مصطفى الحلاج

– مشاركة : بشرى بن فاطمة

الفن والتعبير عن فكرة الانتماء والهوية

بين التجربة التشكيلة للهنود الحمر والتجربة الفلسطينية

يعبّر الفن عن الذوق الجمالي للإنسان حيث يجسد من خلاله بيئته وهويّته ويطرح تساؤلاته التي تميّزه وتميّز ثقافة انتمائه كما يوثق تفاصيله، والفن وسيلة تعبير حضارية لجأ إليها الانسان ليقف في وجه كل معالم الاحتلال والعنصرية والعنف، ليتحوّل إلى سلاح يتحدّى تلك الممارسات، لذلك فإن الأصالة الفنيّة لأي شعب تتمثّل في تقديم وتحقيق عمل ينتمي إلى شخصية عميقة بأسسها الجماليّة التي تعبّر عن الهويّات والتقاليد والأرض التي أنبتتهم وتراثها الخالد في ذاكرتهم، وهذا الانجاز يتمّ بتحدّي عدّة عوامل منها رفض هيمنة وغطرسة الفن الدّخيل المقحم عنوة، ومقاومة السلب والسرقة التي يفرضها محتل ما لتراث وثقافة الطرف الواقع عليه الظلم، رفض التّسليم بأحقيّة أفراد على أفراد في إثبات أن المنجز الفني من حقّ الآخر الأقوى المحتل، الالتزام بالذّات الحقيقيّة للكشف عن معالم الشخصيّة للوصول لإثباتها بأحقيّة وجدارة وجماليّة للعالم.

donald-putman-1926-2007

وهذه التجارب تعد ميزة الشعوب المناضلة والمتمسكة بحقها وأرضها ما مكنها من إيصال صوتها بألوان وأشكال وأسلوب فني تعبيري إنساني راقي نذكر من أهمها التجارب التشكيلية اللاتينية والآسيوية وتجربة الهنود الحمر بالولايات المتحدة الأمريكية والتجربة الفلسطينيّة ولعل هاتين التجربتين تستحقان البحث لما بينهما من نقاط تشابه خاصة وأن السياسة الأمريكية التي اتّبعت لإبادة حضارة وثقافة الهنود السكان الأصليين تتشابه مع ما تحاول إسرائيل تنفيذه في الأراضي الفلسطينية سواء تلك التي اغتصبتها لتأسّس عليها دولتها أو الواقعة تحت الحصار والتضييق، وهي سياسات هدفها الطمس الكامل والجذري لكل الذاكرة الحضارية المتعلّقة بتراث وهويّة وثقافة تلك الشعوب وردم الحقيقة التي تثبت أن الأقوى دخيل على الأرض وأنه مغتصب ومحتل.

d982d8b1d98ad8a9-d8a7d984d8a8d8b9d986d8a9-d981d98a-d8a7d984d8acd984d98ad984-d8a7d984d8a7d8b9d984d989-d985d986-d981d984d8b3d8b7d98ad986-1

وقد سعت مجموعة متحف فرحات للأعمال الإنسانية إلى إثبات وتوثيق ذلك الإبداع الإنساني في التجربتين عن طريق جمع عدد من الأعمال التي أنجزها فنانون هنود تصل إلى أكثر من 27 عملا لفنانين من أبرزهم “أرنست بيرك” و”جون أوكستن” و”ألكسندر هيرمير” إضافة إلى أعمال توثّق لتجارب الفن التشكيلي الفلسطيني من أبرزها مجموعة صنع في فلسطين التي جمعت أكثر من عشرين فنانا تشكيليا فلسطينيا عرضت أعمالهم وأفكارهم ورؤاهم بالولايات المتحدة الأمريكية، كما تمتلك المجموعة مخزونا هائلا من الصور الفتوغرافية القديمة التي توثق لتفاصيل دقيقة من ملامح حياة السكان الأصليين للولايات المتحدة الامريكية وكذلك لمدن وقرى فلسطين وأهلها.

