لنتذكر الفنان المتألق #فاهي_ شاهنيان.. مصور متحيز للبيئة والطبيعة ويعاني من فقر دم اسمه الوقت ..- أجرى اللقاء#فريد_ ظفور – من العاصمة السورية دمشق…

لا يتوفر وصف للصورة.

في مثل هذا اليوممنذ ‏٧‏ سنواتنشط

Fareed Zaffour

١٧ مارس ٢٠١٤ 

الفنان المتألق / فاهي شاهنيان/ مصور متحيز للبيئة والطبيعة ويعاني من فقر دم اسمه الوقت ….مثقف..عملي ونشيط ..يقدم مواضيعه بأناة وروية .يمكن إعتباره ممثلاً للمعاصرة ..أجرى الحوار مراسل مجلة فن التصوير اللبنانيةفريد ظفور – دمشقhttp://www.almooftah.com/wp-admin/post.php?post=4432…… عرض المزيد

لا يتوفر وصف للصورة.
لا يتوفر وصف للصورة.
قد تكون صورة لـ ‏شخص واحد‏
لا يتوفر وصف للصورة.

كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_يوسف Sabri Yousef ..في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..- من السؤال – 161 – إلى السؤال 170..

في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..

كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_يوسف Sabri Yousef ..في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..- من السؤال – 161 – إلى السؤال 170..

161. كيف تنظرُ إلى كلِّ هذه المستجدّات والتَّطوُّرات وإقلاق آلاف الأهل من الطَّرفين؟

أنظر إلى كلِّ هذه المواقف، وأتساءل بغصّةٍ حارقة: متى سنصبحُ بشراً كسائر البشر الحضاريين، ولماذا لا يحاورُ المرءُ ذاتَه بذاتِهِ قبل أن يقدمَ على أيِّ فعلٍ يؤذي نفسه قبل أن يؤذي غيره، ما الفائدة الَّتي حقَّقها هؤلاء الشّباب من فعلتهم ومن أيِّ فعلٍ من هذا النّمط؟ إنَّ أيّة مواجهة وعراك بين شابّين وفريقين ومجموعتَين وأسرتين وعشيرتَين هو عراكٌ أهوج وعقيمٌ، ولا فائدة من عراكات واشتباكات كهذه مهما تَكُن الأسباب؛ لهذا يجب قبلَ أن يقومَ أي طرف من هذه الأطراف بأيِّ فعلٍ عنفي من هذا النّوع، أن يطرحَ السُّؤال التَّالي على نفسه، ماذا أستفيد لو قمتُ وقمنا بكذا وكذا وكذا من أعمالٍ عنفيّة، وما هي النّتائج المترتّبة عليَّ وعلينا وعلى كلّ الأطراف؟ نجد أنَّ الجميع في موقع خاطئ وخاسر فيما إذا وقعت الاشتباكات؛ لأنّه سينجمُ بلا شك نتيجة التّعنّت النّاجم من الطّرف الأوَّل، ردّاً من الطَّرفِ الآخر كنوعٍ من الدِّفاعِ عن النَّفس، وهكذا ستتصاعدُ ردود الأفعال إلى أن تصلَ إلى نتائج كارثيّة في بعض الأحيان، لهذا أنظر إلى مواقف كهذه بكلِّ هدوءٍ وحكمةٍ قبلَ أن تقعَ وبعد أن تقعَ أيضاً؛ كي نعالجها من جذورِها بكلِّ رويّةٍ ورؤيةٍ رشيدةٍ وخلَّاقة قبل أن تستفحل وتعمَّ مساحات أكبر، وتصلَ إلى درجة اللَّاعودة؛ لهذا أؤكّدُ على ضرورةِ الحلولِ السّلميّة في مثلِ هذه الحالات، كما أنّ أيّة مشكلة في الدُّنيا ممكن حلّها منذ البداية من دون استخدام العنف والمواجهات والاشتباك باليد؛ لأنّنا نملك عقلاً؛ فلماذا لا نستخدمُ عقولنا بكلِّ حكمةٍ ورجاحةٍ؛ كي نحافظَ على رزانتنا وإنسانيّتنا ونعيشَ بكلِّ حبٍّ واحترامٍ وتقديرٍ فيما بيننا، ونقدِّمَ لبعضنا بعضاً كل ما فيه الخير والمحبّة والسَّلام لنا جميعاً؛ كي نعطي صورةً تليقُ بنا بوصفنا بشراً وأصدقاء وأهل ومعارف؛ ولكي لا تضحكُ علينا الأجيال القادمة، ولا يضحكُ علينا أيضاً حكماء ذلك الزّمان وكلّ الأزمان!

162. كيف أختفىقميصك الخمريّ المورّد والممزّق والمخضّب بدمك مع فانيلتك من المستشفى؟!

لا أعلمُ كيف اختفى، لكنِّي حقيقةً شعرتُ أثناء اختفاء قميصي وفانيلتي بأسى، ولا أعلم لماذا كان قميصي وفانيلتي المخضّبتَان بالدم تعنيان لي شيئاً مهمّاً عندما كنتُ في المستشفى؟ أعتقدأنّهماكانا دليلاً قاطعاً لإبراز حقِّي سواء في المحاكم المدنيّة أو العشائريّة لو تطلَّب الأمر إبرازهما، ويبدو أنّ شخصاً ما تسلَّل خلسةً أو علناً إلى غرفتي وأخفاهما بحذرٍ شديد، ويبدو أنَّ الَّذي أخفاهما ربّما لم يقصد بفعلته ضَرري، بل ربّما أرادَ أن يخفِّف عليَّ صدمة الحادثة الشَّنيعة كلّما أشاهدهما، خاصّة عندما رأى أنّني أميل إلى المصالحة إلى أبعد الحدود، ويبدو أيضاً أنّه وضع في الاعتبار أن لا يبقى دليلٌ قاطعٌ على مدى شراسة الهجوم الوحشي علي؛ لأنّ قميصي وفانيلتي كانتا مخضَّبتين بالدم بطريقة لا يمكن تصديقها، ومع كلِّ هذا، فلا أشعر بأيّ موقف غاضب منه الآن، ولا غضبتُ لاحقاً من الّذي أخفاهما، لكن لحظة وجدتهما مختفيتَين، شعرتُ أنَّ إحدى أهم الدَّلائل الَّتي كانت لصالحي للدفاع عن حقِّي قد اختفت، وأستطيع القول بشكل شبه دامغ: إنَّ العزيز أفرام/ سنحريب سارة هو الّذي أخفاهما؛ لأنَّ الَّذين زاروني كانوا أهلي، وأمَّا هو، فقد كان طرفاً حياديّاً، وهو الوحيد الَّذي شاهد القميص والفانيلة مخضَّبتين بالدم، حتّى أنّه قال لي: ضعْ قميصك وفانيلتك في الخزانة ولا تفكّر بالحادثة نهائيّاً، وحاول أن تنساهما، وفكّر بصحتك وبالمصالحة؛ كي ترتاح؛ ولهذا أشكره فيما إذا كان هو مَنْ أخفاهما؛ لأنّني فعلاً كنتُ بحاجة أن أنسى الحادثة من جذورها، حتّى وأنا في المستشفى، ولكنّي كنت أحتفظ بهما من باب الاحتياط كدلائل تثبت شراسة الهجوم؛ لإحقاق حقِّي عند الجهات الرِّسميّة والعشائريّة، ولحسن نيّة الَّذي أخفاهما لم أحتَجْهما على الإطلاق!

163. هل راودكَ أو تمنَّيتَ ولو للحظات أن ينتقمَ أهلكَ من الجناة؟!

سؤال سخيف للغاية، كيفَ خطرَ على بالكَ هذا السُّؤال، كيف سيراودني ولو للحظات رغبة أن ينتقمَ أهلي من الجناة، وطوال الوقت أفكِّر بالمصالحة وإغلاق الموضوع من جذورِه؟! لا، إطلاقاً، إطلاقاً إطلاقاً لم يراودني، بالعكس تماماً، كنتُ أريدُ تهدئةَ الأمور، وساهمتُ كثيراً بتهدئة الأوضاع، وقد جاءني زائر حيادي يخصُّهم بصيغةٍ ما ويخصُّني، فقلتُ له: حبذا لو تبلّغ الأطراف المهمّة من أهلِ الجناة؛ كي يتوارى الشَّباب الّذين لهم علاقة بالمشاجرة عن الأنظار كلِّياً؛ تفادياً لأي اشتباكٍ ممكن أن يقع؛ لأنّه لو وقعَ أي اشتباك ضمن الظّروف الَّتي كنَّا نمرُّ بها آنذاك؛ لوقعَ الكثير من الضّحايا؛ ولهذا كنتُ أحرصُ كلَّ الحرص أن أجنّبَ الطّرفيَن من أي تصادم، وخبّرْتُ الشّخصَ الحيادي بأن يبلّغهم هذا الأمر ليس على لساني؛ لئلا يظنُّوا أنّني أصرّحُ هذا الكلام من بابِ الخوف، بل كنتُ أقوله من بابِ إغلاق المشكلة عند هذا الحدّ؛ كي لا تتوسّع أكثر، وكنتُ أتمنّى أن أكونَ فقط أنا الضَّحيّة ولا أريد ضحايا أخرى؛ كي نغلقَ الموضوع؛ خاصَّة أنَّ الطَّرف المتصارع معنا، الشَّباب هم من معارفناوتربطنا ببعضهم علاقةطيّبة، ولهم مكانة خاصّة عندي، وهناك تداخل في المصاهرات؛ لهذا كلّ توجّهي تركّز على لملمة الموضوع وحلّه عبر وجهاء من الطّرفين؛ لأنَّ المصالحة هي لصالح الجميع!

164. ماذا كان موقف أهالي الشُّبان الَّذين تشاجروا معكم بعد أن تأزّمت الأمور للغاية من جديد؟

خيّمَ حزنٌ عميق فوقَ ربوع ديريك، حتَّى أنَّ أغلب أهل الشُّبَّان آلمهم ما آلتْ إليه الأمور من مستجدَّات وخيمة، وكان أهل الشّبان ضدّ تصرّف أبنائهم الشَّباب؛ لأنّ نتائج المشاجرة أدّت إلى مواقف ومتاهات لا تُحمد عقباها، إضافةً إلى أنّهم رأوا أنَّ المشاجرة من أساسها لا معنى لها نهائيّاً، خاصّة فيما يخصُّني أنا، فقالوا: نريد فقط موقفاً واحد أخطأ فيه الأستاذ صبري؛ كي يتعرّضَ السَّادة أولادنا له بهذا الشَّكلِ المُشين؛ لهذا تعاطفوا معي تعاطفاً عميقاً، وصبّتْ رؤاهم في كلِّ تطلُّعاتي فيما يخصُّ المصالحة، وكانوا يميلون جدّاً للمصالحة وإعادة اعتباري بأيِّ اقتراحٍ منِّي أو من أهلي نقترحه عليهم، وقد  وصلني مِنْ أكثر من مصدر أنّهم لن يرفضوا لنا طلباً فيما إذا عرضناه عليهم بخصوص المصالحة! كما أنّهم قدّموا الرّغبة القويّة والنّيّة الطّيّبة للتواصل مع أهلي، وكل هذا أسهم في تهدئة الأوضاع تمهيداً للحل النِّهائي، وكان للعم المختار حنا اصطيفو دورٌ مهمٌّ في تهدئة الأوضاع، وكنّا نعدُّهُ المرجع الأعلى للعشيرة للتشاور في قضايا حسّاسة كهذه، كما كان للعم بهنان سارة الدَّور الأكبر في التَّواصل مع الأطراف الأخرى ومعي ومع أهلي؛ لوضع النّقاط على الحروف، كما سنراها في سياق إجاباتي القادمة على ملفّات هذا الحوار العميق مع الذّات!

165. راودكَ آنذاك أكثر من مرّة أن تكتبَ عملاً روائيّاً حول هذه الأحداث، لماذا أقعلتَ عن الفكرة؟

