Image result for ‫المصور الضوئي Aharon Shimshon‬‎

الموارنة ولبنان

دولة لبنان الكبير

البطريرك إلياس بطرس الحويّك، الذي ترأس الوفد اللبناني إلى مؤتمر الصلح مطالبًا باستقلال لبنان.

توسعت حدود متصرفية جبل لبنان مع بداية القرن العشرين فانضمت إليها جونيه عام 1912 وبعدها ميناء النبي يونس في الشوف، إلا أن جمال باشا الملقب بالسفاح وإثر اندلاع الحرب العالمية الأولى ألغى نظام المتصرفية عام 1915، وكانت السلطنة قد ألغت عام 1914 الامتيازات الأجنبية ومن ضمنها الامتيازات المقدمة من قبل فرنسا للموارنة؛[158] خلال سنوات الحرب حاصر العثمانيون جبل لبنان، ثم غزاه الجراد فمات ما يقارب ثلث الجبل جوعًا، وتسارعت وتيرة الهجرة فلم يبق من سكان الجبل سوى ثلثه بعد نهاية الحرب.[159]

انسحب العثمانيون من بلاد الشام عام 1918، وقد رفع في بعبدا وبيروت علم الثورة العربية الكبرى وعيّن حبيب السعد حاكمًا باسم الثورة على الجبل، إلا أن القوّات الفرنسية أنزلته ورفعت العلم الفرنسي بدلاً منه، وأعلنت عن حكمها المباشر “مؤقتًا” للمنطقة؛ في مارس 1919 شكل الحلفاء لجنة كينغ – كراين لاستطلاع آراء المواطنين حول نظام الحكم، أغلب اللبنانيين فضلوا الاستقلال عن سوريا، وقد أبحر البطريرك إلياس بطرس الحويك إلى باريس ليعرض القضية أمام مؤتمر الصلح ويطالب باستقلال لبنان الكبير، ودعي “بطريرك لبنان” للقول بأن جميع اللبنانيين مسلمين ومسيحيين يؤيدون مسعاه.[160]

أما في دمشق فقد أعلن المؤتمر السوري العام وهو البرلمان الذي حوى ممثلين عن جبل لبنان وعن الموارنة كالدكتور سعيد طليع،[161] استقلال بلاد الشام باسم المملكة السورية العربية، إلا أن الحلفاء أجهضوا الدولة التليدة بعد مؤتمر سان ريمو حيث أقرّ فصل لبنان وإخضاعه للانتداب الفرنسي وكذلك الأمر بالنسبة لسوريا. في سبتمبر 1920 أعلن الجنرال هنري غورو ميلاد لبنان الكبير وهو يشمل أراضي المتصرفية مضافًا إليها عكار والأقضية الأربعة التي سلخت عن ولاية دمشق وهي بعلبك والبقاع الغربي وحاصبيا وراشيا.[162]

شهد عام 1926 إقرار الدستور اللبناني وانتخب شارل دباس رئيسًا، إلا أن البطريركية المارونية اعترضت لكونه أرثوذكسيًا، وتلاه حبيب السعد عام 1934 قبل أن تظهر الثنائية التقليدية في السياسة المارونية بين بشارة الخوري وإميل إده، في انتخابات عام 1936 والتي أدت لفوز إده تلاه الخوري الذي قامت في عهده الأحداث المعروفة باسم أحداث بشامون، والتي أدت لنيل لبنان استقلاله عام 1943 خلال عهد البطريرك أنطون بطرس عريضة الذي خلف الحويك على كرسي بكركي عام 1932، وقد شهد الاستقلال ميلاد ما يعرف باسم “الميثاق الوطني اللبناني ” الذي ضمن أن يكون رئيس الجمهورية مارونيًا، كذلك حصل الموارنة على عدد من المناصب المهمة في إدارة الدولة، كقائد الجيش ومدير مخابرات الجيش وحاكم مصرف لبنان، وعدد من الوزارات بالمداورة وكذلك المقاعد النيابية والمحافظين.

