أكتب الرواية لأني توصلت إلى إقناع نفسي بأن قراء الرواية يجدون في الروايات مصدرًا يساهم في تشكيل حياتهم. أكتب الرواية لأني، ومنذ يفاعتي، أثارت انتباهي عبارة في الكتاب المقدس تقول: "الكل باطل وقبض الريح" وربما أن الروائيين يسقطون في الخطأين معًا؛ نذعن لنفوذ الغرور وطبعًا نحاول بيأس مسك الريح دون الوصول لذلك. إلا أنه يمكن رؤيتنا عن بعد؛ بأننا لا نغش أحدًا.

خافيير غارثيا سانتشيث: لماذا أكتب الرواية؟

ترجمة: د. محسن الرملي

أكتب الرواية لأني توصلت إلى إقناع نفسي بأن قراء الرواية يجدون في الروايات مصدرًا يساهم في تشكيل حياتهم. أكتب الرواية لأني، ومنذ يفاعتي، أثارت انتباهي عبارة في الكتاب المقدس تقول: “الكل باطل وقبض الريح” وربما أن الروائيين يسقطون في الخطأين معًا؛ نذعن لنفوذ الغرور وطبعًا نحاول بيأس مسك الريح دون الوصول لذلك. إلا أنه يمكن رؤيتنا عن بعد؛ بأننا لا نغش أحدًا.

أكتبُ الرواية لأنني كنت أشعر دائمًا بافتقادي للقدرة الداخلية على معاشرة العالم الخارجي، بما في ذلك البشر والأشياء، وخصوصًا البشر، فغالبًا ما كنت أتصورهم بأنهم مجرد أشياء تفكر. أكتب الرواية لأنني أعتقد بأني لا أعرف عمل شيئ آخر، معتبرًا نفسي أتقن مهنة الكتابة. أكتب الرواية لأنني أشعر دائمًا بأني عالة على هذه الحياة. ومن حين لآخر أذعن لإغراء الخداع العقلي بأن شيئًا من هذا الذي أكتبه قد ينفع أحدًا لديه مشاكل وتطلعات وكوابيس مثلي. أكتب الرواية ربما لأنني أود حل لغز، وخاصة إذا ما كنت أنا محور الرواية.. أي إلى أي مدى أنا مجرد عبد لقوى أكبر مني أم أن الكل مجرد وهم؟. لا ينفعني الـ(أنا هو أنا) للتوازن، ولا حتى عبارة رامبو الغامضة والسحرية (أنا هو الآخر). أكتب الرواية لأنني قررت تتبع مسار للبحث الداخلي، مسار يمكن تلخيصه بالجملة التالية: (أنا قد كنت).

أكتب الرواية لأنني أعتبر نفسي مخلوقًا عرضيًا ومنهزمًا، وأني مطابق لتاريخ معاد لي ومشارك لمجتمع يثير نفوري. أكتب الرواية لأنني شكاك وضعيف، لأنها طريقة كأي طريقة أخرى للموت، قاتلًا لأشباح وخيالات. أكتب الرواية لأن ذلك يمثل متعة تخفف الضغط الخارجي. وكما قال تيتو ليبيبو: كل يوم أقضيه دون كتابة أفكر مرددًا “لقد ضيعت يومًا”. أكتب الرواية لأني من أولئك الناس الذين، وعلى الدوام، يختارون الباب الخطأ عندما يدخلون دكانًا ببابين، وعادة ما تضربني تلك الأبواب على أنفي، يساهم في ذلك قصر نظري العنيد. لكن، في الجوهر، كل هذا له علاقة بموقفي العام تجاه الحياة. بكلمات أخرى: لعلّي أصيب بابًا واحدًا.