أجل راودني فعلاً أكثر من مرّة أن أكتبَ هذه الأحداث في سياقِ عملٍ روائي آنذاك، لكنّي لم أترجم ما راودني على أرضِ الواقع لعدّة أسباب ولعدّةِ اعتبارات: أولاً ما كانت تجربتي الأدبيّة والفنّية تخوِّلني لكتابةِ عملٍ روائي؛ لأنَّ تجربتي ما كانت ناضجة إلى الحدِّ الّذي يجعلني أخوضَ تجربة أدبيّة من هذا النَّوع؛ لأنّني كنتُ في بداية مشواري الأدبي، أحبو بهدوء شديد نحو آفاق عوالم الكلمة الخلّاقة، فما كنتُ أمتلك الأدوات الفنِّيّة واللُّغويّة والإبداعيّة لبناء سرد روائي من جهة، ومن جهة ثانية فقد طلب منّي بموانة وحميميّة عميقة الأستاذ الصّديق سمعان بهنان سارةالإقلاع عن فكرة كتابة هذه الأحداث عملاً روائيّاً؛ لما فيها من حساسيّة تجعل من كتابتها الكثير من الحساسيّة للكثير من الأطراف؛ ولهذا قرّرت الإقلاع كلّياً عن كتابة فضاءات هذه الأحداث عملاً روائيّاً حتَّى ولو نضجت أدواتي الأدبية والفنّيّة في مستقبل الأيام؛ نزولاً عند رغبة وطلب الأستاذ الصّديق سمعان بهنان؛ لما كان له عندي من احترامٍ عميقٍ وما يزال، حيث تربطني به علاقة وطيدة، من جهة مصاهرة تتعلّق بأخي نعيم؛ لأنّه صهر الأستاذ سمعان، وفيالوقت نفسه هو أي الأستاذ سمعان صهر أحد الأطراف الأخرى، وحالما وافقت على طلبه وحقَّقت له رغبته؛ عانقني قائلاً: أنت إنسان عظيم، وستبقى عظيماً، وهكذا أقعلت من يومها عن فكرة كتابتها، ولكن حقيقة الأمر ظلّت فضاءاتها تراودني وتدغدغ مخيالي كمادّة دسمة لكتابتها عملاً روائيّاً في مرحلة اغترابي؛ لما فيها من مجالات سرديّة شاهقة، ومع هذا أقلعت عن الفكرة كلّياً؛ تأكيداً منّي على الوعد الَّذي قطعته مع الأستاذ الصّديق سمعان بهنان، وربّما سائل يتساءَل: لكنَّكَ عدْتَ من جديد وكتبتَ أغلب الأحداث في سياقِ حوارٍ معَ الذّات، وكأنّ هذه التَّساؤلات هي فصول من عمل روائي ضمن هذا الحوار المفتوح على تجربتك الفسيحة في الحياة؟! لا، هذا ليس عملاً روائيّاً، وإن تشابه في الكثير من منعطفاته مع السَّرد الرِّوائي؛ لأنَّني لم أكتب النّص مستقّلاً، ولم أتوقّفت عند النّص بهدف نبش الماضي وصياغة نص روائي أو أدبي منه، بل كل هدفي هو محاورة هذه الذَّات بما تراهُ هامّاً ومفيداً كتجارب مررتُ بها؛ كي أقدّم رحيق مغزاها ومضمونها للأجيال القادمة والقرّاء والقارئات؛ لأنّنا نحن البشر نمرُّ بألفِ تجربةٍ وتجربة، ونادراً ما يستفيد البشر من تجاربهم، ويقعون في الخطأ نفسه مرّةً ومرّتين وثلاث مرّات وأكثر بكثير؛ لهذا، أحببتُ أن أدرجَ هذه المنعطفات المهمَّةَ في حياتي؛ كي أقدِّمها ضمن محاورة الذّات؛ كي أستفيد من هذه التجربة الحياتيّة إبداعيّاً وعمليّاً من خلال إدراج الكثير من الأهداف والأفكار والمعاني الّتي ممكن أن نسترشد منها مغزىً عميقاً، ويستفيدُ منها غيري أيضاً، ممّن يتابعونني؛ لعلّهم يأخذون منها عِبرة ومغزىً وهدفاً وحكمةً وتجربةً بصيغةٍ ما، وأجمل ما في هذه الأحداث من حواري مع الذّات، أنّني مررتُ في أكثر من محور من محاور الأسئلة في مواقف بديعة ومدهشة ومفاجئة كأنّها حصلت اليوم من حيث تدفُّقات وهجِ المشاعر، حيث كنتُ أكتبُ الإجابات بانسيابيّة رهيفة وبشهيّة عميقة وأنا غارق في البكاء وأجهشُ بطريقةٍ عجيبة، وكنتُ أشعر أثناء هذه اللّحظات بتفريغ طاقاتي الحنينيّة والحزنيّة بآنٍ واحد، وكنتُ أشعرُ براحةٍ عميقةٍ حتّى وأنا أنهمرُ بكاءً، ولكي لا يفوتني تجسيد هذه الحالات المشاعريّة بعد ساعاتٍ من البكاء المتقطّع المتواصل، خطرَ على بالي التقاط العديد من الصُّور وأنا في أوج شهقاتِ البكاء، وعندما شاهدتُ اللّقطات؛ اندهشت لهذا التّفاعل الحقيقي وسرّني أن أحوز على صور كهذه في آرشيفي الشَّخصي، وتبيَّنَ لي تماماً كما سبق وقلتُ مراراً أنَّ: الكتابةَ هي محرقةُ الكاتب؛ كي تصفِّي آخر ما تبقّى لديه من شوائبِ الحياةِ العالقة بين منكبيه؛ والمتناثرة فوقَ أجنحته وهو في أوج تجلّياته؛ لهذا أراني شغوفاً بكتابة أحزاني وتجاربي في الحياة مهما تكُنْ مريرةً؛ لأنّها رحيق الكتابة الأبقى على وجنةِ الحياة، وهي تمنحني طاقات انسيابيَّة عميقة في تجلِّيات بوح الحرف، وهنا أودُّ أن أشكرَ الأستاذ سمعان مرّةً ومرّتين وثلاث مرَّات؛ لأنّه أقنعني في ذلك الحين أن أقلعَ عن كتابةِ عملٍ روائي عن هذهِ الأحداث، ولو كتبتُ روايةً من وحي تلك الأحداث في ذلك الحين وأنا في كلِّ ذلك الحماس؛ لارتكبتُ فجاجةً أدبيّةً تدمغُ تجربتي الكتابيّة بالرّكاكةِ والضّعفِ إلى حدٍّ بعيد؛ لأنّ التّجربة كانت أكبر من أن أكتبها آنذاك نصَّاً روائيّاً؛ لما فيها من مساحات سرديّة عميقة لا يمكن سبرغورها وترجمتها إبداعيَّاً في ذلك الحين وأنا في بداياتي؛ لهذا أراني تمكّنت أن أمسك الكثير من الخيوط الآن وبتقنياتٍ جيّدة، مع أنّني أرى بعض النُّصوص، جاء بين متونها سردٌ بسيطٌ وبعضها الآخر جاء بلغة إنشائيّة وصفيّة لا تحلِّق عالياً، ولا ترقى إلى اللُّغة الَّتي أهدف إليها في سياق الحوار مع الذّات، لكنّي أودُّ أنْ أشيرَ للقارئ العزيز والقارئة العزيزة أنَّ هناك منعطفات وبعض الأحداث والمواقف لا تساعد على منح الكاتب مجالاً لتحليقاتٍ وتدفُّقاتٍ إبداعيّة شاهقة، خاصّة عندما يتطلَّب من الكاتب أن يتحدّثَ بنوعٍ من الواقعيّة، أو يترجمُ أحداثاً واقعيّة؛ فإنَّ كتابة أحداث من هذا النَّوع لا تمنح الكاتب مساحات عميقة للتجلِّيات الإبداعيّة؛ ولهذا لا أجدني محلِّقاً في الإجابات الّتي تحمل بُعداً مباشراً؛ ولهذا أيضاً أراني أشطح أحياناً كثيرة نحو فضاءات التَّدفُّق، تاركاً خيوط وقائع الحياة كخيوطٍ منسابة لإشراقاتِ جموح الخيال؛ كي أصيغَ منها انبعاثات إبداعيّة خلّاقة؛ لامتاعِ القارئ من جهة؛ ولترجمة ما ينبعثُ من آفاقِ بوحِ الخيال المعرّش في بهاءِ أحداثِ وقائعِ الحياة الّتي نستوحي منها أشهى أبجديّات الإبداع من جهةٍ أخرى!

166. لماذا أراكَ منحازاً دائماً نحو المسامحة والمحبّة والسَّلام والصّلح؟!

لأنَّ هذه المفاهيم هي عين الحكمة في الحياة، هي الحياة بعينها، لا أستطيع أن أرى جمال الحياة من دون المسامحة والمحبّة والسَّلام، هي جوهر شعاري في الحياة؛ لأنَّ هذه المفاهيم تمنحني فرحاً عميقاً، وتجعلني مرتاح البال وتبعدُ عنِّي كل منغّصات الحياة؛ لأنّني أستمدُّ منها حلَّاً لكلِّ مشاكلي وهمومي في الحياة، وتزرعُ في نفسي وروحي وقلبي وكياني الأمل وكلّ ما له علاقة في اخضرارِ الحياة، أرى أيَّام عمري مخضوضرة على مدى كلِّ الفصول؛ لهذا أراني مجنّحاً نحوَ هذه العوالم، ويبدو أنّني تشرّبتُ هذه المفاهيم من خلالِ انغماسي منذُ الطُّفولة في روعة الطَّبيعة وبهاءِ سهولِ القمحِ وأنا أسوحُ بينَ رحابِها أحضنُ السّنابل الممتدّة على مدى البصر، إلى أن غدا قلبي مشبّعاً بخيراتِ الحنطة واخضرارِ الكرومِ وأريجِ الأرضِ. ولأبي الفضل الأكبر في زرعِ هذه المفاهيم في كياني من خلال تشرُّبي من عوالمه الطَّيّبة وعناقه العميق للطبيعة والحياة والفرح والفكاهة والعمل واحترام الإنسان وحقوقه، وهكذا ترعرعتُ في بيئة فلّاحيّة بسيطة غير مكترثة إلَّا للحقِّ، فلم أجد يوماً والدي منحازاً إلَّا للحقِّ وإنصاف الآخر، ولم أرَه يوماً يقفُ في وجهِ أحدٍ إلّا من منطلقِ الحقِّ، وهكذا كبرَ ذلك الطّفل وظلَّ يحملُ بينَ معالمه ورؤاه أبجديَّات السَّلام والمحبّة والمسامحة، وأصبحتْ هذه المفاهيم جزءاً لا يتجزَّأ من شخصيَّتي ومرامي أهدافي في الحياة!

167. هل زاركَ أبو سمعان بالمستشفى وأقنعك بالمصالحة عبر الأستاذ جرجس بهنان أبو حيّان؟

نعم زارني أبو سمعان؛ العم بهنان سارة، واطمَأَنَّ على صحّتي، كم كانَ حزيناً ومصدوماً لكلِّ هذه النّتائج الّتي تصاعدت، وآلمه الخبر المأساوي الَّذي تلقّاه كسائر الأحبّة في ديريك، وكم بدا سعيداً عندما تلقَّى خبراً ينفي ما سمعه أوَّلاً، جاءني بوجهه المشرق أملاً وتفاؤلاً وخيراً، يحملُ بين آفاقه رفرفات أجنحة الحمام، وبعد دردشة ودّيّة عميقة، حكينا على أيام التّدريس، وعلى المراحل الّتي قطعناها فيما يخصُّ أخي نعيم وكريمته الوحيدة شموني، ثمَّ قال لي: جئتُ كي أطمَئِنَّ على صحّتكَ أوّلاً، وأقترح عليكَ موضوع المصالحة، ابتسمتُ له قائلاً: طلبُكَ مستجاب بكلِّ سرور، أصلاً كنتُ يا صديقي أبحثُ عن خيوط المصالحة عبركَ؛ بحيث نصل إلى الأهداف المرجوّة؛ كي نضعَ حدّاً لكلِّ هذه الشَّوشرات والمتاهات الّتي دخلنا فيها، مؤكِّداً له: أنّه لا داعي لتضخيم الأمور أكثر ممّا تضخّمت، وأحببتُ بكلِّ ما لدي من رغبة في المصالحة أن أحقِّقَ فكرة العم بهنان؛ لأنَّها كانت تتواءم مع توجّهاتي فعلاً، فتلاقت النِّيّات والأهداف بكلِّ صفاءٍ، ونظرتُ إلى كلّ ما حصل، نظرة عميقة وشاملة من كافّة الجوانب، فلم أجد أجدى من المصالحة والمسامحة، وفكّرتُ أيضاً بوضع حدٍّ لوضعِ الشَّباب الفارّين، وقلق أهلهم عليهم، وتفاقمات وضع أهلي وخاصّة والدي ووالدتي، وإخوتي وأخواتي وأولاد عمّي، وشعرتُ بأسى وحزنٍ كبير على ديريك برمّتها، ووجدتُ من الضُّروري جدَّاً أن أحسم الموقف بدونِ أي ترَدُّدٍ، وتوسّمت باقتراح أبي سمعان؛ لما فيه من دراسة دقيقة وفكرة صائبة في كيفيّة تقريب وجهات النَّظر من كلِّ الجهات! كم فَرَحَ أبو سمعان من ردودي الإيجابيّة وتطابق رؤاي مع رؤاه، وقال لي: اختصرتَ عنِّي الطَّريق؛ كي أقنعكَ بالمصالحة؛ لأنّك فعلاً تعرضُ عليّ ما كنتُ أنوي قوله، نيّاتنا صافية يا أستاذ صبري، صحيح كل ما تقوله؛ وإلَّا لماذا تُقدّمُ لنا ابنتك الوحيدة الجميلة عروساً لأخي؟ ضحك أبو سمعان وقال: فعلاً يا أستاذ، لو لم أتوسُّم فيكَ كلّ هذا الخير والحكمة ورجاحة العقل المنفتح؛ لما قصدتكَ بمهمّة كبيرة كهذه، لا تستغرب لو قلتُ لكَ يا أبا سمعان: أنّني كنتُ أنتظركَ لهذا الموضوع بالذّات، وها قد جئتُ أقترحُ عليكَ أن تكونَ المصالحة عن طريق الأستاذ جرجس بهنان أبو حيّان، بصفته مدير الإعداديّة الَّتي كنتَ تشتغلُ فيها، وقد أعدَّ الأستاذ جورج نفسه طرفاً مباشراً للقيام بهذه المصالحة التَّاريخيّة. وافقتُ برحابةِ صدر على اقتراحه وتخريجي من المستشفى؛ لأنّه ليس من المعقول أن تتصاعد الأمور بين أسرتين كبيرتين تربطهما الكثير من وشائج المحبّة والقرابة والاحترام والصّداقة منذ أن ترعرع آباؤنا وأجدادنا في آزخ وقراها، ثمّ هاجروا إلى ديريك، فنحن أبَّاً عن جد ننتمي إلى فروع متقاربة ومتعانقة في الكثير من المشارب والمناهل، وديريك هي أمّنا الرّؤوم ومنبع فرحنا وخيرنا، لهذا بدأتُ أعدُّ نفسي للقيام بهذه المهمّة، موجّهاً أنظاري نحو ديريك؛ كي ننثرَ بعد المصالحة فوقَ سمائها أزاهير المحبّة والسَّلام؛ وكي تحلِّقَ حمائمُ بيتنا العتيق فوقَ سماءِ ديريك، وترتسم البسمة على وجه أمِّي وأبي وسائر الأهل من كلّ الأطراف!  