حرب 1975

شهد لبنان في منتصف القرن العشرين انتعاشًا اقتصاديًا كبيرًا ووصل متوسط دخل الفرد إلى 2100 دولار أمريكي[163] واستطاع لبنان أن يتبوأ مركزًا عالميًا مهمًا، لكن الظروف الإقليمية إثر هزيمة العرب أمام إسرائيل عام 1967 وطرد المقاومة الفلسطينية من الأردن عام 1970 فيما عرف بأيلول الأسود ونزوح المقاومة نحو لبنان، وتصاعد المعارضة الشعبية لسياسة الحكومة اللبنانية، كانت عوامل أدت إلى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 والتي سرعان ما أخذت بعدًا طائفيًا بين المسلمين والمسيحيين. تدخلت سوريا عام 1976 بناءً على تفويض من جامعة الدول العربية لوقف الاقتتال، غير أنها فشلت في تحقيق ذلك. كما تدخلت إسرائيل تحت شعار “سلامة الجليل” فحصل الاجتياح الأول عام 1978 والاجتياح الثاني عام 1982[164] واستطاع شارون أن يجعل قوات جيشه تصل إلى بيروت وتدخل مقر الرئاسة اللبنانية في بعبدا.

انسحبت منظمة التحرير الفلسطينية في آب من سنة 1982 متجهة إلى تونس.[165] ثم انسحبت إسرائيل عام 1985 بعد أن فرضت اتفاق 17 أيارر، تاركةً الجبل في فراغ أمني، فاندلع الاقتتال من جديد بين الموارنة والدروز، وتمت عملية تهجير موارنة الشوف من قراهم عدا دير القمر،[166] فيما يصفه المجمع البطريركي الماروني بأنه كارثة القرن العشرين،[167] والتي استقال على إثرها البطريرك أنطون بطرس خريش عام 1986.[168]

وضع اتفاق الطائف الذي أقره البرلمانيون اللبنانيون برعاية سوريّة – سعوديّة عام 1989 حدًا للحرب الأهلية وانتخب إلياس الهراوي رئيسًا للجمهورية خلفًا لرينيه معوض الذي اغتيل بعد أيام من بداية ولايته الرئاسية،[169] وقدمت الكنيسة على لسان البطريرك صفيرعام 1992 اعتذارًا عن مآسي الحرب الأهلية والتي كان الموارنة كسائر اللبنانيين جزءًا منها، فقيل:

الكنيسة المارونية

وإذا كانت قد مرّت على كنائسنا فترات مرّت على وطننا بكامله، حصلت فيها أزمات وصدامات ولم نحسن نحن وأبناؤنا فيها تأدية شهادة المحبّة على أبهى وجه، واشتدّ الضيق فيها على جميع الناس فأخرجهم عن الطريق التي رسمتها لهم تعاليمهم الدينيّة، وإذا كان قد وقع في لبنان اقتتال بين الأخوة في هذا الجانب أو ذاك، فيجب أن يكون ذلك مدعاة إلى العودة إلى الله وإلى الذات وإلى القريب بتوبة صادقة وكفّارة ناجحة لتصحيح المسيرة وتقويم الإعوجاج.[170]

الكنيسة المارونية

الكنيسة بعد الحرب وحتى الآن

على صعيد الكنيسة، انتخب مار نصر الله بطرس صفير بطريركًا في 19 أبريل من سنة 1986، وصدر عن البطريركية المارونية عام 1992 كتاب القداس الماروني بعد أربعمائة عام على صدور النسخة الأولى منه،[171] تلاه السينودس من أجل لبنان الذي دعا إليه البابا يوحنا بولس الثاني خلال زيارته إلى لبنان في العام 1997، وأعلنت قداسة الراهبة المارونية رفقا الريّس عام 2000[172] ثم الراهب نعمة الله كسّاب الحرديني عام 2001،[173] وكان الموارنة قد احتفوا بشربل قديسًا العام 1965، وغدت عنايا مركز حج لموارنة العالم كافّة، ثم رعى البطريرك مصالحة الجبل عام 2000، وافتتح سلسلة زيارات لبلاد الانتشار الماروني،[174] وعقدت خلال عام 2004 الدورة الأولى للمجمع البطريركي الماروني الذي استمرت أعماله ثلاث سنوات، ناقش خلالها إحدى وعشرين قضية تهم الكنيسة في ثلاث ملفات.

وأعلن عام 2010 عامًا يوبيليًا لمار مارون لمناسبة مرور 1600 سنة على وفاته وانطلاق المارونية.[175] استقال البطريرك صفير بداعي التقدم بالسن، بعد حبرية طويلة دامت خمس وعشرين عامًا، وانتخب مجلس المطارنة الموارنة، بشارة الراعي خلفًا له في 15 مارس 2011.

طقوس الكنيسة المارونيّة

السنة الطقسية والأعياد

القديس شربل.

