النفي إلى سيبيريا 1849–1854

رسم توضيحي تَخيُّلي لإعدام أعضاء مجموعة بيتراشيفسكي.

كانت مجموعة رابطة بيتراشيفسكي مجموعَة مناقشة أدبيّة فكريّة تُناقش قضاياها المُعاصرة في ذلك الوقت بشكلٍ شبه سرّي. وضمن المجموعة مُهندسين وأطباء وكُتّاب ومعلمين وطُلّاب ومسؤولين حكوميين وضبّاطٍ في الجيش. وقد اختَلفوا في وجهات نظرهم السياسية، بيد أن مُعظَهم كانوا مُعارضين للاستبداد القيصري والعبودية الروسية. قام أعضاء المجموعة باستنكار وتنديد أفعال إيفان ليبراندي وهو مسؤول في وزارة الشؤون الدولية. وقد اتُهمِ دوستويفسكي بقراءة الكتب والأعمال المحظورة والمساعدة في نشرها وتعميمها، بالأخص كتاب بلنسكي رسالة إلى غوغول. وكيل الحكومة والرجل الذي كتب تقريراً عن المجموعة، ذكر في بيانِه أنهم دائماً ما ينتقدون السياسة الروسيّة والدين. وقد ردّ فيودور عن هذا الدّعاء بقولِه أنه كان يقرأ مقالاتٍ وحسب وهي تتحدّث عن الشخصيّة والأنانية البشرية بشكلٍ عام ليس عن السياسة. في النهاية اعتُقِلَ هو وأعضاء المجموعة المُتآمرون على حدّ وصف الحكومة في 23 أبريل 1849 بناءً على طلب الكونت أ. أورلوف وأمر القيصر نيكولاي الأول خوفاً من تَبِعات ثورة 14 ديسبمر في روسيا وثورات الربيع الأوروبي عام 1848. وقد احتَجِزَ الأعضاء في معقل بيتر وبول والتي كانت بدورها تضمّ أخطَر المُدانين.[41][42][43]

استمرّت القضيّة محل تحقيق لأربع شهور من قبل لجنة تحقيق برئاسة القيصر مع الجنرال ايفان نابوكوف وعضو مجلس الشيوخ الكونت بافيل جاجارين والكونت فاسيلي دولجوروكوف والجنرال ياكوف روستوفتسيف ووالجنرال ليونتي دوبيلت رئيس الشرطة السرية. وحكموا على أعضاء المجموعة بالإعدام بإطلاق النار، وأُخِذَ السجناء إلى سيميونوف بلاس في سان بطرسبرغ لتنفيذ الحكم في 23 ديسمبر 1849 حيث انقسموا إلى مجموعات من ثلاثة أفراد، وكان دوستويفسكي الثالث في الصف الثاني وبجانبه وقف بليششيف ودوروف جاهزين للإعدام. ولكن في آخر لحظة وقبل تنفيذ الحكم بحقه صدر مرسوم قيصري يقضي باستبدال الإعدام بأربعة أعوام من الأعمال الشاقة في مقاطعة اومسك بسيبيريا.

خدم فيودور أربع سنين من السجن والأعمال الشاقة في معسكر سجن كاتورغا في أومسك، سيبيريا، تليها فترة الخدمة العسكرية الإلزامية. وبعد رحلة مدتها أربعة عشر يوماً وسط العواصف والثلوج، وصل السجناء إلى توبولسك المحطّة التي يرتاح فيها السُجناء، كان السُجناء بائسين مُعدَمين، وحاول فيودور مواساتِهم، مثل إيفان ياسترزيمبسكي الذي فوجئ بطيبة دوستويفسكي وتخلى عن قراره بالانتحار. وفي توبولسك، تلقى الأعضاء الطعام والملابس من النساء اللاتي كُنّ هناك، فضلاً عن عدة نسخ من العهد الجديد مع ورقة نقدية من عشرة روبل داخل كل نسخة. وبعد أحد عشر يوماً، وصل السجناء إلى أومسك وكان مع فيودور عضوٌ واحد من أعضاء رابطة بيتراشيفسكي هو الشاعر سيرغي دوروف.[44][45][46] بعد سنين شرح دوستويفسكي إلى أخيه المعاناة التي تعرض لها ووصف له الثكنات العسكرية المتداعية:[47]