168. هل التقيتَ مع الأستاذ جرجس بهنان أبو حيان أثناء عودتك لديريك قبلَ اللِّقاءِ بأهلِكَ؟

أجل، التقيتُ بالأستاذ جرجس بهنان قبل أن ألتقي بأهلي؛ كي أستطيع الاتِّفاق معه على صيغة نهائيّة للمصالحة، ولكن قبل أن أدخل في تفاصيل لقائي به، أودُّ الوقوف عند موضوع تخريجي من المستشفى، سرّني جدَّاً اللِّقاء بالعم بهنان سارة وقلت له: برأيي أن أقوم بترتيبات تخريجي من المستشفى اليوم، واللِّقاء مع الأستاذ جورج اليوم أيضاً؛ كي نضعَ النّقاط على الحروف دفعةً واحدة، ونستغل الوقت؛ لئلّا يصادفنا مستجدَّات معيّنة أو مفاجآت غير متوقّعة تحبط فكرتنا وتعيدنا إلى مربّعات جديدة تبعدنا عمّا نحن بصدده، أعجبه طرحي وقال: رائع لو تفكّر بهذه الطَّريقة وبهذه السُّرعة، ويستحسن أن نلتقي بالأستاذ جورج معاً، فسرّه اقتراحي، دقّيت جرس التَّنبيه من غرفتي فحضرتْ ممرِّضة وهي تنتظر طلبي، نعم أستاذ، يلزمك خدمة معيّنة؟! أيوه يلزمني، يا ريت لو تخبّري الدَّكتورة إيليزابيت أنّني أريد استشارتها بموضوع مهم، فقالت: حاضرة، سأخبُّرها حالاً، كنتُ قد حصلت على تقرير طبِّي ثانٍ منذ قرابة أسبوع، وحاولت أن أحضّر نفسي لتخريجي من المستشفى؛ كي نعود أنا وأبو سمعان معاً؛ وكي أفاجئ الأهل أيضاً، تفادياً من تشويش فكرتي أو تلقِّي اقتراحات أخرى تتعارض مع توجُّهاتي؛ لأنِّي أحببتُ اختصار الطَّريق الّذي أشتغل عليه في إنهاء المشكلة بعيداً عن القال والقيل، أيوه أستاذ، طلبتني، نعم عزيزتي الدّكتورة طلبتكُ، سلّمَتْ على أبي سمعان، طلباتك أستاذ؟ دكتورة إيلي، أرى الآن أنّني جاهز تماماً لتخريجي من المستشفى، خاصّة أنّ أحد أهم الأقرباء والأصحاب زارني اليوم، وهو أبو سمعان الغالي؛ لهذا أريد أن أرتّب أوراق تخريجي، وأريد أن تشرفي أنت على إعداد وتجهيز هذا الأمر، فقالت: هل تشعر أنّك بصحّة جيّدة وجاهز لمتابعة النّقاهة والاستراحة في المنزل؟ نعم أشعر بأنّني جاهز، خاصّة أنَّ جرح عيني وأورام وجهي قد شفيت، وجرح رأسي قد التأم أيضاً، والأوجاع أيضاً قد خفّت، وممكن أن تقوموا بفحوصات عامّة لجسمي زيادةً في الاطمئنان، وبعدها سأودّعكم مع أنّني سأفتقدكِ، ولن أنسى يوم قلتِ لي لو احتجتَ للمعالجة في مشافي حلب أو دمشق فأنا سأتبنّى ترتيبات المصاريف لهذا العلاج فلا تقلق، نظرتْ إلي وقالت: أستاذ صبري، حقيقةً أحببتُكَ وأعجبتني شخصيّتك وطريقة تفكيرك ومتابعاتك الحازمة والحاسمة نحو فضاء المصالحة، وأنا متأكدة أنّك ستنجح في حياتك؛ لأنّك إنسان واعٍ وإيجابي، تنظر إلى الحياة بشكلٍ عملي ودائماً رؤيتك قائمة على نشر الخير والمحبّة وتحقيق الوئام بين كلِّ الأطراف الَّتي تتعامل معها، ومسامح جدّاً، ابتسمتُ للدكتورة وقلت لها: شكراً لكِ ولكلِّ ما قدَّمتيه لي من مساعدة ومواقف طيّبة، ورعاية واهتمام، أترككِ الآن لإعدادِ أوراق تخريجي، ولو عندكِ أي اقتراح ممكن أن أسمعكِ بكلِّ سرور، نظرَ أبو سمعان إليها وهي تخرج وقال: لاحظتُ أنَّ هناك علاقة طيّبة تربطك مع الدّكتورة، طبعاً ألا تعرف مرونة شخصيّتي كيف أتعامل بكلِّ طيبة ومحبّة مع النّاس المشاكسين في بعض الأحيان، فكيف سيكون تعاملي مع الطّيبين؟ لا أنظر إلّا من منظور الخير وإلّا سيتعذَّب المرء في حياته، بعد قليل جاءت الدّكتورة وقالت: معاون رئيس المستشفى أبدى استعداده لتخريجك وقال: يفضّل إجراء فحوصات عامّة للأستاذ، وبعدها نزوِّده بأوراق تخريجه، وقد سبق وزوّدناه بتقرير طبّي ثانٍ، ويستطيع الأستاذ مراجعتنا متى ما يشاء بعد تخريجه، كانت الفحوصات جيّدة، وتخوّلني أن أكون خارج أسوار المستشفى، جاءت الممرِّضة وقدّمت إليّ أوراق تخريجي، كنتُ جاهزاً لتوديعهم، نظرتُ إلى الممرِّضات الحاضرات وكأنّهنّ بصدد توديع أحد أقربائهم، ونظرتُ إلى الدّكتورة العزيزة إيلي وإذ بها تقول: تعرف يا أستاذ سنفتقدكَ كثيراً، أمانة عليك كلّما تمرُّ على القامشلي، مرّ علينا للاطمئنان عليك، كان الوداع حميميَّاً، والعناق كان عميقاً كمَنْ يودِّع أفراد أسرته، اندهش أبو سمعان لهذه العلاقة الطّيّبة الَّتي ربطتني بكلِّ هؤلاء، جاء معاون رئيس المستشفى وودّعني أيضاً، راجياً لي التّوفيق والصّحّة، كان الكراج في الانتظار، حجزنا راكبين من المقعد الأمامي، أهلاً بالأستاذ صبري قال السَّائق، ألف الحمد لله على سلامتك! تفضَّل يا أخي، أعوذ بالله ولا فلس تدفع، ما صدّقنا شفناك بخير وسلامة! ما يسير يا أخي، بلى يسير هذه هديّة تخرُّجك من المستشفى معافى! هنّأني بقيّة الرّكاب، بعد قليل انطلق السّائق موجّهاً أنظاره نحو ربوع ديريك؛ كي نضع النِّقاط الأخيرة على الحروف لكلّ هذه التّشابكات الَّتي حصلت، شردتُ في الطَّريق وبدأتُ أسبحُ في عوالم خيالي، دائماً منذ أن كنتُ صغيراً وحتّى تاريخه عندما أسافر بأيَّةِ واسطة سفر لو لم يتخلَّل السَّفر دردشات جانبيّة، سرعان ما أحلِّق في أحلامي وخيالي، فيما كنتُ في أوجِ شرودي، وإذ بالسَّائق يقول لي: أستاذ ما بدّك تسمع موسيقى معيّنة، أنتَ والشَّباب، فقلتُ: على راحتك وراحة الشَّباب، ممكن نسمع لو أنتم ترغبون أن نسمعَ معاً، فقال الركاب يا ريت لو نسمع بعض الأغاني، وضع شريط كاسيت من الأغاني الشَّعبيّة الدَّارجة، وبدأنا نسمع الموسيقى، لكنّي مع هذا شقّيت طريقي سارحاً في عوالم أحلامي، أتخيّل نفسي أتمشّى في شارع المشوار مع الأهل والأصدقاء، أمتلكُ طاقات عجيبة في التّخيّل أثناء السَّفر في مثل هذه الأحوال، وصلنا إلى ديريك بحدود الرَّابعة عصراً، توجّهنا إلى بيت الأستاذ جورج من دون أيِّ موعد مسبق معه، ولا نعلم فيما إذا هو بالمنزل أم لا، وفيما كنّا على مقربة من المركز الثّقافي، وإذ بأحدهم في البلكون فقال أبو سمعان: بالتَّأكيد، هذا هو أبو حيّان، اقتربنا أكثر، وإذ بالأستاذ جورج ينظر نحونا، وعندما اقتربنا وأصبحنا عند مدخل المنزل، وقف وقال: الأستاذ صبري في ديارنا؟ ثمَّ سلّم عليّ بحرارة: ألف الحمد لله على سلامتك، نظر إليَّ وابتسم، وقال: ما شاء الله مثل الوردة، تقدر تداوم على هذه الحالة غداً بالمدرسة، فضحكنا. سمعَتْ أم حيّان صوتنا من المطبخ، فخرجت والبسمة على وجهها وسلّمت علي وهنَّأتني بالسَّلامة، ثمَّ قالت: مفاجأة رائعة، جلسنا في غرفة الصّالون؛ لئلا يرانا أحدهم في البلكون، وأحببتُ أن يكون الحديث في الدّاخل، قال أبو سمعان: أستاذ جورج شرحت للأستاذ صبري فكرتك حول المصالحة ووافق مبدئيّاً على أن تتمَّ المصالحة عن طريقكَ، ولكن له شروطه في المصالحة، فقال لي: ماهي شروطك؟ فقلت له: شروطي بسيطة، ما هي هذه الشّروط البسيطة؟ بعد أن نقوم بالتّنسيقات النّهائيّة للمصالحة مع الطَّرفين، أريد أن يتشكّل وفد من الطّرف الآخر، ويتقدّم هذا الوفد بزيارة أهلي برفقة أولادهم الشّباب الفارّين، ويقدّموا اعتذارهم بحضور وفد كبير من أهلي أيضاً بما فيهم العم حنا اصطيفو وأنت تكون الطّرف المباشر في المصالحة وبحضور أبي سمعان أيضاً، شروطي هي: تقديم الاعتذار، وإعادة اعتباري، وتبنّي دفع كافّة مصاريف المستشفى مع التّعويض المادّي والاعتبار المعنوي، نظر إليَّ الأستاذ جورج وقال: لا أعلم ما هو دوري في هذه الحالة في المصالحة؟ ضحكتُ وقلتُ: هذا اقتراح من أبي سمعان وبالتّنسيق معك، ردَّ الأستاذ جورج قائلاً: قصدي أنتَ وضعتَ كلّ الحلول ببساطة ومن دون أي تعقيد وهم موافقون على كلّ هذه الشُّروط مسبقاً، ممتاز، إذاً كل الأطراف مهيَّأة وجاهزة للقاء. ثمَّ سألني الأستاذ جورج ولكن هل تستطيع أن تفرض هذا العرض على أهلك وعلى أخيك سليمان تحديداً؛ لأنّه سبق ولم يوافق على محاولة مصالحة من قبل الأستاذ نعيم زيتون؟ فقلت له: الآن الوضع تغيَّر؛ لأنّه سيراني وجهاً لوجه، آنذاك قال ما قاله، لأنّه كان ما يزال قلقاً عليّ، وأمَّا الآن عندما يراني بالأحضان؛ سيوافق على كلّ عروضي وشروطي، فقالت أم حيّان: معه الحق أستاذ صبري في تحليله، وقتها لم يوافق أخوه سليمان؛ لأنّه ما كان مطمئنَّاً على صحّته بعد، وأمّا الآن فالوضع تغيّر وكلّ شيء على ما يرام من كلِّ الجهات! جيّد، قال أبو حيّان، قدّمتْ أم حيّان القهوة، شربنا القهوة، ثمّ ودّعناهم، ووجّهت أنظاري نحو بيتنا في انتظار العناقات العميقة للأهل وفرحة أبي وتهلهيلة أمّي وهي تزغرد فوق رأسي بعودتي بكامل عافيتي إلى أحضانِ الأحبّة كلَّ الأحبّة!   

169. كيف استقبلكَ الأهل والجيران وماذا كانت ردود فعلهم وهم يرونك تدخل حوشكم الكبير؟ 

كان يوماً بهيجاً في حياتي، بعد أن ودّعنا الأستاذ جورج، قلتُ لأبي سمعان: إنَّني أريد أن أذهب إلى البيتِ وحدي دون أن يرافقني؛ كي لا يلاحظَ الأهل أنَّ هناك ترتيبات معيّنة من جانبه؛ ولكي يكون اللّقاء بي هو المهم كخطوة أولى، ثمَّ سأناقش بكلِّ هدوء الخطوة الثَّانية الَّتي صغناها معاً بكلّ تفاصيلها، فتقبّل فكرتي، وقلت له: تستطيعون أنتم غداً أن تقوموا بزيارة أهلي وتقدِّموا التّهاني بمناسبة قدومي بالسَّلامة، ثمَّ ذهبْتُ من الطّريق الفرعي، فتوجّهتُ نحو بيادرنا القديمة من الجهة الغربيّة لبيتنا ودخلت الأزقة الّتي تقودني إلى البيت، وإذ بأحد أطفال الحي يشاهدني، فلفتُّ انتباهه وقال لي: بالكرديّة الحمد لله على السَّلامة أستاذ، وبدأ يركض نحو بيتنا؛ كي يبشِّر أهلي؛ ويأخذ مكافأةً على تبشيرهم بقدومي وأنا في كامل الصّحّة أسير على قدمي، بعد قليل سمعت صوتَ تهلهيلةِ أمِّي تصدحُ عالياً، فكانت إيذاناً بقدومي وحلول الخير في ديارنا، وفيما كنتُ أدخلُ الزّقاقَ المؤدّي إلى بيتي، وإذ بالنّساءِ والرّجالِ والأطفال والشّبان يخرجون من بيوتهم ويتوافدون نحوَ بيتنا، دخلتُ الزّقاق المطلّ على بيتنا وعشرات النّسوة والرِّجال والشّباب والبنات في الشّارع في انتظارِ استقبالي، حالما وجدتني أمِّي هَلْهَلَتْ تهلهيلتها من جديد بصوتها الصّافي وهي في أوجِ فرحِها، وهَلهلتْ بعدها نساءُ الحارّة وأخواتي، كانت إشراقة الفرح مرتسمةً على عيونِ أمِّي، ارتميتُ بين أحضانها وأنا أبكي من توهّجات فرحي وشوقي وحنيني، شعرتُ آنذاك أنّني أمتلك الكون، فرحي ما كان يعادله فرحٌ آخر، دخلتُ المنزل وأنا أحضن أمِّي بساعدي اليمين، وإذ بأبي يرفع يديه للسماء قائلاً: أشكرك يارب رجّعتَ ابني إلينا بالخير والسَّلامة، وهو في أوجِ فرحه، تقدّم نحوي بكوفيّته وعقاله وشرواله ورائحة الأرض تعبق من منكبيه، وبدأ يقبِّلني ويعانقني وأنا أقبِّله بكلِّ بهجةٍ، وكهولته وبشاشته تموجُ ألقاً بين أحضاني، كانت يدي اليمنى تحضن أمِّي واليسرى تعانقُ أبي، أصبحت في وسطهما وأنا في أوجِ فرحي كأنّني أطيرُ في فضاءِ السَّماءِ، كانت النُّسوة تهلهلُ تهاليلهنَّ ومنهنّ يبكين من بهجةِ اللّقاء، جاء الطّفل الَّذي بشّر أمّي ونظرَ إليّ وقال: أستاذ أنا بشّرتُ أمّك والبسمة مرتسمة على وجهه؛ ينتظر مكافأةً لبشارته، فوضعتُ يدي في جيبي وأعطيته كل ما كان في جيبي، أمسك الطّفل مكافأته بكلِّ فرحٍ ورفع يديه بكلِّ براءته وقال: الله يخلِّي الأستاذ صبري، قبَّلته لدعائه، وسرتُ نحو الغرفة الَّتي ولدتُ فيها، سلّمتْ أختي كريمة علي وهي تهلهل وقالت: الحمد لله على سلامتك، الحمد لله عيونك بخير يا أخوي، وسلّمتْ عليّ أختي الصَّغيرة نظيرة وقبَّلتها وباقي أفراد الأسرة من إخوتي ما كانوا في البيت، خلال دقائق كان الحوش مملوءً بالرّجال والنّساء والشَّباب والبنات والأطفال، سمع أغلب أبناء ديريك العتيقة الخبر وجاؤوا يقدِّمون التَّهاني بقدومي، سمعتْ أختي نعيمة وصهري فجاؤوا مع بقيّة الأهل وهم في أوجِ فرحهم، ثمّ جاء أخي نعيم وسليمان وزوجته وسلّموا علي بفرحٍ كبير، وغمرنا جوَّاً من البهجة لاستقبال الجيران والأهل، ثمّ جاء عمِّي وقبّلني وهو يبكي من فرحه، وقال: عينك الحمد لله بألف خير، وسألني صحتك بخير؟ فقلت له: بألف خير يا عمِّي، ثمَّ جاء أولاد وبنات عمّي، وأولاد وبنات خالي، والكثير من الأهل والمعارف والجيران يعانقونني ببهجةٍ غامرة، كرنفال فرحي حقيقي سادَ أجواء المكان! ما أجمل أن تكون القلوب عامرة بالبهجة والمسرّة والمحبّة والوئام بين البشر، ترتسمُ أمامي الآن وقائع ذلك اليوم الجميل، فتنسابُ من عينيّ دموع الشَّوقِ والحنين إلى الأهل كلَّ الأهل وإلى الجيران وإلى ديريك، مسقطُ رأسي الّتي خبّأتها في حنايا قلبي وفي أعماقِ مروجِ الرُّوح أينما رحلْتُ وحللْتُ، وهمستُ في سرّي، كم كنتُ على صوابٍ وأنا في أوجِ ابتهالي، عندما كتبتُ في سماءِ غربتي أبهى سرديّاتي وأشعاري وقصصي عبر فضاءات متونِ كتابي: ديريك معراج حنين الرُّوح!