أكتب الرواية مفترضًا نفسي بأني أمشي مرغمًا عكس التيار، فكلما قوي الضغط الذي يريد سحبي إلى ما أظن أنه ابتذال القطيع يزداد قلبي عنادًا للتسلق ومصارعة الحقيقة. مثل سمك السلمون الذي يجاهد عكس تيار مياه الأنهار الهائجة. أكتب الرواية لأني، وبكل ثقة وإطلاق، أعتبر نفسي عاديًا إلى درجة أتساءل فيها كل يوم عن وجودي العام والروتيني. كيف يمكنني أن أنبهر يوميًا بجمال الغروب مثلًا؟ سؤال ثابت ومربك يمكن تلخيصه كالتالي: (من أنا؟ وماذا أفعل هنا؟). أكتب الرواية لأني، وعلى الرغم من أن تسعين بالمئة من الحالات تضجرني في الحياة، ولكن من أجل حبي لها بنسبة العشرة بالمئة المتبقية، وهو ما يعوضني وزيادة. أفترض، مجرد افتراض، بأني أكتب الرواية لأني رأيت مرة رجلًا يحتضر في الشارع، خَرّ ساقطًا ككتلة ثقيلة، ربما بسبب نزيف دماغي، مات لاويًا عنقه، وفي عينيه عبارة بلهاء ولسانه متدل، لم يكن شابًا ولا عجوزًا، لا جميلًا ولا قبيحًا، لا فقيرًا ولا غنيًا. كان رجلًا وحسب. كان إنسانًا.. ولهذا كان وحيدًا؛ لأن الفرد يكون دائمًا وحيدًا أمام الموت. لا أريد قطعًا أن أتحول إلى مجرد كتلة تسقط وسط الشارع مستدرًا رحمة وشفقة المارة.

أكتب الرواية كي أعيش بسرعة ولو منزويًا، كي أعيش كل تلك الحياة التي كنت أتطلع لعيشها، ولن أتمكن من عيشها في الواقع، ولعيش حِقب وحالات. أكتب الرواية كي أحاول التغلب ولو قليلًا، في مواجهتي ضد الموت! وبشكل مباشر ضد التدهور الذي لا محالة منه والذي سيظهر عاجلًا أم آجلًا في الأفكار والذكريات. أكتب الرواية مفترضًا بأني لازلت أؤمن بالخيال كقوة وحيدة تُرعب الحقيقة الشرسة. أكتب الرواية لأنني في الواقع، إضافة إلى رياضة ركوب الدراجة، كنت أود أن أصبح موسيقيًا وشاعرًا.. هذا فيما إذا كان ثمة فرق بينهما، فكتابة الرواية تبدو لي، إلى حد ما، عملًا شِعريا. منذ قرون كتبت ماريا دي فرانثيا في كتابها (لايس): “الشعر هو الوحيد الذي يمكنه أن يحررنا من الخوف والألم”. ولهذا بالذات أكتب الرواية، لأن الحياة ما هي إلا تعلم خاص للألم، وحياة المبدعين ألم مزدوج، لأنهم يتألمون (في) و(لأجل) حياة وهمية.

كارلو أميليو عرّف الألم بطريقة جوهرية في كتابه (تعلم الآلام) حينما جزم بما يفكر به الكثيرون منا، وهو أنه إذا كانت ثمة فكرتين الواحدة أكثر حداثة من الثانية، فهذا يعني أنه لا الأولى ولا الثانية أبديتين. وكلنا نجتهد لصنع أفكار حديثة على الرغم من معرفتنا بأننا لن نكون أبديين. أكتب الرواية لأنني أشعر بهاجس رواية ضخمة وشفافة.. تكون أكبر مما يستطيع كتابته أي مخلوق عما يملأ الحياة. شيء يشبه ذلك الحماس المقدس لطفل يصرخ مناديًا على أمه في الحديقة وهو يكرر وثبة خطيرة: “ماما.. ماما انظري ماذا أفعل؟” في هذه الجملة الحيوانية، غير المعقولة، يكمن تيار حماقة حيوية.. إنها كنشيد للأمل، للاكتشاف. فالأطفال هم الوحيدون الذين لم يفقدوا البراءة، لم يجدوا الوقت الكافي لفقدانها ولكنهم يشعرون بأن الأمر كله يتعلق بالوقت، وأنه من البديهي ضياعه. يصيحون بابتهاج لكل شيء، لأن كل شيء بعيد الاحتمال ومدهش حتى الرعب. أكتب الرواية لأنني أفهم وأؤمن بالبيت الشعري الذي أنشده فلاديمير هولان كي يفسر لنا بأن البراءة الوحيدة الممكنة، هي براءة الجنين الذي يتحرك في بطن أمه قبل أن يختنق بالمشيمة، والذي يعتقد منذ إحساسه الأصم بأنها ملحفة جميلة.