«في الصيف، أجواء لا تطاق. في الشتاء، برد لايحتمل. كل الأرضيات كانت متعفّنه. القذاره على الأرض يصل ارتفاعها إلى بوصه -مايعادل 2.5 سنتمتر-. من السهل أن ينزلق الشخص ويقع … كنا محزومون كالسردين في برميل … لم يكن هناك مكان تذهب إليه … من المغرب إلى الفجر، كان من المستحيل ان لا نتصرف كالخنازير … البراغيث، القمل، الخنافس السوداء كانت متواجده بمكيال الحبوب …»

وقد كانَ فيودور يُعتَبر من أخطر المُدانين، حيث كانت يديه وقدميه مقيدتين حتى تاريخ إعتاقه. ولم يسمح له إلا بقراءة كتاب العهد الجديد. وبالإضافة لنوبات الصرع التي كانت تأتيه، فقد أُصيبَ كذلك بالبواسير، وفقدان الوزن، وحمّى قوية. وكان رائحة المرحاض منتشرة بأرجاء المبنى، حيث كان هناك حمامٌ واحد يستخدمه أكثر من 200 شخص. كان فيودور يُنقَل للمشفى بين الحين والآخر حيث يتمكّن من قراءة الصحف الإخبارية وقراءة روايات ديكنز. وقد نال احترام معظم السجناء، واحتقار بعضهم الآخر بسبب تصريحات كراهيته للأجانب.[48][49]

الخروج من السجن وزواجه الأول 1854–1866

بعد إطلاق سراحه في 14 فبراير 1854، أرسل فيودور لأخيه ميخائيل طالباً منه مساعدةً ماليّة، وأن يُرسِل له تب ومؤلّفات كل من فيكو وجيزو ورانكه وهيغل وكانت.[50] وقد وصف حياته وهو يقضي حكم الأعمال الشاقة في روايته بيت الموتى التي صدرت في 1861 في مجلّة Vremya وتُعتَبر أول رواية تتناول السجون الروسية والسجناء كموضوعٍ لها.[51] لم تنتهي محكوميّة فيودور عندد هذه الحد، فقد أُجبِر على الخدمة العسكرية والعمل في فيلق الجيش السيبيري من كتيبة الخط السابع، وقبل رحيلِه إلى سيميبالاتينسك حيث سيخدم هناك، التقى مع الجغرافي بيوتر سيميونوف والإثنوغرافي شوكان واليخانولي. وفي نوفمبر 1854 التقى البارون الكسندر إيغوروفيتش رانجل، وهو أحد الذين حَضروا عملية الإعدام المُحبطة. وقد استأجر كلاهما منزل في حديقة القوزاق خارج سيميبالاتينسك. وقد وصف رانجل فيودور في تلك الفترة بأنه: “بدا عابساً مُتهجّماً، وجهه الشاحب مغطّى بالنمش … كان متوسّط الطول، وينظر إليّ نظرة حادّة ثاقبة بعيونه الزرقاء الرماديّة تلك، كان كما لو كان يحاول النظر في روحي واكتشاف أي نوع من الرجل كنت.”[52][53][54]