170. كيف تمّت المصالحة، وماذا كان دوركَ في الصّلح وإغلاق الملف من كلِّ الأطراف؟

تمّت المصالحة بطريقةٍ سلسة، خاصّة عندما شاهدني الأهل وأنا في كامل عافيّتي وصحّتي وزالت الخطورة عنّي نهائيّاً، ووجدوا عيني بألف خير، ولا مضاعفات حصلت، كما أنَّ لياقتي الذّهنيّة والجسديّة كانت بخير، وهذا ساعدَ في تمهيد الطّريق لترتيبات إقناع الأهل كلّ الأهل للموافقة على مقترحات الطّرف الآخر للقاء معنا ضمن الشُّروط الّتي شرحتها لأهلي بكلِّ هدوء، كان دوري في المصالحة محوريَّاً، وقد رتّبتُ كما أشرْتُ في إجاباتٍ سابقة لهذا اللِّقاء دون أن أشير للأهل عن تفاصيل لقاءاتي، ولكنّي وضعتهم بالصُّورة أنَّ الأستاذ جرجس بهنان أبو حيّان هو راعي هذا اللِّقاء لتتمّ المصالحة على يديه، والفكرة تعود للعم بهنان سارة؛ أبي خطيبة أخي نعيم، وشرحتُ للأهل شروطي الّتي عرضتها عليهم، فوافقوا على سير المصالحة، وكانت شروطي متطابقة مع عروض ومقترحات أخي سليمان، وبعد أيّام شكّل الطّرف الآخر وفداً يتألّف من أغلب آباء وأعمام هؤلاء الشُّبّان ومعهم الشَّباب، وخبّرونا عن طريق العم بهنان سارة إنَّهم بصدد زيارتنا؛ كي يسلّموا عليّ ويهنِّئوا الأهل بعودتي بالسَّلامة، ونضع النِّقاط على الحروف بشكل نهائي، ونسدل السّتار على آخر فصول هذه المتاهات الَّتي مررنا بها جميعاً، فقد آن الأوان أن نترجمَ نيّاتنا الطّيّبة من كلِّ الأطراف، وافق والدي ووالدتي مباشرةً وبرحابة صدر على لقاء المصالحة، وكذلك إخوتي وأخواتي وعمِّي وأولاد عمّي وكلّ الأهل أبدوا استعدادهم لهذه الخطوة الحكيمة، خاصّة عندما رَأَوني بخير، ولم يجدوا أيّ حلّ آخر أفضل من المصالحة، وقد خبَّرنا بدورنا الأهل والعم حنّا اصطيفو لحضور هذا اللّقاء، وجهّزنا أنفسنا لاستقبالهم مساء الأحد، بلَّغناهم أنّنا نرحّب بهم وبقدومهم، استعرنا مجموعة مقاعد من كنيسة السَّيَّدة العذراء عن طريق السّاعور الفاضل العم داؤود متّو؛ كي تتباركَ النّيات أكثر؛ ولأنَّ الأهل مع الطَّرف الآخر كنّا قرابة (30) شخصاً، ما عدا بعض النّساء الَّذين توزّعوا في الغرف لتقديم واجب الضِّيافة، كان الجوُّ لطيفاً، ونسائم ديريك المنعشة هبّتْ من الغرب، جلسنا في حوشنا الكبير، بعد أن وزّعنا المقاعد صفّين متقابلين، ثلاثة مقاعد كبيرة من كلَّ جهة؛ كل مقعد يتّسع لخمسة أشخاص بشكل مريح، جلسَ الأهل في صدر الجلسة على المقاعد الّتي أمام البيت، وخصَّصنا المقاعد المقابلة للوفد الخاص بالضّيوف، جلس على المقعد الأوّل والدي، ثمّ عمِّي يوسف، ثمَّ تركوا لي مكاناً، ثمّ مكان العم حنا اصطيفو، ثمّ الأستاذ جرجس بهنان، وجلس على المقعد الثّاني أخي سليمان وأخي نعيم، ثمَّ مكان العم بهنان سارة فأولاد عمّي، والمقعد الثّالث جلس عليه بقية أولاد عمّي وصهري وبعض الأهل، وفي الطّرف الآخر خصّصنا المقعد الأوَّل المواجه لنا لوجهاء الوفد، وبقيّة المقعدَين لبقيّة الضّيوف.

وصل كلٌّ من العم حنّا اصطيفو والأستاذ جرجس بهنان والعم بهنان سارة، فأخذوا مواقعهم في الجلسة، واقترحتُ على الأستاذ جورج وبقية الأهل أن يتمَّ اسقبال الوفد من قبلهم، وأكون أنا داخل الغرفة الّتي كنّا قد جهّزناها لزفاف أخي نعيم قريباً؛ كي يقدَّم الوفد التَّهاني للأهل وللحضور بمناسبة قدومي بخير وسلامة، دخلتُ الغرفة، وبعد قليل وصل الوفد وسلّم على الأهل، ودخل قسمٌ من الوفد إلى الغرفة وسلّم عليّ بحميميّة كبيرة، طلب رئيس الوفد، الوجيه الأكبر من الَّذين دخلوا معه وسلّموا عليّ، أن يتركونا وحدنا أنا وهو، فخرجوا من الغرفة، ثمّ بدأ بالحديث معي قائلاً: أولاً: ألف الحمد لله على سلامتك أستاذ صبري، يشهد الله إنَّك عزيز عليّ وعلى كلِّ عشيرتنا، وثق تماماً أنّنا تألَّما وحزنّا عليك كأنّك من أهلنا، فأريد أن أقول لك: إنَّني منذ البداية كنتُ وما أزال ضدّ ما قام به الشَّباب، وأعتذر منك باسمي شخصيّاً وباسم كلّ العائلة وكلّ الشّباب، وأرجو أن تقبل منّي هذه الهديّة بمناسبة شفائك وتخرُّجك من المستشفى معافى، وفي حال لو وجدْتَ أنَّ هذه الهديّة لا تناسب مقامك وإعادة اعتبارك، فأنا مستعد شخصيّاً أن أقدّم لك هديّة أخرى بهذه القيمة نفسها، وقدّم إلي مغلّفاً بحسب الاتفاق القائم بيننا قبل قدومهم، نظرتُ إليه وقلت: بارك الله فيكم يا أيُّها العم العزيز، هديّتك مقبولة، ولكن اسمح لي أن أسألك سؤالاً بسيطاً وواضحاً ومباشراً، تفضّل أستاذ، بعد كل ما حصل، والحمد لله تمَّت المصالحة بألف خير، أتساءل: هل وجدْتَ سبباً واحداً مهما كان واهياً وضعيفاً يستحقُّ أن يوجّه هؤلاء الشَّباب ولو كلمة جارحة إليّ، فكيف قاموا بما قاموا به؟ فقال لي: بالحقيقة لا يوجد أي سبب عليك على الإطلاق، فقلت له: هل تعلم لماذا كنتُ مصرّاً على المصالحة منذ البداية؟ فقال: لأنّك ابن أصل! فقلت له نعم أنا ابن أصل، ولكن هناك أسباب أخرى جعلتني أصرَّ على المصالحة حتّى النّهاية، فقال: ما هي هذه الأسباب؟ فقلت له: أنتم يا عمِّي عشيرة كبيرة ونحن عشيرة كبيرة، لو اشتبكنا مع بعضنا بسبب ما قام به الشَّباب؛ سيقع الكثير من الخسائر، وربّما يقع ضحايا وقتلى فيما بيننا؛ لهذا أصررت أن لا نصل إلى هذه المراحل؛ ولهذا أقول لك: إنَّكَ عمّ مدلّل، وكلّ هؤلاء الشّباب هم أصدقائي رغم كلّ ما حصل، والآن تصالحنا وسنبقى في حالة مصالحة؛ لأنّ المصالحة وحدها تمنحنا العيش بكرامة وسعادة وهناء، فقال لي: عقلك كبير يا أستاذ، ثمَّ قبّلني وقال: والله، أنت رجل عظيم، وستبقى عظيماً، إذا كنتَ في هذا العمر تتحدّث بهذا المنطق مثل الكبار، فكيف سيكون عقلك في مستقبل الأيَّام؟! شكراً عمّي، ابتسمت له ثمَّ خرجنا متعانقَين، وأخذتُ مكاني وأخذ هو مكانه، الحمد لله على السَّلامة يا أستاذ صبري ردّدَ الجميع، الله يسلّمكم، أجبنا عليهم، ثمَّ بدأ الأستاذ جورج بافتتاح كلمة الصّلح بيننا بمقدّمة قصيرة، ومن خلالها أشار إلى تقديم الاعتذار من قبل الشَّباب والوفد،  توقّف الشّباب وقدَّموا اعتذارهم وبدؤوا يصافحوننا واحداً واحداً، ثمَّ بدأ الوفد أيضاً يسلّم علينا واحداً واحداً. ثمَّ أخذوا أماكنهم، وبدأنا بالكلام من الجانبين، تحدَّث بعد الأستاذ جورج من جانبنا العم حنّا اصطيفو ثمَّ عمّي يوسف، واعتذر الوالد عن الحديث؛ لكبر سنّه، واكتفي بالتَّرحيب بهم وبالجميع، تاركاً الكلمة للوجهاء الآخرين، ثمَّ بدأتُ أنا أرحِّبُ بالحضور من كلا الجانبين، مركّزاً على أنّني في غاية السَّعادة؛ لأنَّ الأمر انتهى عند المصافحة والعناق فيما بيننا؛ لأنّنا كنّا أهل وأصدقاء في السّابق على دور أجدادنا وآبائنا وعلى دورنا نحن الشّباب أيضاً، وسنبقى بعون الله أصدقاء وسنستمرُّ في هذا المسار عبر الأجيال القادمة؛ لأنَّ الصّلح والمسامحة هما جوهر الحياة، ثمَّ توقّفتُ عند كلمات الشّكر لكلٍّ من الأستاذ جرجس بهنان والعم بهنان سارة والعم حنّا اصطيفو وعمِّي يوسف وأخي سليمان وكلّ من كان له دورٌ ولو بكلمة طيّبة في هذه المصالحة، كما شكرتُ الضّيوف الكرام وقيامهم بالواجب وحسن استجابتهم لكلِّ ترتيبات المصالحة، ثمّ تركتُ الكلمة لممثِّل الوفد، أخذ رئيس الوفد الكلمة وقال: بارك الله فيك أستاذ صبري، وبارك الله في كل أهلك، حقيقة أنت فخر لنا بكلِّ هذا الكلام الرَّاقي الّذي قلته، وبموقفك الكبير الّذي لن ننساه أبداً، وبارك الله في أهلك والّذين كما قلت هم أهلنا ونحن سعداء جدّاً؛ لأنّك بخير؛ وأنَّ النّتائج انتهت على خير، وكلّ هذا يعود لأصالتكم وفكركم الرّاقي، ولأصحاب النّيّات الطَّيّبة، وأقدّم عميق اعتذاري لكم، وإن قصَّرنا معكم فسامحونا على تقصيرنا. لم تقصِّرواإطلاقاً، وقمتم بالواجب على أحسنِ ما يرام، ولم يعقّب من جانبهم على كلمة وجيه الوفد، واكتفوا بما قاله، ثمَّ تقدَّمإخوتي وأخواتي وبدَأَوا بتوزيع الحلوى والسَّكاكر؛ تعبيراً عن  فرحنا بهذه المناسبة السَّعيدة، ثمّ قدّموا الشَّاي والقهوة، وتخلّل شرْب القهوة والشّاي أحاديث ودّية جانبيّة وكأنّنا في حفلة سهر عائليّة تضمُّ مجموعة من الأهل والأقارب، فكاهة من هنا وأخرى من هناك، رُسِمتِ البسمة على وجوهنا جميعاً، ثمَّ بدأ أبو سمعان يسرد قصصه الفكاهيّة وسط هذا الجو الحميمي؛ فتعالت القهقهات الّتي أنتظرناها طويلاً!  

***

كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_يوسف Sabri Yousef ..في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..- من السؤال – 151 – إلى السؤال 160..

كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_يوسف Sabri Yousef ..

في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..

من السؤال – 151 – إلى السؤال 160..

  1. إنَّ حواري مع الذّات هو حوار مع الكون مع الحياة من خلال تفاعلي مع ذاتي مع الكون برمّته؛ لهذا فجأةً علَّقت مؤقّتاً متابعة تشابك الأحداث؛ لأتوقّف عند الفنّان المبدع يعقوب شاهين، لماذا؟!

