ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏2‏ شخصان‏، و‏‏‏‏أشخاص يجلسون‏، و‏طاولة‏‏ و‏منظر داخلي‏‏‏‏
سامر محمد إسماعيل

رسامو الكاريكاتور السوريون: “يحملون الأزهار إلى معارضهم ويبكون من شدة الشعر”..

يبدو الكاريكاتور السوري اليوم على مفرق طرق، وذلك بعد المسافة التي أوجدها الرقيب في الصحف الرسمية عاماً بعد عام بين هذا النوع من الفن، وبين المتلقي سواء على صفحات الجريدة، أو حتى في معارض الكاريكاتوريين، مسافة الرقابة هذه كانت ضد معنى هذا الفن وأصله، إذ يكفي أن نعرف أن كلمة كاريكاتور مشتقة من الكلمة الاتينية “كاريكا” والتي تعني “هاجم” حتى نعرف أن طبيعة هذا الفن مخالفة لأي شكل من أشكال المصادرة واللجم والتقييد، وعلى كل حال يسترد الكاريكاتور السوري فنانيه الكبار في انتظار قانون إعلام معاصر يرفع يد الرقابة عن هذا المشاغب الصحفي الأصيل في طبعه الشكس، وحرونه التاريخي على كل أنواع الزجر وأساليب حراس البوابات التي وصلت ذراها في إغلاق جريدة الدومري وذلك في 3/8/ 2003 وبمنع توزيع العد115 من الدومري التي كانت بمثابة احتفاء لمساحة خاصة لفناني الكاريكاتور السوريين. يقول الفنان فارس قره بيت مستذكراً تلك المرحلة: “الصحافة السورية غير مؤمنة بفن الكاريكاتور على الإطلاق، فمن أكثر من عشرين عاماً نلاحظ عدم الإيمان بهذا النوع من الفن، مع أنه قبل هذه الفترة كان هناك احترام للمساحات التي يشغلها رسام الكاريكاتور في الجرائد المحلية، فيما بعد بدأت هذه المساحة تضمحل مع انخفاض سوية رؤساء تحرير الجرائد الوطنية وظهور طبقة من الرسامين الدخلاء الذين تناسبوا طرداً مع مستوى إدارات تلك الصحف”. هذا بدوره أبعد أسماء معروفة ومحترمة من الشغل على صفحات الجريدة السورية مثل علي فرزات و عبد الهادي شماع وحميد قاروط وعبد الله بصمه جي، وبالتالي تراجع هذا الفن من الحياة الثقافية السورية فأصبح وجوده وعدمه سيان. ” للأسف لولا وجود صحيفة الوطن السورية الخاصة لما كان هناك أي حضور للكاريكاتور السوري على الإطلاق-يعلق قره بيت- فالوطن أعطتني مساحة معقولة لي وللأستاذ عبد الهادي الشماع، بعيداً عن ذهنية متحجرة لدى رؤساء تحرير الجرائد الحكومية”. الغريب أنه على الرغم من وجود القليل من رسامي الكاريكاتور السوريين، إلا أن صاحب رأس المال عندما يقوم بافتتاح جريدة في لبنان مثلاً يدفع أجور هائلة للرسام اللبناني تصل إلى آلاف الدولارات، أما عندما يقوم بأخذ ترخيص لجريدة محلية؛ فإنه يلجأ إلى أسوء رسامي الكاريكاتور الموجودين في البلد. هذا ما لا يستطيع قره بيت أن يجد له أي تفسير منطقي حتى الآن، فما الذي يفسر أن رسام الكاريكاتور المصري يتقاضى أجر جيد فيما حق الرسام السوري مهضوم في بلده وخارج بلده؟ المشكلة باعتقادي تكمن في هذه النظرة السطحية للفنون والتي لمستها منذ أن كنتُ في الجامعة؛ خذ مثلاً نظرة وزارة التعليم العالي للبعثات التي تمنحها الدولة للطلاب في الخارج، ستجد أن البعثات الممنوحة لطلاب الهندسة والطب تفوق بمستواها كل أنواع البعثات المتعلقة بكلية الفنون الجميلة”
الأخطر أنه وحتى هذه اللحظة لم ندرك أهمية ودور الكاريكاتور في صحافتنا الوطنية، بدليل أننا تخلينا عن هذا الفن، في حين كان من الأهمية بمكان الحفاظ على مساحة هذا الفن كمساحة استثنائية لحرية التعبير والرأي في بلدنا، فمع مرور سوريا بأكثر من حدث سياسي وتاريخي هام منذ عام 2001 وحادثة انهيار برجي التجارة في نيويورك و سقوط بغداد 2003 واغتيال الحريري في 2005 ستلاحظ أن “إعلامنا كان إعلاماً غائباً عن الوعي، في حين كان جيراننا في الإعلام اللبناني يخطون خطوات هامة في مواكبة الحدث والتعليق عليه، جميعنا يذكر الامتياز الذي حصل عليه الفنان علي فرزات عبر حصوله على ترخيص جريدة الدومري، هذا المشروع الذي ضم الكثير من رسامي الكاريكاتور السوريين، إلا أن فرزات الذي كتب على اسمه على رأس الصفحة الأولى عبارة “صاحب الامتياز” عاث خراباً في هذا الامتياز، في حين عندما قررت أنا وعبد الهادي شماع أخذ ترخيص لمجلة كاريكاتور لم أحصل عليه، مع أنه عندما تراجع أسماء كتّاب الدومري سترى أن جلُّهم اليوم هم من المعارضة التي تقيم خارج البلد، وعلى رأسهم المدعو رضوان زيادة الذي يقيم في واشنطن.”
