“هنا في هذه المدينة لم يقتلونا بالرصاص، قتلونا بالقرارات”

(غابرييل غارسيا ماركيز)

في مطلع شهر أغسطس/آب من عام 1966 ذهب غابرييل غارسيا ماركيز بصحبة زوجته “ميرثيديس” إلى مكتب البريد ليرسلا مخطوطة كتابه الجديد “مئة عام من العزلة” إلى دار النشر في بيونس آيرس، كانا في حالة يرثى لها، ولم يستطيعا دفع تكلفة البريد. راقب ماركيز زوجته وهي تبحث في حقيبة يدها عن المال، كانت التكلفة اثنين وثمانين بيزوسا، ولم يكن لديهما سوى خمسين، لذلك لم يكن باستطاعتهما إرسال سوى نصف الكتاب، الأمر الذي جعل ماركيز يطلب من موظف البريد أن يقتطع صفحات من المخطوطة كما نقتطع شرائح اللحم المقدد حتى بقي منها ما يمكن إرساله بخمسين بيزوسا. وعندما عادا إلى البيت، رهنا بعض الأدوات المنزلية، ثم عادا إلى مكتب البريد لإرسال ما تبقّى. لتتحول المخطوطة بعد ذلك إلى أحد أفضل الأعمال الروائية في أميركا اللاتينية والعالم(1)

      

غابرييل غارسيا ماركيز.. حكّاء من الطراز الرفيع

يُعد النظر للبيئة والتاريخ الشخصي المحيط بالكاتب أيًّا كان أمرا مهما لمعرفة السياق الذي تشكلت فيه أفكاره. ومن هذه النقطة، فقد تأثّرت نصوص ماركيز بالبيئة المحيطة به، فقد ولد “غابو” الطفل الصغير في بلدة “آراكاتاكا” في كولومبيا، وعاش طفولته المبكرة في تلك البلدة الفقيرة، والنائية، أما بقية حياته فعاشها متنقلا بين العوالم الجغرافية تارة، والعوالم النصية تارة أخرى. في سنوات حياته الأولى لم يعش غارسيا ماركيز برفقة والديه وإخوته، إذ كان يقيم مع جدّه العقيد “نيكولاس ماركيز ميخِيَّا” وجدّته “ترانكيلينا كوتيس” في بيت العائلة الكبير. وهناك سمع ماركيز الكثير من القصص والحكايات، وبدأ أول خيوط السرد القصصي يُنسج في عقله، مكوّنا نمطا قويا وممتعا للحكاية، يُحاكي نمط الحكاية الذي يتبعه جدّه. يقول ماركيز: “ليست الذكرى الأكثر ديمومة وحيوية عندي هي ذكرى الناس، بل هي ذكرى البيت الحقيقي في آراكاتاكا الذي عشت فيه مع الجدين”. (2)

  

أحب غارسيا الكتابة، وعشق سرد القصص الأسطورية والخرافية، تلك القصص التي تجعل القارئ تائها بين التصديق والتكذيب، ومن أجل الكتابة قرر في العام 1949 التخلي عن دراسة الحقوق بسبب رسوبه في الدراسة، لدرجة أغضبت والده الذي قال له ذات يوم: “سينتهي بك المطاف إلى أن تأكل الورق”، وعندما حاول أحد أصدقائه أن يدافع عنه، موضحا أن ماركيز في طريقه ليصبح واحدا من أفضل كتّاب القصّة القصيرة في كولومبيا والعالم، انفجر الأب صائحا: “إنه قصّاص، حسنا، طالما كان كذّابا منذ طفولته“. (3)

 

في خضمِّ هذه الظروف القاسية، بالإضافة إلى إحباطات والده، ودور النشر التي نصحته في بداية مشواره الأدبي بالبحث عن مهنة أخرى غير الكتابة، شقّ ماركيز طريقه نحو الإبداع، متحدّيا كل العقبات التي واجهته، ليصبح فيما بعد أحد أهم أعمدة الأدب اللاتيني، وأحد أفضل كُتّاب الواقعية السحرية على الإطلاق.

