جحيم دانتي في لوحة بوتيتشيلي

جحيم دانتي في لوحة بوتيتشيلي

2017-11-7م

بقيت الأصول اللغوية التي اُشتقت منها مفردة “كوميديا” مجهولة وغير معروفة الجذر اللغوي الذي إليه تعود، حيث يقال أنها اشتُقت من عبارة “كوموس أودي” الإغريقية والتي تعني “الغناء المرح والصاخب” وهناك من يجد أنها مشتقة من عبارة “كومي أودي” أي”الغناء القروي”، حتى أن الاختلاف لم يقع على المفردة فقط، بل وقع أيضا على معناها، فهناك من يقول أنه كل ما يُضحك الآخرين والجمهور، ويقول البعض الآخر أنه كل ما يُسعد الجمهور من خلال نهاية سعيدة لقصيدة أو حكاية مهما كانت الأحداث عكس ذلك، وعموما ظهرت “الكوميديا” في اليونان القديمة من خلال الأغاني الجماعية الصاخبة في القرى التي تحتفي بالخصوبة وبالإله “ديونيسوس”، ومن المعنى الذي يقول أنها –أي الكوميديا” هي كل ما يُسعد الجمهور من خلال نهاية سعيدة لقصيدة أو حكاية مهما كانت الأحداث، وضع”دانتي أليغري”-1265-1321- شاعر إيطاليا الأول وعرّاب لغتها، عنوانا لقصيدته الملحمية التي تنتهي نهاية سعيدة “الكوميديا الإلهية”، القصيدة التي بدأ “دانتي”بكتابتها عام 1308، تتألّف من 100 مقطع شعريّ تضمّ 14233 بيتاً، قُسمت إلى ثلاثة أقسام: الجحيم والمطهّر والفردوس. وفي تلك الأماكن قام “دانتي” بسياحة ملحمية في الآخرة من وجهة نظر العصور الوسطى-الجحيم في باطن الأرض-، وبقي يومين في الجحيم، وأربعة في المطهّر، ويوماً واحداً فقط في الجنة، وقد استوحى دانتي الكوميديا الإلهية من “أبو العلاء المعري” في رائعته “رسالة الغفران”-وفي اليومين الّلذين قضاهما في الجحيم في بداية رحلته، راح دانتي يصفُ لنا تفاصيل عذابات الخطاة هناك من خلال 4710 أبيات شعرية مع وصف رهيب التصوير لهذا المكان.
لكن فنانا تشكيليا إيطاليا وهو “ساندرو بوتيتشيلي”-1445-1510-قرر أن يحول هذا الوصف للجحيم إلى لوحة فنية، وحدث أن رسم تخيله للوصف الشعري عام 1485 بلوحة واحدة، أسماها “خارطة الجحيم”، ولأن الفكر الطبقي كان سائداً في ذلك العصر-كما في كل عصر-قسّم الفنان جحيمه طبقياً أيضا إلى تسعة أقسام أو تسع دوائر كما تظهر اللوحة، وكل دائرة منها مختصة بخطايا معينة من الأصغر إلى الأكبر. وهذه الدوائر هي على الشكل التالي: الدائرة الأولى العليا الّتي تُسمّى “الحد”، وهي أقرب دوائر الجحيم إلى الجنة، تخلو هذه الدائرة من العذاب، لكنها أيضاً تخلو من النعيم. ويصفها الشاعر بأنها تضم مروجاً خضراء تتوسطها قلعة ذات سبعة أبواب تمثّل الفضائل السبع. وفي هذه القلعة يسكن الحكماء والقادة الّذين لم يُعمّدوا على الطريقة المسيحية أو ما يدعوهم دانتي بـ “الوثنيين الأطهار”. ويلتقي دانتي في هذه الدائرة بأنبياء وفلاسفة وقادة أمثال ابن سينا وصلاح الدين وهوميروس، لكن الترجمات العربية للملحمة الشعرية، تحذف المقطع الّذي التقى فيه دانتي بنبي الإسلام “محمّد” وما دار بينهما من حوارٌ على لسان الشاعر طبعا.