“نحن جزء لا يتجزأ من الإعلام السوري، يقول الفنان عبد الهادي الشماع- وما بذلناه من جهد شخصي هو ما ساهم طيلة هذه السنوات على انتشار هذه السمعة الطيبة عن الكاريكاتور السوري الذي تبوء الصدارة بين الرسامين العرب، وقد عملنا بسبب ظروف سياسية معينة لتأسيس أول رابطة لرسامي الكاريكاتور عام 1977 لكن اتحاد الصحفيين لم يعطينا حتى غرفة لنلتقي فيها، ولم يخصص لنا ولو خط للهاتف، أذكر أننا كنا آنذاك مجموعة من خيرة رسامي الكاريكاتور الذين رفضوا اتفاقية كامب ديفيد، لكن ما الذي حدث آنذاك؟ أخذوا لنا صورة جماعية تذكارية ثم قالوا لنا: “هيا إلى بيوتكم”.. اكتفى بعدها الرسامون السوريون بالجهد الشخصي، مكتفين بأقدم صورة لرسم كاريكاتوري جسّد صورة لطائر يصعد الشجرة على سلم من خشب، هكذا هي حال الرسامين السوريين، طيور تصعد الشجرة على سلالم من خشب، فرغم وجود الأجنحة إلا أنها (تصعد) هذا سلالم الصحافة المحلية وروتينها القاسي. ” يا أخي فن الكاريكاتور فن غير مرغوب به في سورية” يستطرد الشماع- ،في فترة من الفترات كان هناك عدد كبير من المطبوعات، لكن بالمقابل عدد رسامي الكاريكاتور ظل ثابتاً لم يتغير، اليوم يسأل الفنان الشماع: “لماذا يتوجب على رسام الكاريكاتور السوري أن يرسم خارج بلده؟ ويضيف..”أعتقد أن هذا الرسام مضطر للعمل خارجاً لسببين: الأول أن بلده لا تريده أن يرسم عنها، والثاني هو أن فنان الكاريكاتور إذا ما اختار العمل في بلده فسوف يصل إلى نتيجة واحدة؛ وهي أن الكاريكاتور في سورية لا يطعم خبزاً بل قشور بيض..اللافت في سورية أنك تريد أن ترسم ما يعني الناس ما يعني الشارع المحلي لا العربي و لا الإقليمي” ولذلك اعتزل الشماع الكاريكاتور السياسي مع أنه رسم الكثير عن ياسر عرفات والسادات وسواهم من القادة العرب، إلا أنه لم يستطع أن يرسم مدير عام واحد في بلده..!”.
يصنف عالم الاجتماع الفرنسي الشهير مونتسيكيو الصحافة بأنها السلطة الرابعة بعد السلطات الثلاث المعروفات، وبما أنها كذلك هذه الصاحبة الجلالة أيضاً في أدبيات عربية ملكية، إلا أن فن الكاريكاتور يأتي بأدوات مفزعة، أدوات ربما تذكرنا برسوم الفنان الفلسطيني الراحل ناجي العلي بفتكها وحوششيتها وقدرتها على المجابهة، لاسيما بعد أن أثبت العلي عبر شخصيته الأيقونة “حنظلة” قدرة هذا الفن على المواجهة والتعريض بالعدو والخصم في آنٍ معاً. الفنان عبد الله بصمه جي: يستغرب علاقة رؤساء الجرائد الحكومية برسامي الكاريكاتور قائلاً: ” جميعنا يتذكر حتى الآن عندما تم تعيين قاسم ياغي رئيساً لتحرير جريدة الثورة أول شيء قام بفعله كان إقالة فارس قره بيت من الجريدة، ورغم تعاقب أكثر من ست رؤساء تحرير بعد قاسم ياغي إلا أن جريدة الثورة حتى الآن لا يوجد فيها سوى رسام كاريكاتور واحد. إذاً هي علاقة تنكيل، فما الذي يفسر هذا العداء بين رؤساء التحرير ورسامي الكاريكاتور؟ هذا ما لم أفهمه حتى اليوم، ربما لأن العديد من رؤساء التحرير تعرض للتنكيل والمساءلة والطرد بسبب رسوم وافق على نشرها في جريدته. الصحف الحكومية إضافة لجريدة “بلدنا” وأستثني صحيفة الوطن السورية، معظمها تروج للكاريكاتور الترفيهي، الدعائي، وليس للرسوم التي تعلق على أزمة تهم المواطن العادي، يضيف بصمه جي: ” لنأخذ جريدة بلدنا على سبيل المثال، والتي أوقفت رسامها الشاب علاء رستم عن العمل بعد تقديمه رسماً انتقادياً لانتخابات مجلس الشعب، وما تعرضت له الجريدة آنذاك من إيقاف لصدروها ورقياً لمدة شهر. ماذا حدث بعد ذلك استمرت (بلدنا) في تقديم الكاريكاتور على صفحاتها، لكن أي كاريكاتور؟ إنه كاريكاتور مفرّغ من محتواه؛ ولا يمت لما يحدث في الشارع بصلة إلا من زوايا فكاهية سطحية ابتعدت عن الشارع وعن الناس، لتبقى هذه الرسومات بلا لون بلا رائحة..عبارة عن رسوم مسحوبة من دسمها النقدي الساخر”.
المفارقة الغريبة في سورية هو أن سقف الرقابة يبدو مرتفعاً في الدراما، “فعلى سبيل المثال -يعلق قره بيت- لاحظ هذا الرسم الكاريكاتوري الناجح للشخصيات في مسلسل “بقعة ضوء” والغريب أيضاً أنه في مرحلة من المراحل يكون مسموح “لياسر العظمة” أن يقدم لوحات انتقادية، وفي أحيان أخرى يقدم “بقعة ضوء” لوحات على سوية فنية عالية في جرأتها وقدرتها على اختراق جميع التابوهات، فيما لا يسمح لرسام الكاريكاتور أن يقدم رؤيته الخاصة عن موقف معين اجتماعياً أو سياسياً.” يتدخل الفنان شماع فيقول: “أنا أرى ان رسام الكاريكاتور يكون لديه أحياناً كثيرة فهم شخصي قد يقترب من سياسة الجريدة التي يعمل فيهان أو يبتعد، فأنا أرسم منذ سنوات في صفحة محليات بجريدة الوطن السورية، لكن قد يتجاوز رسم الكاريكاتور المحلي في أحيان كثيرة مسائل عديدة كغلاء الأسعار والمازوت وما إلى ذلك، ليصبح الكاريكاتور المحلي وجهاً لوجه مع التعبير عن صراع على السلطة، أو صراع على الثروة، وهنا يقع رسام الكاريكاتور أمام تحدي حقيقي، فإما أن تخون زاويتك الممنوحة لك فتخسر بالتالي عملك، أو أن تبقى على رسم مشاكل الخبز و ارتفاع الأسعار ومخالفات البناء وتخون ضميرك”. رأي الفنان حميد قاروط مختلف: “هناك نظرية تقول أن الكاريكاتور يجب أن يتناول الحدث الأهم، وخاصة الأحداث السياسية الراهنة، بينما القضايا الاجتماعية فهي قضايا مزمنة يرجع إليها الرسام في أي وقت من الأوقات”. وهذا مالا يؤيده الشماع: “هذا يعود إلى عشرين سنة مضت يوم كان في كل جريدة لا يوجد إلا رسام كاريكاتور واحد، أما اليوم فهناك رسام لكل قسم من أقسام الجريدة، هناك الرياضي والاقتصادي والمحلي والسياسي، والاجتماعي والخدمي، فإما أن تقدم وجهة نظرك الشخصية؛ أو أن تنفذ ما تطلبه منك الجريدة التي تعمل لصالحها، فالدوري الرياضي اليوم معطل بقرار سياسي وليس لأسباب رياضية.. هنا كيف سيتناول رسام الكاريكاتور هذه الواقعة؟ طبعاً من جانبها السياسي، وليس الرياضي، وهذا يقودنا أن السياسة مكوّن أساسي من مكونات الفهم الذي يقدمه رسام الكاريكاتور في الجريدة، ولا يمكن عزله عن بقية المكونات الأخرى”..