لأنَّ الفنّان يعقوب شاهين هو بالضَّبط الذّات التَّائهة الّتي أبحث عنها. أجَل! هذه الذَّات الّتي كانت وماتزال تحمل راية حضارة الحضارات؛ حضارة العلم والمعرفة، حضارة كلدو آشور السّريان، حضارة آرام الّتي كانت تسمو نحو أقصى أقاصي السّماء، حضارة مار أفرام السّرياني الّذي لحّن آلاف الألحان وكتبَ مئات الألوف من الأشعار وملايين الأبيات الشِّعريّة الموزونة قبل أن يفهمَ الغرب قبل الشَّرق الغارق في الحروب السَّقيمة العقيمة، ماذا يعني الشِّعر؟ حضارة القصيدة وحضارة الملاحم الكونيّة، أليستْ ملحمة جلجامش أمّ الملاحم، أين أنتِ أيّتها الحدائق المعلَّقة، يا حضارة بابل وسومر وأكّاد، يا حضارة آشور وحضارة الكلدان الَّذين أبدعوا علوم الفلك عندما كانت أميريكا قارّة مجهولة لم تُكتشف بعد؟ يا حضارة حمورابي التّشريع الأوّل، وحضارة أوّل من اكتشف الحنطة، حضارة الحرف الأوَّل وأبجديات الحياة، حضارة التَّرجمة الّتي قام بها السِّريان في أوج عصورهم الذَّهبيّة ونقلوا حضارة الشَّرق والغرب إلى العالم، حضارة أن ترفع لواء الحقّ والعدالة والسَّلام والمحبّة للبشر كلّ البشر، حضارة أن ترفع راية الإبداع عالياً، حضارة أن ترتّلَ المرأة مع الرّجل تحتَ قبّةِ الكنائس، وترنّم كأنّها صوت الملائكة على الأرض، حضارة فيروز رسولة السَّلام إلى أقصى أقاصي الكون، حضارة وديع الصَّافي وملحم بركات، حضارة جاهدة وهبة الّتي تنشد الأغاني كأنّها تناجي السّماء والحياة والفرح والطُّفولة والحبِّ والسَّلام وأشهى ما في بهاء الحياة، حضارة حبيب موسى ملك الأغنية السّريانيّة في العالم، الّذي أخرج الأغنية السّريانيّة من حيزّ التَّرتيلة في هياكل الكنائس إلى النّور وهو في الرَّابعة عشرة من عمره، عندما غنّى شامومر أوّل أغنية سريانيّة خارج أسوار الكنائس، ثمَّ بدأ يصدح بأغانيه الّتي ترفرف في جميع أصقاع العالم، حضارة المحبّة والسَّلام والعطاءات الخلَّاقة أينما كان هذا الشّعب السِّرياني الآرامي الآشوري الكلداني الحضاري التّليد، حضارة أوَّل من اكتشف أبجديات الحرف، حضارة الفنّان المبدع يعقوب شاهين؛ الّذي انبعث من تجلّيات إبداع السِّريان؛ فاخترق كلّ الصِّعاب، واعداً هياكل كنائس السّريان المقدّسة الّتي ترعرعَ تحتَ قبابها وهو يرتِّل تراتيلها الّتي تناجي السّماوات والأرض والحياة والمحبّة والسَّلام مع جوقةِ الشّمامسة والرّهبان والكهّان على مدى سنين عمره؛ كي يقدِّمَ أرقى ما لديه للعالم! كم أدهشني وهو يعزف على بزقه أجمل الألحان قبل أن يصبح معروفاً، حيث شاهدتُ مقطع فيديو قصيراً؛ وإذ بأحد الرّهبان ينشد بالسِّريانيّة، ويعقوب شاهين يعزف على البزقِ دندناته الرّائعة، أذهلني صوت الرَّاهب الّذي كان يرافقه في الإنشاد بطبقاته وتجلّياته الشَّاهقة، وذكّرني بالشّمَّاس المرحوم سعيد الأعمى، كنّا نكنّيه بالأعمى؛ لأنّه كان أعمى، لكنّ بصيرة صوته كانت تتوغّل إلى أشهى أقاصي السَّماء، أنشدَ الرَّاهب بطريقةٍ تجلِّياتيّة؛ جعلتني أشعر أنّه أجمل صوت على وجه الدُّنيا، جعلني أشعر أنّني ضئيل الحجم أمام ذاتي، هذه الذَّات الَّتي قرأتْ على مدى أكثر من نصف قرن اللُّغة العربيّة، وتجيد العربيّة أكثر ممّا يجيدُ (80) % من العرب في العالم، ولا أجيد السِّريانيّة أنا السِّرياني الآرامي الآشوري الكلداني المنبعث من أقدم حضارة على وجه الدُّنيا؟ شعرتُ أنَّ كلَّ إبداعي وكتاباتي وكتبي الّتي تربو عن ستِّين كتاباً لا تساوي أن أجيد السِّريانيّة لغة أجدادي وحضارتي وتاريخي وشعبي! لكن السُّؤال المطروح: لماذا لا أجيد السِّريانيّة، أنا عاشق اللُّغات؟ جوابي بسيط بساطة الماء الزُّلال، وممكن أن أصيغه بالاختزال التَّالي: أين هي جامعاتكم ومعاهدكم ومدارسكم السِّريانيّة أيّها العرب الكرام، ولا أعلم فيما إذا أنتم كرام أم لا؛ كي أدرس في محافلكم هذه اللُّغة المقدَّسة؛ لغة السَّيّد المسيح، لغة الحرف المقدّس، الُّلغة الّتي أوصى بتعليمها رسولكم المعظّم، لكنّكم لم تأخذوا بهذه التّوصية بعين الاعتبارّ؟! هل يعلم العرب الكرام -ولستُ متعصّباً ولا متشدِّداً وتاريخي على مدى سنوات عمري يشهد على ما أقول، وإلّا لما كتبتُ كل إبداعاتي بالعربيّة- هل يعلم العرب كلَّ العرب أنَّ اللُّغة العربيّة بجلالة عظمتها وقوّتها وعمقها وروعتها مستمدَّة وممتدّة ومقتبسة ومنبعثة من السِّريانية الآراميّة؟ ماذا يشهدُ القرآن الكريم عندما ينطقُ: “أبجد هوّز حطّي كلمن سعفص قرشت” إنّه ينطق حرفيّاً وبشكلٍ متسلسلٍ الأبجديّة السّريانيّة القحّة حرفاً حرفاً، وهي من أقل الحروف في العالم لصياغة لغة من أعرق اللُّغات، ثم تمَّ تنقيط بعض الحروف منها؛ كي يُصاغ حرفاً جديداً وهذا ما اتّبعه حرفيّاً نحّاة اللُّغة العربيّة كما هو واضح بالحروف التَّالية: الدَّال والذَّال، الصَّاد والضّاد، الطَّاء والظّاء الحاء والخاء وغيرها من الحروف، ولو أحصينا أسماء المدن والقرى السِّريانيّة؛ سنجد آلاف الأسماء السِّريانيّة في بلاد ما بين النَّهرين والشَّرق حتّى تاريخه، وقد قام الدُّكتور والبروفيسور السّرياني الآرامي كبرئيل صوما ببحثٍ أكاديمي رصين بدراسة موسّعة معتمداً على عشرات عشرات المراجع حول المدن والقرى والعواصم العربيّة والكرديّة والتّركية والفارسيّة؛ ووجد فيها أسماء العديد العديد من المدن والقرى بالمئات بل بالألوف بالآراميّة السِّريانيّة، ويتمُّ استخدام هذه الأسماء حتّى الآن، تخيّلوا أنَّ اسم الكويت كلمة سريانيّة آرامية قحّة، أربيل كلمة سريانيّة، دمشق كلمة سريانيّة، وقس عليها مئات مئات الأسماء، وأكثر ما أدهشني أنّه في سياق شرحه وتفنيده لمئات مئات الكلمات أنّها سريانيّة آراميّة، أكّد بدقَّة متناهية أنَّ مكّة وهي من أقدس مدن الإسلام والمسلمين في العالم هي كلمة سريانيّة آراميّة، ماذا بعد؛ كي يعترف العرب بأنَّ الحضارة الآراميّة السِّريانيّة الآشوريّة الكلدانيّة هي من أعرق الحضارات في الشَّرق وما يسّمى بالعالم العربي؟ وأقول ما يسمّى؛ لأنّنا لو أحصينا العرب الآن في العالم العربي؛ سنجد أنَّ أغلبهم من الكلدو آشور السِّريان، والصَّابئة المندائيين، والبربر الأمازيغ، والفينيقيين والفراعنة والتّركمان والشّركس والجاجان والكرد واليزيديين والأرمن والعديد من الأقوام الأخرى ..  ناهيكم عن أنَّ أكثر العرب أنفسهم هم من هذه الأقوام، ودخلوا العرب واستُعربوا على مرّ التَّاريخ، سواء بحدِّ السَّيف أو من تلقاء أنفسهم، أو بحسب طغيان المدّ العربي على امتداد تاريخهم، والمفلق في الأمر أنَّ العربَ لم يقدّموا بعد أن استلموا زمام الأمور بحدِّ السيف، لم يقدّموا حضارةً تماثل لا أن تضاهي حضارة ما كانت سائدة آنذاك، بل بالعكس قضت ما استطاعت إلى ذلك سبيلا على الحضارات السَّائدة ابتداءً من الحضارة الفرعونيّة والأمازيغيّة والكلدو آشور السِّريانيّة الآراميّة والفينيقيّة والآريّة الكرديّة واليزيدية والصّابئة المندائيّة والأرمنيّة وغيرها من الحضارات الّتي قدّمت للبشرية أضعاف أضعاف ما قدَّمته العرب، ولا أقول ما قدّمته الحضارة العربية؛ لأنّني لا أجد أمامي حضارةً عربيّة بقدر ما أرى أمامي أمّةً تعشق الحروب هي الأمّة العربيّة، أمّةٌ تفجعُ ذاتَها بذاتِها، والأقبح من كلِّ هذا أنّها أوَّل أمّة على وجه الدُّنيا ضدّ ذاتها، وكل الأحداث التّاريخيّة والحاليّة المروِّعة تؤكِّد أنَّها تفني ذاتها بذاتها، وإلَّا ما هذه الصّراعات والحروب المريرة الأقبح من قبيحة ما بين السُّنّة والشِّيعة والّتي أدّت وتؤدّي إلى القتل والذّبح على الهويّة، والّتي تؤكِّد أنّها أمّة تقبع في آخر ذيل الحضارة؟! وأسأل ذاتكم الجريحة مثلما أسائل ذاتي الغائصة في الجراح: بربّكم بدينكم بمعبودكم، هل وجدتكم أكثر من هذا خروجاً عن أدنى أبجديات الحضارة، هل وجدتم في تاريخكم وتاريخ حضارات الكون أمةً ضدّ نفسها أكثر من الأمّة العربيّة؟ فكيف لو لم تدافع الأمّة العربيّة عن ذاتها وعن شعبها ومذاهبها ودينها، كيف ستدافع عن بقيّة الأديان والأقوام الّذين عاشوا في كنفها منذ آلاف السِّنين؟ وهم من أصل البلاد ومن عمّروا البلاد، فجاءت العروبة والعرب وأسَّست حضارةَ حربٍ ضدّ ذاتها؛ وهي بالتَّالي ضدّ كل مَن يعيش في كنفها وجيرانها، وقد خرج من بينهم مَنْ يرفعون شعاراتٍ يتحدَّون بها الكون، وهم؛ أي العرب والحضارة العربيّة لا تستطيع أن تتحدّى طفلاً غربيّاً وصينيّاً ويابانيّاً وروسيّاً وفرنسيَّاً وألمانيَّاً مسيحيّاً بوذياً يهوديّاً علمانيّاً ملحداً قيقانيّاً كان هذا الطّفل؛ لأنَّ  الطّفل في هذه البلاد يفهم أصول الحضارة أكثر منهم؛ لأنّه يجلس هذا الطّفل مع طفلٍ عربي في عواصم وبلدان هذه الحضارات، ويبتسم للطفل العربي ويعانقه عناقاً عميقاً بكلِّ محبّةٍ واحترام؛ٍ كي يبنيا معاً حضارة بلادهم، وأمّا العرب فما يزالون يتشدَّقون بترّهات آخر زمن، ويتساءل بعضهم تحت قبّة برلماناتهم أسئلة سمجة لا تخطر على بال من عاش في القرون الحجريّة وما قبلها، حيث يتساءلون بكل فجاجة وبدون أيِّ خجلٍ أو حياء: هل قيادة المرأة للسيارة حلال أم حرام؟!!! هل تتوافقونني الرّأي أيُّها الأحبّة أنّها قد هَزُلتْ كثيراً؟ فعلاً لقد هَزُلَت أكثر من اللّازم! ولهذا كلّه ولمليار سببٍ وسبب أقول أيُّها الشَّرق أيُّها العرب في العالم العربي من محيطة إلى خليجه وفي كلِّ بقاع الدُّنيا، اهتمّوا بمواطنينكم من كلٍّ الأقوام والأديان والمذاهب والاثنيات؛ كي يرفعوا رؤوسكم عالياً بكلّ الحبِّ والفرح والإبداع كما رفعها الفنّان المبدع السِّرياني الآرامي يعقوب شاهين؛ الَّذي فاز بجدارةٍ ببطولةِ العرب آيدل، ولا تطمسوا العطاءات الخلَّاقة الموجودة بين ظهرانيكم، وتُرَكِّزوا بكلِّ حماقةٍ على هدر الدِّماءِ وقتلِ ذاتكم بذاتكم، وقد نسيتم أنَّ البشرَ كلَّ البشر ذاتٌ واحدة ومن طينٍ واحدٍ، انبعثتْ هذه الذَّات المتطايرة من شهقةِ ربِّ الأعالي إلى آلافِ وملايين ومليارات الذّوات، وتبعثروا وتبلبلوا بقدرةِ قادر إلى لغاتٍ وأقوامٍ وأممٍ لا تُحصى على وجه الدّنيا!

