إطلالتها الأولى عليهم، والتي كان منها: دريد لحام، ناديا الغزي، ووجدان دباغ، وفرقةة الفنون الشعبيةالتي شكلناها من شابات وشبان المدارس الثانوية. ‏
ولم يكن من اليسير إقناع جميع هؤلاء بأن يقبلوا الظهور على شاشة التلفزيون، بسبب الريبة التي كانت سائدة حينذاك بين الناس حيال كل ما يتصل بفنون الغناء والتمثيل والرقص سبق أن أشرت إلى الاجتماعات المتتالية التي عقدتهاا مع الفريق الرائع الذي انتدب للعمل معي في التلفزيون، وكيف رحنا نضع تصوراتنا للنهج الذي يتعين أن نمضي فيه، سواء بالنسبة لكيفية التغلب على التحديات والمصاعب الكثيرة التي كانت تعترضنا وإيجاد الحلول لها، أو بالنسبة لهوية خطابنا الذي سنطلع به على الناس من خلال هذا الجهاز الجديد الذي سيدخل أول مرة إلى حياتهم. ‏
وكان من حسن حظي، كما ذكرت، أن أفراد الفريق المذكور كانوا زملاء سابقين لي في الإذاعة السورية أو في وزارةالثقافة، أو أصدقاء، عرفتهم عن قرب، وعرفت قدراتهم الفنية والثقافية، ولذلك سهل علينا أن نتحرك كمجموعة متجانسةة في رؤاها وفي حماستها لتأدية المهمة الرائدة التي أنيطت بنا. ‏
ففي غمرة هذا الانكباب على عملنا الجديد، نحينا جانباً تراتيبية صفاتنا الإدارية، فلا مدير ولا موظفون بل كناجميعاً رفاق إبحار في مركب واحد، وكان كل منا يحس أنه وحده مسؤول عن حسن إنجازالرحلة والوصول بالمركب الذي يحملناا إلى مرفأ الحلم المنشود وهكذا كان زملائي جميعاً يرونني أعمل معهم كواحد منهم، ونحن ننشط كأننا في خلية نحل، نسابق دقائق القلق قبل أن تنطلق برامجنا على الهواء. ‏
خلال الأيام العشرين التي سبقت موعد افتتاح تلفزيون دمشق، راح يتملكنا أنا وزملائي بعض التوتر الذي كان يزداد كلما اقتربت منا ساعة ذلك الموعد، أو ساعة الحقيقة، التي حددناها بأنها ستكون الساعة الثامنة من مساءالسبت فيي 23 تموز 1960، وعلى الرغم من ذلك كان يخالط توترنا وقلقنا في الوقت ذاته إيمان عميق بأننا سننجح في اجتياز هذه التجربة الرائدة في حياتنا وحياة بلدنا، فلقد أعددنا لكل شيء عدته، ودققنا في كل تفصيلات ما نحن مقبلون عليه، وراجعنا هذه التفصيلات مرة بعد مرة، لأننا كنا نريد أن يكون ما نقدمه منذإطلالتنا الأولى على الناس جميلاً ومتقناً وراقياً. ‏


هذا هو إذاً حديث التلفزيون الذي أسسناه وقدمناه أنا وزملائي في ظل الوحدة بين مصر وسورية، وكانت فترته التأسيسية بمنزلة حلم جميل حققناه للناس بسواعدنا المخلصة المؤمنة، وأردناه أن يكون التلفزيون الأنموذج. ‏
ولكن في يوم أسود مشؤوم هوالخميس 28 أيلول 1961 استفقنا على انكسار الحلم الجميل ـ حلم أول وحدة عربية في العصر الحديث، فقد وقع الانفصال بين شطري الجمهورية العربية المتحدة، وانتهى العرس العربي الزاهي، وملأتت المرارة قلب كل القوميين العرب الذين زلزلتهم الكارثة، وأحسوا أنهم أصبحوا كاليتامى الضائعين في ليل بهيم. ‏
لقد كنت واحداً من هؤلاء. ‏
لهذا لم أتردد لحظة واحدة في ترك مكتبي بالتلفزيون على الفور، معتزلاً منصبي، فلم يعد ثمة معنى لبقائي فيه،واعتكفت في بيتي، ومنه بعثت باستقالتي من التلفزيون وأنهيت بنفسي،بتاريخ 9 تشرين الأول 1961 ندبي إليه من وزارةة الثقافة. ‏

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.