تتألف السنة الطقسية المارونية من سبعة أزمنة مركزة على حياة يسوع المسيح وتعاليمه، تبدأ السنة في الأحد الأول من تشرين الثاني المعروف باسم أحد تجديد البيعة وتقديسها وتنتهي في الأحد الأخير من تشرين الأول والمعروف باسم أحد يسوع الملك، أما عن أول الأزمنة فهو زمن الميلاد ومدته سبعة أسابيع يليه زمن الغطاس أو الدنح وفيه تقام ثلاث أسابيع من التذكارات للكهنة والمؤمنين والموتى، قبل أن يبدأ زمن الصوم الكبير لمدة أربعين يومًا أو ستة آحاد يذكر خلالها الموارنة الأعاجيب التي اجترحها السيد المسيح في حياته الأرضية ويختم الصوم بأسبوع الآلام، وهو زمن مستقل ومنفصل طقسيًا، لتذكار آلام المسيح وصلبه، وفق المعتقد المسيحي، يليه سبعة أسابيع تعرف باسم زمن القيامة تفتتح بعيد الفصح المجيد لاستذكار قيامة السيد المسيح من الموت وفق المعتقد المسيحي والتعاليم والظهورات التي لحقت به، وبعد خمسين يومًا من القيامة يبدأ زمن العنصرة، أو حلول الروح القدس على التلاميذ والكنيسة وفق المعتقد المسيحي، ويمتد زمن العنصرة ست عشر أسبوعًا يستذكر الموارنة خلاله جميع التعاليم والأمثال الخلاصية التي وضعها السيد المسيح خلال حياته الأرضية، ويعتبر زمن الصليب آخر تلك الأزمنة حيث تقرأ وعلى مدى سبعة أسابيع تعاليم المسيح عن اليوم الأخير والدينونة وماذا ينبغي على المرء أن يعمل حتى يرث الحياة الأبدية.[176]

وتحوي السنة الطقسية ذاتها عدد كبير من الأعياد، التي ترتبط بعضها بحياة السيد المسيح وأحداثها في حين يرتبط البعض الآخر بالعذراء مريم أو أحد آباء الكنيسة على اختلافهم، ويعتبر عدد من هذه الأعياد بطالة كنسية، أي يجب الامتناع عن الصوم خلال هذا اليوم، وتحبذ فيه العطلة الرسمية وحضور الصلوات المقامة في الكنائس، وحتى الأعياد التي لا تعتبر في قانون الكنيسة بطالة فهي تعتبر بطالة في الرعايا والكنائس المشيدة على اسم العيد الخاص بها، أما عن أهم الأعياد المارونية فهي:[177]

التاريخ العيد التاريخ العيد التاريخ العيد التاريخ العيد
1 كانون الثاني عيد ختانة المسيح/يوم السلام بحسب التقويم الغربي عيد الفصح المجيد / بطالة/ بحسب التقويم الغربي عيد العنصرة/ بطالة/ الأحد الأخير من تشرين الأول عيد يسوع الملك
6 كانون الثاني عيد الدنح، الظهور الإلهي/ بطالة/ 23 نيسان عيد مار جرجس 10 تموز الشهداء المسابكيين الموارنة 1 تشرين الثاني عيد جميع القديسين
17 كانون الثاني عيد القديس أنطونيوس الكبير الأحد الأول من أيار عيد سيدة لبنان – حريصا الأحد الثاني من تموز عيد مار شربل 2 تشرين الثاني عيد الموتى المؤمنين
28 كانون الثاني عيد ما أفرام السرياني 15 أيار عيد سيدة الزروع 31 تموز عيد رهبان مار مارون الشهداء 4 كانون أول عيد القديسة بربارة
2 شباط عيد دخول المسيح إلى الهيكل / عيد النور 21 أيار عيد الملكة هيلانة والقديسة ريتا 6 آب عيد تجلي الرب/ بطالة/ 8 كانون أول عيد الحُبل بها بلا دنس/ بطالة/
9 شباط عيد مار مارون، أب الطائفة وشفيعها/ بطالة/ 10 حزيران عيد القديسة رفقا 15 آب عيد انتقال العذراء/ بطالة/ 14 كانون أول مار نعمة الله الحرديني
2 آذار عيد مار يوحنا مارون 15 حزيران عيد يسوع الفادي 8 أيلول عيد ميلاد العذراء 20 كانون أول القديس اغناطيوس الانطاكي
19 آذار عيد مار يوسف خطيب مريم 24 حزيران عيد مولد مار يوحنا المعمدان 14 أيلول عيد الصليب المقدس/ بطالة/ 25 كانون أول عيد الميلاد المجيد/ بطالة/
25 آذار بشارة العذراء بحبلها بالسيد المسيح 29 حزيران عيد القديسين الرسولين بطرس وبولس/ بطالة/ 4 تشرين أول عيد تريز الطفل يسوع 28 كانون أول مقتل أطفال بيت لحم