إن نمط الحكاية الذي يتبعه ماركيز يشبه إلى حد كبير نمط قصّة ما قبل النوم، تلك القصص الخيالية التي تحكيها الجدّات بأسلوب قصصي يأخذ معه الأطفال للنوم، والفرق بين طريقة سرده وطريقة سرد الجدّات أن ماركيز لا يقودنا عن طريق الحكاية إلى النوم، وإنما يُقودنا نحو المتعة، حيث يسرد القصة بأسلوب شائق، وفي أتون النّص فإنه يأخذ بيد القارئ من يديه ماشيا معه في طرقات السرد والحكي خطوة بخطوة، خوفا عليه من الضياع ربما. وفي كلّ مطبٍّ أو عقبة يواجهها القارئ بين السطور، يظهر ماركيز بخفّة ورشاقة، مزيلا تلك العقبات بصورة مؤقتة، من أجل زيادة الإثارة، ورفع مستوى التشويق إلى أعلى درجاته.

    

اشتغل ماركيز بالصحافة، والتي أضافت إليه بدورها بُعدا آخر في التعامل الجاد والمهني مع ما يكتبه وما سيكتبه لاحقا، ومكّنته من امتلاك أدوات القصّ والحكي، وصقلت موهبته الإبداعية والفنية. وفي شبابه كتب ماركيز المقالات الصحفية لبعض الصحف والمجلات، كما كان يكتب السيناريوهات السينمائية. وقد عرفت الشهرة طريقها إليه في عام 1967 حين انتهى من كتابة روايته ذائعة الصيت “مئة عام من العزلة” والتي توّجته عَلَما بارزا للأدب اللاتيني، ولفتت الأنظار إليه في جميع أرجاء العالم، باعتباره كاتبا موهوبا وحكّاء من الطراز الرفيع.

“مئة عام من العزلة”.. المزج بين الخيالي والواقعي!

“الخيال هو في تهيئة الواقع ليصبح فنا”

تُعد رواية “مئة عام من العزلة” أحد أهم الأعمال الروائية التي كتبها ماركيز، وأثناء كتابتها اعترف لأصدقائه أن صياغة الحكاية أتعبته، وأرهقت تفكيره، واستهلكت منه ثمانية عشر شهرا، لدرجة قال فيها: “إن تأليف الكتب مهنة انتحارية”. وقد نُشرت الرواية لأوّل مرة في عام 1967م، وانتشرت الرواية بشكل واسع في جميع أنحاء العالم، حيث طُبع منها نحو ثلاثين مليون نسخة حتى الآن، وتُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة مختلفة، من بينها العربية. كتب ماركيز روايته أثناء فترة وجوده في المكسيك، وشكّلت الرواية سببا مباشرا في حصوله على جائزة نوبل للآداب في عام 1982.

ويحكي ماركيز في الرواية قصة قرية “ماكوندو” الصغيرة المنعزلة، عن طريق سرد قصة حياة عدّة أجيال متعاقبة من عائلة “بوينديا” على امتداد عشرة عقود من الزمن. وتنتقل العائلة من حالة براءة الطفولة مرورا بكل مراحل الرجولة والأنوثة والانحطاط حتى تجرف ريح قوية في نهاية الرواية آخر فرد من أفراد العائلة بسبب خطيئة زواج غير مرغوب فيه. وعالج ماركيز القصة معالجة تهكمية ساخرة، مع وجود بعض التلميحات الهزلية التي تتراوح بين العطف والقسوة. ويقول النقّاد عن الرواية: “إن “ماكوندو” قرية وهمية أنتجتها مخيلة ماركيز، لكنها في الحقيقة ليست سوى تعبير عن أي بقعة من بقع كولومبيا، أو أميركا اللاتينية، أو أي بقعة من بقاع العالم الثالث، ورمز لأي جماعة صغيرة واقعة تحت رحمة قوى تاريخية خارج نطاق سيطرتها وفهمها وإدراكها”. (4)

  

  

