رحيل التشكيلي اللبناني عارف الريّس مكللاً بالتفاؤل والجوائز

سوسن الأبطح
(لبنان)

سوسن الأبطحخسر لبنان منتصف ليل أول من أمس، احد ألمع رواده التشكيليين، حيث رحل عارف الريس في غفلة من أصدقائه وزملائه، ليشكّل خبر غيابه صدمة للذين عرفوه، وعايشوا حيويته وحبه للحياة. فعن عمر يناهز 77 عاماً، قضاها بالترحال في الجغرافيا وبين الأساليب التشكيلية، ومتنقلاً بين الرسم والنحت، غاب الرجل تاركاً وراءه تراثاً غنياً يحتاج من يحفظه ويرعاه. وهو أمر يبدو شاقاً وعصياً في لبنان الذي ما يزال بدون متحف للفن التشكيلي الحديث. إذ أن وجود هكذا متحف كان مطلباً عزيزاً على قلب عارف الريس. فحين سئل عن لوحاته، لماذا هي مغلقة على الجمهور. أجاب: “الانغلاق في فهم اللوحة يعود في الأساس إلى انعدام وجود الثقافة النظرية، والى انعدام وجود المتاحف التي تتيح للناس وجود المعرفة”.
“متفائل رغم كل شيء” كان يردد، صاحب النكتة والقفشة، والروح التواقة أبدا للتغيير والمغامرة. تلقى دروسه في الجامعة الوطنية في بلدته عاليه، وفي مدرسة عينطورة، وبدأ يرسم بمساعدة والدته ليقيم أول معارضه في الجامعة الأميركية ببيروت عام 1948. ومن حينها لفتت أعماله الأنظار، لكن عارف الريس الذي كانت تدفعه ظروف الحياة حيث تشاء، سافر مطلع حياته إلى السنغال ليساعد والده في تجارته. ومن ثم، وبعد أن سنحت الفرصة انتقل إلى باريس لدراسة الفن في “أكاديمية الفنون الجميلة” لكنه لم يصمد هناك، وانتقل بعد شهر واحد إلى محترف الفنان فرنان ليجيه ثم إلى محترفات حرة أخرى، كان يبحث فيها عن غايات لربما كان هو نفسه لا يعرفها. فمن محترف اندريه لوت إلى النحات هنري غنز ومن ثم إلى محترف النحات زادكين، لينهي رحلته الحرة هذه بأكاديمية الغراند شوميير للرسم. لقد كانت المرحلة الفرنسية حاسمة في مسار عارف الريس الذي عرف كيف يجعل من كل مرحلة مدرسة وأسلوبا ووحياً ولوحات ومنحوتات لا تشبه في ملامحها المرحلة التي تليها. فالسنوات السبع التي قضاها في باريس تعرّف خلالها على أساتذة وتيارات ومذاهب في الفن، لم يكن ليكتشفها في رحلته الثانية إلى أفريقيا التي جسدها في لوحاته عالماً مختلفاً.
حين عاد عارف الريس إلى لبنان استطاع أن يحصل على منحة ليكمل مشواره في ايطاليا. وهناك قضى خمسة أعوام متنقلاً بين فلورنسا وروما مشاركاً في المعارض الجماعية وزائراً الغاليريات والمتاحف. وفي تلك الفترة شارك في مسابقة مثّل خلالها لبنان في معرض نيويورك الدولي بمنحوتة “الفينيقي”، وحاز جائزة، وحفظت منحوتته في نيويورك.
وكأنما ليتم جولته في القارات ذهب عارف الريس بعد ذلك إلى أميركا الشمالية والمكسيك ليقضي خمسة أعوام مقيماً المعارض، ناهلاً المعارف قبل أن يعود إلى لبنان، والى محترفه في عاليه.
لكن الدعوة التي أتت من المملكة العربية السعودية جاءت ربما في وقتها، وحين كان يتكلم عارف الريس عن مرحلته السعودية، تشعر وكأنه يحتفي بها مزهواً بإنجازاته هناك، وله في ذلك كل الحق. فما زالت منحوتاته تزيّن ساحات مدينة جدة وشواطئها، وله في مدينة تبوك أنصاب جمالية، إضافة إلى أعمال من الرخام نفذها لجامعة الملك عبد العزيز في الرياض. كان الريس يتحدث عن انتقاله بين السعودية وايطاليا لانجاز تلك الأعمال وكأنه ما يزال يعيشها حية في ذهنه.
وإذا كان عارف الريس قد برع، فلربما لأنه لم يكتف من المعرفة باكتناه سر اللون، واستنطاق الحجر، فقد كان عاشقاً للكلمة. وقال له ميخائيل نعيمة ذات يوم: “اكتب لأنك ترسم في الكتابة أيضا… لا تهمل الكلمة”. ويقول الريس: “لقد ظللت شغوفاً بالمطالعة إلى جانب الرسم… فالكلمة تحمل سحر المعرفة”.
غاب طويلاً عارف الريس عن لبنان بقدر ما انغمس في آلامه، وقضى ردحاً من عمره خارج العالم العربي بقدر ما كان عروبياً ومحباً لانتمائه. ومما يسجل لهذا المغامر انه كان يعتبر الفن سلاحاً في معركة تدور رحاها بقسوة على أرضه. وأعماله كانت ردوداً على ما يعيشه الناس حوله. فقد قال بعد حرب 1967: “كنت قبل النكسة أغازل السماء والقمر والفضاء، وحين وقعت النكسة فقدت لفترة طويلة الشعور بكل شيء. فخلال الأيام الأولى لحرب يونيو (حزيران) حاولت التطوع للعمل العسكري”. وتفهم أكثر مواقف الريس ومشاعره حين يقول: “عمل الفنان أن يحضّر لمعركة الوحدة ولمعركة التحرير”.
توفي عارف الريس بعد أن جرّب كل ما خطر له، وفي معارضه الاستعادية، كانت تجاريبه تثير أحيانا الاستغراب. ولعل أكثر ما جعل الأسئلة تثار حول مساره تلك اللوحات الكبيرة التي خص بها الليدي ديانا عند وفاتها، إذ جمع ما نشر لها من صور، وبواسطة الكولاج أعاد بناء عالمها على طريقته. أما جوابه على هذه المغامرة الولاّدية في نظر البعض، فكان: “حياة كل إنسان كولاج… وديانا هي رمز لصديقاتي”.
يسجل لعارف الريس نفوره من الطائفية، ورغبته في رؤية العالم أفضل وأجمل معترفاً بفضل غنى الطبيعة اللبنانية عليه وتنوع الثقافات الموجودة فيه، وإطلالته على حوض المتوسط وحضاراته. ذهب عارف الريس تاركاً لوحات ومنحوتات في متاحف كل من سورية والعراق والجزائر والكويت والأردن، وفي متحف أولد هندود في نيويورك ومتحف روزفلت في فيلادلفيا. وفي قصر اليونسكو في باريس، مكللاً بجوائز عالمية، ومحبة لبنانية كبيرة.

****

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.