Ben Schonzeir

إن البحث في خصوصيات التجربة التشكيلية للهنود الحمر والتجربة الفلسطينية يحيل على الأسلوب التعبيري الواضح الذي ينطلق من الإنسان والأرض ليعبر نحو عمق الهوية والانتماء والحق المشروع في مقاومة الطمس وتجاوز المعاناة والتضييق.

فالتقليد الإسرائيلي للوحشية التي مارسها الأمريكي الأبيض على الهنود لا عسكريا باغتصاب الأرض ونسبها تاريخيا وإنما ثقافيا بمحاولة اقتلاع وسرقة التاريخ الفلسطيني تمثل نقطة ارتكاز واضحة في خلق المقارنة بين التجربتين لا على الصعيد الثقافي فحسب بل على الصعيد الإنساني لأنها عكست فارقا في التعبير فالفلسطيني فجر المعاناة الدموية على المنجز وحول القسوة إلى رمزية بالغة في سرد الظلم أما الهندي فاقتصر تعبيره على الملامح والطبيعة على الأرض والتقاليد، ربما لأن الإسرائيلي لا يفوّت فرصة في اقتطاع الذاكرة الفلسطينية وطمس التقاليد في محاولة إثباتها له عنوة وبالقوة، من خلال تجميع الصور الفوتوغرافية الفلسطينية القديمة والملصقات الفنية والأزياء التقليدية وحتى الأكلات الشعبية، تلك الممارسات هدفت إلى التدمير وطمس الهوية، وتهويد التراث الفلسطيني  وانتحاله، وهو أسلوب لاستثمار أو توظيف أجزاء من ذلك التراث لصناعة هوية يهودية-إسرائيلية على الأرض، ولتهميش الحضور التاريخي الفلسطيني أو التشكيك فيه.

native-american-19

فما البحث في تفاصيل التجربة التشكيلية لكلا الشعبين إلا نبش في القيم التعبيرية والتحول بالفكرة من واقع الألم إلى تخليد الحضور إنسانيا، فقد التزم التشكيليون الهنود ثقافيا وفنيا بالقيام بمهمّة صعبة تمثلت في مضاعفة الجهد للوقوف في وجه سياسة التهميش التي قام بها الأبيض منذ وطئت قدماه أرض أمريكا إذ لم يتوان عن ظلم السكان الأصليين لتلك الأرض حتى أن التسمية “الهنود الحمر”، كانت من أكبر المظالم ذلك أنها أتت خطأ بعد أن اعتقد كولومبس أنه اكتشف أرض الهند، وقد ارتكب الأمريكي الأبيض جرائم مختلفة ضدّ الهنود لهدم الحضارة الهندية الأصيلة وردم معالمها عبر تصويرها بالوحشيّة العنيفة الهمجيّة الدمويّة ضدّ الانسان الأبيض الذي أتى لتعليمهم الحضارة وكان ذلك محض افتراء على حضارتهم وحضورهم فقد استقبلوا الإنسان الأبيض وأنقذوه من الموت بل وعلّموه تفاصيل الأرض وعمارتها وكيفيّة التأقلم معها واستغلال ثرواتها.

ارنيست بيرك

ويأكّد الباحث الفلسطيني- السوري في علوم الإنسانيّات بجامعة بوسطن منير العكش في كتابه “أمريكا والإبادات الجماعيّة” أن الإمبراطورية الأمريكية قامت على الدّماء وبنيت على جماجم البشر فقد أبادت 112 مليون إنسانا ووصفت هذه الإبادات بأنها أضرار هامشية لنشر الحضارة”

كما يذكر الكاتب الأمريكي هنري دوبينز في كتاب “أرقامهم التي هزلت” “أبيد الهنود الحمر بـ41 حربا بالجدري 4 بالطاعون، 17 بالحصبة و10 بالأنفلونزا، وقد كان لهذه الحروب الجرثومية آثارا وبائيّة شاملة اجتاحت المنطقة..”

