«رثاء الأندلس».. ذكريات طيب عيش الرندي تمحوها الصراعات
الشارقة: محمدو لحبيب
من أفدح ما يمكن للشاعر أن يواجهه وهو يحاول إيجاد عبارته الوصفية، هو أن يرى وطنه ومكانه الأول حيث ولد ونشأ يسقط في قبضة الاحتلال، وتتبدل الحياة فيه، ويذل الإنسان العزيز على أرضه، ويطرد منها، وتنهار أوجه الحضارة، ويقوم واقع مختلف بغيض، قاسٍ، ومختلف جداً. لقد كان سقوط مدن الأندلس نموذجاً لما يمكن أن يحدثه الاحتلال من حسرة في نفوس أصحاب الأرض، ومن ولدوا وشبّوا وشابوا فيها، وهكذا تفجرت عبقرية الشاعر الأندلسي أبو البقاء الرندي، من قمة ألمه من تهاوي وطنه أمام عينيه مكاناً تلو الآخر، فأنشد قصيدته المشهورة «في رثاء الأندلس»، والتي لم تكن مجرد مرثية لأيام انتهت، بقدر ما كانت لوحة عظيمة تتغنى بالأندلس.
ولد أبو البقاء صالح الرندي في (رندة) قرب الجزيرة الخضراء في الأندلس وإليها نسبته، وعاشَ في النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وعاصر الفتن والاضطرابات التي حدثت من الداخل والخارج في بلاد الأندلس، وشهد سقوط معظم المدن الأندلسية في يد الإسبان، وتكاد تكون تفاصيل ومحطات حياته الشعرية مجهولة لولا شهرة قصيدته الآنفة الذكر وتناقلها بين الناس، وإن كان له غيرها مما لم يشتهر، ونظم أبو البقاء هذه القصيدة بعد ضياع عدد من المدن الأندلسية جراء عدة حروب طاحنة، التي أدت إلى سقوط الدولة.
ابتدأ الرندي قصيدته تلك باستحضار مسألة الصراع وزوال الدول بعد ازدهارها، وتحولها إلى مجرد ذكرى بعد أن كانت في زمانها مالئة الدنيا وشاغلة الناس، فاستعرض نماذج عديدة من أماكن ودول سادت ثم بادت، وكأنه باستحضاره لكل ذلك يعزي نفسه في فقدان مكانه الأم ودولته الوطن فيقول:
لكل شيء إذا ما تمَّ نقصانُ
فلا يغر بطيب العيشِ إنسانُ
هي الأمورُ كما شاهدتها دولٌ
من سرَّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ
وهذه الدارُ لا تبقي على أحدٍ
ولا يدومُ على حالٍ لها شانُ
يمزقُ الدهرُ حتماً كلَّ سابغةٍ
إذا نبت مشرفياتٌ وخرصانُ
ثم يلج الشاعر بعد تلك الأبيات التمهيدية إلى عمق مأساته الخاصة حين رأى سقوط مدن وطنه واحدة تلو الأخرى في يد الغازي العدو، وانتهاء كل علامات الحضارة التي كانت قائمة فيها، ويعتبر أن ذلك أمر شديد الوقع على النفوس، ويكاد تنهد له الجبال العظيمة مثل جبلي أحد وثهلان المشهورَينِ في الجزيرة العربية بكبرهما وعظمتهما فيقول:
دهى الجزيرةَ أمرٌ لا عزاءَ له
هوى له أحدٌ وانهدَّ نهلانُ
ويبدأ الرندي في تعداد مدن وطنه واحدة تلو الأخرى، مشيداً وذاكراً لمميزات كل منها فيقول:
فاسأل بلنسيةً ما شأنُ مرسيةٍ
وأين شاطبةٌ أمْ أين جيَّانُ ؟
وأين قرطبةٌ دارُ العلوم فكم
من عالمٍ قد سما فيها له شانُ؟!
وهذا التغني بالمكان الواسع المجسد في مدن الوطن وحواضره التي كانت زاهرة من بلنسية، ومرسية، وشاطبة، وجيان، وقرطبة، وحمص الأندلسية (هي مدينة إشبيلية)، هو تجلٍّ فني وأدبي لما اختزنته نفس الشاعر من حسرة على اضمحلال مكانه وتحوله إلى خبر، وإلى مكان للغازي وللآخر، مع ما يرافق ذلك من حسرة أيضاً على انحسار حضارة الدولة الإسلامية في الأندلس.
وقد اختار الشاعر في قصيدته هذه ألفاظاً سلسة، وموسيقى عروضية سهلة، دون اشتغال بالتكلف ومحددات الصناعة الشعرية كثيراً، ربما لأنه أراد أن تصل قصيدته إلى كل نفس تأبى الضيم، وتتعلق بالوطن، وترفض أن تنساه حتى ولو داسته يد الاحتلال وحولته إلى مكان بتفاصيل مختلفة عن التفاصيل الأصلية التي ولد فيها وترعرع وعاش ذكرياته الشخصية هناك بحلوها ومرها، ويبين الشاعر في بعض الأبيات الأخرى من قصيدته أن الوطن لا يصبح منسياً، ولا يمكن أن يستبدل أبداً بمكان آخر، حتى ولو أجبر المرء على مغادرته، ويبعث بذلك رسالة إنسانية تحمل تلك الفكرة الموحدة مهما اختلف مكان تلقيها فيقول:
وماشياً مرحاً يلهيه موطنهُ
أبعد حمصٍ تَغرّ المرءَ أوطانُ

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.