من أعمال نذير نبعة

مرحلة الدمشقيات

في عام 1975 بدأت المرحلة الأطول زمنياً، وربما الأغزر إنتاجاً، في تجربة نذير نبعة، وهي مرحلة «الدمشقيات» التي استمرت ست عشرة سنة، كرست هوية أعمال الفنان لجهات الموضوع والأسلوب والتقنيات، فمن جهة صارت المرأة الدمشقية بثيابها و«أكسسواراتها» التقليدية، الموضوع الأساس للوحاته، إن لم يكن الوحيد، ومن جهة ثانية نُفذت لوحات هذه المرحلة جميعاً بأسلوب واقعي، محلي في مناخه اللوني، ومفرداته التشكيلية، وغياب أي فراغ في اللوحة. ومن جهة ثالثة اتجه نذير نبعة نحو ألوان «الأكليريك» يصوغ بواسطتها أشكاله المحببة، معتمداً على براعة فرشاته، ومستعيناً ب «طبعات» القماش التي كانت تصبح أكثر إتقاناً مرة تلو مرة.

كانت هذه المرحلة – على وفرة حضورها الزمني، والفني، وقدرتها على الإمتاع والإدهاش – غريبة، إلى حد ما، عن المسار الذي اتخذته تجربة نذير نبعة حتى ذلك الحين، والذي كان يتجه نحو مفاهيم الحداثة. ويرى الناقد «صلاح الدين محمد» أنه لا يصح قراءة هذه المرحلة بعين ناقد أوربي، لأنه سينظر إليها على أنها من مرحلة تاريخية سابقة، لكن بالنسبة لنا لو أن نذير نبعة لم ينجز هذه المرحلة، لكانت هناك فجوة في سلم ارتقاء الفن السوري ومعطياته.


من أعمال نذير نبعة

في لقائه الصحفي مع الزميل «وحيد تاجا»، يقدم نذير نبعة تفسيره لانشغال لوحته بكامل مساحتها بالتفاصيل: “أعتقد أن اللوحة هي نوع من الاتصال بالآخر. فأنا رسام وعلاقتي بالآخر هو إنتاجي الفني. وعندما تكون لدي رغبة في عرض أعمالي فيجب أن يرافق هذه الرغبة عن كل بقعة في اللوحة مهما صغرت هو تعبير عن فهمي لهذا الاحترام. وربما شاهدت ذلك في التصميمات الشرقية: السجاد والتصميمات الخشبية المصّدفة، والتكوينات الهندسية في الرخام أو في تلك المؤلفات الزخرفية البنائية. تلك الأشياء الحميمة إلى نفسي، والتي تجد فيها لفنان الشرقي وقد لمس كل جزء من تصميماته ومؤلفاته بنفس الاحترام. كما اعتقد بأن هذا انتقل إلى التصميمات كتعبير عن تلك النظرة الموجودة في الفلسفة الإسلامية عن الكون. الكل موجود في الجزء. إن الحياة كلها موجودة في حبة قمح ضعها في باطن الأرض تراها تتجلى أمامك. وتعطي ما يطعم جميع البشر.”. وعن اتهامه بأنه أكثر انحيازاً للرسم، منه للون قال نبعة: “يمكن أن يكون هذا صحيحاً. ربما أوحى بذلك أني أهتم فعلاً بالخط أو الرسم في اللوحة إلى جانب اللون، وهذا ما يجعل هذين العنصرين يقومان بدور متواز لا يتقدم أحدهما على الآخر. وفي المهمات الإسلامية تجد ذلك الاندماج المتصوف بين هذين العنصرين بحيث نجد إن كلا منهما يظهر الآخر. ولكن عندما يرسم الفنان، أو يعمل في لوحته فأنا لا أعتقد أنه يفكر في منهج أو إبراز دور الرسم أو اللون في اللوحة وإنما يكون في حالة من التعبير عن نفسه. ثم يأتي بعد ذلك النقاد أو الكتاب فيجدونه أقرب آلي هذا أو ذلك”.

وفي وقت آخر يفسر نذير نبعة حضور «الرمان» في لوحات تلك المرحلة بالقول: “أعتبر الرمان رمزاً للشرق. فهو فقير من الخارج، غني من الداخل. وهو كالبيت الشامي من الخارج طين وتبن لكنك ما أن تدخل إلى الداخل حتى تجده جنة. فأنا عشت في بستان وكنت أرى الرمانة عبر مراحلها. من الزهرة حتى النضوج بما في ذلك تلونها من الخارج والداخل، وحتى الحروق البنية التي تصيبها بها الشمس، أو التشققات اللاحقة أو حتى تذوق طعمها، وهي ليست الرمانة التي رأيناها في المراسم باعتبارها طبيعة صامتة، فهي ليست مجرد طبيعة صامتة، بل تذكّرني بالأغاني الزجلية وبالغزل الذي حظي به الرمان”.