خلال خدمته في سيميبالاتينسك، أعطى فيودور دروساً خصوصيّة للعديد من الأطفال، وتواصَل مع عدد من عائلات الطبقة العليا، بما في ذلك أسرة المقدم بيليكوف الذي كان يدعوه لقراءة مقاطع من الصحف والمجلات. وخلال زيارته لعائلة بيليكوف، التقى دوستويفسكي عائلة الكسندر ايفانوفيتش إساييف وماريا دميتريفنا إيساييفا ووقع في حبّها. عُيّن ألكسندر ايزايف في وظيفة جديدة في كوزنتسك وتوفّي هناك في أغسطس 1855. انتقلت ماريا وابنها الوحيد مع فيودور إلى بارناول. وقد حصل بطريقة ما على تصريح له بالزواج ونشر الكتب، بيد أنه سيبقى تحت مراقبة الشرطة لبقية حياته. تزوجت ماريا دوستويفسكي في سيميبالاتينسك في 7 فبراير 1857، على الرغم من أنها رفضت في البداية اقتراح زواجه، وذكرت أنه لا يعني لها شيئاً، وأن وضعه المالي السيء يحول دون ذلك. كانت حياتهما بشكلٍ عامٍّ معاً غير سعيدة، فقد كانت تجد صعوبة في التعامل مع نوباتِه التي تزداد بمرور الوقت. وفي وصفٍ لعلاقته معها، كتب فيودور: “بسبب شخصيّتها الغريبة والمرتابة والرائعة، لم نكن سُعداء معاً، ولكن لم يتوقّف الحب بيننا. وكلّما كنا أكثر تعاسة، كان الحب بيننا يزداد قوة”.[55] في عام 1859، خرج من الخدمة العسكرية بسبب تدهور صحّته، وسُمِحَ له للعودة إلى روسيا، فعاد بدايةً إلى تفير حيثُ التقى بأخيه لأول مرة منذ 10 سنوات، ثم توجّه لسانت بطرسبرغ.[56][57]

فيودور دوستويفسكي في باريس عام 1863.

خلال فترة اعتقاله، كتب فيودور قصة واحدة كاملة فقط، وهي بطل صغير ونُشِرت في مجلة. حلم العم وقرية ستيبانشيكوفو لم تنشر حتى عام 1860. كما نُشِر في ذلك العام رواية بيت الموتى كذلك في مجلة Russky Mir. لتليها رواية مذلون مهانون التي تُشِرت في مجلة فريميا الجديدة، المجلّة التي كانت من تحرير فيودور نفسه ومن تمويل وشراكة أخيه ميخائيل.[58][59][60]

سافَر فيودور إلى أوروبا الغربيّة لأول مرة في 7 يونيو 1862، زار خلالها كولونيا، وبرلين، ودرسدن، وفيسبادن، بلجيكا، وباريس، ولندن. وقد قابل ألكسندر هيرزن في لندن وزار قصر الكريستال. وسافر مع نيكولاي ستراخوف في سويسرا مروراً بالعديد من مدن شمال إيطاليا بما فيها تورينو وليفورنو وفلورنسا. وقد دوّن انطباعاته عن تلك الرحلة في ذكريات شتاء عن مشاعر صيف، حيث انتقد في تلك المقالة الرأسمالة والتحديث والمادية والكاثوليكية والبروتستانتية، وظهر فيها مُقدِّمات أهم مبادئ فلسفته التي خلَّدها برواياته لاحقاً.[61][62]

بدءاً من أكتوبر 1863، بدأ فيودور رحلةً أخرى إلى أوروبا الغربية. وقابل حبيبته الثانية بولينا سوسلوفا في باريس، وخسر تقريباً كُل أمواله التي راهن عليها في المقامرة في فيسبادن وبادن بادن. في عام 1864 توفيت زوجته ماريا وشقيقه ميخائيل، وأصبح دوستوفيسكي الوالد القانوني الوحيد لابن زوجته، والمنفق الوحيد لعائلة شقيقه. بعد فشل مجلّة Epoch التي أسّسها مع شقيقه وذلك بعد منع مجلة فريميا، ساء وضع فيودور المالي، وكان يحصل على مشاعدات بسيطة من أقاربه وأصدقاءه منعاً للإفلاس الكامل.[63][64]

زواجه الثاني وشهر العسل 1866–1871

أوّل جزئين من الجريمة والعقاب نُشِرا في يناير وفبراير على التوالي في 1866 في دورية The Russian Messenger. مما أضاف على الأقل 500 مشترك جديد للدورية.[65][66]