الشعائر والليتورجيا

كنائس ذات تراث سرياني
مخطوطة سريانية من القرن11

نشأت الطقوس المسيحيّة الأولى في أورشليم والتي دعيت أم الكنائس وسرعان ما نشأت عواصم أخرى للطقوس المسيحية، مثل أنطاكية حيث دعي المسيحيين بهذا الاسم للمرة الأولى والرها وهي أول بلاد اعتنقت المسيحية ومركز سرياني وثقافي كبير، ظلت محافظة على جذورها السريانية على عكس أنطاكية التي تأثرت بالطقوس الأورشليمية،[178] ولذلك يعمد اللاهوتيون والمؤرخون إلى تقسيم الطقوس المسيحية الشرقية إلى عائلتين كبيرتين، الطقس الأول وهو الطقس الأورشليمي – الأنطاكي والثاني هو الطقس الرهاوّي، وفي وقت لاحق اعتبر نهر الفرات أصلاً لتلك القسمة فدعي الطقس الأنطاكي – الأورشليمي بالطقس الغربي في حين دعي الطقس الرهاوّي بالطقس الشرقي.[99] وداخل هاتين العائلتين الكبيرتين للشعائر الشرقية هناك أيضًا عدد من العائلات المتوسطة والصغرى ففي داخل الطقس الأنطاكي – الأورشليمي تمايز واضح بين طقسين: الأول سرياني خالص والثاني تأثر حتى غاص كليًا بالتراث الهليني اليوناني وهو اليوم المعتمد في الكنيسة الملكيّة بشقيها الكاثوليكي والأرثوذكسي، بيد أنه قد نشأت بمرور الأيام علاقات وثقى بين مختلف الطقوس فيُلاحظ أن الكنيسة الأنطاكية الأرثوذكسية وهي تتبع الطقس الأنطاكي اليوناني تعتمد نظرة الطقس الرهاوّي إلى التقديسات الثلاث موجهة إياها إلى الثالوث الأقدس، في حين أن الطقس الأنطاكي السرياني ينسبها إلى السيد المسيح وحده،[179] ولا يوجد طقس ماروني صرف، إنما الطقس الماروني هو جزء من الطقس الأورشليمي – الأنطاكي السرياني وهذا هو سبب تسمية الكنيسة بهذا الاسم، أي “الكنيسة الأنطاكيّة السريانية المارونية”.[99]

منظر من داخل كاتدرائية مار جرجس المارونية في وسط بيروت.

بيد أنّ الموارنة في الوقت نفسه ارتبطوا أيضًا بمحور هام هو المحور الرهاوّي السرياني، كما تأثر الملكيون فيما يخص التقديسات الثلاث كذلك تأثر الموارنة، إنما على صعد أخرى، فيُلاحظ استعمال الموارنة لنافور مار بطرس الثالث المسمى نافور شرر المنسق حسب المحور الرهاوّي،[180] كذلك تُعد رتبة العماد والميرون المارونيّة رتبة رهاوية أيضًا.[181] إن السبب الرئيسي لهذه الاقتباسات هو الاختلاط الطائفي في القرون الأولى للمسيحية في سوريا، فكان قرب دير مارون على سبيل المثال ديرًا آخر بنفس الاسم وإنما ينسب للراهب مارون النسطوري الذي عاش في زمن الإمبرطور موريق،[182] ولما كان النساطرة يتبعون الطقس الرهاوي، أدى هذا التجاور إلى دخول الطقوس الرهاوية السابقة إلى الكنيسة المارونية، تمامًا كما دخل عدد من الكتب الطقسية والعادات اليعقوبية نتيجة للتجاور في مرحلة من مراحل القرون الوسطى في شمال لبنان، ومن هذه العادات الصلاة التي يتلوها المحتفل قبل الشروع بالقدّاس والتي أسقطتها الكنيسة عام 1992 لعدم أصالتها في التقليد الماروني.[183] إن ماهو معروف عن الطقوس المارونية حتى القرن العاشر، وهي بعض الوريقات من كتاب “الشحيمة” أي كتاب الصلوات البسيطة للرهبان، يثبت أن الموارنة في العموم كانوا أقرب إلى الأصول الأنطاكية الأورشليميّة، وأن ما أخذه الموارنة من الرهاويين، قد سقط عدا ما نجا منه وهي رتب المعمودية والميرون ونافور شرر ورتبة الغسل يوم خميس الأسرار بدلاً من تعليق المصلوب كما هو الحال في سائر الكنائس الأنطاكية.[181][184]