  1. لماذا تطوّرتْ فجأةً حدَّةُ النّقاش بينكَ وبين رئيس المستشفى الوطني الدّكتور رياض وراثة؟

مرّت عليّ الدَّكتورة إيلي/اليزابيت وقالت: تبيّن لي أنَّ هناك ترتيبات من قبل رئيس المستشفى؛ الدُّكتور رياض وراثة بتخريجك من المستشفى قبل أن تحصل على التَّقرير الطُّبّي الثَّاني؛ كي يتمَّ تخفيف الحكم والضَّغط على الجناة فيما إذا سرتم بشكواكم بشكلٍ قانوني حتّى النّهاية؛ لأنّ الحكم الأقوى يتمّ من خلال منح المريض التَّقرير الطّبّي الثَّاني، وفي حال عدم حصول المريض على تقرير طبِّي ثانٍ؛ وكأنّه ما كان في حالة خطرة؛ وبالتَّالي يصبح التَّقرير الأوَّل مثل قلّته تقريباً، وكأنّ المشاجرة كانت مشاجرة عابرة، وممكن أن تخفَّف العقوبات على الجناة إلى درجة سجنهم بضعة أيام، وتنبيههم وعدم معاقبتهم نهائيَّاً في وظائفهم؛ وبالتَّالي يضعف موقفكم بالضَّغط على الطَّرف الآخر بعرض شروطكم الّتي تستحقِّونها؛ ولهذا أنا حزينة للغاية لما آلت إليه الأمور! وهل برأيكِ الشَّخصي وضعي يتطلّب أن أحصل على تقرير طبّي ثانٍ؟ بالطَّبع يتطلّب؛ لأنَّ عينك ما تزال متورّمة، وعندك الكثير من الأوجاع في جسمك، ورأسك ما يزال متألّماً من الضَّربة في فروة الرَّأس، ناهيك عن الرّضوض الَّتي تسبَّبت لك الكثير من الأوجاع حتّى الآن، ولديك تدرُّز في عظام الصّدر، وتحتاج إلى وقتٍ أطول للرعاية في المستشفى؛ كي تحصل ليس على التَّقرير الطِّبِّيفحسب؛ بل للرعاية، وحصولك على التَّقرير الطِّبي الثَّاني هو طبيعي بحكم وضعك الصّحي! إذاً أنتِ ترين أنّني أستحقُّ أن أستمرَّ في العلاج من جهة وأحصل على تقرير طبّي أيضاً، طبعاً تستحقُّ، إذاً سأظل آخذ علاجي في المستشفى كما ترين، لكنّي يا عزيزي لا أستطيع أن أقرِّر في استمراريّة بقائك ومتابعة علاجك في المستشفى، ولا أستطيع أن أزوِّدَكَ بتقرير طبّي ثانٍ أيضاً، أنتِ لا تستطيعين أن تقرِّري في استمراريّة بقائي في المستشفى، لكنّي أنا أستطيع أن أقرِّر في استمراريّة البقاء ومتابعة علاجي إلى أن أحصل على تقرير طبِّي ثانٍ، وربّما ثالث لو أحتاج إليه، ولكنّكَ يا عزيزي أستاذ صبري، أنتَ ليس لديك سلطة في إقرار هذا القرار، ومَن له السُّلطة والقرار في هذا الأمر؟ الدُّكتور رياض وراثة فقط مَنْ يقرّرِ هذا؟ حتَّى ولو كان قراره مجحفاً بحقِّي وقائماً على حيثيات باطلة! للأسف نعم حتّى ولو كان مجحفاً بحقِّك، إذاً طالما هو مجحف بحقِّي؛ قرّرتُ أن أطبِّق قراري؛ كي آخذ حقِّي بيدي من رياض وراثة ولم أطلق عليه لقب الدُّكتور؛ لأنّني أسقط عليه صفة ولقب الدُّكتور منذ الآن! ولكنّكَ يا أستاذ أنتَ غير قادر على مواجهة الدُّكتور رياض وراثة! مَنْ قال لكِ أنّني غير قادر على مواجهة رياض وراثة؟ لأنّك لا تملك أيّة سلطةً ودعماً تجبره وترغمه على تطبيق قرارك ورغبتك ووجهة نظرك، ويبدو يا عزيزي أنَّ الدُّكتور وراثة تلقّى توصيةً وربّما ضغطاً من جهاتٍ معيّنة بطريقة أو بأخرى من خلال ترتيبات من أهل الجناة؛ كي يقطعوا الطَّريق عليكم خاصّة عندما وجدوا أنَّ طريق المصالحة أدّتْ إلى نفقٍ مسدود، أعرف هذا يا عزيزتي الدُّكتورة، واضح وضوح الشَّمس، مع انّني كنتُ منذ يوم أمس أخّطِّط للبدء بفتح حوار مع الطَّرف الثّاني للمصالحة، لكن يبدو أنَّ خيوط الحوار في هذا السِّياق ابتعدتْ كثيراً عنِّي وأعادوني إلى نقطةِ المواجهة معهم رغماً عنّي عبر مواجهتي لرياض وراثة نفسه؛ لأنَّ رياضاً يعدُّ حالياً المنافس الأقوى في طريقي لتحقيق الحوار الأنسب لي في فتح باب الحوار مع الطّرف الآخر؛ لتحقيق وتنفيذ كل شروطي عليهم، وما دام رياض معهم؛ فهم في موقع أقوى؛ لهذا لابدَّ من خلخلة الطّرف الأقوى الَّذي عندهم ويتسلّحون به، كيف يا أستاذ ستخلخل الطّرف الأقوى، هل أنت قادر على مواجهة قرار مدير المستشفى؟! طبعاً قادر، لكنّني لا أراكَ قادراً يا صبري، ولفظت اسمي حافَّا من لقبي، فردّيت عليها ببسمة يا عزيزتي إيليزابيت، يبدو أنّك لا تعرفين من هو صبري يوسف؟! ماذا تقصد، هل تهدِّد رياض وراثة؟ لا، لا أهدّده، بل أتحدّاه، وهو أصغر من أن أهدِّدَه؟! تعرف يا صبري، ستجنِّنُني بهدوءِ أعصابك وحوارك المركّز وثقتك الكبيرة بنفسك، مع أنَّني يا عزيزي، لا أرى عندك أيّة نقاط قوّة تخوّلك أو تجعلك تتحدَّث بهذه اللُّغة لإيقاف قرار مدير المستشفى! أعيد مرّة أخرى قائلاً لكِ: إنَّكِ لا تفهمين صبري يوسف وما في جعبتي من رؤى وأفكار ومخطّطات، طيّب اشرح لي يا عزيزي، كيف ستوقفه عند حدّه وتتحدَّاه وتطوي قراره وتلوي ذراعه وهو مدير المستشفى الآمر النّاهي؟! رفعت سبابتي ووضعتها على رأسي الموغل في الأوجاع قائلاً: بهذه الجمجمة الّتي تحمل مخّاً وعقلاً راجحاً سأهزم وراثة، نعم بهذه الجمجمة الّتي حاول الجناة أن يهشِّمونها، لكن أخي وصلني قبل ثوانٍ؛ كي يلكمَ ذلك المراهق الأهوج ويرديه أرضاً، فولّى هارباً مثلَ أرنبٍ مذعور! أرجوك عزيزي صبري قل لي ماذا ستتصرّف؟! سأقول لكِ، ولكن قبل أن أقول لكِ، متى ينوي وراثة تخريجي من المستشفى؟ على الأرجح غداً؛ لأنّه يعمل على ترتيبات أوراقك، لكنّه لابدَّ أن يلتقيكَ ويشرف عليك ولو شكليَّاً كإجراء روتيني، ومهما كان وضعك وردودك، فإنّه قرّر أن يخرِّجكَ من المستشفى، ولن يتراجع عن قراره، وفيما كنَّا في أوجِ النّقاشِ، دخل عليناالدَّكتور رياض وراثة، نظرَ إليّ وقال: شو فيك، فقلتُ له: صدّق دكتور كما ترى جرح قاطع في جفن العين اليسرى، وماتزال عيني متورّمة وحمراء مثل الدم، ورأسي مكسور ومقطّب خمس قطبات بجرحٍ عميق، وعندي كما قرأتَ في تقرير الأطبَّاء تدرُّز في ثلاثةِ عظامٍ من عظامِ الصّدر، ورضوض في سائر أنحاء الجسم، وأشعر بين الفينة والأخرى بدوخة في رأسي، وأحتاج كما ترى إلى رعاية مستشفاكم إلى أن أشفى نهائيَّاً، لا لا يا أستاذ، ما تحتاج إلى رعاية أخرى؛ فها جرح رأسك قد التأم، ونظر إلى الجرح، وجرح عينك قد التأمَ أيضاً، عندك شوية أورام في خدَّك، وعينك حمراء صحيح، لكنّنا سنزوّدك ببعض الأدوية، وتستطيع أن تتخرَّج من عندنا اعتباراً من يوم الغد بعونِ الله، وما بدنا دلال، ما شاء الله، وضعك جيّد وتبدو مثل الوردة، لكنّي يا دكتور أعاني كما قلتُ لك من أوجاع في الرَّأس وفي عيني، وفقدتُ الكثير من الدم، وما يزال صدري يؤلمني؛ بسبب تدرُّز بعض عظامي، وتقول لي: أنتَ مثل الوردة؟ عفواً يا أستاذ لا تناقشني؛ هذا شغلي وأعرف شغلي جيّداً، ولكنِّي يا دكتور مريض وأعرف جيّداً أنّني مريض، هل تريد أن تبقى بضعة أيام أخرى؛ كي تحصل على تقرير طبِّي ثانٍ؟ كانت إيلزابيت حاضرة تسمع الحوار كله، فقلت له: مَن تحدّث عن موضوع التّقرير الطّبي الثّاني، أقول لك يا دكتور: أحتاج للعناية بضعة أيّام أخرى أسبوع عشرة أيام، تقول لي تريد الحصول على تقرير طبِّي ثانٍ، لا يهمّني الآن سوى معالجتي وطبابتي إلى أن أُشفى، لكنّكَ لو ظللتَ بضعة أيام أخرى؛ سنضطرُّ بحسب مدّة معالجتك وبقائك في المستشفى أن نزوِّدك بتقرير طبّي ثانٍ، فأوقع نفسه في الفخ، وقلتُ له: طيّب وما المشكلة عندك يا دكتور بصفتي مريضاً في مستشفاك أن تزوِّدني بتقرير طبّي ثانٍ لو ظلَلْتُ بضعة أيام أخرى، خاصّة أنّني أحتاج لهذه الرِّعاية في الأيام القادمة؟ لكنِّي لا أريد أن أزوِّدك بتقرير طبِّي ثانٍ؟ وبابتسامة سألته: ولماذا لا تريد يا دكتور؟ هذا شغلي وما بدّي أي نقاش في شغلي، ولكنّي أنا أريد أن أتعالج، وأريد أن أتزوّد بتقرير طبّي ثانٍ لو كانت ترتيبات وضعي الصّحِّي تخوِّلني بمنحي هذا التَّقرير، على أيّة حال أنا مَن يقرّر هذا، هل أنتَ متأكّد يا دكتور أنَّك تقرّر هذا حتّى ولو كنتُ محتاجاً له طبِّيّاً وعلاجيّاّ! نعم أنا أقرِّر هذا وانتهى النّقاش عندي، ولكنَّ النِّقاش عندي لم ينتهِ بعد يا دكتور، أنا مَن بدأ النّقاش ومَن ينهي النِّقاش، طيّب دكتور سنرى فيما إذا ستستطيع أن  تخرِّجني من المستشفى غداً! .. تتحدّاني؟! ولفظ الكلمة بانفعال، وبكلِّ هدوء قلتُ له: يا دكتور منذ البداية وأنا أناقشك بكلِّ منطق ورحابة صدر، لكنّك على ما يبدو مصرّ على تخريجي؛ وهذا هو كل هدفكَ من زيارتي اليوم، مع أنّني لم التقِك منذ دخولي إلى المستشفى إلّا بالمصادفة، وإذ بك فجأةً تمرُّ عليِّ وتحقِّق معي تحقيقاً طويلاً، وتصرُّ في كلِّ ما جرى من حوارٍ بيننا على نقطة واحدة وهي تخريجي من المستشفى حتّى ولو كنتُ مريضاً وبحاجة للرعاية؛ ولهذا أقول لك للمرة الثَّانية وبكلِّ هدوء: سنرى فيما إذا تستطيع تخريجي غداً من المستشفى أم لا؟ أجابني بانفعالٍ أكبر: أراك تتحدّاني، معاذ الله أن أتحداك يا دكتور إنِّي أحذِّرك فقط! مَنْ أنتَ؛ كي تحذِّرني في شغلي؟ أنا صبري يوسف، أحذِّرك؛ لأنّك لا تشتغل شغلكَ كما يجب، وأحذِّرك للمرة الثّالثة أنّك لو خرّجتني من المستشفى سترى ما ترضاه عن نفسك، وسنتواجه غداً يا دكتور! ولفظتُ عبارتي الأخيرة بتحدٍّ واضحٍ كأنّني رئيس مشافي الحسكة والدُّكتور وراثة ليس أكثر من طبيب تحتَ تصرُّفي، فخرج وهو في قمّة غضبه!

شو عملت يا صبري مع الدُّكتور، تعرف لا يوجد الآن قوّة في العالم تستطيع أن تمنعَ الدُّكتور رياض عن تخريجك غداً، لكنّكِ كنتِ شاهدة عيان يا عزيزتي أنَّني اتبعت معه كلَّ الطُّرق والوسائل الحضاريّة  والحواريّة؛ كي يعدل عن موقفه، لكنّه أصرَّ منذ البداية، وكما نعلم كلانا أنَّ هناك توصية تجعله راغباً أو مُكرهَاً أن يخرِّجني رغماً عنِّي وعن حاجتي إلى الرّعاية وإلى التَّقرير الطِّبّي، ويبدو واضحاً أنَّ معركته معي هي على التَّقرير الطَّبِّي؛ لهذا سنتواجه غداً، كيف ستواجهه وهو يقدِّم لك أوراق تخريجك؟ ابتسمتُ وقلت لها: يا عزيزتي إيلي بهذا المخّ الصَّغير في القفص العلوي سأواجه وراثة، وغداً سأذكِّرك بما في هذا الرّأسِ من رجاحةِ عقلٍ أواجه به هذا المسكين! يا إلهي، لم أجد في حياتي إنساناً واثقاً من نفسه ويمتلك رشاقة منطقٍ في الحوار مثلك، ومع أنَّ كلَّ المواقف ليست لصالحك، ولا يوجد عندكَ أيّة واسطة تضغط عليه، ومع هذا تشير بكلِّ ثقة إلى رأسك وعقلك، وكأنَّ في رأسك لجنة أطباء أعلى سلطةً من الدُّكتور وراثة وتقرِّر ما تشاء! ابتسمتُ بكلِّ ثقةٍ وقلتُ غداً وليس بعد الغد سأذكِّرك بأنّ هذه اللّجنة الطّبِّيِّة الّتي بحوزتي أقوى من أيّةِ لجنة طبيّة أخرى، طالما الأمر محسوم فلا بدَّ من إيجاد ما يُحْسِمُ ما لا يُحْسَم! والآن أريدكِ أن ترتاحي يا عزيزتي؛ لأنِّني أرهقتك معي، لكنّي فقد أريدك أن تخبِّريني غداً قبل ربع ساعة فقط من تخريجي من المستشفى؛ كي أعدَّ عدّةَ المواجهة الّتي لا تخطر على بال الجنِّ المزركشِ بكلِّ الألوان!

نظرَتْ إليّ بحنانٍ كبير يشوبه نوع من الشّفقة والحزن، وقرأتُ في عينيها قبل أن تغادرَ الغرفة ما يوحي أنّها أمامَ شابٍ يهذي، لكنَّ هذيانه كان متماسكاً وقويَّاً، والسُّؤال الأهم الّذي كان يراودها: ما هذا الَّذي يخبّئه صبري في هذا الرّأس الموجوع؛ كي يتكلّم بهذه الثّقة، وهل سينتصرُ على رياض وراثة في نهاية المطاف؟!