تتشابك أحداث الرواية وتتداخل بطريقة تُربك القارئ في البداية، وتدور الحكاية حول الأب الرمز “خوسيه آركاديو بوينديا” الذي قتل أفضل صديق له دفاعا عن الشرف والرجولة، مما اضطره إلى الرحيل وتأسيس قرية جديدة أسماها “ماكوندو”. بنى هو وزوجته “أورسولا” بيتا، وكان لهما ثلاثة أطفال “آركاديو، وأوريليانو، وأماراتنا”، وبمرور الأيام أصبح لديهم عدد كبير من الأحفاد. وكان هناك هلع في العائلة من أن خطيئة ما سوف تحدث، وينتهي على إثرها نسل الأسرة. كان الغجر يزورون القرية، ومن بينهم الغجري “ميلكيادس” الذي جلب معه للقرية أشياء غريبة وعجيبة، ورحل مُخلّفا وراءه مجموعة من الأوراق تُسجِّل بدقة تاريخ القرية منذ بدايتها وحتّى فنائها.

بعد ذلك، تستمر الأحداث بتواتر عذب، ومعقّد في بعض الأحيان، إلى أن يأتي القرية غرباء كُثر، من يُمثلون عادة سببا للتشاؤم، وسوء الطالع. وتتدهور أوضاع “ماكوندو” بعد موت ثلاثة آلاف عامل من العمّال المضربين في مذبحة على مقربة من محطة سكة الحديد. وفي نهاية الرواية، وكما هو مُدوّن في أوراق الغجري “ميلكيادس”، يلد آخر فرد من أفراد الأسرة طفلا بذنب خنزير، إثر علاقة غير شرعية، تأتي بعدها ريح عاتية تدمّر القرية عن بكرة أبيها. ومن خلال بوابة السرد يأخذنا ماركيز إلى واقع عجائبي مجنون، يمتاز بالسحر والغرابة اللذين يحرران السرد من جموده ورتابته، ويرسمان بذلك ملامح الواقع الشعبي البسيط بألوان أسطورية يُخيَّل إلينا الواقع عبرها زمنا لا يخلو من السّحر والعجائب.

تمزج أحداث الرواية بين ما هو خيالي وما هو واقعي، ويقول أحد نقاد ماركيز: ماكوندو هي كل مكان، ولا مكان.. ماكوندو مثل أي سراب، تحيا في عالم من الكوابيس. هي وهم، وهي حقيقة. ماكوندو ليست مكانا بقدر ما هي حالة فكرية. لكن، وعلى الرغم من إحساسنا بسرابية ماكوندو وأنها وهم وخيال، فإننا نجدها ضاربة في الواقع الاجتماعي والثقافي ومتجذرة فيه، محفورة في كل شخص، وكل شجرة، وكل بيت، وكل حبّة تراب، حتّى في الجو والهواء نجد صورة لها تنعكس على نحو ما. إن ما يسترعي انتباهنا كقراء للرواية أن إنسان ماكوندو هو صورة حيّة عن إنسان أميركا اللاتينية كلّها، في همومه وحيويته، في نجاحه وفشله، مآسيه وأفراحه، انهزامه وانتصاره، إيمانه وخرافاته، ضعف إرادته وتحديه للخطر. (5)

  

مع احتدام السّرد وتشّعبه يصبح من الصعب التمييز بين الواقع والخيال، بين “ماكوندو” القرية المتخيلة وبلدة آراكاتاكا الحقيقية، بين غرائب وعجائب “ميلكيادس” وبين التحولات التي شهدتها أميركا اللاتينية في تلك الفترة. يشير الناقد جيرالد مارتن، كاتب سيرة حياة ماركيز، إلى أن رواية “مئة عام من العزلة” تُمثّل محور الأدب اللاتيني في القرن العشرين، فهي الرواية التاريخية الوحيدة في أميركا اللاتينية التي تُعدّ أحداثها جزءا من ظاهرة عالمية تشير إلى نهاية الحداثة ووصول العالم الثالث في حقبة ما بعد الاستعمار إلى المسرح العالمي. (6)

  