إن أول طبعة للقداس الماروني في العصور الحديثة ظهرت عام 1592 على يد تلامذة المدرسة المارونية في روما لكنها أثارت اعتراضات واسعة، حتى أن البطريرك ميخائيل الرزي وضع الحُرم الكنسي عليها ثم عاد فسمح بها، إذ إن الكتاب كما صدر حينها ابتعد عن التقليد الماروني بشقيه الغربي والشرقي وأخذ يقترب من الطقس اللاتيني، حيث أن الكلام الجوهري في هذه النسخة إنما هو من الطقوس اللاتينية مترجمًا إلى السريانية،[181] وظهرت بعد قرن آخر النسخة الثانية عام 1716 والتي اعترض عليها العلماء الموارنة في كتابتهم القاسية، وكان المجمع اللبناني عام 1736 قد أمر بإنشاء لجنة لإصلاح الطقوس والقداس على رأسها،[185] لكن اللجنة هذه لم تر النور، فكات الطبعة الثالثة عام 1763 في روما أيضًا، تلتها بدءًا من عام 1816 وحتى عام 1872 أربع طبعات صدرت عن مطبعة قزحيا قبل أن يصدر المطران الدبس رئيس أساقفة بيروت طبعتا بيروت الرسميتان عاميّ 1888 و1908، وجميع هذه النسخ إنما هي نسخة لطبعة عام 1716 وجميعها أيضًا مكتوبة باللغة السريانية ولم تظهر الطبعة الأولى بالحرف العربي حتى عام 1959 على يد جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة في جونيه،[186] لتبدأ إثرها حملة إصلاح الطقوس المارونية حتى وصل عدد هذه الحملات إلى عشرين، وصدرت عام 1973 رتبة بسيطة للقداس مؤلفة من خدمة واحدة مع نافور واحد على عهد البطريرك المعوشي على سبيل الاختبار، وأقر المجمع البطريركي عام 1982 الرتبة المفصلة، ثم أعيد دراستها ورفعت إلى دوائر المجمع الشرقي في الفاتيكان وصدرت بشكلها النهائي بموجب المرسوم البطريركي عدد 1992/479 معيدةً إلى الطقس الماروني بهاءه الأول.[187] وكانت الرتب الأخرى قد صدرت عن جامعة الروح القدس في الكسليك عام 1984 وينتظر أن تصدر نسخة جديدة نهائية من بكركي.

يتألف القدّاس المسيحي من قسمين هما قسم الكلمة وقسم القربان، يطلق على القسم الأول اسم “ما قبل النافور” أو “الخدمة” في حين يطلق على القسم الثاني اسم “النافور وما بعد النافور”، وللكنيسة السريانية بشكل عام تنوّع واضح في قداديسها، فبينما توجد في الكنيسة الملكية أو الكنيسة اللاتينية خدمة واحدة فقط، تحوي الكنيسة السريانية 73 خدمة متبدلة بحسب العام، والأمر نفسه يصدق بالنسبة للقسم الثاني من القدّاس فبينما تحوي الكنيسة الملكية الكاثوليكية على ثلاث نوافير فقط تحوي الكنائس السريانية عامة على ما يفوق الثمانين نافورًا، اعتمدت الكنيسة المارونية منهم ثمانية يرقون لما قبل القرن العاشر،[188] وهكذا لا تعتبر هذه الطقوس مجرد ترديد الكلام نفسه، طيلة العام بل تؤدي إلى خلق حركة تجديد في الإيمان.[189] أما سائر كتب الصلوات المارونية فهي كثيرة: صلوات الصباح والمساء ونصف النهار على مدار العام، رتبة تبريك الشموع، رتبة تبريك الزيتون، رتبة تبريك الرماد، رتبة تبريك المياه، رتبة تبرك الزيت يوم أربعاء القنديل – أربعاء أسبوع الآلام – رتبة سجدة الصليب يوم الجمعة العظيمة، رتبة الغفران يوم سبت النور، رتبة السلام يوم أحد الفصح، رتبة السجدة يوم أحد العنصرة، رتبة افتتاح كنيسة جديدة، رتبة الخطبة والزواج ورتبة الجنازات؛ وجميعها تخضع لتنسيق القسم الأول ذاته من القداس المعروف باسم الخدمة، بمعنى أنها تتألف من صلوات البدء الثلاثة لتمجيد الله، يليها صلوات الغفران مصحوبة بالترانيم والبخور قبل أن تلحق بالتقديسات الثلاث والإنجيل وصلوات الختام، وهذه الرتب منسقة وفق الطقس الأنطاكي السرياني المعروف بالغربي وما نتج عنه من تطورات مارونية لاحقًا، وهناك أيضًا رتبة المعمودية والميرون ورتبة الغسل يوم خميس الأسرار وهي تتبع التقليد الرهاوي السرياني؛ ومن الأمور الخاصة بالموارنة في الطقوس، نتيجة للتطورات الحاصلة منذ القرن الحادي عشر، الصلاة التي تلي التقديسات الثلاث وكذلك مزمور القراءات الموزون على اللحن السرياني التقليدي رمرمين وكذلك الصلاة التي تلي تقديم القرابين والتي تختتم بدعاء “بدل عطاياهم الزائلة هب لهم الحياة والملكوت”.[190]