  1. كيف جابهتَ الدّكتور رياض وراثة عندما أصرَّ على تخريجك من المستشفى قبل أن تحصل على التَّقرير الطَّبي الثَّاني؟

يلاحظ كل مَنْ قرأ جوابي السّابق أنّني كنتُ أتحدَّث معه ومع الدّكتورة إيليزابيت وأنا واثق من نفسي حتَّى النِّخاع، إلى درجة ممكن إيلي كانت تظن أنَّني أهذي خاصّة عندما لم تمسك أي خيط أو جواب أو إشارة ولا أي تلميح إلى أسباب هذه الثّقة العمياء الَّتي أعتمدُ عليها! إلَّا أنّني حقيقة الأمر خطَّطتُ مباشرةً فيما كانت تناقش معي قبل حضوره، وأستمررتُ في تصعيد الحوار معه إلى أقصى التّصعيد والتّحدِّي، خاصّة عندما وجدتُ أنّه مصرٌّ بشكلٍ حاسم أنَّ لا عودة عن قرار تخريجي من المستشفى؛ كي يفوِّتَ عليَّ فرصة حصولي على التّقرير الطّبّي الثّاني، فتبيّن لي إنَّه إمَّا مرتشٍ من الطّرف الآخر، أو مضغوط من جهة أمنيّة أو تربويّة؛ ولهذا وضعتُ في الاعتبار أنّه يستحيل أن يتراجع عبر حواري معه، وحلَّلتُ مباشرةً أنّه من المستحيل أن أكون قادراً منذ أن خبرّتني إيلي على إيجاد أي ضغط أو واسطة أقوى من الضُّغوط الَّتي وردته، سواء كانت رشوةً، أو ضغطاً، أو توصيةً من أطرافٍ ما، لا أستطيع الوصول إليها حتّى ولو كنتُ خارج المستشفى، فكيف وأنا قعيد المستشفى على فراش المرض، وأهلي غير قادرين على مواجهة حالات كهذه، لهذا قفز إلى ذهني منذ الدَّقيقة الأولى مخطَّطاً يحبط كلّ خطط وراثة والضُّغوطات الَّتي عليه والوساطات الضّاغطة والمضغوطة، لكنّي كنتُ في غاية الحذر؛ كي أهجمَ بشكلٍ مفاجئ وحاسم وبطريقةٍ لا يخرقها الماء!

كان الوقت عصراً عندما ودّعتني الدُّكتورة إيليزابيت، قرأتُ حزناً عميقاً في عينيها للنتائج الَّتي حصلت، كم كانت تريد أن تبقى معي وتساعدني، لكنّها ما كانت في موقعٍ يخوّلها قانونيّاً أن تفرض رأيها عليه، خاصّةً أنّها عرفت أنَّ هناك جهات دخلت على الخط لا يستطيع الدّكتور نفسه أن يقول لها: “لا”! ولهذا بدأتُ أحكِّم مخطَّطي، جلستُ بجانب منضدة صغيرة كنتُ أتناول عليها فطوري وطعامي، دائماً كان في حوزتي أوراق بيضاء وكتب وأقلام للكتابة، أغلقت باب الغرفة، كنتُ وحيداً في الغرفة ما كان هناك مَن يقاسمني الغرفة، بضعة كراسي للزوّار، شربت قليلاً من الماء، نظرتُ في المرآة فوجدتُ وكأنَّ صورة والدي تتراءى معي، ابتسمَ لي، كأنّه يمنحني المزيد من الثّقة، خفّ ورم عيني، لكنّها كانت ما تزال حمراء، لمستُ جرح رأسي، لم أشعر بألم شديد في رأسي، صدري كان يؤلمني عندما كنتُ أنام على الطّرف المتدرّز من عظام الصّدر، أمسكتُ قلمي وبدأت أضع مخطّط الهجوم الَّذي لا يخطر على بال مخلوق في الدُّنيا إلَّاي!

لا أعلم كيف أستمدُّ قوّتي من ضعفي، خاصّة في الحوار، لم أجد نفسي منهزماً يوماً في الحوار خاصّة في قضايا كهذه تتعلّق بالحقوق والواجبات والقوانين، لا أريد أن أظلمَ أحداً، لكنِّي أدافع عن نفسي حتّى النّخاع بكلِّ الوسائل المتاحة عنّدي، فقد كان لدي وسيلة تخرق لجان أطباء محافظة الحسكة بكلِّ مدنها ونواحيها، ولم أصرّح لأحد عن مخطّطي حتّى تتمَّ لحظة الحسم، وبعد أن أضعه على المحكّ هذا الَّذي يطرح نفسه رجلاً على إنسان بسيط مثلي مظلوم من رأسي إلى أخمص قدمي، فجاء في طريقي؛ كي ألقّنه درساً لن ينساه طوال حياته، وسأبيّن له أنَّ الضّعفاء أو الَّذين يبدون ضعفاء ليسوا ضعفاء كما يظن، إن الضّعفاء الجبناء فقط همالضعفاء؛ لهذا وجدت في نفسي من القوّة ما تكفي لمواجهة الأقوياء الَّذين يستندون على قوى هشّة، ظالمة، رشوات بغيضة، ضغوطات سقيمة أودَتْ بالبلاد إلى مرامي الجحيم، وهكذا حوّلت ضعفي إلى قوة لا تُضاهى من خلال الجرأة وروح المغامرة الّتي تميّزتُ بها طوال عمري! كتبتُ رقم (1). كيفيّة وضع حدّ للدكتور وراثة لتغيير قراره رغماً عنه حتّى ولو وزير الصّحة أرغمه على تخريجي من المستشفى؟! ثم بدأت أضع اثنتي عشرة نقطة كل نقّطة تدعم موقفي وتضعف موقف وراثة إلى أن وجدتُه يولّي هارباً تاركاً المستشفى وما فيها، ويعدل عن رأيه رغماً عن أنفه! قرأتُ النّقاط كلها أكثر من مرّة، ثمَّ توجّهت إلى المرآة وإذ بي أرى وكأنّ وجه أمي تبتسم لي، عندها عرفتُ أن أبي أعطاني أملاً وقوة وتفاؤلاً وأمّي تمنحي ثقةً بالنّجاح المأمول، همستُ: طالما أبي وأمي معي؛ فممَّن سأخاف؟ من جبناء آخر زمن، يستغلون مواقعهم الكرتونيّة الهشّة على مدرّس أشرف منهم ومن كل من هم على شاكلتهم، طالما هم يخرقون القوانين بهذا الشّكل الأحمق والظّالم! بسيطة يا وراثة بسيطة، نتواجه غداً! أمسكت الورقة وذهبت إلى الحمام وأصبحتْ في ذمَّة العبور بعد أن مزقّتها؛ كي لا أترك أثراً خلفي! دقّيتُ المنبّه، بعد لحظات جاءت ممرضة وهي تبتسم لي، خير أستاذ، ممكن كأس شاي لو سمحتِ، تكرم أستاذ، عادت بعد قليل ومعها الشّاي، هذا كل تحضيراتي للمواجهة، عند المساء تناولت عشائي ثمَّ استسلمت للنوم ونمتُ نوماً عميقاً، وكأنّي في رحلة ترفيهيّة غداً، مع أنّني بصدد مواجهة شرسة مع أحد الجبناء! نهضتُ من نومي قرابة الثَّامنة صباحاً، غسلت وجهي، بعد قليل قدَّمت الممرّضة الفطور، أشعرتها أنّني على غير ما يرام من حيث حركتي وكيفية حواري وصوتي وملاح وجهي، بحدود العاشرة مرّت عليّ الدُّكتورة إيليزابيت وقالت لي: أوراق تخريجك جاهزة ما بين العاشرة والنصف والحادية عشرة، ستودِّعنا بحسب الأصول الَّتي ستتلقَّاها، قلتَ لي خبّريني قبل ربع ساعة، ها أنذا أخبّرك قبل أكثر من نصف ساعة، سنرى كيف ستواجه ملفّ تخريجك من هنا يا أستاذ، اِنسحبي الآن يا عزيزتي ومرّي عليّ بعد حوالي ساعتين لا أكثر، خرجت عزيزتي الغالية إيلي من غرفتي وكلّها حزن، وبعد عشرة دقائق تقريباً استلقيتُ على سريري، وبعد أن ركّزت مليّاً بمخّطَّطي الجهنّمي بدأتُ المواجهة منطلقاً من سريري مواجهةً تزلزل وراثة وتضعه في خانة اليكّ ووضعيّة المحبوسة! صرختُ صرخةَ ألمٍ وإذ بي في حالة هستيريّة، خلال ثوانٍ حضر ثلاث ممرّضات أتلوى بألمٍ شديدٍ أرفس، أصرخ بصوتٍ عالٍ، أشدّ على بطني ورأسي، أتكوَّر على ذاتي، ألمس قلبي بألمٍ، ملامح وجهي وفكّي توحي بشللٍ في فكّي، صوتي يصل إلى أعماق الشّارع، أينما يلمسوني ألطمهم وأرفس وأتقلَّب على فراشي بطريقة هستيريّة مريعة، خلال دقائق استنفر أطباء المستشفى برمّتهم، قال أحد الأطباء سبحان الله كان الأستاذ يتحسَّن وبكلِّ بخير، ماذا حصل معه كي ينهار كل هذا الانهيار العصبي، ثمَّ أطلقتُ صرخةً وبدأت أبكي بكاءً مرَّاً وطلبتُ أمّي، وبدأت أهذي لا أريد أن أموت هنا يا أمِّي قبل أن أراكِ، حضرت الدّكتورة إيلي ورأت حالة هستيريّة عجيبة، أريدُ أمي لا أريدُ أن أموت بعيداً عن أمِّي، أخرجوني من هنا أريدُ أمّي، وفتحتُ يدي وأنا أحكي مع أمّي: تعالي يا أمِّي؛ كي أحضنك، والآن لو فارقت الحياة لا يهمّني المهم رأيتك مرّة أخرى يا أمي قبل أن أموت، وبدأت أشهق وأتنفَّس كمَنْ سيفارق الحياة ويطلق الحشرجة الأخيرة، ثمَّ أرفس وأتلوّى، حار الأطباء في وضعي المفاجئ، ثمَّ طلبتْ إيلي تحويلي إلى غرفة الإنعاش، حاولوا أن يضربوا ليإبرة في الوريد، فمزّقت المطّاط، وعضَّيتُ مَن تقع يده في يدي، وضربت رفسات من يلمس قدمي أو أي مكان في جسمي، وبدأتُ أهلوس وأتمتم وأتحدّث مع الموتى، وأصرخ في وجه الملاك، وأقول: ابتعد عنِّي، لا تأخذ روحي الآن قبل أن ألتقي مع أبي، جنَّ جنون الأطباء لهلوساتي، حار أحد الأطباء وخرج من الغرفة، وعاد بعد فترة قصيرة إلى غرفتي، كنت حينها في غرفة العناية المشدّدة، ثمَّ سأل عنّي إحدى الممرضات، فقالت: الأستاذ في حالة انهيار عصبي شديد، إنّنا نخاف عليه، حرام كان ألطف مريض ينزل عندنا، ومهذّب، وراقٍ لأبعد الحدود! توجّه الطبيب إلى غرفة الإنعاش، التقى بإيلي هناك وهي أمام رأسي قلقة جدّاً وقالت له: أين كنتَ والمريض في حالة خطيرة؟ فقال لها: كنت عند مدير المستشفى، ما الَّذي أخذك عنده؟ أليس من واجبي كوني طبيباً أن أبلِّغه بما حصل؟ لربَّما عنده اقتراح معيَّن يساعدنا به، وماذا قال لك؟ فيما بعد سأخبِّرك، فقالت له: أريد أن تخبِّرني الآن، ذهبت لإدارة المستشفى فشاهدت الدُّكتور وراثة وأمامه إضبارة وقلت له: أنت هنا يا رئيس المستشفى وعندنا مريض في حالة هستيرية شديدة ممكن أن يموت في أيّة لحظة؛ نتيجة العوارض الَّتي حصلت معه فجأةً، سمعتُ بالأمر، ولماذا إذاً أنتَ هنا؟ تفضَّل وساعدنا يا دكتور أنت رئيس المستشفى، أنا عندي إجازة اعتباراً من هذه اللّحظة، أين إجازتك، تخيّلي أمسك ورقة وقلماً ووقّع على إجازته، فقلت له: يا دكتور ما خطر على بالك تروح إجازة إلّا بعد أن نواجه هذه الحالة الهستيرية الغريبة، تعال فقط دقيقة وشاهد المريض، سيجنُّ جنونك من حالته حتَّى منذ قليل كان بحالة لابأس بها وفطر فطوره بشكل طبيعي، تعال شاهده، فقط دقيقة واحدة، لم يرد عليّ وراثة، قلت له: ما هذه الإضبارة الّتي تمسكها في يدك وكأنّها سرّ من أسرار الدّنيا؟ سحب الدّكتور رياض الإضبارة من أمامي، فقلت له: لمن هذه الإضبارة؟ فقال: إنّها للأستاذ صبري يوسف، وماذا تعمل بها هنا؟ من المفروض أن تكون في غرفته مرفقة بسريره، أحمرّ وجه وراثة وقال: لقد خرّجته منذ قليل من المستشفى، فقلت له: كيف تخرّجه من المستشفى وهو منهار ويهذي وفي حالة هستيريّة غريبة؟ تعرف لو هذا القرار الّذي في يدك يقع في يد وزير الصّحّة؛ سيطردك من رئاسة المستشفى؛ وستنال عقوبة صارمة ممكن أن تزجّك في السّجن، وكيف ستقع في يد وزير الصّحّة؟ إنّها في يدي! فقلت له: أعطني قرار تخريجه، فقال: ليس لك أيّة علاقة بقرار تخريجه، ثمَّ شقّ الورقة وقال لي: تفضّل هذه أوراق المريض وعلاجه وبقاؤه مفتوح في المستشفى، أنا طالع وسأغلق مكتبي وتصرَّف كما قلت لك، تذكّر أنتَ وبقيّة الأطباء وبلّغ الجميع أنّني في إجازة، ولا أريد أن يتّصل بي أحد إلّا بعد أن يتخرّج هذا المريض من المستشفى، جلبتُ الأوراق ووضعتها في غرفة الأستاذ، كنتُ أسمعُ صوت الدُّكتور وهو يتحدّثُ إلى الدّكتورة كلمةً كلمةً، وتبيّن لي أنَّ المنازلة تمّت بنجاحٍ مذهل، مع أنّني لم أطبقّ إلَّا ثماني نقاط من الاثنتي عشرة، فكيف لو طبَّقت كلَّ النّقاط! وهكذا طبَّقت مخطّطي الّذي لا يخرقه الماء؛ فهربت الأرانب ولا أعلم كيف سيواجه الضُّغوطات الّتي قادته أن يقع في خانةِ الأرانب!