عاد فيودور إلى سان بطرسبرغ في منتصف سبتمبر، وقابل رئيس التحرير فيودور ستيلوفسكي ووعده بأنه سيكمل المقامر وهي الرواية القصيرة التس كتبها عن مشاكل إدمان القمار. أحد أصدقاءه اقترح عليه بتوظيف سكرتيرة لديه، فتواصل فيودور مع بافل أليخين وهو كاتِبٌ اختزالي الذي أوصى بتلميذته البالغة 20 عاماً آنا غريغوري سنيتكينا، وساعدته على إنهاء المقامر خلال 26 يوماً من العمل.[67][68] آنا تُعتَبر من اهم المؤرّخين لحياة فيودور، حيث أصدرت كتابين اثنين لحياته. تقول هي في مذكراتها، أن فيودور شاركها في حبكة رواية جديدة تخيليه، كما لو انه كان يحتاج إلى نصحها في فهم نفسية الأنثى.[69] في تلك الرواية، رسام كبير في السن يتقدم لخطبة فتاة صغيرة كان أسمها آنيا. سألها فيودور عما إذا كان من الممكن لفتاة صغير في السن مختلفة في الشخصية أن تقع في حب رسام. اجابت آنا أن ذلك ممكن جداً. ومن ثم قال فيودور لآنا: “ضعي نفسكِ في مكانها للحظة. تخيلي أني أنا الرسام، أنا أعترف وأطلب منك ان تكوني زوجتي. ماذا سيكون جوابك؟” أجابت آنا: “سأجيب بأني أحبك وسأحبك للأبد”.[70][71]

لوحة تذكاريّة لدوستويفسكي في بادن بادن الألمانية.

في 15 فبراير 1867 تزوج دوستويفسكي سنيتكينا في كاتدرائية الثالوث في سانت بطرسبرغ. الـ7000 روبية التي جمعها دوستويفسكي من الجريمة والعقاب لم تُغطّي ديونهم، مما دفع آنا لبيع ممتلكاتها الثمينة. في 14 أبريل 1867، بدأوا شهر عسلٍ متأخر في ألمانيا بالمال الذي كسبوه من البيع. أقاموا في برلين، وزارا معرض جيمالديغاليري ألت مايستر في درسدن الزيارة التي كانت محلّ إلهامٍ لكتاباته. وأكملوا رحلتهم عبر ألمانيا وزارا فرانكفورت ودارمشتات وهايدلبرغ وكارلسروه. وقضيا خمسة أسابيع في بادن بادن حيث تشار هناك مع إيفان تورغينيف ومرة أخرى خَسِر معظم أمواله في لعب الروليت.[72]

في سبتمبر 1867، بدأ فيودور بالعمل على الأبله، وبعد قضاءه فترة طويلة للتخطيط بحبكة الرواية، تمكّن من كتابة أوّل 100 صفحة في 23 يوماً فقط، وبدأت تُنشر في مجلة The Russian Messenger في يناير 1868.

انتقلوا بعد بادن بادن إلى جنيف وعاشوا فيها لأكثر من سنة، وعمل فيودور بجد لإستعادة ثروته. في 22 فبراير 1868 ولدت إبنتهما الأولى صوفيا، ولكنها توفّيت بالالتهاب الرئوي بعد ثلاثة أشهر في 22 مايو.[73] ثم غادرا جنيف متوجّهين نحو فيفي ثم إلى ميلانو قبل أن يواصلا سيرهم إلى فلورنسا، حيث أنهى رواية الأبله هناك في يناير 1869 ونُشِرت في المجلة في فبراير 1869.[74][75] في 26 سبتمبر 1869، في مدينة درسدن، رزقوا بإبنتهم الثانية، والتي أسموها لوبوف دوستويفسكي. وقد تخلص فيودور دوستويفسكي من إدمانه للقمار بعد ولادة ابنته الثانية.

