13335875_10154893838590299_787109164524120132_n

إحياء صناعة المراكب العراقية القديمة: مقابلة مع الفنان رشاد سليم

رشاد سليم فنان ومصمم عراقي ألماني يعيش في لندن. يهدف مشروعه “إعادة تخيل سفينة نوح” إلى بناء مركب حقيقي قادر على الإبحار يعيد تخيل سفينة نوح، باستخدام تقنيات صناعة المراكب التي كان يستخدمها سكان البلاد القدماء. ظل الفنان يعمل على المشروع مع حرفيين محليين في مختلف أرجاء جنوب العراق. وفي مايو 2016، تلقى سليم منحة من مؤسسة رؤيا لاستكمال عمله الميداني في العراق. انتقل رشاد سليم، وهو ابن الدبلوماسي والفنان نزار سليم وابن أخ الفنان جواد سليم، إلى العراق في صباه وتعلم تصميم الجرافيك في معهد الفنون الجميلة في بغداد. وفي عام 1976، شارك في بعثة الرحالة النرويجي “ثور هيردال” الاستكشافية في نهر دجلة، مسافرا في زورق من الخوص من أهوار العراق الجنوبية إلى شرق أفريقيا. وهنا يتحدث الفنان مع مؤسسة رؤيا حول مشروعه، وأهمية الحفاظ على تراث بناء المراكب في العراق، والحفاظ على نهريه.

الأساطير والتواريخ الشفاهية ليست حوادث تاريخية يُعتمد عليها، إذ تقوم غالبا على الخيال ولا يمكن أبدا التحقق من مصداقيتها. فلماذا لا تزال مهمة بالنسبة للعراقيين اليوم؟
في العراق، لم يبق لنا الكثير باستثناء أساطيرنا. إنها تخبرنا من أين أتينا، وما هويتنا، بينما ثمة أنماط بداخلها تدلنا إلى أين نحن ذاهبون. هذه الأساطير تنبع من معرفة ومن أحداث حقيقية في الخبرة والتاريخ البشريين. فالدراسات الجيولوجية، على سبيل المثال، لطبقات الأرض في العراق وغيره تكشف أن طوفانا قد حدث في عصور ما قبل التاريخ في هذه المنطقة. واليوم نحن مهددون بفوضى مناخية مرة أخرى.

أنت تطرح كون السفينة الأصلية في حضارة ما بين النهرين قد شيدت بتجميع مراكب مختلفة كانت موجودة بالفعل في زمن الفيضان. ما أهمية هذه الرؤية المختلفة عن السرديات التقليدية الخاصة بسفينة نوح؟
سفينة نوح غالبا ما تصوَّر بوصفها مركبا واحدة. والرأي الذي أدفع به هو أن القدماء لم يكونوا ليجازفوا ببناء مركب جديد من الألف إلى الياء لإنقاذ أنفسهم. بدلا من ذلك، كان بإمكانهم استخدام مجموعة من المراكب تم تجريبها واختبارها من قبل مثل الـ”كفَّه” والـ”كلك” والـ”مشحوف”. تجميع الـ”كفَّات” في السفينة المحورية التي يعاد تخيلها (وهي دائرية) تذكِّر بالرقية المعروفة في العراق باسم الـ”سبع عيون”، حيث دائرة في المنتصف تحيطها ست دوائر متساوية القياس. هذه التعويذات لا تزال تعطى للأطفال في العراق حتى اليوم. وهذا النسق الهندسي يظهر في فنون ما بين النهرين والفنون الإسلامية، وله جذور في أشكال يمكن العثور عليها في الطبيعة والفيزياء. وهكذا، فإن الرسالة الأصلية لسفينة نوح هي رسالة اتحاد وتجمع. وحيث أن العراق مهدد بالتجزئة، فأنا أريد استجلاء هذه القصة. أريد أن أطلق حوارا إبداعيا ومنطقيا حول المادية الشرسة في الثقافة الغربية. إنه مشروع فني عام قائم على التعاون والدمج المجتمعي.