أكتب الرواية مفترضًا بأني أود أن أخلق لمثيلي أفكارًا كالتي أكثر منها آرنو شميدت في كتابه (لحظات من حياة حيوان) حيث قال إنه يجب على كل كاتب أن يأخذ ملء يديه من حشرات الواقع ويُطلع العالم عليها؛ لأنها حركة شعرية ومطهرة وإن كانت ليست مفهومة دائمًا من قبل النقاد، والذين سماهم شميدت بـ(معكري الصفو الأزليين) و(طفيليات الروح) حيث كان يظن بأن الشعر مثل أي جمال، يكون دائمًا محاطًا بمخصيين، وكان يحث النقاد على ترك وخز الشعراء، وأن يلدوا بدل ذلك عملًا بارزًا.

أكتب الرواية لأني توصلت إلى إقناع نفسي بأن قراء الرواية يجدون في الروايات مصدرًا يساهم في تشكيل حياتهم. أكتب الرواية لأني، ومنذ يفاعتي، أثارت انتباهي عبارة في الكتاب المقدس تقول: “الكل باطل وقبض الريح” وربما أن الروائيين يسقطون في الخطأين معًا؛ نذعن لنفوذ الغرور وطبعًا نحاول بيأس مسك الريح دون الوصول لذلك. إلا أنه يمكن رؤيتنا عن بعد؛ بأننا لا نغش أحدًا. ومهنتنا أن نطبق تلك المعادلة الموجودة هناك. أمام النظرة الحائرة للجميع، أولئك الذين لا يعرفون أو يريدون تدوينها، تصنيفها، مسكها أو كتابتها. إننا نحقق أحلام وكوابيس الكثيرين ولهذا ربما لن تكون جرأة منا أن نطلب العفو لهذا الطبع في مواقفنا. أو هذا الإصرار الصبياني على ملاحقة هبات الريح التي تهز الحياة كما تفعل الكلاب وراء الحمائم. قد نتلقى الشتائم والنعت بأننا تافهين ونوصف بالبلاهة والتأثير، لكني أؤكد بأنه من الصعب علينا أن نخدع أحدًا. أكتب الرواية لأنها ملجأ وبلسم، وجع وتخدير، موالاة وشعار، عقاب وجائزة، وهي على كل حال؛ ترف لا يستطيع التمتع به إلا قلة، ومن هناك جاءت تلك الاتهامات المعقدة التي يرمينا بها البعض.

أكتب الرواية بطريقة مختلفة لأنه، في هذه الأيام، يبدو أن أي أحد يمكنه كتابة رواية، ويجرؤ على نشر قصة خيالية، قصة ركيكة تحت يافطة الرواية. لذا فمن الضروري أو من الأفضل والصحي، ولكن ليس لا غنى عنه، أن توجود كتابة مختلفة، بعض روايات ليست لمجرد الترفيه وإنما لتحريك أو لخرق روح القارئ، وإذا أغاظت بعضهم فهذا أفضل وهو المرتجى.