الكاريكاتور السوري مازال يعيش في أيام زمان، فهو إما أن يشتم أمريكا أو يشتم إسرائيل، فرغم أن وسائل الاتصال بلغت مرحلة عالية في نقل الخبر ونشره والتعليق عليه، إلا أن البعض ما زال يصر على أن يبقى الكاريكاتور في المتحف، وبالتالي كل من يرسم اليوم في الصحف السورية سيشعر بأنه مفلس إبداعياً كونه استهلك جميع الأفكار الممكنة، خذ هذا الغياب المريب لمساحة الكاريكاتور من جرائد الثورة وابعث و تشرين، هل ثمة من يسال عن هذا الغياب؟ هل ثمة شخص يعنيه ذلك؟ -يتساءل فارس قره بيت فيرد قاروط: “هناك الكثير من الناس الذين يتابعون الكاريكاتور بشكل يومي، لكن من لا يشاهد الكاريكاتور هم المسؤولون المتمترسون خلف طاولاتهم. وفي هذا لا يمكن أن أنسى جابي الباص الذي وبعد طلبه لهويات الركاب سأل عن من يكون حميد قاروط؟ فقلت له : أنا، قال “أنت حميد قاروط ماغيرو الذي يرسم في جريدة تشرين؟” والله لن آخذ منك الأجرة…
إذا وقفت على كورنيش بيروت وصرخت بملأ صوتك: يا… بيير صادق. سيلتفت إليك العشرات الذين يريدون معرفة الشخص الذي يسأل عن رسامهم المفضل، يسرد الشماع مثاله بروح من المرح، وذلك يعود برأيه إلى الإعلام اللبناني الذي يحترم نفسه، ويحترم قراءه، قد تختلف مع هذا الإعلام أو تتفق هذا شأنك، لكن المهم أن هذا الإعلام نجح في صناعة رسام كاريكاتور نجم، وقدم له كل الحرية للتعبير عن أفكاره الشخصية منها قبل العمومية الخاصة بسياسة المطبوعة، ففي النهاية من يصنع رسام الكاريكاتور سوى هذه المنظومة الإعلامية المتكاملة.
المطلوب في الإعلام السوري اليوم هو أن تقدم رسوماً ذهنية فنتازية، يعلق الفنان عبد الله بصمه جي: “إياك أن ترسم أي شيء له علاقة بما يجري على أرض الواقع، فأين المنابر التي تقدم لك الفرصة لرسم ما تود رسمه؟ لا يوجد، ولذلك لجأ العديد من الرسامين السوريين لصحافة الخارج، وكنت أنا من بين كثيرين وجدوا في الصحف العربية متنفساً لهم ولأفكار منعوا من تجسيدها على صفحات جرائدهم الوطنية” عصام حسن فنان الكاريكاتور القادم من بحر اللاذقية قال: “أنا أرى أن الكاريكاتور السوري جيد وله حضور فني عالي الجودة، وهو ليس أقل من غيره في البلدان العربية؛ فهناك العديد من فناني الكاريكاتور السوريين يمتلكون حضورهم الخاص، وخطوطهم وأفكارهم اللافتة، لكن المشكلة برأيي هي في العقلية السياسية التي تدير البلد من الصحافة إلى الاتصالات حتى نصل إلى وسائل النقل، إلى كل شيء، هناك نوع من الجمود في مختلف مستويات الحياة السورية، الكاريكاتور جزء من هذا الجمود، وهو يعبر عنه بطريقة أو بأخرى، هذا ما أنتجته عقلية الحزب الواحد من أنماط تفكير متشابهة، حزب واحد.. يعني مدير واحد..رسام كاريكاتور واحد أيضاً، وكذلك مدير مدرسة واحد، فكم سمعت من كثير ممن قدمت لهم رسوماتي جملة ” يا أخي هذا الكاريكاتور سيسبب لنا مشكلة” في حين ما هي الصحافة؟ ما هي مهمتها في النهاية؟ أن تصطدم أن تجابه، أن تواجه الخطأ وتشير إليه، يضيف حسن: “لا أن تجتنب الخطأ وتجمّله وتخفي بشاعته، وكذلك الكاريكاتور الذي يعد من أهم أدوات الصحافة الحرة، كونه الوسيلة التعبيرية الأمضى لفضح الظلم و كشف تزوير الحقيقة. هنا يتساءل حسن: هل المطلوب من رسام الكاريكاتور أن يقدم رسوم تمر في الجريدة مرور الكرام؟ أم المطلوب من هذا الكاريكاتور أن يقوم بفعل المواجهة والكشف والإشارة إلى مواطن الخطأ في جسم المجتمع ومؤسساته السياسية منها والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، أعتقد أن انعدام الحياة السياسية الحقيقية في سوريا، وعدم وجود منتديات أو جمعيات سياسية أدى إلى تراجع دور فن الكاريكاتور”.
حتى الآن لا توجد في سورية إلى هذا اليوم رابطة أو جمعية أو منتدى لرسامي الكاريكاتور، فتجربة رابطة الكاريكاتوريين العرب التي ضمت أسماء كبيرة وقتها كيوسف عبدلكي وجورج البهجوري وغيرهم تجربة ولدت ميتة للأسف، وذلك كما يعزوها عصام حسن لغياب الحياة السياسية التعددية، وهيمنة الاتجاه الفكري الواحد على غيره من الاتجاهات والتيارات، مما أدى بدوره إلى اجتهادات شخصية أدت إلى لمعان أسماء سورية في الخارج، لكن وحتى هذه اللحظة ورغم تمسكي بالرسم على صفحات جرائد بلدي لا أحد يرحب بك، لا أحد يسأل عنك، لا أحد يريد التعامل معك أصلاً رغم رغبتك في العمل في جريدة سورية”.