الواقع

الإدارة

الصرح البطريركي في بكركي.

يعتبر بطريرك أنطاكية رأس الكنيسة المارونية هو سلطة مكانية ورعائية ومقوننة وفق الشرائع الكنسيّة على الإكليروس ومؤمني الكنيسة ويعتبر أب الآباء ورئيس الرؤساء والراعي والمدبر،[191] بل أطلق عليه لقب غريب خلال القلاقل التي حصلت منتصف القرن التاسع عشر وهو “حامي حريمنا“،[192] وقد لعب البطاركة الموارنة دورًا هامًا في سياسة لبنان الداخلية منذ عام 1770، وبلغ ذلك ذروته عام 1920، عندما وُلد لبنان الكبير، بإلحاح البطريرك الحويّك، ولا يزال للبطاركة دور هام في مسرح السياسة اللبنانيّة إذ يعبرون عن آرائهم في كل قضية تقريبًا.[193] يعاون البطريرك المجمع المقدس للكنيسة المارونية الذي يتألف من مطارنة الأبرشيات والوكالات والمطارنة المتقاعدين، ويبلغ عدد الأبرشيات سبعًا وعشرين أبرشية وعدد أعضاء المجمع ستة وأربعين عضوًا. وقد كان للبطريرك في السابق صلاحيات مطلقة على الكنيسة والشعب غير أن المجمع اللبناني عام 1736 حد من الصلاحيات ونقل قسمًا كبيرًا منها إلى المجمع المقدس جاعلاً من المطران أعلى سلطة في أبرشيته ومنيطًا السلطة التشريعية في الكنيسة بالمجمع المقدس.

ينبثق عن المجمع سلسلة أمانات ولجان فرعية أمثال اللجنة البطريركية للشؤون الطقسية واللجنة البطريركية للاحتفالات الطقسية، ويلتأم المجمع سنويًا في شهر يونيو للتباحث في الشؤون الكنسيّة والعامة، كما يعقد مجلس المطارنة الموارنة اجتماعًا شهريًا، ويمكن تشبيه المجلس المذكور بالمجمع المصغر. يتبع للبطريركيّة أيضًا مركز إحصاء ومركز آخر للدراسات والبحوث يصدر في كل عام عددًا كبيرًا من التقارير والدوريات التي تلقي الضوء على مشاكل الرعايا ليسعى إلى حلها قبل تفاقمهما،[194] إلى جانب عدد من المؤسسات التعليمية الأخرى، كما تشرف الكنيسة عن طريق البطريركية أو الرهبنات، على عدد من المزارات وأماكن الحج والعبادة الهامة على رأسها مزار سيدة لبنان في حريصا،[195] الذي شيّد بجهود البطريرك إلياس الحويك عام 1904. أما الشرع المطبق والناظم لأعمال المجمع وسائر الشؤون الإدارية في الكنيسة هو قانون الكنائس الكاثوليكية الشرقية الذي صدر في أعقاب المجمع الفاتيكاني الثاني، ورغم استقلال الكنيسة المارونية فإن للكرسي الرسولي صلاحيات بارزة في الإدارة، فإقالة المطارنة حق حصري للبابا بناءً على اقتراح البطريرك، وكذلك تعيين المطارنة بناءً على انتخاب المجمع، وجملة من قضايا إدارية عاليّة أخرى.