بعد ذلك تبدأ دوائر الجحيم بمعاقبة الّذين ارتكبوا الخطايا، فالدائرة الثانية هي دائرة “الشهوة”، ويوجد فيها كل شخص انصاع لشهواته، ويلتقي فيها “دانتي”بشخصيات مثل كليوبترا وسميراميس وباريس الذي أشعل حرب طروادة، ثم الدائرة الثالثة التي هي دائرة “الشره”. وفيها يقبع كل من كان شرهاً ويلحق بطنه في الدنيا، ويحرس هذه الدائرة دودة ضخمة تُدعى “سيربيروس” تُجبر قاطنيها على التمدّد والنوم فوق القاذورات. ويلتقي “دانتي” هنا بشخصيّة تُدعى تشاكو الّذي يحدثه ويتنبأ له ببضعة تنبّؤات.
الدائرة الرابعة كانت دائرة “الجشع” وفيها يقبع كل من أراد كنز الثروات. وهذه الدائرة يحرسها “بلوتو” إله الثروات في الميثولوجيا التقليدية، الّذي استوحي من حاكم العالم السُفلي بلوتو الشهير. ويلتقي دانتي هنا بالعديد من الباباوات والكاردينالات الّذين فضلوا جمع الثروات خلال حياتهم، لتجيء بعدها الدائرة الخامسة، وهي دائرة “الغضب”، وهناك يشاهد دانتي من سمحوا للغضب بالتحكم بحياتهم. ويلتقي هناك بسياسي فلورنسي شهير يدعى “فيليبو أرغينتي” أيضا،وهذه الدائرة، يعبرها نهر “ستيكس” الشهير من الميثولوجيا الإغريقية الّذي يصل إلى عالم الأموات،ما جعلها دائرة مستنقعات رطبة لا تُطاق. وهنا يفصل نهر ستيكس بين دوائر الجحيم الخمس الأولى وبقية الدوائر الّتي تقع ضمن مدينة “ديس” الّتي يحرسها الملائكة الساقطون. وهي مدينة الخطايا التي لم يصل العقل أو الفلسفة إلى تفسيرها بعد.تليها الدائرة السادسة، دائرة “الهرطقة” ويقبع فيها كل من فسر الحياة بعيداً عن مبادئ “المسيحية” مثل أصحاب المذهب الأبيقوري المادي في الفلسفة، بعدها ينتقل “دانتي” إلى الدائرة “السابعة”، دائرة “العُنف”، وهي تتألّف من ثلاث حلقات بدورها،تضم الأولى من مارس العنف ضد الآخرين أو ممتلكاتهم، والثانية يقبع فيها المنتحرون الذين مارسوا العنف ضد أنفسهم، والثالثة تضمّ أولئك الّذين يُدمرون الطبيعة. أما في الدائرة الثامنة يقبع “الغشّاشون”، ولائحة هؤلاء طويلة إذ تضمّ المرتشين والمتملّقين والمنافقين واللصوص والسياسيين والمسؤولين الفاسدين وأصحاب الفتن-تخيلوا لو كانت موجودة فعلا كم كان فيها اليوم ممن سبق ذكرهم!؟- أما الدائرة الأخيرة التاسعة فهي دائرة “الخيانة” وتتألّف من أربع حلقات يقبع فيها في الجليد، كلّ من خان عائلته ووطنه ومن استأمنه ومن أحسن إليه، وفي هذه الدائرة أيضا نستطيع أن نتخيل كم ستكون ممتلئة بخونة الأوطان والأهل والعائلة والأصدقاء.
أما الشيطان فإنه قابع في مركز الجحيم، وقد تم ربطه بسلاسل الحديد يتعذب. ويظهر–الشيطان- في اللوحة تماماً كما صوره “دانتي” بثلاثة وجوه: أحمر وأصفر وأسود، يقول البعض أنّها ترمز إلى أجناس البشر. ويقول البعض أنّها ترمز إلى الثالوث المقدس.
من يقرأ الكوميديا الإلهية ويشاهد “خارطة الجحيم، يُمكنه الفهم أنّ الجحيم يبدأ من على سطح الأرض، وينتهي في مركزها. أيّ أننا نحن الآن في الجحيم بشكلٍ أو بآخر!.

تمّام علي بركات

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.