رغم وجود أكثر من ثمانين مطبوعة سورية إلا أنهم جميعاً لم يطالبوا بنا، يعلق الشماع: “مع أنني عندما عملت في جريدة الوطن السعودية كنت أقدم في اليوم الواحد إحدى عشرا زاوية كاريكاتور يومياً في الاقتصاد.” ويسرد بصمه جي قصته أيضاً: “على مدى إحدى عشرا عاماً ما زلت أرسم يومياً عشرة رسومات في القسم الثقافي للوطن السعودية، فالصحف الخليجية كالحياة والشرق الأوسط تتنافس على استقطاب أكبر عدد من رسامي الكاريكاتور اللذين غالباً ما تأتي رسوماتهم مرافقة لصفحات الرأي، هذه النوعية من الصفحات التي لا نراها في جرائدنا المحلية على الرغم من جماهيريتها لقطاع كبير من القراء، أما في الصحف السورية يتباهون بعدم وجود الرسامين، بل أكثر من ذلك ينكلون بك شر تنكيل كي تهرب وتطفش منهم”.
الكاريكاتور ليس المشكلة، المشكلة الأساس في الصحافة، يقول عصام حسن: “عندما تشتغل كرسام مع إحدى الصحف المحلية تقوم بإرسال رسوماتك عبر البريد الإلكتروني، لتتفاجأ أن رسومك لم تنشر إلا بعد اجتماع لجان مكونة من عشرات الأعضاء الذين يقومون بدراستها وتحليلها وتمحيصها للتأكد من خلوّها التام من أية توريات أو ملامسات سياسية، المشكلة أنه لا يوجد لدينا حتى الآن عقلية إعلامية احترافية، أذكر عندما عملت لمدة شهرين في جريدة تشرين تم خللاهما رفض ما لا يقل عن خمسين رسماً، بالمقابل عملت في الإمارات لمدة إحدى عشرا عاماً لا أذكر أنه تم رفض أي رسم قمت بتقديمه هناك! أليس من المعيب أن يعامل فنان الكاريكاتور بهذه الطريقة في بلد مثل سورية تعتبر مهداً لحضارات الشرق بأكمله، فيما لا يرفض في الإمارات رسماً كاريكاتوراً و لو لوحة واحدة؟”. هذا راجع بتقدير الفنان الشماع إلى أن “في الخارج هناك صحافة صحفيين، وليست كما لدينا صحافة موظفين، لقد زرت الكثير من الصحف العربية، فلاحظتُ أنهم يختارون لجرائدهم خيرة الكوادر الفكرية والتحريرية والفنية، وهذا بدوره يمهد لمكانة خاصة على صفحات جرائدهم لفن الكاريكاتور الذين يفاخرون به على رأس صفحاتهم الأولى، حيث ترى بأم العين في صحيفة خليجية أهم الصحفيين من لبنان وسوريا و فلسطين ومصر والمغرب العربي”. لكن: لماذا يعمل فنان الكاريكاتور السوري خارج وطنه، ولا يعمل في صحف بلاده، يجيب الشماع: الصحافة السيئة لا تنتج رسوم كاريكاتور جيدة فيرد بصمه جي: في جرائدنا من يعمل في إخراج الصحيفة وليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بفن الإخراج، بل غالباً ما يكون تنفيعة يعمل بسبب المحسوبيات التي نقلته بين ليلة وضحاها من قسم الأرشيف أو المرآب إلى قسم الإخراج، وهنا الطامة الكبرى فإخراج الجريدة ليس من سقط المتاع، بل هو أهم خطوات صناعة الجريدة على الإطلاق، وهذا ما ساهم لسنوات طويلة في تراكم أنصاف الصحفيين في جرائدنا وهمّش بدوره موقع الكاريكاتور إلى أن ألغاه تقريباً من جرائدنا السورية؛ أعرف موظفة في جريدة الثورة على سبيل المثال كانت في قسم المحاسبة، وبعد أن أصابها مرض في ظهرها أحالتها إدارة الجريدة إلى قسم الإخراج، بحجة أنه بحاجة إلى الراحةيتابع بصمه جي- مع العلم بأن من يمكن له أن يعمل في الإخراج الصحفي يجب أن يكون خريج كلية فنون جميلة أو كلية الصحافة”.
هناك عبارة شائعة في تقاليد المهنة الصحفية السورية، وهي عبارة تسمعها كثيراً من محرري جرائدنا الحكومية “يا أخي من سيقرأ لنا..حط بالخرج” هذا كلام يعكس اعتقاد قديم وراسخ لدى معظم صحفيينا بأنه من سيقرأ ما يكتبونه، لذلك لا خوف من كتابة حشو مستمر لا معنى له.. هراء لا طائل منه، يقول الشماع: “مادام لا أحد يشكو من هذا الهراء فلندع الجميع في أماكنهم كموظفين يتقاضون رواتب ليس إلا، وهكذا تأتي عملية إخراج المطبوعة التي يغيب عنها فن الكاريكاتور بلا أي وازع من ضمير، فالمهم أن لا يشتكي أحد على الجريدة، وليس المهم أن يقرأ، ولذلك درجت صحفنا لمسح الزجاج و كأغطية رفوف للمطابخ ورفوف المكدوس، هذا ما رسمته في إحدى لوحاتي الساخرة من الصحافة السورية”.