ويتباهى الأمريكي الأبيض بهذه الوحشية فحاكم مستعمرة “بليتموث” وليم برادفورد يقول إن “نشر الأوبئة بين الهنود عمل يدخل السرور والبهجة على قلب الله ويفرحه أن تحمل الأمراض والموت لهذه الشعوب..”

ومنذ 1830 سن الكونجرس الأمريكي قانون ترحيل الهنود وأصبح من حق المستعمر الأبيض أن يطرد الهندي من أرضه ويقتله إن أراد كما تمّ إحراق القرى الهندية وإتلاف محاصيلهم وقد قامت عدّة شخصيات أمريكية ادّعت تأسيس الحريّة في أمريكا أمثال جورج واشنطن الذي يسميه الهنود “هدّام المدن” وتوماس جفرسون الذي سعى لإفناء الهنود ومحو آثارهم من الأرض، مبرّرين أن إبادة الهنود الحمر هو الحل الضروري للحيلولة دون تلوث العرق الأبيض وإنهاء الهنود هو مهمة أخلاقية لازمة حتى يبقى الإنسان الأبيض على صورة الله.

كما قامت الحكومات الأمريكية المتعاقبة على دعم سعر الخمر في المناطق التي يقطنها الهنود الحمر لتكون أرخص سلعة يتحصل عليها الهندي وهي استراتيجية لتجعل منه إنسانا خاملا غير منتج لا يفكر من صباحه إلا كيف يقضي مساءه في الحانات حيث ينعزل اجتماعيا وسياسيا.

louis-betts-1873-1961

أثرت كل تلك السياسات العنصرية على الفنانين ودفعتهم للتعبير برقي إنساني عن وجودهم سواء الأعمال الفنية أو الكتابات، من أجل إثبات ثقافتهم الحية برؤاهم المؤسّسة على فلسفة الهنود الداعية للروح العظمى التي خلقت الإنسان والطبيعة وتعلّم عدم إيذاء المحيطين فالروح العظمى هي سر الحياة وهي التي تدمج الهندي بلونه مع لون تراب تلك الأرض التي له فيها حق الانتماء، والذاكرة والثقافة والعادات التي تندمج وتتأقلم مع الطبيعة.

تعكس لوحات التشكيليين الهنود تلك الفلسفة كما تبرز أنهم شعب مسالم  ينبذ العنف والحرب كما تسلط الضوء على عاداته وتبيّن ممارسات الهندي التقليدية والدينية، وهو ما حاول “روبرت هنري” و”دونالد بوتمان” و”ارنست بيرك” و”الكسندر هيرمير” إبرازه في لوحات تعبيرية ارتكزت على الطبيعة وملامح الهندي وخصوصية الحياة من خلال اللباس والألوان والزينة والزخرف والاندماج مع الطبيعة في الصيد وعمل الأرض وجلب الماء، المواجهات مع الأبيض، حياة القبيلة، ترويض الخيول، محاكاة كل عناصر الطبيعة من خلال الألوان الزاهية الواضحة الدافئة والمنعكسة من ذلك الواقع البسيط مع التركيز على الأشخاص والملامح القائد، المحارب، القبيلة، بكل معالمها وأشكالها، أدوات الصيد والقتال والخيول بصياغة تشكيلية رمزية تسرد المكان والعلاقات لتحمل المشاهد إلى تفاصيل الحياة.

سليمان منصور

حيث يسعون إلى إثبات أنهم الأصليون على تلك الأرض وتعليم ذلك للأجيال القادمة من الأمريكيين والبحث عن فرص التعايش والانتماء بتوثيق كل اللحظات اليومية حتى لا يجد نفسه محاطا بمواقع تحجبه عن الارتباط الصحيح بالأرض والذاكرة، لذلك في أعمالهم الفنيّة لوحات تجسّد الهندي في عودة إلى الأصل والجذور عودة فنية جمالية وتقديم حلول تشكيلية مسكونة بهواجس الذات والذاتية والشخصية.