تفاصيل التفاصيل.. اقتحام الواقع بشكل عميق

يستمر ماركيز في سرد تفاصيل القصّة بطريقة مُكثّفة وعميقة تضع القارئ في عمق الظروف والتحولات الاجتماعية والسياسية التي ضربت كولومبيا في منتصف القرن الماضي. ومع تصاعد الأحداث وهبوطها ووصولها إلى ذروتها يكون القارئ على اطلاع تام بالتفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة، وتتشكّل أمامه صورة القرية “ماكوندو” وأبطال الرواية وهم يتكلمون ويتحرّكون ويتفاعلون فيما بينهم، فيسمع القارئ صراخ مؤسس القرية “خوسيه آركاديو” تحت شجرة الكستناء، ووقع أقدام زوجته “أورسولا” في فناء البيت. إن هذا النمط من الوصف الدقيق يقتحم تفاصيل الواقع بشكل عميق، ويحيل الحكاية المكتوبة إلى صور بصرية يسهل معها تتبع الأحداث والعيش فيها لدرجة أن يكون القارئ “نفسه” مجرّد شخصية روائية.

يدرك القارئ للرواية أن أمامه عملا عجائبيا مشحونا بالتفاصيل والشخصيات الأسطورية، والتي تحمل أسماء متشابهة ومتقاربة إلى حد بعيد، شخصيات تحمل جينات الجدّ “بوينديا” وتعيش في رقعة جغرافية واحدة، وينتظر أجيالها مصيرا واحدا، هو الفناء. في سرده للحكاية يقول أصدقاؤه المقربين إن ماركيز استعار شخصيتي جدّه وجدته الواقعيتين، بالإضافة إلى بعض المشاهد والمواقف والظروف السياسية والاجتماعية التي عاصرها في بلدته القديمة آراكاتاكا، وفي المكسيك وأوروبا، وأضفى إليها شيئا من سحره الخاص. إن تلك الأشياء البسيطة والمهملة التي بدت غير ذات معنى في سنواته الأولى ولم يعرها اهتماما، استخدمها فيما بعد باعتبارها من أهم التفاصيل التي تقوم عليها حكاياته.

إن سرد تفاصيل الشخصيات بدقّة، بالإضافة إلى التعبير عن موقفها الفكري والإنساني ونظرتها للحياة بصور مختلفة، يعدّ من ضمن القواعد الأساسية التي تقوم عليها سرديات ماركيز، فهو كما يقول نقّاده: يصبح صديق الشخصية الروائية قبل أن يدوّنها على آلته الكاتبة، ويغوص فيها فكريا وحياتيا، ومن ثم يكتبها بطريقة لا تخلو من المفاجآت. في البناء السردي لقصة “مئة عام من العزلة” استنطق ماركيز شخصياته، عرف تفاصيلها، عاداتها، مخاوفها، أحزانها، وبعد ذلك، نقل إلينا تجربتها، التي هي جزء من تجربته الذاتية، تلك التجربة التي يعرف تفاصيل تفاصيلها.

تعتبر هذه الرواية من أكثر الروايات زخما بالتفاصيل الواقعية، والأسطورية، والعجائبية، فهي موسوعة تضج بتاريخ كولومبيا الحقيقي، وتاريخ “ماكوندو” الوهمي المزيف، إنها تعج بالأغاني، والترانيم، والتعويذات، والسحر. هي رواية تنقل لنا الواقع اللاتيني بكل أحزانه وأفراحه، حيواناته وأعشابه، طرائفه ومآسيه، تنقله لنا بقصص حبه الوهمية، وحقائقه الصادمة، خطاياه، وحروبه الدموية. إنها رواية التفاصيل العميقة، والوصف الدقيق المكثف. ورغم أن بعض النقاد يعتقدون أن الإيغال في الوصف يفقد الرواية متعتها وينزع عنها صفة الإبداع، فإن ماركيز برهن على أن الحكاية وصف دقيق، والنّص تفاصيل منظمة.