يستغرب «عبد الرحمن منيف» من سرعة مغادرة نذير نبعة للمرحلة “الغنية والشديدة الإيحاء” السابقة لمرحلة «الدمشقيات»، ثم يستدرك مفسراً: إن هذه الأسئلة، وما شابهها، تحتاج إلى تقص دقيق، بما في ذلك معرفة المناخ والهموم التي سيطرت على تلك المرحلة، ولكن من الإجابات التي تفرض نفسها، والتي تفسر بعضاً من هذه الجوانب: هزيمة حزيران 1967. فهذه الهزيمة التي لم تترك أحداً بعد وقوعها كما كان من قبل، غيرت كل شيء: النظرة، الموقف، المزاج، الأولويات، وطرحت كماً هائلاً من الأسئلة والتساؤلات، بحيث يمكن التأريخ: قبل حزيران أو بعده، كتاريخ حاسم ونقطة علاّم… ونذير نبعة رغم عدم التزامه بتنظيم سياسي، إلا أنه واحد من جيل غارق حتى الثمالة في السياسة، ولأنه يمتلك أداة تعبير شديدة الحساسية والاستجابة، فقد جاءت الهزيمة لكي تضعه في مواجهة أسئلة جديدة: ما هي مهمة الفن في هذه المرحلة؟ ما هي الصيغة التي يمكن من خلالها وقف الانهيار ومنع الأسوأ؟ كيف يستطيع الإنسان – الفنان أن يشد من عزائم الناس ويقف، مع الآخرين، ليشعر بإنسانيته وضرورته وأهميته؟ التقط نذير نبعة، كما لؤي كيالي، الرموز المضيئة في وطن خيم عليه السواد والظلمة، وكرس كل جهده، كل فنه، لكي يقدم هذه الرموز، التقط روح المقاومة، وحاول التعبير عن هذه الروح بصيغ شتى، بما في ذلك أن يقف إلى جانب المقاومين، أن يكون واحداً منهم، وهذه إحدى الالتباسات الرائعة حيث يظن من لا يعرف نذيراً أنه فلسطيني قبل أن تكون له أية هوية أخرى!.. صحيح أن هزيمة حزيران ك انت هزيمة عربية قبل أن تكون فلسطينية، أو منسوبة لقطر بذاته، لكن روح المقاومة والتضحية تمثلت، بالدرجة الأولى، في العمل الفدائي. وهكذا كرس نذير نبعة اهتمامه وطاقته، من خلال الملصق، واللوحة للتعبير عن هذه الروح.. ولذلك، وبعد أن برد جرح الهزيمة، وأصبح التعامل معها متجاوزاً الانفعال والصدمة المباشرة، ما لبث نبعة أن تعامل مع الموضوع برؤية جديدة: إبراز النقاء والعذوبة، وبطريقة لا تخلو من غنائية، في الإنسان، في الأشياء، في المواقف، عبر عن ذلك بالمرأة التي تتجاوز الأنثى، وأضاف إليها المزمار والسراج، وهما رمزان شديدا الدلالة، كما لجأ إلى استحضار الذاكرة الشعبية الجمعية من خلال المناخ الذي خلقه في لوحاته، هذا عدا عن الألوان التي يمكن أن تولد الأمل وتحكي احتمالات المستقبل. فعل ذلك في لوحة مبنية بإتقان ومتانة، ومشغولة بصبر في كل تفاصيلها. لقد كان ذلك ضرورياً في مواجهة المصاعب والتحديثات السياسية والنفسية، ولم يغفل عن استلهام الحضارة، لكن هذه المرة التدمرية والعربية، إذ استوحى منها المناخ والوجوه، خاصة النسائية، والأزياء والحلي، في محاولة لأن تكون طريقاً للتجاوز، ومقاومة للفوضى التي سادت في كل المجالات، حتى في القلوب والعقول. وهكذا توصل، مرة أخرى، إلى حلول من نمط جديد، وهذه الحلول بمقدار ما تؤكد الجذور، فإنها تحاول البحث عن آفاق جديدة، ولذلك يعود البناء المعماري المحكم للوحة، مستفيداً أيضاً من منطق النحت لا من أسلوبه، ومستفيداً من اللون الذي يتبدى في هذه المرحلة متعدداً،، شفافاً، غنائياً. لكن هذا التعدد لا يخفي الشجن، خاصة إذا ترافق هذا اللون مع أسى العيون المليئة بالعذاب والانتظار والتساؤل”.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.