A model coracle or guffa is made with the help of Marsh Arabs at Beni Assad, Babylon, May 2016. Courtesy of the artist.

كيف ستبني هذه السفينة؟
لقد سافرت في أرجاء العراق وعملت مع حرفيين وحرفيات لدراسة مختلف تقنيات صناعة السفن. في الحلة كنا نعمل على إحياء صناعة “الكفَّه” تحديدا والبحث في المراكب على وجه العموم والمصنوعة من النخيل على وجه الخصوص. وفي عين التمر، أنتجنا أكثر من ثلاثة كيلومترات من الحبال المصنوعة يدويا. والآن، البنية الفوقية للسفينة قيد الدراسة، والنماذج قيد الإنشاء مع عرب الأهوار المهجرين الذين يعيشون الآن على نهر الهاشمية في حمزة الغربي. وحتى الآن بنينا ستا من عشر “كفات” بالحجم الذي يستخدمه الصيادون (بقطر 1.6 متر). وأدرب حاليا فريقا لكي ينتج 13 “كفة” شحن (قطرها 4-5 أمتار)، التي ظهرت في منتصف القرن العشرين، عندما دخلت الشاحنات واللوريات إلى العراق. وفي رحلتي الأخيرة إلى العراق في أغسطس 2016، استخرجنا وأصبح لدينا الآن خمسة براميل من الجدم، وهو نوع مميز من القار تعزل به الـ”كفة” لحمايتها من الماء، ومصدره الوحيد المعروف هو مدينة هيت في محافظة الأنبار التي كانت تحت احتلال داعش ولا يزال دخولها صعبا. وبالإضافة إلى التقنيات القديمة، أعتمد على البحث والتفكير المنطقي لضمان أن المراكب تعمل وتقوم بالفعل على تراث بناء السفن العراقي والمعايير الخاصة ببيئتنا وأرضنا. أما من الناحية المفاهيمية (التصورية) فإن تصميمات مثل “إعادة تخيل سفينة نوح” وهيكل السفينة المستهدفة مستمدة من أنساق مستلهمة من الطبيعة مثل الـ”سبع عيون” ومنحنيات تاج النخلة.

البحث الذي أجريته حول مختلف الحرف اليدوية التقليدية، كيف أثر في عملك داخل العراق؟
قضيت سبعة أعوام في المغرب أبحث في طريقة صوفية تسمى كناوه، وستة أعوام في اليمن. في البلدين، تمثل التقاليد جزءا من الاقتصاد والحياة اليومية. في المغرب تميزوا في الفن المعاصر ولا يزالون يطورون فنونهم التقليدية ويطبقونها. ولديهم فنانون فطريون مثل “الشعيبية”. وفي اليمن، لا نجد تمايزا بين الفن والحياة اليومية، بل يعيش الناس داخل الفن ويتعاملون معه، عبر المعمار، والأغراض المنزلية والملابس. أما في العراق، فسرعان ما تخلينا عن حرفنا لحساب التكنولوجيا الجديدة ونحتاج إلى تطوير تقاليدنا إلى فن أو تطويرها من خلال الفن. الفنان الفطري المهم الوحيد في تاريخ الفن الحديث في العراق هو منعم فرات. كان راعيا وأصبح نحاتا بعد أن رأى التماثيل السومرية في متحف العراق.

Sculptural works by Munem Furat. Courtesy online library: مكتبتي نافذتي على الحياة

تمثال لمنعم فرات. إهداء من موقع: “مكتبتي نافذتي على الحياة”.