بعد أن سمع أنباء أن جماعة الثورية الاشتراكية قتلت أحد أعضائها وهي إيفان إيفانوف، في 21 نوفمبر 1869، بدأ دوستويفسكي كتابة الشياطين.[76] في 1871، سافرت المجموعة بالقطار إلى برلين. في النهاية عادت العائلة إلى سانت بطرسبرغ في 8 تموز/يوليو، وهو ما يمثل نهاية شهر العسل الذي كان من المقرر أن يكون 3 شهور واستغرق أكثر من 4 سنوات.[77][78]

العودة إلى روسيا 1871–1875

بالعودة إلى روسيا في سانت بطرسبرغ عام 1871، واجهت العائلة من جديد مشاكِلَ ماليّة فاضّطروا لبيع ممتلكاتهم المُتبقية. في ذلك العام في 16 يوليو، وُلِدَ الابن الثالث فيودور، ثم انتقلوا بعد ذلك بفترة للسكن في شقة بقرب المعهد التكنولوجي. وقد أَمِلوا بانتهاء ديونهم عن طريق بيع بيتهم في بيسكي، إلا أن انخفاض سعر العقار في ذلك الوقت أدّى لانخفاض سعر البيت، واستمرّت المشاكل مع الدائنين. واقترحت آنا جمع أموال حقوق الطبع والنشر لزوجها والتفاوض مع الدائنين لتسديد ديونها على أقساط.[79][80]

قوّى دوستويفسكي صداقاته مع مايكوف وستراخوف وكوّن علاقات ومعارف جديدة، بما في ذلك سياسي الكنيسة تيرتي فيليبوف والإخوة فسيفولود وفلاديمير سولوفيوف. وقد أثر كونستانتين بوبيدونوستسيف، المفوض السامي الإمبراطوري المستقبلي للمجمع المقدس، أثّر على تطور وتقدّم دوستويفسكي السياسي لمبادئ المحافظين. وفي أوائل 1872، قضت الأسرة عدّة أشهر في ستارايا روسا وهي مدينة سياحيّة معروفة بمياهها المعدنيّة. وقد تأخر دوستوفيسكي في عمله بسبب وفاة شقيقة آنا إما بالملاريا أو التيفوس.[79][81][82]

منزل دوستويفسكي في ستاريا روسا.

أنهى دوستويفسكي كتابَة الشياطين 26 نوفمبر، وكانت الأسرة قد عادت إلى سانت بطرسبرغ سابقاً في سبتمبر، وقد صدرت الشياطين من قِبَل “شركة دوستويفسكي للنشر” التي أسّسها مع زوجته. كانت الطباعة تتم في شقّتهم، وكانوا لا يقبلون سوى المدفوعات النقدية المباشرة، وقد نجح عملهم هذا وباعوا حوالي 3000 نسخة من الرواية حيث أدارت آنا الشؤون المالية. واقترح فيودور إنشاء مجلّة جديدة تُسمّى مذكرات كاتب وتتضمن مجموعة مقالات، بيد أنّهم لم يستطيعا تحمذل كلفتها، فاتّفق فيودور مع فلاديمير ميششيرسكي على نشر المقالات في مجلة المواطِن بدءاً من يناير 1873 مقابل 3000 روبلة سنوياً. في صيف 1873، عادت آنا إلى ستارايا روسا مع الأطفال، وبَقي فيودور في سانت بطرسبرغ يعمل على المذكرات.[83][84]

فيودور دوستويفسكي عام 1876.

في مارس 1874، ترك فيودور مجلة المواطِن بسبب ضغط العمل الذي واجهه، وبسبب تدخل الحكومة الروسية البيروقراطية. وخلال الـ15 شهراً التي قضاهم في المجلّة، استُدعيَ لبلاط الحاكم مرّتان، في 11 يونيو 1873 للإشارة إلى الأمير مشرشكي دون إذن، والثانية في 23 مارس 1874. عرض دوستويفسكي بيع رواية جديدة لم يبدأها بعد لمجلّة الرسول الروسي ولكنّهم رفضوا. وقد اقترح عليه نيكولاي نيكراسوف نشر مذكّراته في مجلة وطن الآباء، وقال أنّه سيحصل على 250 روبلة عن كل مقال، وهو أكثر بـ100 روبلة مما كان سيجنيه في مجلة الرسول الروسي وهذا ما حدث. بدأت صحّة فيودور بالتدهور في ذلك الوقت، ونصحه أطباء سانت بطرسبرغ بالخروج من المدينة للعلاج فهو غير متوفر فيها. وفي يوليو تقريباً، التقى بطبيبٍ في إمس شخّص حالته بأن لديه التهاباً في القناة التنفسية. بدأ رواية المراهق، وعاد إلى سانت بطرسبرغ في أواخر يوليو.[85][86]