الصحافة المحلية تعامل رسام الكاريكاتور كموظف وليس كفنان أو كمبدع يتدخل ياسين خليل: “حسب رؤية رئيس التحرير أو غيره من أمناء ومديري التحرير في الجريدة يجب أن تعمل، هذا ما لمسته طوال شغلي في الجريدة الرسمية، ففي أحيان كثيرة وبعد أن تنهي رسمتك يفاجئك رئيس التحرير برفضها، ناسفاً كل ما قدمته من جهد للوصول إلى صياغة تقارب سياسة الجريدة التي تعمل لصالحها، إن هذا يعكس استهتاراً بجهدك وبفنك كرسام كاريكاتور، فيما تعاملك الصحف في الخارج كفنان يصر الجميع في الصحافة السورية على معاملتك كموظف، فرغم أنني قضيت عشرين عاماً في الرسم للصحافة الثقافية يضحون بك بدقائق دون أن يسألوا عن جهد كل هذه السنين، فيما في الخارج أي معاملة لفنان الكاريكاتور كموظف يكون رده بترك العمل، فالفنان لا يمكن تصنيفه على هذا النحو، هو لا يريد راتباً، فالجميع يعرف أن رواتب الجرائد الحكومية لا تغني من جوع، إنه يريد أن تحترمه وتقدر فنه”. هذا الكلام جعلت القاروط يتدخل مجدداً: حالة رسام الكاريكاتور قلقة غير مستقرة تابعة لمزاج رئيس التحرير أو رئيس الصفحة، طبعاً لا توجد تعليمات فوقية لسلوك مثل هذا مع رسامي الكاريكاتور، فهذا الفن بالأصل غير معترف به، كونه في تعريفه الأولي ابن غير شرعي للصحافة، شرعية هذا الفن جاءت من رسامين بذلوا الكثير من الجهد والوقت حتى تم تبنيه من قبل الصحافة، وهذا التبني قائم على صلاح هذا الإبن واستقامته، لكن عندما يتمرد الكاريكاتور ويصبح ابناً ضالاً يطرد على الفور من جنة الصحافة”. إذاً الابن الضال هو المشاكس والمشاغب..فمن يسبب المتاعب دائماً غير مرغوب به في صحافتنا، أما من يقوم بالمشاكسة في صحف الخارج تدفع له مبالغ هائلة، وتبرم معه عقود احتكار كونه يجتذب قراءاً؛ يتابع قاروط: “رئيس التحرير دائماً يتجنب رسام الكاريكاتور، لكنه يقبله في حالة واحدة عندما يخدم وجوده الصفحة إخراجياً، ولذلك أصبح الكاريكاتور عنصر زخرفي تزييني في الصحيفة أكثر منه نصاً بصرياً له مدلولاته وقراءته وموقعه المميز، فالرسوم تأتي من قبيل الحلول الإخراجية للصفحة ليس أكثر، ناهيك عن وجود بعض الأدمغة التي أقفلت على بعض الأسماء كرسامين لا يشق لهم غبار في دنيا الكاريكاتور، وكأن الذي صنعه لم يصنع أحداً لا قبله ولا بعده، خلاك أن فن الكاريكاتور يتحمل أعباء دخلاء على هذا الفن الرقيق والصعب، فهؤلاء يعتبرون أن الكاريكاتور عبارة عن خربشات ليس إلا، وليس فن تشكيلي قائم بحد ذاته، فن يملك كل مواصفات التشكيل وشروطه ومزاياه الإبداعية من كتلة ولون وأفكار”.
“هؤلاء الدخلاء ساهموا بطريقةٍ أو بأخرى في تشويه صورة فنان الكاريكاتور، فغاب هذا الفن عن جرائد، وغيّب في جرائد أخرى” يعلق القاروط- ومهمة الصحافة السورية اليوم إعادة الاعتبار والمكانة لهذا الفن على صفحاتها، فهناك أمل اليوم باستعادة بريق الكاريكاتور وتخليصه من المتطفلين عليه، فضلاً أن هناك خرق لبروتوكولات التوظيف في جرائدنا السورية، فمن غير المعقول أن يستغل بعض رؤساء التحرير الملاكات الشاغرة المخصصة لتوظيف رسامي كاريكاتور من أجل توظيف سائقين ومستخدمين بدلاً عنهم” ويكمل قره بيت: “جربنا في سورية أن يكون هناك رسامي كاريكاتور في صحافة مسبقة الدفع، بمعنى أنها لا تهتم لمبد الربح والخسارة، المهم أن يكون هناك صحف، ولا يهم أن يكون هناك قراء، أنا أعتقد عندما يصبح لدينا صحافة تعتمد على شباك التذاكر، أي على مبدأ الربح والخسارة، فتقوم الجريدة بالبحث عن فنان الكاريكاتور الموهوب، وتدفع له أجراً محترماً يليق بطبيعة الفن الصعب الذي يقدمه للجمهور، عندها يصبح لدينا مساحة جيدة لفن الكاريكاتور؛ فنخرج من دوامة الإعلام الخشبي الذي لا يلقي بالاً لمسائل التوزيع والتسويق والربح والخسارة، كون الدولة تتحمل كل هذه الأعباء وكل هذا الكم من الهراء في جرائدها” يعود القاروط فيعلق: “أهمية فن الكاريكاتور اليوم مضاعفة في ظل الهجمة الإعلامية الشرسة التي تتعرض لها سورية، فإسرائيل في عدوان تموز2006 على لبنان لم ترمي من طائراتها مناشير كتابة، بل رسوم كاريكاتور تطعن بالمقاومة اللبنانية لحزب الله، وكذلك عندما أراد الغرب الطعن بالدين الإسلامي قاموا بتصنيع رسوم مسيئة للرسول، رسموا ولم يكتبوا، والعرب والمسلمين احتجوا آنذاك على ما رُسم ليس على ما كُتِب”. إضافةً إلى أن هناك حساسية بين فنان الكاريكاتور وبين الكاتب الصحفي، فرسام الكاريكاتور يتمتع بنجومية سريعة، لا تحتاج ما تحتاجه الكتابة من وقت و مراكمة للوصول إلى تلك النجومية.وبالتالي نجد مكانة مادية متدنية لرسام الكاريكاتور الذي يتقاضى أجراً منخفضاً لا يساوي نصف أجرة الصحفي، وهذا الشيء غير مفهوم حتى الآن في الجرائد المحلية، مع أنه في الوقت الذي تكون نسبة تصفح رسوم الكاريكاتور أضعاف تصفح افتتاحيات رؤساء التحرير في تلك الجرائد!