الواقعية السحرية.. النّص لا يعرف المستحيل

تندرج رواية “مئة عام من العزلة” تحت طائلة أدب الواقعية السحرية، وهي مدرسة أدبية تقوم نصوصها على المزج بين عنصري الخيال والواقع دون الابتعاد عن الأسلوب الموضوعي في القص والحكي، وهي ليست مدرسة أدبية وحسب بقدر ما هي طريقة للتساؤل حول طبيعة الواقع ونقده. في أدب الواقعية السحرية يُطلى النّص بالسحر بطريقة غير عادية، بطريقة لا تُشعرنا بانفعالات الراوي وأفكاره فحسب، وإنما بطريقة أكثر عمقا نشعر على إثرها بالراوي وهو يحكي لنا القصة شفويا، ويكلّمنا بين السطور.

يقول ماركيز في تأملات نشرتها صحيفة “الاسبكتادور” بعنوان “مصائب مؤلف كتاب”: إن مهنتي الحقيقية هي: ساحر. (7) ويؤكد ماركيز على أن كاتب الواقعية السحرية هو ساحر في المقام الأوّل قبل أن يكون كاتبا. (8) ومن أجل ذلك اعتمد في رواية “مئة عام من العزلة” على حكايات شعبية خرافية، وأساطير، وقصص خيالية تشبه حكايات “ألف ليلة وليلة”، ليس من أجل أن يثبت لنا بأنه كاتب ممسوس بالسحر، أو أنه مجرد ساحر معتوه، وإنما لينتقد واقع أميركا اللاتينية، وكولومبيا على وجه التحديد، ويتساءل حول طبيعة التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ضربت القارة اللاتينية في فترة ما بعد الاستعمار.

في رواية “مئة من العزلة” نواجه مواقف وأحداثا تتحدى المنطق والعقل، وترجع القصة إلى الخلف أو تقفز إلى الأمام بصورة مفاجئة، ومتكررة، وبلا نهاية. يحقن ماركيز هذه العجائبية بجرعات من الواقع فتبدو كما لو أنها حقيقة. وتلاحظ اللمسات السحرية في مشاهد متعددة في الرواية، كمشهد قدرة تأثير عشيقة “أوريليانو الثاني” على مواشيه بطريقة تجعل المواشي تتكاثر بشكل غير معقول، “فكانت الأفراس تلد ثلاثا، والدجاج يبيض مرتين كل يوم، والخنازير تسمن بسرعة غريبة”. (9) ويصبح تكذيب هذه الحقائق أمرا صعبا للقارئ، لأن ماركيز يخلط بين الواقع بالخيال بطريقة تجعلهما شيئا واحدا.

تكتظ الحكاية بمشاهد سحرية غريبة، كمشهد العاصفة المطرية التي اكتسحت “ماكوندو” لعدة سنوات دون توقف، أو مشهد تحليق “ريميديوس الجميلة” التي طارت “بلفحة هواء وضياء مخلفة وراءها بيئة الهوام والزهور صاعدتين في الهواء إلى أن غابتا عن الأنظار في أطباق الجو”. (10) وغيرها من المشاهد وصولا إلى المشهد الأخير في الرواية، وهو ولادة طفل بذيل خنزير. لم تسمح لنا كل هذه الأحداث العجيبة بالتوقف عن التفكير فيما إن كان ذلك وهما وخيالا أم أنه واقع بحت، لأن طريقة توظيف ماركيز للقصة هي في حد ذاتها ضرب من السحر.

إن رواية “مئة عام من العزلة” هي رواية ملحمية، وقصة مئة عام من الخيال الخصب، والسحر، والفانتازيا، هي مئة عام من كتابة التاريخ اللاتيني بكل تفاصيله وموروثاته، هي بمنزلة قرن من الاكتشاف والانفتاح نحو العالم الخارجي، هي حكاية خيالية جاء بها ماركيز من عالمه السحري الخاص، لكنه حوّلها بأدواته السردية الممسوسة إلى واقع حقيقي. يقول ماركيز: “نحن مخترعو الخرافات الذين نؤمن بكل شيء، نؤمن بأنه لم يفت الأوان بعد لخلق قصة خيالية مختلفة، قصة خيالية جديدة ومهمة في الحياة، حيث لا أحد يقرر للآخرين كيف يموتون، وحيث يكون للأعراق التي حكم عليها بمئة عام من العزلة، أخيرا وإلى الأبد، فرصة ثانية على الأرض”.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.