اقترحت آنا قضاء الشتاء في ستارايا روسا ليرتاح فيودور هناك، على الرغم من أن الأطباء قد اقترحوا زيارة ثانية إلى إمس لأن صحته قد تحسنت سابقا هناك. في 10 أغسطس 1875 ولد ابنه أليكسي في ستارايا روسا، وفي منتصف سبتمبر عادت الأسرة إلى سانت بطرسبرغ. أنهى روايته المراهق في أواخر عام 1875 وكانت بعض أجزاءها نُشِرت مسبقاً في مجلة Notes of the Fatherland في يناير من نفس العام. يتمحور سرد الرواية حول العلاقة بين الابن وأبيه والصراع بينهما، خاصةً الصراع الفكري، الذي يُمثِّل المعركة بين الفكر الروسي التقليدي في الأربعينيات من القرن التاسع عشر والفكر العدمي الصاعد بين  الشباب الروسي في الستينيات وهو الموضوع الذي تكرّر في أعمال دوستويفسكي اللاحقة.[87][88]

سنواته الأخيرة ووفاته 1876–1881

في أوائل عام 1876، واصلت دوستويفسكي العمل على مذكراته. تضمن الكتاب العديد من المقالات والقصص القصيرة عن المجتمع والدين والسياسة والأخلاق. باعت المجموعة أكثر من ضعف عدد نسخ كتبه السابقة. وقد راسله عدد من القُرّاء أكثر من أي وقتٍ مضى، وزاره جميع الناس من جميع الطبقات والأعمار والمهن، وزادت شهرته في كامل روسيا. وبمساعدة من شقيق آنا، اشترت الأسرة منزلاً في ستارايا روسا. في صيف عام 1876، بدأ دوستويفسكي يُعاني من ضيق في التنفس مرة أخرى. وقد زار إمس للمرة الثالثة وأخبره الطبيب أنه قد يعيش لمدة 15 عاماً آخر في حال انتقل لبيئة صحيّة أكثر. وعندما عاد إلى روسيا، طلب القيصر ألكسندر الثاني من دوستويفسكي زيارة قصره لمناقشة واستعراض مُذكّراته، كما طلب منه المكوث وتأديب وتعليم ابنَيه سيرغي وبولس. زادت هذه الزيارة من معارِف فيودور، وكان ضيفاً معتاداً في العديد من الصالونات الأدبية في سانت بطرسبرغ والتقى العديد من الناس الشهيرة، بما في ذلك الأميرة صوفيا تولستايا وياكوف بولونسكي وسيرجي ويت وأليكسي سوفورين وأنتون روبنشتاين وإيليا ريبين.[89][90]

تدهورت صحّة فيودور أكثر فأكثر، وفي مارس 1877 أصابته أربعة نوبات صرع. وبدلاً من العودة إلى إمس، زار مالي بريكول وهي مزرعة بالقرب من كورسك. أثناء عودته إلى سان بطرسبرغ لإنهاء مذكراته توقّف قليلاً في بلدة داروفوي المكان الذي نشأ فيه. وفي ديسمبر من نفس العام، حضَر جنازة نيكراسوف وألقى خطبة التأبين الرئيسية، والتي أكد فيها أن نيكراسوف كان أعظم شاعر روسي منذ ألكسندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف. وقد عُيّن عضواً فخرياً في الأكاديمية الروسية للعلوم، وحصل على شهادة فخرية منها في فبراير 1879. انتقلت العائلة لاحقاً إلى الشقة التي كتب دوستويفسكي فيها أعماله الأولى. وفي تلك الفترة، انتخب عضواً في مجلس إدارة الجمعية السلافية الخيرية في سانت بطرسبرغ. وفي ذلك الصيف، انتخب عضواً في اللجنة الفخرية لرابطة ليترير وأرتيستيك إنترناتيونال والتي تضمّ أعضاءً مثل فكتور هوغو وإيفان تورغينيف وبول فون هايس وألفريد تنيسون وأنتوني ترولوب وهنري وادزورث لونغفيلو ورالف والدو إمرسون وليو تولستوي. وقد كانت زيارة دوستويفسكي الرابعة والأخيرة لـِ إمس في أوائل أغسطس 1879. وقد شُخّص بأن لديه انسداداً رئوياً مزمن، وقد اعتقد طبيبه بإمكانية علاجه، ولكن لم يتم ذلك.[91][92]