لماذا تعتقد أن التقاليد الحرفية أصبحت هشة اليوم في العراق؟
الحرف جزء قديم وإبداعي من تراثنا الثقافي، لكن لا أحد في عراق اليوم، بما في ذلك اليونسكو، يحاول أن يبذل جهدا حقيقيا في الاشتباك معه والحفاظ عليه. التركيز كله على علم الآثار والدول القديمة. قبل الغزو في 2003، كانت المؤسسات الحكومية، وكذا قاعدة كبيرة من الهواة، تدعم الحرف التقليدية بمبادرات مثل “مجلة التراث الشعبي” المتخصصة في الأنثروبولوجيا العراقية. لكن دور المؤسسات العراقية تراجع بعد 2003. فنجد “معهد الحرف والفنون الشعبية” لا يوظف حرفيا واحدا. ومن يتولون مهمة التدريس فيه هم طلبة الفنون، الذين يرسمون لوحات لحرفنا وتراثنا وثقافتنا، لكنهم لا يصنعون الكثير منها. إنهم يصورون الـ”شناشيل”، الشبابيك الخشبية البارزة (المشربيات) التي ميزت البيوت العراقية القديمة، وهي تتعرض للتدمير. إن التطورات التكنولوجية الصناعية التي وصلت لذروتها في الخمسينيات أسهمت في ضياع تراث حرفي حي ومعاش: لم نعد نستخدم الأنهار في السفر ونقل البضائع، بل الطرق. وأثناء فترة العقوبات، تم تهجير عرب الأهوار وإجبارهم على التخلي عن طريقة حياتهم التقليدية. مع ذلك، فقد جرى إحياء بعض الحرف مثل السيراميك أثناء العقوبات بوحي من الحاجة. وكانت أبسطة الإيزار في جنوب العراق (صورتها بالأعلى) واحدة من الأشياء القليلة التي كان بوسع النساء بيعها والحصول على نقود. كانوا يهربون إرثهم وقطعا جديدة إلى الأردن وسوريا حيث تباع بثمن بخس. في رأيي أن المناخ السياسي بعد 2003 أصاب حرفنا التقليدية بالمزيد من الخراب. لقد أصبح من السهل استيراد منتجات إلى العراق، لكن من الصعب تصديرها منه. والمنتجات التي كان العراق مصدرها الأصلي أصبحت تصنع الآن في الصين، لأن رجال الأعمال المحليين يجدون ذلك سهلا ورخيصا ويحقق مكاسب سريعة. حتى التماثيل العامة التي تعهد بها البلديات أحيانا ما تنتج بالكامل في الصين.

Salim has been working with a cooperative in Samawa which teaches women the Izar rug-making technique that is typical to Southern Iraq. Photo: Rashad Salim, 2016.

ظل سليم يعمل مع تعاونية في السماوة تعلم النساء تقنيات صناعة حصر الإيزار التي اشتهر بها جنوب العراق. الصورة لرشاد سليم، 2016

هل لا تزال تلك المصنوعات الحرفية ذات جدوى بالنسبة لصناعها في العراق؟
نعم، في كل مكان. نحن لم نخسر تقاليدنا بالكامل. الكثير منها تراجع، وبعضها ضاع إلى الأبد، لكن البعض الآخر يمكن استعادته. ونحن بصدد فقدان البيئة التي تربط بين تلك الحرف وبين ثقافتنا. لا تزال صناعة الخوص موجودة اليوم، مثلما في الحصر. صناعة الحبال اليدوية في طريقها للضياع. يقول الأكاديميون وصناع الوثائقيات أن زورق الـ”كفه” لم يصنع منذ السبعينيات، لكنني عثرت في 2013 على امرأة في بابل صنعت آخر واحد بغرض الصيد في 2003.

20160226_142657

إذا كانت التكنولوجيا الجديدة جعلت تقاليد صناعة المراكب قديمة وعفا عليها الزمن، فلماذا نجهد أنفسنا في إنقاذها؟
قدرتنا على صناعة الأشياء أقدم بكثير من توثيقنا لذلك. في العراق، وجدت أن صناعة بعض من هذه الزوارق قد استمرت بلا انقطاع منذ عصور ما قبل التاريخ، وتمكنت من البقاء على مدار الممالك والثقافات والتحركات المتعاقبة. لا أقول إن الناس يجب أن يصنعوا الـ”كفة” التقليدية من الخوص إذا كان بمقدورهم صناعة زوارق أرخص ثمنا وأخف وزنا من المعدن. مع ذلك، فثمة جمال واعتماد على النفس في المنتجات الأصلية لا نجدها في الزوارق المعدنية. هذه الزوارق تطورت عن ذكاء إبداعي، واشتباك مباشر مع البيئة، فالنخلة العراقية، على سبيل المثال، مثل الجاموس الأمريكي بالنسبة للهنود- يستخدمون كل جزء فيها. لديها قاموسها الخاص بها. ولدينا المئات من التنويعات، كل منها له تخصص مختلف. فالطبقة الداخلية من السعف، المعروفة باسم الـ”كرب”، لا تزال مستخدمة حتى اليوم لتعليم الأطفال السباحة لأنها تطفو على الماء. وقد اكتشفت أن هذا السعف قد استخدمت في الماضي كنعال للأحذية. وهذا يمكن في حل مشكلات بيئية تسببها النعال البلاستيكية. وربما كان نوح نفسه ينتعل حذاء من الكرب.