النقطة الأهم في مشكلة الكاريكاتور بتصور الفنان نضال خليل: ” أن هذا الفن في نهاية الأمر عبارة عن سلعة تحقق حضور، أو لا تحقق، تحقق إقبالاً عليها أو لا تحقق، وكل ما استطاع الفنان أن يقدم حضوراً بصرياً وفكرياً وافتعل مشاكل على الساحة الإعلامية والاجتماعية، كل ما استطاع فنان الكاريكاتور أن يقدم كماً من بضاعته، سيكون هناك الكثيرين من رسامي الكاريكاتور لا يتمتعون بالموهبة الأصيلة لكن ظروف معينة تخدمهم وتقدمهم للجمهور كما حدث مثلاً في جريدة بلدنا، وهذا ما أسميه بنجم الفقاعة” ويتابع نضال خليل: ” أنا لا أستطيع كل يوم أن أكون رسام المفاجآت، مع أنني قدمت لوحات إشكالية، كتلك التي رسمتها لجريدة الاقتصادي، والتي رسمت فيها أعضاء الحكومة السابقة، الآن أنا أدير صحيفة (سالب موجب) وأرسم ما أريده، وهذا يعطيني هامشاً جيداً للعمل على لوحاتي، كون الناس لدينا لا تقرأ، وتجذبها المادة البصرية أكثر من سواها في الجريدة، أو في المواقع الإلكترونية، أجل أتعرض لمشاكل أحياناً لكنني في الوقت نفسه أستطيع أن أبدع هامشي الخاص بين وكم رسمت وجوه لوزراء ومسؤولين، وتعرضت لنقد حاد لكن هذا من صلب عملي ورغبتي كبيرة في الاستمرار، شخصياً لا أشتغل مع الصحف الرسمية، فمنذ عام 2001 وصل عدد الصحف والمجلات الخاصة بسوريا إلى ما يقارب 300مطبوعة، ويمكنني خلق مناخ خاص بكل مطبوعة أشتغل معها، وذلك بالاتفاق مع صاحب أو رئيس تحرير الجريدة، فإذا كان مستعداً لحجم الخسارة بعد سحب العدد من الأسواق على أثر لوحة كاريكاتورية قدمتها في جريدته، فهذا يوسع الهامش بشرط أن تحقق المطبوعة حضوراً في السوق، يحقق لها نسبة من الأرباح والرواج عند جمهور القراء، أما أن أخضع لمزاج رؤساء ومدراء التحرير في الصحف الحكومية فهذا من الصعوبة بمكان، لاسيما أن رسام الكاريكاتور في هذه الصحف لا يتجاوز أجره على اللوحة الواحدة أربعمائة ليرة سورية، هذا قياس لا أحب أن أقيس عليه ما أقدمه من فن يصعب تثمينه بثمن أو مقابل مادي، لكن الحكاية تحتاج لأجر إنساني يوفر الكرامة لفنان الكاريكاتور ويفيه حقه”.
“الحكاية أشبه اليوم بسوق الهال بالنسبة لمجموعة الصحف البياعةيعلق نضال- وهي غالباً ما تكون صحف يومية أو أسبوعية تحقق رواجاً وشهرةً للفنان الذي يرسم فيها، في حين أن هناك صحف غير مقروءة ولا تحقق رواجاً لدى الجمهور، لذلك على فنان الكاريكاتور أن يفرد بضاعته في هذه الصحف، ويجرب حظه، فضلاً أن رسامي الكاريكاتور لا يجتمعون مع بعضهم، بل إنهم لا يشاهدون أعمال بعضهم البعض، ولا توحدهم سوى النميمة على بعضهم البعض”. يعتبر نضال أنه من الجيل الذي تربى على رسوم عبد الهادي الشماع وعصام حسن وعبد الله بصمه جي وحميد قاروط، لكنه يميل اليوم إلى أن يجرب حظه مع السوق في ظل هذه القطيعة بين أجيال فناني الكاريكاتور”.
معيار نجاح فنان الكاريكاتور هو ذاكرة الناس وليست الجوائز يعلق قاروط مجدداً- الجوائز التي يتم منحها كجوائز تقديرية ثم يقوم أصحابها بتصديرها للإعلام على أنها جوائز من طراز رفيع، فهذا نوع من فبركة كاذبة لا تضر ولا تنفع، لكنها تلمّع أسماء على حساب أسماء أخرى بذلت حياتها من أجل فن الكاريكاتور، أحد الرسامي السوريين أخذ جائزة دولية إلى جانب رسام إسرائيلي اسمه عنان لوري، ثم قام بتحريف اسمه من لوري إلى “لوي” يعلق ياسين خليل. فيما يتدخل قره بيت: “أنا لا تعنيني هذه الجوائز، المهم ماهية الكاريكاتور، موضوعه، علاقته بما يحصل في الشارع السوري، وليست الجوائز، من يهمه الجوائز فليأخذها، أنا لا يمكن أن أصادر على أحد سلوكه الفني و الشخصي، وليتحمل من قدم ومن سهّل لهؤلاء تلك الجوائز وزر رسوم مفرّغة من أية قضية وطنية تعني المواطن السوري قبل كل شيء”. ويستاءل قره بييت: ” لماذا يحق اليوم لعلي فرزات أن يرسم ما يشاء، وأنا غير مسموح لي ذلك، أنا أطرح هذا السؤال على الصحافة السورية ولتجبني؟” الجواب يأتي من حميد قاروط مرةً أخرى: “العيب في رسام الكاريكاتور الذي لم يستطع أن ينتزع هامشه، بالنسبة لفرزات استطاع أن ينتزع هذا الهامش، بالنسبة لي بعد أن رسمت لوحة “الصنبور” عن زيادة الرواتب كنت كلما قدمتُ لوحة لرئيس التحرير فيها طاولة أو كرسي يقول لي بالحرف الواحد: خبئها في أرشيفك..غير صالحة للنشر يا حميد؛ بعد فترة قابلته لأسأله عن رفضه للعديد من رسوماتي، فقال : حميد بعد أن رسم كاريكاتور الحنفية جبُنَ لا أعرف من أصابه الجبن أنا أم هو؟
لنعترف أن ما يرسمه علي فرزات لا يجرؤ رسام آخر على التفكير فيه حتى بينه وبين نفسه يضيف قره بيت، فيما يعلق.الشماع: ” دعنا لا ننسى أن ما نقوم برسمه أنا فارس قره بيت يصدر عن صحيفة الوطن السورية، لكن ما يرسمه علي فرزات يصدر في موقع إلكتروني، إذاً الحكاية أيضاً تابعة للمؤسسة التي تنشر فيها، ولسياسة هذه المؤسسة أو تلك، ولا علاقة هنا للجرأة أو الهامش، المشكلة أن الجمهورية العربية السورية لم تدعم سوى رسامين يعرفهما الجميع، وهما الوحيدين اللذين رعتهما ودعمتهما جاعلةً منهما أبطال الكاريكاتور السوري!”
على الرغم من عراقة الكاريكاتور السوري إلا أنه ليس هناك رابطة أو جمعية لفناني الكاريكاتور في سورية، و في الوقت ذاته “لا يوجد في نقابة الفنون الجميلة لا رباطة نحت ولا جمعية نقاد، ولا جمعية حفر، ليس هناك تخصصات، لا أحد يتقبل، نحن بين بعضنا كفناني كاريكاتور يمكن أن نؤسس جمعية خاصة، لكننا سنتهم بعدها بأننا نؤسس لحزب سياسي -يعلق الشماع، ويوضح بصمه جي: “يمكن لأي أحد اليوم أن يشارك في المعارض الدولية، فقط عليك أن تطبع لوحة من على الأنترنت وترسلها عبر البريد الإلكتروني إلى عناوين هذه المعارض، فالكثيرون اليوم يشاركون بهذه الطريقة، ويربحون الجوائز، مع أنهم لا يعرفون حتى ألف باء الرسم، فما بالك بفن الكاريكاتور، والدليل على ذلك هناك رسامون مبتدئون ليس لهم علاقة بالكاريكاتور يفوزون بجوائز من هذه المعارض، وهناك من سرق لوحة لعلي فرزات وشارك في معرض كاريكاتور بتركيا وفاز بجوائز”.