جنازة دوستويفسكي.

في 3 فبراير 1880، انتُخِب دوستويفسكي نائباً لرئيس الجمعية السلافية الخيرية، ودعي لإلقاء خطاب في الكشف عن نصب بوشكين التذكاري في موسكو، وهو الخطاب الذي ألقاه على شرف الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين. وقد ألقى خطابه في 8 يونيو وكان له أثر عاطفي كبير لدى المستمعين بسبب أداءه، وقد قوبِلَ خطابه بتصفيق حار، وحتّى منافسه التقليدي تورغينيف أثنى عليه. وقد نشر الكاتب كونستانتين ستانيوكوفيتش مقالاً بعنوان “ذكرى بوشكين وخطاب دوستويفسكي” في مجلة Delo وقال فيها: “لغة دوستويفسكي [في الخطاب] لغةٌ خطابيّة حقيقيّة، يتكلّم بلهجة وثقة رسول مُرسَل، بلغةٍ عميقةٍ وصادقة، استطاع من خلالها إيصال المشاعر للمستمعين”.[93] انتُقِدَ الخطاب لاحقاً من قِبَل عالم السياسة الليبرالية ألكسندر غرادوفسكي الذي وصف دوستويفسكي بأنه معبود الشعب، والمفكر المحافظ كونستانتين ليونتيف الذي قارن الخطاب بالاشتراكية اليوتوبية الفرنسية في مقاله “حب عالمي”.[94][95] أدى ذلك النقد الحاد لازدياد حالته سوءاً.[96][97]

دوستويفسكي على نعشه عام 1881، اللوحة من رسم إيفان كرامسكوي.

في 26 يناير 1881، عانى فيودور تمزّقاً رئوياً حاد، كان ذلك بعدَ يومٍ من القبض على جار دوستويفسكي الذي انتمى لمنظّمة نارودنايا فوليا التي قامت باغتيال القيصر ألكسندر الثاني. وبعدَ نزفٍ ثانٍ، تواصلت زوجته آنا مع الأطباء الذين لم يفهموا علّته، ثُمّ تَبِع ذلك نزيف ثالث بوقت قصير.[98][99]

قبر دوستويفسكي في مقبرة دير القديس ألكسندر نيفسكي.

فارَق فيودور دوستويفسكي الحياة في 9 فبراير 1881 مُتأثّراً بمرضه. وكانت آخر كلماته ما اقتَبسه من إنجيل متى الإصحاح 3: 14-15 “وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «اسْمَحِ الآنَ، لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرّ». حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ.” [100] وعندما توفّي وُضِعت جثّته على الطاولة وفقاً للعادات الروسيّة. وقد دُفِنَ في مقبرة تيخفين في دير القديس ألكسندر نيفسكي في سانت بطرسبرغ بالقرب من الشاعرين نيكولاي ميخائيلوفتش كرامزين وفاسيلي جوكوفسكي.[101] ومن غير الواضح تاريخيّاً كم شخصاً حضر جنازته. ووفقاً لما ذكره أحد الصحفيين فإن أكثر من 100 ألف من المشيعين كانوا حاضرين، بينما يصف آخرون أن الحضور كان بمدى 40 إلى 50 ألف. وقد نُقِشَت على شاهد قبره اقتباس من إنجيل يوحنا الإصحاح 12:24: [102][103]

«اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ.»

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.