كأن شيئا لم يكن

ارتدادات لزلازل متلاحقة في معرض فوتوغرافي لبناني

  • عرضت المصورة اللبنانية لميا ماري جريج ما يقارب 35 صورة فوتوغرافية تحت عنوان “حقائق تشتبك” في صالة “تانيت” البيروتية، وإلى جانب هذه الصور، عرضت المصورة مقتطفات توليفية من نشرات الأخبار ومن وصلات النقل المباشر عن الانفجارت والحوادث التي عرفها لبنان.

العرب ميموزا العراوي

بيروت – طرحت الفوتوغرافية اللبنانية لميا ماري جريج عبر النساء اللواتي صورتهن في لباس عسكري وهن في حميمية بيوتهن بمعرضها المعنون بـ”حقائق تتشابك” في صالة “تانيت” بالعاصمة اللبنانية بيروت، آثار وتبعات الحرب اللبنانية التي امتدت من سنة 1975 حتى يومنا هذا في نفوسهن، وبالتالي في النسيج النفسي الخاص بالمجتمع اللبناني بأسره الذي هو، بالنسبة إلى المصورة، ليس إلاّ امتدادا من معاناتهن اليومية في صمت ينطق أكثر مما يخفي.

الضحية الناجية

قبل التمعن في معاني الصور أو في تصميمها الفني يحضر جليا وفي جميع الصور وعلى ملامح معظم نساء الصور، ما جرى على تصنيفه بإحساس الذنب الذي يرافق كل ناج من حادث مميت، ولعل هذا الانطباع الذي تتركه وجوه النسوة في نفس المشاهد هو المفتاح الأول والأهم للدخول إلى كابوس التصدعات النفسية التي سببتها حروب بعيدة وسابقة وأخرى لا تزال حتى الآن مستمرة، وإن بأشكال مختلفة.

أصابت الفنانة حينما لم ترفق هذه الصور بأي تفاصيل عن هوية النساء الموجودات في الصور، ولم توضح أو تسرد قصصهن الشخصية المتعلقة بطريقة أو بأخرى بالحروب اللبنانية، اكتفت بأن تجعل وجوههن ووضعية أجسادهن وأجواء منازلهن المختلفة، الناطق الحصري بقصص مفتوحة على تأويلات متعددة لا تصوغ تفاصيلها إلاّ الخلفيات السياسية والنفسية المختلفة للناظرين إليها.

توضح الفنانة خارج الصور، وإلى المتسائلين حول هويات هذه النساء أنه “لم يكن من السهل البتة إقناعهن بارتداء أزياء عسكرية.. جميعهن نساء لبنانيات من مختلف الأعمار والبيئات الاجتماعية والسياسية المختلفة، منهن المتضررات بشكل غير مباشر من محطات العنف المتواصل في لبنان، ومنهن المتضررات بشكل مباشر، أي أنهن فقدن أحد أفراد العائلة الذكور أثناء الحروب أو الأزمات الأمنية”.

وجوه النسوة تعبر عن كابوس التصدعات النفسية التي سببتها حروب بعيدة وسابقة وأخرى لا تزال حتى الآن مستمرة

البدلات العسكرية التي ظهرن بها توحدهن وتكثف الخسارة والوجع بشكل يصعب أمام أي مشاهد أن يحدد أي اختلاف في ما بينهن، لا غرابة في ذلك البتّة، لأن كل محاولة لإيجاد اختلاف لا تخدم قضية لميا جريج، وهو بطبيعة الحال اختلاف تافه لا قيمة له أمام فداحة الخسارة وأثرها الارتدادي على كافة فئات المجتمع.

اليوم، يرى الكثير من المحللين الاجتماعيين موقف اللبنانيين تجاه الفساد غير المسبوق لبنانيا وربما غير المسبوق عالميا، وموقفهم “البارد” حيال خطر الانفجار الكامن تحت الرماد، كتعبير صريح عن إحساس باليأس العام، ما هو إلاّ الشعور باللامبالاة الذي تكوّن ونضج خلال أكثر من 30 سنة، وإلاّ ما الذي ببرر هذا الصمت الغرائبي والإحساس بلا جدوى أي محاولة للتغير الفعلي أمام هذا الكم من الضغط والظلم؟

برعت المصورة الفوتوغرافية في إظهار هذه الحالة من القنوط التي تتأرجح ما بين اللامبالاة والإعتياد على الوضع الشاذ في وجوه نسوة يكملن حياتهن اليومية، وكأن شيئا لم يكن، لم يكن إلاّ في دقائق ملامحهن التي تفضح الكثير، الكثير عما لا يعتمل في نفوسهن، بل ما يحاول الاختباء في غيبوبة مفتعلة هي أشبه بجهاز دفاع من الطراز الأول.

قدر التكرار

يقول رولان بارت المفكر الفرنسي والمُنظر في شؤون الفوتوغراف والسيميائي والشاعر في أسلوب عرضه لأفكاره إن “ما تنتجه وتعيد إنتاجه الفوتوغرافيا في نسخ متتالية، هو أمر لم يحدث إلاّ مرة واحدة، الصورة تكرر إلى ما لا نهاية كل ما لا يمكن له أن يتكرر وجوديا”، غير أن هذا ما لا ينطبق بتاتا في صور لميا ماري جريج، إذ أن تكرار هيئات الألم واللامبالاة في الصور المعروضة بالرغم من الاختلافات الظاهرية الكثيرة بين أشكال وأعمار النساء وبيئاتهن المحيطة، هو نُسخ لهيئات وأحداث تكررت وتتتكر على أرض لبنان، لا بل تلازم وتعمّق أثرا لا يزال يحدث حتى الآن.

صور لميا جريج تكاد تكون وسط هذا الحاضر المشحون بمآسيه وبتناقضاته إعلانا سافرا عن مأزق وجودي ولبناني بامتياز، يصعب الفكاك منه كلما طال الزمن وتجددت الحوادث الأليمة.

لأجل أن تبني فكرتها المتشعبة هذه كان عليها أن تصمم أدنى تفاصيل المشاهد المُصورة وأن توظف الضوء في خدمة التناقض القائم ما بين هدوء الأمكنة ودواخل البيوت من جهة، وشحنات الحزن “العادي” جدا في وجوه النساء.

نساء لم تغفل واحدة منهن عن التحديق في عين الناظر إليهن في محاولة مُترددة لعقد نوع من الحوار الصامت لن يفضي في حالتهن إلاّ إلى المزيد من الغموض، إنها صور عديدة لموقف واحد يجسد تماما ما قاله يوما المصور والناشط البيئي أنسل آدم “عندما تصبح الكلمات مُغلقة ولا تؤدي إلاّ إلى المزيد من الإبهام، سأتحول إلى لغة الصور الفوتوغرافية، وإن باتت هذه الصور غير قادرة هي الأخرى على النطق بصميم الأشياء، عندها سأنتقل إلى الصمت المطلق”.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.