تبقى الجائزة الحقيقية هي ذاكرة الناس، وأهم فنان عربي أخذ الجائزة الذهبية في هذا النوع من الفن هو ناجي العلي، فمن يستطيع أن ينسى حنظله ويديه الممدودتين خلف ظهره؟ يؤكد القاروط على فكرته من جديد
رسوم مؤجلة:
لا يوجد شيء لم أنشره، لكن الحالة الإبداعية اقتصرت على نظرة تقليدية للرسام على أنه موظف ليس إلا-يفتتح ياسين خليل في معرض كلامه عن رسومه المؤجلة فيما يوضح القاروط : شخصياً انا أرسم فقط للنشر تقريباً، فأنا أخضع لسياسة الصحيفة وقوانين النشر، لكنني في المواقع الإلكترونية أتحرر من هذه القيود وأنشر ما لذّ وطاب لي.
لديّ بالطبع رسوم مؤجلة-يعترف عصام حسن- “رسوم تم عرضها لكنها لم تنشر حتى اليوم، لكن المشكلة أن هناك أماكن لا تؤجل معها لوحاتك، بل تطالبك وتملي عليك ما يجب أن ترسمه، أحياناً كثيرة يخضع فنان الكاريكاتور للقمة العيش، وأحيان أخرى يأخذ هذا الفنان موقفاً من هذه الإملاءات فلا يخضع لها، أنا شخصياً لم أخضع لهذه الإملاءات التي كان آخرها طبيعة رسوم معينة لمجلة أطفال كويتية، في النهاية أنا لا يهمني إلا صحف وطني، ولا يضيرني بشيء أن تمنعني السعودية أو الكويت أن أرسم ما أريد، ما يهمني كما قلت هو أن أشعر أنني في عملي أتلقى الاحترام في وطن يصون لي حرياتي الشخصية والفنية، أن أشعر بقيمة ما أفعله لوطني، وأن أتلقى النقد والانتقاد على ما أقدمه عبر النقاش وتبادل الآراء والخبرات بين الفنان والجمهور، بين اللوحة والمتلقي، أن أعرف لماذا لوحتي غير قابلة للنشر دون أن يقوم أحدهم بتسخيف وتتفيه ما أرسمه في كل لحظة، فالسلوك السلبي اتجاه الفنان يحبطه، وهذا ما ساهم فيما بعد في إغناء مشهد عام من الحياة السورية مليء بالإحباط نتيجة انتقاص الآخرين الدائم من قيمة ما تفعل أو ما تقدم لوطنك، أعود وأقول هذا الشعور بالإحباط والإهانة لا يتولد لديّ في الخارج، فأنا لا يهمني هذا الخارج ولا تعنيني قيمه الرقابية، ما يعنيني هو وطني الذي أعيش فيه، والمناخ الذي يحركني نحو عملي اليومي لتطوير فكرتي عن نفسي بالشراكة المستمرة مع الآخرين من حولي”.
لا أعتقد أن هناك رسوم مؤجلة، ورسوم غير مؤجلة، يعلق عبد الله بصمه جي:” الأمر تابع لذهنية الرقيب أو المؤسسة التي تعمل لصالحها، فأنا عندما كنت أعمل مع جريدة (الكفاح العربي) كنت أنتقي مواضيع غاية في الجرأة لرسوماتي، حيث شجعني رئيس التحرير وليد الحسيني على ذلك، وتبنى مقترحاتي الكاريكاتورية محطماً لي التابوهات التقليدية الثلاث (الدين، السياسة، الجنس) وهذا ما كان ليحصل في صحف سورية، كجريدة الثورة مثلاً.. المفارقة أنني كنتُ أرسم لصحيفة لبنانية مصدّراً أفكاري إلى الخارج، وأعود لأستردها عبر الرقيب ذاته الذي منعني من صياغة هذه الأفكار عبر فن الكاريكاتور، أستطيع القول أن الرسوم التي قدمتها (للكفاح العربي) أكثر جرأة حتى من الرسوم التي يقدمها علي فرزات الآن على أنها أيقونة في الجرأة على السلطة”. المهم أن نقتل الشرطي، ليس الشرطي الذي قال أحدهم أنه قتله من نفسه، بل الشرطي الذي نخاف أن يحاكمونا على قتله.. يمضي قاروط مجدداً في توصيفه، لكن الشماع يوضح قصته مع رسومه المؤجلة: “لدي الكثير من الرسوم المؤجلة التي تسكن البال دائماً، ففي خاطري هناك دوماً رسوم مؤجلة، فأنا ونتيجة موقف قديم اعتزلت بسببه الكاريكاتور السياسي، لكن في الفترة الأخيرة أصبحت أقترب من حالة سياسية ربما تتطور فيما بعد إلى رغبة برسم حالات سياسية اجتماعية”.
أهمية الكاريكاتور أحياناً تأتي من الكاريكاتور نفسه، وأحياناً من الظرف السياسي أو الاجتماعي الذي ينشر فيه الكاريكاتور، لدي مبدأ لاعب كرة القدم الذي ينتقل من نادي لنادي آخر، فيضطر إلى تغيير ألوان قميصه، هذا ما يفعله فنان الكاريكاتور عندما ينتقل من حالة إلى أخرى، من مناخ إلى آخر، بمعنى أنا اليوم أرسم في صفحة اقتصاد لصحيفة سعودية، يعلق قره بيت- وبعيداً عن كل مشاكل فريق سياسي معين، وذلك بشغلي الدائم على تفاصيل وأحداث اقتصادية بحتة، المشكلة مع الرسوم المؤجلة عندما ترفض الجريدة رسماً كاريكاتورياً أريد من خلاله أن أوصل رسالة معينة لجمهور معين وفي توقيت معين، عندها يكون الرفض معناه هو عدم تكراري لهذه الرسالة مرةً أخرى كونها رسالة تحمل في خباياها راهنية العمل الذي قمت بإعداده”.