Palm Tree Orchards

في 2013 سافرت من جنوب شرق تركيا إلى أهوار العراق في “كفة”. كيف تغير العراق منذ رحلتك السابقة عبر البلاد في السبعينيات؟
لأسباب أمنية أتممنا الرحلة الاستكشافية على مراحل. أسقطنا الموصل وأجزاء من بغداد. ثمة أشياء معينة لم تتغير في العراق: سلوكيات الناس، كرمهم، توحدهم- الناس الذين التقينا بهم لم يكونوا طائفيين. مع ذلك يجد المرء في كل مكان آثار من الحرب العراقية الإيرانية، أو فترة العقوبات، أو فترة ما بعد الاحتلال. انحدر أسلوب حياة الناس كما انحدرت الأماكن من الناحية البيئية. النهر نفسه أصبح ملوثا، وأضيق، وأكثر ضحالة وإعتاما. للمرة الأولى في تاريخ العراق لا يصل الفرات إلى شط العرب، وقد حول مساره الآن ليعيد صب فيضانه على الأهوار. أزمة المياه كانت واضحة في كل مكان. في الكتاب المقدس، يُعد عدم وصول دجلة والفرات إلى البحر نبوءة على قرب قيام الساعة.

1977

ماذا تأمل أن يحقق مشروعك؟
أسعى إلى فتح نافذة جديدة من أجل إعادة الاشتباك مع الحرف التقليدية في العراق، مع بيئته وأنهاره. أريد أن أعطي الجمهور الذي لم يزر العراق، بما في ذلك العراقيين في الشتات، فرصة المشاركة في وتجربة شيء صنع في العراق، شيء ملموس وعراقي من الألف إلى الياء. إن إحياء هذه الحرف يمكن أن يساعدنا في حل مشكلات البطالة في العراق، يمكن أن يساهم في صناعة السياحة المحتملة. بل أستطيع أن أتصور مطاعم عائمة على النهر في بغداد، تطفو على “كفات” متجمعة… سيكون أمرا ممتعا وجميلا وجذابا.

“إعادة تخيل سفينة نوح” مشروع لا يهدف للربح يحظى حاليا بدعم زين العابدين التميمي، وموسى الموسى، ومؤسسة رؤيا. ويديره أبو طيبه في العراق. كل الآراء الواردة في هذه المقابلة هي آراء الفنان وحده.

تعليقات الصور:

زورق من الخوص (مشحوف)، صنع بمساعدة عرب الأهوار من أجل مشروع “إعادة تخيل سفينة نوح”. الحلة، بابل، مايو 2016

سليم يعمل مع عرب الأهوار في الحلة، بابل، من أجل إنتاج البنية الفوقية الخاصة بالسفينة والزوارق. تصوير: رشاد سليم، مايو 2016. إهداء من الفنان

تمثال لمنعم فرات. إهداء من موقع: “مكتبتي نافذتي على الحياة”.

ظل سليم يعمل مع تعاونية في السماوة تعلم النساء تقنيات صناعة حصر الإيزار التي اشتهر بها جنوب العراق. الصورة لرشاد سليم، 2016

صناعة الحبال يدويا في عين التمر، العراق. الصورة: رشاد سليم، العراق

أهوار جنوب العراق، 1977. تصوير: رشاد سليم

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.