يشارك العلمانيون، وهي التسمية الكنيسة للمؤمنين العاديين من غير الكهنة والرهبان، في الإدارة عن طريق المجالس الرعويّة والوقفيّة في الأبرشيات، إلى جانب بعض المجالس الأعلى كالرابطة المارونية في لبنان والتي تشابه المجلس الملي العام في مصر، ويعود تاريخ تأسيسها عام 1952. وتجمع البطريركيّة علاقة طيبة مع مختلف دول الجوار والوسط والمحيط، سيّما الأردن وقطر والإمارات العربية المتحدة والكويت،[196] ووتحافظ الكنيسة على تراثها وهويتها السريانية، وتعمل لإزالة آثار الليتنة، ومن القرارت التي يمكن النظر إليها بهذا الخصوص استخدام الأيقونات السريانية حصرً في جميع الكنائس المارونية، بدلاً عن التماثيل أو الأيقونات المأخوذة من الفن اللاتيني.[197][198]

الرتب الكنسيّة

تعتبر الكنيسة المارونية من الكنائس التقليديّة، أي التي تقر بتسلسل السلطات في الكنيسة وفق نظام كهنوتي محدد؛ وتتمسك كغيرها من الكنائس التقليدية بكون القديس بطرس مؤسس الكرسي الأنطاكي وأول بطريرك له، ولهذا السبب يضيف البطاركة الموارنة اسم بطرس لأسمائهم؛ ويحوي سلك الكهنوت الماروني عددًا كبيرًا من الرتب: هناك أولاً القندلفت أي الذي يحضّر الأمور المادية في الكنيسة، يليه الشماس من الدرجة الصغرى، ثم رئيس الشمامسة والشماس الإنجيلي، وهو الشمّاس الذي يستعد ليصبح كاهنًا، وهؤلاء لا يحق لهم إقامة شعائر العبادة داخل الكنيسة، إلا بصفتهم معاونين فقط، أما أصغر رتبة يحق لها إقامة شعائر العبادة فهي الكاهن، يليه الخوري أو كبير الكهنة ثم الخورأسقف، أي المفوّض من قبل أسقف الأبرشية القيام بمهام الأسقف داخل مقاطعته أو رعيته ثم هناك الأسقف أو رئيس الكهنة يليه المطران أي رئيس الأساقفة،[191] ويتربع على قمة الهرم البطريرك؛[199]

الرهبنة

تعتبر الكنيسة المارونية كما عرفها المجمع البطريركي، كنيسة رهبانية بالنظر إلى نشأتها المنبثقة من دير مار ارون والتي طبعت جملة من التقاليد الثابتة في مسيرتها؛ خلال القرون الوسطى كانت الحركة الرهبانية عبارة عن مجموعة أديار مستقلة عن بعضها البعض مع عدد وافر من النساك والحبساء سيّما في وادي قنوبين شمال لبنان، أما القوانين المرعيّة فهي سلسلة تقاليد شفهية ومتوارثة إلى جانب قوانين القديس أنطونيوس، وغالبًا ما كان يرأس الدير أسقف.[200] وفي عام 1695 تم على يد ثلاثة شبان موارنة من حلب هم عبد الله القرآلي وجبرائيل حوّا ويوسف التبن، إصلاح الرهبنة ووضع قوانين ثابتة لها وإدخال بعض التعديلات الغربيّة، على أنظمتها كفترة الابتداء لمدة سنتين قبل إبراز النذور الرهبانية. وفي 10 نوفمبر 1695 وافق البطريرك أسطفان الدويهي على هذه القوانين وتأسست بذلك الرهبنة اللبنانية المارونية؛[201] وثبت الكرسي الرسولي قوانين الرهبنة عام 1732 وبذلك أصبحت الرهبنة اللبنانية حبريّة أي تتبع البابا لا البطريرك. وقد ساهم تعليم الرهبان والأنظمة الديرية الحديثة كانتخاب رئيس الدير في تزايد عدد المقبلين نحو الرهبنة المنظمة لا الأديار المستقلة، كما أخذت الأديار تدريجيًا تنضم إلى الرهبنة حتى اختفت الأديار المستقلة منتصف القرن التاسع عشر.[202] عام 1700 تأسست الرهبنة الأنطونية ثاني الرهبنات المارونية المحلية، وفي عام 1770 انقسمت الرهبنة اللبنانية إلى قسمين هما الرهبنة اللبنانية المريمية والرهبنة البلدية، وتوسعت الأديار والرهبنات وظهرت الرهبنات النسائيّة سيّما راهبات العائلة المقدسة المارونيات اللواتي أسسهنّ البطريرك الحويك عام 1898، وراهبات القلبين الأقدسين وسواهم؛ كما اتجه عدد من الشبّان الموارنة نحو الرهبنات الكاثوليكية العامة كاليسوعية والكبوشيّة، وانخرطوا بالتالي في الطقس اللاتيني، ما أثار جدالات متواصلة في الطائفة حول هذه القضية لم تتوقف مطلقًا.[203]

مزار سيدة لبنان حريصا، افتتح يوم 4 مايو سنة 1904.