أما “جون كويك” و”بين سكونزير” و”جون اوكستون” فيعتمدون الأسلوب التجريدي من خلال نبش الذاكرة التي تحاكي عادات الهنود الحمر من خلال تجسيد علامات بصرية ذات كثافة لونية متنوعة جمعت الألوان الترابية مع الألوان الباردة والأشكال الهندسية المختلفة بين الفوضى والترتيب لتحيل على الطبيعة والتداخل بين الذاكرة والتذكر كتعبير عن موقفهم من الطمس والتهميش.

زهدي العدوي

لقد تحمل الفنانون الهنود مسؤولية التعبير المفعم بالحنين والملتحم مع الأرض والطبيعة واهتموا بكل التفاصيل المميزة لعالمهم وفلسفة البقاء والحياة والطبيعة.

أما التجربة التشكيلية الفلسطينية فتعد سردا بصريا إنسانيا متنوعا انفرد في أسلوبه وطرق وظروف تقديمه فقد اختزن معاناة واقتلاع وتهجير وشتات ومجازر، فهي تجربة لم تختلف عن طبيعة ما عاشه الفلسطيني ويعايشه في أرضه ومحيطه ومنطقته ما منح فنه التشكيلي ميزة الإنسان الذي لم يستطع الحياة بمعزل عن قضيّته التي انطلقت من الأرض إلى المقاومة والذاكرة والانتماء، فلا يمكن له أن يفصل حياته العادية التي تشبه حياة أي إنسان عن مفاهيم الثّبات والبقاء، فهذا التشعّب في المسارب السياسيّة والاجتماعية لم يغفله الفن التشكيلي الفلسطيني بل وظفه بطريقة استثنائية  منفردة في كل مميّزات البنية التشكيلية التي خلقتها ذاكرة المكان البصريّة وحصاد المخيّلة الممزوجة واقعا وحلما معاناة وصبرا وانتظارا وأملا فسح المجال للتعبير شكلا ومضمونا وفلسفة وجمالا وأسلوبا، نقل الصراع الدّامي بأسس تعبيرية فجرت العمق الذاتي فنيا، فظهرت ابتكارات فنيّة جديدة وفّقت بين المعايير السياسيّة والثقافيّة والتراثيّة والهوية مع الموقف الذاتي انطلقت من مدارس عالمية في الفن لكنها لم تكتف بتقليدها بل اندمجت في التفاصيل الفلسطينية لتلبسها خصوصياتها، تجريديا، تعبيريا، تكعيبيا، وسرياليا فنجد أسماء تحوّلت إلى مدارس فنية مثل إسماعيل شموط وسليمان منصور، مصطفى الحلاج وعدنان يحي وسامية حلبي، ولم يقتصر الفلسطيني في التعبير على المذاهب الفنية المعروفة فقد ابتكر فنون السجون والمعتقلات والفن السّاذج والعصامي مثل تجربة أسرى عسقلان في مسارالفنان التشكيلي محمد الركوعي والفنان زهدي العدوي وفن الملصقات الذي اعتبر ميزة فلسطينية قدمه نخبة من الفنانين التشكيلين مثل الفنان غازي انعيم، واعتمد الفنانون على خامات مختلفة مائية، زيتيّة، قماش، تّطريز، نسيج مثل ما قدمته الفنانة بثينة ملحم والنحت كما في تجربة ميرفت عيسى وكذلك اعتماد التقنيات الحديثة مثل الغرافيك والتركيب الضوئي والتصوير الفتوغرافي كما في تجربة الفنانة سمر غطاس والفن المفاهيمي والتركيبي والكولاج والتوثيق والفيديو والتصميم كما في تجربة الفنانة رولا حلواني التي حافظت على الذاكرة بتوثيق الصورة وفنون المهجر.

الكسندر هرمر

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.