على مدى سنوات طويلة تكرّس في أذهاننا فكرة تقليديية عن الكاريكاتور-يتابع قره بيت حديثه عن مؤجلاته- “وهي أن رسام الكاريكاتور عندما يقوم بهذا النوع من الفن كأنه يمارس عملية انتحار أو عملية اغتيال، فالكاريكاتور عندما يعجز أن يصير انتحاراً أو اغتيالاً تصبح الحكاية حكاية هامش عليك أن تلعب ضمن حدوده، إلا أن هذا الهامش يقترح بدوره هوامش أخرى تخترعها كمناطق عزل وأمان لعملك كرسام تقيك من مناطق خطرة أنت لا تريد اقتحامها-على الأقل في الوقت الحالي، الحقيقة أنا عملي في الكاريكاتور الذي حققته في الصحافة السورية توقف على رسوماتي في جريدة الوطن السورية، قبلها كان عملي منصباً على رسوم الأطفال، كنت أخشى فعلاً من مصير من سبقوني في هذا العمل كما انتهى المطاف بهم إلى مأوى العجزة كالفنان الكبير ممتاز البحرة، شخصياً أنا بدأت الرسم في جريدة (الراية القطرية) ثم عملت لصالح الوطن السورية، فبالنسبة لي موضوع رفض الرسوم من إدارة الجريدة تعني لي موقف العريس في ليلة دخلته عندما يتعرض لإحباط يؤثر على نشاطه، لتستمر معه هذه الحالة بقية عمره، لذلك عرفت عبر تجربة الرفض هذه في الجرائد السورية وخصوصاً في عهد رئيس تحرير جريدة تشرين السابق عميد خولي أشكال عديدة من هذه الرهبة دربتني فيما بعد على دراية واسعة بكل الخطوط الحمراء التي عليّ تجنبها، وهذا ما لم يحدث معي على الإطلاق في الجرائد العربية، فحتى عند رفض إحدى الرسومات لم أكن ابلغ بالرفض بل كنت أرى رسماً آخر لي في مكان الرسم الذي أرسلته للنشر، شخصياً أنا لا أومن بما يقوله البعض عن الحجم الهائل للرسوم الممنوعة لديه، فجميعنا يعرف نحن معشر الكاريكاتوريين أي مكان نستطيع فيه العمل، وأيّ الأماكن لا نستطيع دخولها، هذا بدوره يؤدي بعد فترة لأرشفة العديد من الرسومات التي ما تزال تحيى في ذاكرتك وذهنك، أو على وشك الموت، وكم هي الرسوم التي رسمتها بيني وبين نفسي ومن ثم مزقتها، أو بالأحرى ابتلعتها مع حبرها..!”
الرسوم المؤجلة كما يعزوها نضال خليل “تتأتى من طريقة فهمك للخطوط الحمراء التي تربينا عليها، فأنا مثلاً رسمت العديد من الشخصيات السياسية في الحكومة السابقة، حقيقة خوفي لا يأتي من رسم الشخصيات السياسية، بل من حاشية هؤلاء الذين غالباً ما يكونون ملكيون أكثر من الملك، وحراس على كل عمل إبداعي قد يفسروه ويؤولوه كما يشتهون، ومع ذلك ليس من الضروري أن أرسم رئيس الجمهورية حتى أصير حراً، أحياناً فنان الكاريكاتور يرسم تفصيلاً صغيراً ذو حساسية اجتماعية قد يخلق أزمة كبيرة في البلد كله، قد أرسم تحرش بائع جوال بامرأة خدش حياءها، قد تتحول من هذا المستوى العابر إلى قضية رأي عام، فالكاريكاتور السوري ليس لديه عقدة برسم رجل مخابرات على سبيل المثال، كون الخط الأحمر له علاقة بسياسة معينة تتعلق بثقافة اجتماعية ذات حساسيات معقدة على بساطتها؛ إلا أنها قد تتألب عند أقل هفوة أو استهتار من قبل الفنان”.إلا أن “فنان الكاريكاتور يرسم بكل الألوان ماعدا الخط الأحمر، فالفنان لا يستخدم الخط الأحمر، بل يُرسم له الخط الأحمر دائماً” يقول حميد قاروط: “مشكلة الكاريكاتور هي في ضرورة تمكن الفنان من نشره في الصحافة، مما يرتب عليه محاذير كثيرة، فرسام الكاريكاتور يتمكن من رسم ما يشاء لمعارضه الخاصة، أو المشتركة، عندها يتخلص من سطوة الخطوط الحمراء التي تمارسها الصحافة على أعماله، ويذهب إلى أماكن لم يكن ليحلم بها من قبل على صفحات الجرائد اليومية من ناحية التكنيك والموضوع والخطوط والفكرة”.
الخط الأحمر موجود في سوريا و خارج سوريا، وهذا الخط يعلو ويهبط بمقدار حساسيتك للجو العام وقدرتك على تقصي أي تشنج موجود في الجوار-يوضح قره بيت- مما يحتم على الفنان جس نبض مستمر للمناخ الذي يرسم عنه، وهذا تابع لمهنية الفنان وحرفيته. ويتدخل قاروط: “المشكلة في صحافتنا السورية أن التابوهات الثلاث لم تعد تشكل خطوطاً حمراء، بل صار هناك أشخاص بعينهم عبارة عن خطوط حمراء يمنع على رسام الكاريكاتور الاقتراب منها، فيصبح عندها رئيس الصفحة خط أحمر، ورئيس التحرير خط أحمر، وفنان فلاني، أو كاتب فلاني تابو، لذلك تداخلت في الفترة الأخيرة الخطوط الحمراء مع بعضها البعض، أنا شخصياً مع خطوط حمراء معينة قد تسيء أو تمس أو تستنفر حساسية مجتمعات معينة، لكن مالا أفهمه أن يصبح شخص بعينه خطاً أحمراً، هذا ما يجب على الصحافة السورية أن تتخطاه اليوم، جاعلةً من هدر الدم الوطني خطها الأحمر الوحيد”.فيما يلفت الشماع إلى ضرورة “إصدار قانون مطبوعات يعطي للصحافة دورها، لنعود لأيام القبس السورية التي كانت صحيفة النهار ترسل لنا محرريها كي ندربهم.إذ أن هناك رسامون سوريون يرفضون التعامل مع الصحافة السورية، لكنهم سيقبلون على هذه الصحافة في حال تم إصدار قانون إعلام معاصر يلبي تطلعات هؤلاء”.
التحقيق نشر في جريدة تشرين السورية
والصورة بعدستي في القسم الثقافي للجريدة الزرقاء- يظهر فيها الراحل عبد الله بصمجي والفنان عسام حسن والفنان عبد الهادي الشماع

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.