أكتب الرواية لأنني لن أنسى أبدًا اللهجة التي استعملها منذ فترة طويلة خوان بينيت كي يقرّ لي كم عانى من الملل حين كان ينام وهو يصحح روايته، وأضاف:”ولكن الأمر يستحق القيام به، فوسط هذا البحر من الحروف والأفكار، أجد أحيانًا شيئًا يهزني”. منذ ذلك الحين صرتُ أفكر بأني أنا أيضًا موجود وسط هذه الحرب، وأن كتابة الرواية لازالت تشكل تحديًا.

أكتب الرواية، كما أفترض، لأني أشعر بعدم الراحة عندما أتكلم عن الأدب لدرجة أني أُنسِب لنفسي عبارة ماركيز التي تقول:”لا أتكلم عن الأدب قط لأني لا أعرف ما هو. إضافة إلى قناعتي من أن العالم سيكون كما هو عليه بدون الأدب، بينما سيكون مختلفًا عما هو عليه فيما لو كان بلا شُرطة. ولهذا أفكر بأنه كان بالإمكان أن أكون أكثر نفعًا للإنسانية لو أني أصبحت إرهابيًا بدل أن أكون كاتبًا”. أكتب الرواية كي أبث الرعب أو على الأقل لإقلاق راحة تجار الفن والثقافة. أكتب الرواية لأني ضد السلطة بشتى أنواع تسلطها. ولأني أظن بأن كل رواية عظيمة هي بمثابة انقلاب حكومي في قلب الحكومة. أكتب الرواية لأنها الطريقة الوحيدة والجديرة التي أعرفها لمكافحة أكاذيب التاريخ التي تُروى لنا منذ ولادتنا.

أكتب الرواية لأنني مازلت أعتبر نفسي يساريا، ولم أترك قط التفكير بضرورة الثورة أو على الأقل تغيير جذري، ولا تسألوني من أي نوع، لأني لن أقدر على تفسيره. لعلني أتحدث عن الثورة من باب معرفة الشخص بنفسه إلى أقصى حد ورغم ذلك يحترم الآخرين ويحبهم.

أعتقد بأن كلمات مثل: تعصب، ديماغوجية، دموية، بكل ما فيها من بريق الحكمة الساطعة في شعرية أرسطوطاليس والتي بمقتضاها دائمًا يكون المستحيل المحتَمل أفضل من الممكن الذي لا يُقنع. لا أؤمن بمبدأ غوته والذي نتج عنه، بكل أسف، عصرنا الحالي، مبدأ بموجبه يكون الظلم أفضل من الفوضى. لا أكتب الرواية لأني كائن، بل أكتبها لكي أكون، أو بمعنى أوضح؛ أكتب الرواية لا من أجل الكينونة وإنما لكي أعيش في الآخرين.. صدقوني، أكتب الرواية لأني أعتبر نفسي شخصًا فاشلًا يكتب لفاقدي الأمل، وأنا واحد منهم، أقولها بفخر. ولهذا أعتبر فرصة النجاح الكبير مستحيلة، لأنك حين تُظهر للعالم بؤسه فلن يشكرك العالم على ذلك. أكتب الرواية لعلها تكون العذر ما قبل الأخير كي أتمسك بوجود لم أطلبه ولا يعجبني.. وجود يضمن لي الهزيمة الشاملة في أية مهنة أتعلمها. ولهذا أؤجل الأمر لتجسد ثان، إذا كان هناك تجسد ثان وخاتمة لهذه الحياة أم الحروب.

أكتب الرواية لأنه على الرغم من كل شيء، لازال عندي إيمان أعمى بالجمال، بالكرم، بالابتسامة.. بسحر ادعائي مثل (كاليغولا) كامو. ففي كل ليلة صيف نظيفة، أصرخ بصمت: إني أريد القمر. مازلت أؤمن بالأشياء وبالقضايا الحميدة، التي تكرم الإنسانية. أحاول أن أصوغ لها كلمات فقط، وفي كل عام أحاول أن أصوغ كلمات تعبر عن عدم رضاي عن الحياة بشكلها الحالي.

***

خافيير غارثيا سانتشيث: روائي إسباني.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.