أغلب الرهبات والرهبان الموارنة اليوم، يقدمون خدمات تتعلق بالتعليم والتمريض وإدارة المدارس والمياتم ومساعدة الفقراء وغيرها من الخدمات الاجتماعية الشعبية المتنوعة،[204] أما النط التقليدي من النسك والتوحد فهو انقرض أو كاد.[205] علمًا أن الرهبنة المارونية قدمت ثلاث قديسين للكنيسة الجامعة هم شربل مخلوف ونعمة الله الحرديني ورفقا الريس والطوباوي يوسف اسطفان. في عام 1986 كان عدد الأديار في لبنان وحده نحو ثمانين ديرًا يقطنها سحابة خمسة آلاف راهب وراهبة مارونية.[206]

التعليم

حسب الموفد البابوي جيروم دنديني الذي زار الموارنة أواخر القرن السادس عشر، وكما كان الحال في أغلب بلاد الشام خلال الحكم العثماني، فإن الأميّة كانت متفشية، “وحتى الكهنة، هم أيضًا كانوا جهلة لا يعرفون إلا القراءة والكتابة”.[207] أخذ الوضع بالتبدّل منذ أواخر القرن السابع عشر، ففي عام 1696 تأسست مدرسة مار يوسف في زغرتا لتعليم الأولاد وفي عام 1721 بات من واجب الرهبان تعليم أولاد القرى القراءة والكتابة، ومن ثم أجبر المجمع اللبناني عام 1736 الأهل إلى إرسال أولادهم للدراسة في المدارس التي كانت غالبًا ما تتبع الكنيسة ورهبانياتها بنظًا لغياب الدولة،[208] وقد جاء في قرارات المجمع تعليم البلاغة العربية والفلسفة والرياضيات والمساحة الوفلك واللاهوت والحقوق وغيرها من العلوم العالية.[209] كما ساهم خريجو المعهد الماروني في روما في نشر العلم والثقافة. هذا التثقيف في القرن الثامن عشر هو من ولد النهضة الثقافية في القرن التاسع عشر، والتي توجت بتأسيس أولى جامعات المشرق، منها ذات الطابع الماروني مثل جامعة القديس يوسف وجامعة الروح القدس ومعهد الحكومة وسواها. تشمل المؤسسات التعليمية أيضًا المدارس الابتدائية والثانوية والجامعات في لبنان وهي منظمة عن طريق الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية في لبنان،[210] كذلك فإن المجمع البطريركي الماروني قد أفرد نصًا خاصًا عن المؤسسات التعليمية التابعة للكنيسة.

الاغتراب

باستثناء المناطق القريبة مثل سوريا وفلسطين وقبرص فإن الاغتراب في الكنيسة المارونية قد بدأ في القرن التاسع عشر وتفاقهم خلال الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية اللبنانية، حتى بات موارنة المغترب ضعفي موارنة لبنان. حاولت الكنيسة الحفاظ على الصلات مع المغتربين عن طريق إنشاء رعايا لها في المغترب ثم ما عرف باسم “أبرشيات المهجر” رغم تقييد الكرسي الرسولي على إنشائها، ورغم نجاح أبرشيات المهجر إلا أنها في الوقت ذاته فشلت في الوصول إلى المغتربين أينما حلوا، وهو ما دفع لانخراط أعداد كبيرة منهم خصوصًا في الأجيال الأولى من الهجرة في الكنائس المحلية سيّما الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.

تسعى الكنيسة للاهتمام بالمغتربين عن طريق طباعة كتب الصلوات والطقوس باللغات المحلية، وتكثيف زيارات البطريرك إليهم وإنشاء اليوم العالمي للشباب الماروني للتعرف إلى لبنان، ومحاولة إعادة من انخرط في الكنيسة اللاتينية مجددًا إلى الكنيسة الأم،[211] إلى جانب إنشاء أمانة خاصة للمغتربين في البطريركية وغيرها من المقترحات التي ناقشها واقرّها المجمع البطريركي في نصّه الثالث.

الإعلام الديني

يتبع للكنيسة المارونية عن طريق الرهبنات أو الأبرشيات مجموعة من الأدوات الإعلامية الخاصة، مثل فضائية نور سات وإذاعة صوت المحبة، وعدد من المجلات والدوريات على رأسها “المجلة البطريركيّة”، وتتوحد إدارة مختلف أجهزة الإعلام الكنسية تحت إدارة “المركز الكاثوليكي للإعلام” والذي أنشأ بناءً على توصيات المجمع الفاتيكاني الثاني.[212]

معرض الصور

انظر أيضًا

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.