يبدو أنَّ الأستاذ الآن بحالة أفضل بكثير، ضغطه نوعاً ما مقبول، تخطيط القلب جيد، لكنّه يحتاج لعناية شديدة وممرِّضة دائماً بجانبه؛ تحسُّباً لأي طارئ. نستطيع أن ننقله إلى غرفته، دكتورة ايليزابيت، حكى الأستاذ، دكتورة إيلي، الأستاذ يطلبك، كانت الدّكتورة عند الباب تريد أن تطلب ممرِّضة، جاءت على الفور أيوه أستاذ حكيت معي؟ أيوه حكيت معك، فتحت عيني وقلت: أين أنا؟ فقالت: أنت هون بالمستشفى في غرفة العناية المشددة، شو صار معي؟ ما صار شيء، لا تفكّر عزيزي صبري بأيّ شيء، أرجوك! كأس ماء لو سمحتِ، قدَّمت لي كأس ماء وشربته على ثلاث مراحل ثمّ قالت: صحتين وهنا، على قلبك، ثمّ أخذوني إلى غرفتي معزَّزاً مكرّماً، وأنا في حالة ولا أحلى، بينما وراثة كان في حالة يرثى لها؛ لما كان يخامره من شكوك وقلق فيما إذا سأشتكي به وأضعه في خانةِ إليكّ بالمليان؟!

  1. متى التقيتَ مع الدّكتورة إيليزابيت وماذا كان ردّ فعلها لكلّ ما حصل معك من انهيارٍ عصبي؟!

هذا سؤال وجيه وفي فضاءِ إجاباته الكثير من المفاجآت والفرح والفكاهة والاندهاش، جاءتني الدُّكتورة إيلي من تلقاء نفسها؛ كي تطمئنَّ عليّ، وقد مرّ فعلاً قرابة ساعتين منذ أن بلّغتني بقرار تخريجي، حيث كلّ المنازلة الشّرسة عبر حالة الانهيار العصبيّة الهوليووديّة، استغرقت قرابة نصف ساعة بما فيها مراحل العلاج والتَّهدئة ولقاء الدُّكتور الّذي أشرف عليّ مع بقيّة الأطباء، ولقائه مع الدّكتور وراثة وعودته إلى غرفتي، ثمَّ العناية المشدّدة وشرحه للدكتورة ما حصل معه، كلّ هذا حصل خلال نصف ساعة أو أكثر بقليل، وبعد إعادتي إلى غرفتي، بدأت آخذ مجدي وأمطّي رجليّ على كامل راحتي ومزاجي بعد أن ولّى وراثة هارباً كلّياً من المستشفى، ومن يدري؟ ربّما كان هؤلاء الّذين طلبوا منه تخريجي ينتظرون منه خبر تخريجي من المستشفى ويتّصلون به عبر مكتبه، لكنّه كان مغلقاً ولا أحد يردّ على هواتف المتِّصلين!

أهلاً دكتورة ايليزابيت، استقبلتُ الدّكتورة ببشاشة وفرح، وكان وجهها مشرقاً ينضحُ فرحاً وهي تراني مرتاحاً وهادئ الأعصاب، الحمد لله على سلامتك يا عزيزي صبري، الله يسلّمك يا دكتورة، حقيقة قلقنا جميعنا عليك بما فيهم الممرّضات والأطباء، هل كلّ الأطباء قلقوا عليّ؟ أيوه كلّ الأطباء. بما فيهم الدُّكتور رياض وراثة قلقَ عليّ! هو أكثر من قلق عليكَ وقلقَ على نفسه أيضاً، معقول يا دكتورة، دكتور وراثة يقلق علي، ألم تسمعيه البارحة كيف وضع رأسه في رأسي مصرّاً على تخريجي من المستشفى بأيّة طريقة كانت، وكلّما كنتُ أشرح له ضرورة بقائي بضعة أيّام أخرى، كان يزداد إصراراً؟ بلى يا أستاذ، سمعتُ كلّ ما قاله وقلتَه، ولكن البارحة راح مع البارحة؛ لأنّه اليوم كان فعلاً في أوج قلقه عليك وعلى نفسه في الوقت نفسه، أن يكون يا عزيزتي قلقاً على نفسه هذا أفهمه جيّداً، ولكن أن يكون قلقاً عليّ فهذا ما لا أفهمه نهائيّاً، كيف لا تريده أن يقلقَ عليك وأنت في مستشفاه؟ أَمَا كنتُ البارحة مريضاً في مستشفاه؟ لكن الأوضاع تغيّرت اليوم؟ تخيّل أنَّ الدُّكتور وراثة عندما وجد وضعك منهاراً وتفاقم بشكل مخيف ولا أريد التّحدّث عمّا حصل معك؛ لأنني قلقتُ جدَّاً عليك، تخيّل بعدما حصل ما حصل معك، مزّق قرار تخريجك من المستشفى بعد أن شاهدتُ القرار بعيني وخبّرتك بنفسي، وقطع إجازة لنفسه وغادر المستشفى، وقال لمعاونه: يستطيع الأستاذ صبري يوسف البقاء في المستشفى وتزويده بما يشاء وبتقرير طبِّي ثانٍ إلى أن يقرّر هو بنفسه مغادرة المستشفى وتجدوا أنَّ تخريجه لا خطر فيه على صحّته! كم السّاعة يا عزيزتي الآن؟ هي بحدود الثّانية، لماذا تسألني عن الوقت؟ لأنَّني قلتُ لكِ يا سيّدتي الجميلة بعد أن أخبرتِني عن موعد تخريجي، أن تعودي وتلتقي بي وتتحدّثي معي بحدود الثَّانية، وها قد جئت منذ قليل والآن هي الثّانية وجئتِ في الوقت المحدّد؛ كي أخبِّرك بما وعدتك به! بماذا وعدتني؟ وعدتكِ كيف سأهزم وراثة ومن يسنده ويبقى معه ويضغط عليه في المنازلة الّتي سأواجهه بها! ماذا تقصد يا أستاذ؟ أقصد يا عزيزتي أنَّ المنازلة تمَّت بنجاحِ منقطع النّظير، ووضعته فعلاً في خانة اليكّ! اشرح شو قصدك أكثر، ألم أقل لكِ: سأجعله يندم على قراره وحذّرته ثلاث مرّات ولم يعدل عن رأيه، لكنّي جعلته يهرب مثلَ أرنبٍ مذعور!

ماذا تريد أن تقول؟ أريد أن أقول يا جميلتي الدُّكتورة: إنَّني ما كنتُ أهلوس البارحة عندما كنتُ أتحدّاه وأحذِّره، وما كنتُ أهلوس نهائيّاً عندما أصبتُ بحالةِ انهيارٍ عصبي هوليوودي، كنتُ أعي كلَّ كلمةٍ أقولها، وكلّ عضّةٍ عضضتُ الممرّضات والأطباء، وكلّ رفسةٍ رفستها إلّا أنتِ كنتُ حذراً أن لا أعضّك ولا أؤذيك؛ لأنّكِ غالية ولن أنسى الحزن المرتسم على وجهك وأنت تشهقين بحزنٍ عميق وهو يهدِّدني بتخريجي، فأحببتُ أن أضعه عند حدَّه، وأبيّن له أنّ الضُّعفاء ليسوا ضعفاء كما يظن هو وغيره فهم أقوى الأقوياء عندما يمتلكون جرأةً وعقلاً مثل هذا العقل، وأشرتُ إلي رأسي كما قلت لك البارحة: أن لجنة أطبّائي هي هنا وأشرتُ إلى رأسي، فكنتِ تظنِّين أنَّني أهذي أو أقول كلاماً ناجماً عن مريضٍ يائسٍ من حياته! فهل صدَّقت الآن أنّني ما كنت أهذي، وأن هذا العقل قادرعلى أن يَهزم ما لايُهزم عندما يصوِّبُ أهدافه بحكمةٍ ودقَّةٍ، ولا يمنع أن يكون ذات بعد هوليوودي إذا اقتضى الأمر في بعض الأحيان؟! يا إلهي، يا صبري كم أنت رائع، والله أنت عبقري، يا إله، كم أنت جميل وكم لك رجاحة في العقل يا إلهي كم أحبُّك! دمعت عيناها، ثمَّ عانقتني وقالت: ألف مبارك انتصارك عليه، والله، أشعر الآن بفرح لا يوصف لكلِّ هذه النَّتائج، لا أصدِّق نفسي إطلاقاً، صدّقني كنتُ أظن أنّكَ فعلاً تقول كلاماً، وما كنتُ أظن نهائيَّاً أنّك قادر على أن تتحدَّى مدير المستشفى؛ لأنَّ كل ما كان يتعلّق بطريقة تحدِّيك له، كان يبدو لي مجرّد كلام وحكي! ولكن هذا الحكي كان قويّاً ومركّزاً وحارقاً وخارقاً بدليل أنّه قطع إجازة، بالمناسبة هل قطع إجازة مرضيّة أم إجازة من إجازاته السَّنويّة؟ ضحكت الدُّكتورة وقالت، يا الله أشقد أنا فرحانة؛ لأنَّك حقَّقتَ كل ما كنتَ تقوله بطريقةٍ أشبه ما تكون بالأفلام والمسلسلات، هل تعلمي ياعزيزتي أنّني كاتب وشاعر أكتب شعراً وقصصاً قصيرة، لكنّي في البدايات، يا عزيزي صبري إنَّ ما قمت به أفضل من قصّة القصص، ولكن فقط وفقط أنت من يعرف أبعاد هذه المنازلة وإلّا لو انكشف مخطَّطي؛ سأكون في موقفٍ لا أُحسَدُ عليه، فلو كلّ ممرّضة تعرّضت لعضّةٍ أو عضّتين من عضّاتي أو رفسةٍ كافٍ أن تقيم دعوى علي وتزجّني في السّجن لا محال! ضحكتْ من أعماقها، من أين تجيب هذا الكلام؟ عندك رغم كل ما أنت فيه خفّة دم غير معقولة، من أيّ طينٍ جُبلتَ؟ من ديريك، هل تستهينين بطين ديريك؟ والله لا أستهين طالما عندي عيّنه منه! تعرف يا صبري لو عرف الأطباء والممرِّضات تفاصيل ما حصل معك ومع الدُّكتور وراثة؛ صدّقني أستطيع القول أغلبهم سيقفون مع موقفك لولا خوفهم من نتائج موقفهم، لكن كمنطق كلّ ما قمت به كان معك الحقّ، وهكذا يا عزيزتي لم أقُم بهذا العمل وهذا الرّد إلَّا بعد أن سألتك مراراً: ألا أستحقُّ أن أظلَّ في المستشفى بضعة أيّام أخرى وأحصل على تقرير طبي ثانٍ؟ فقلت: بلى تستحقُّ، وها أنذا آخذ استحقاقي، لكنّي قطعتُ قليلاً وربّما كثيراً قصبات دكتور وراثة، لكنّه هو جاب هذا الدَّاقوق على رأسه! ضحكت إيلي وهي تقول: من أين تجيب هذه الأمثال والعبارات الطَّريفة؟ هذا الواقع يا عزيزتي، أليس هو من وضع نفسه في هذه الخانة؟! كان لقاءً جميلاً ومفرحاً مع الدُّكتورة إيلي، وحافظتْ على سرّيّة المريض، ألستُ مريضها أيضاً؟ لكن الأخبار وصلَت إلى ديريك بشكلٍ غريب فانقلبت الأوضاع من جديد رأساً على عقب، فماذا سمع الأهل والأقارب هناك وماذا حصلَ من مستجدَّات؛ٍ كي تنقلب الأوضاع رأساً على قلب وأنا في أوجِ انتصاري؟!

  1. كيف انتشرَ خبر وفاتك في ديريك، وكيف تلقّى الأهل الخبر، وماذا كانت ردّات فعلهم وفعلكَ؟

عندما أصبتُ بانهيارٍ عصبي كما أعلن عنه المستشفى الوطني بالقامشلي، ولم يكُنْ أحدٌ يدري حتّى تاريخ كتابة هذا الحوار مع الذّات، إلّا أنا والدُّكتورة إيلي أنَّ هذا الانهيار العصبي الَّذي حلَّ بي هو عملٌ هوليوودي، وما كان أحد من الأهل في ديريك يعلم بمستجدّات وضعي ومحاولة تخريجي من المستشفى عبر قرار حاسم من مدير المستشفى؛ لهذا اضّطررت أن أواجه تصعيد المواقف وحدي وبطريقتي الخاصّة، خاصّة أن أهلي ما كانوا قادرين إطلاقاً أن يقطعوا الطّريق عن قرار مدير المستشفى؛ لأنّه كان من الواضح أنَّ هناك جهات دخلت على الخط وحسمت الموقف مع الدّكتور وراثة بتخريجي من المستشفى لا محال، لهذا ما وجدت أمامي سوى هذا المخرج الهوليوودي، بحيث أُحْبِطُ كلّ المخطَّطات والضُّغوطات الّتي جاءته، وهكذا تصاعدت الأحداث، وما وجدت أجدى من طريقتي الهوليووديّة؛ كي أزيح الجميع من طريقي وهذا ما حصل، ولهذا أغلب الظّن أنَّ انتشار الخبر تمَّ من قبل الدّكتور رياض نفسه، وعبر مَنْ طلب منه هذا الطّلب؛ كي يبرّر لهم على ما يبدو أنّه غير قادر على تخريجي؛ لأنّني مررتُ في حالة طارئة ومفاجئة، ووصلتُ إلى حالة انهيار عصبي حاد، وممكن أن تؤدّي بي إلى اقتراب أجلي؛ لأنّه شاهد نتائج انهياري العصبي لا تحتمل حتّى بقاءه في المستشفى؛ كي يخفِّفَ المسؤوليّة عن نفسه فقطع، إجازة وتوارى عن الأنظار، وهكذا بطريقة أو بأخرى انتشر خبر انهياري الصّحّي، وتخلّله خبر وفاتي، فجنّ جنون الأهل، وانتشر الخبر على مستوى ديريك، فاستنفر الأهل بطريقةٍ لا يمكن ضبط الوضع نهائيَّاً، في الوقت الَّذي كنتُ أحتفل مع الدُّكتورة إيلي بنتائج نجاحي!

شعرتُ أنّني في موقفٍ قاسٍ، وأنَّ كلَّ الأحداث انقلبت ضدّي، وقلقتُ جدّاً على أمّي وأبي العجوزَين، وبدأتُ أهيِّئُ نفسي لترتيبات تهدئة الأوضاع، حيث استنفر آل دلالة، العم موسى دلالة وصبرو دلالة وسليمان دلالة، وركبوا بيكآباتهم بسلاحهم، ونزلوا من قرية الحكميّة مع عمومتنا من آل تومي وشحّو والطّوبجي وبيت عمّي وإخوتي وآل متُّو، وجنَّ جنون الأهل في ديريك وكان من الممكن وقوع كارثة الكوارث في حال حدوث أي اشتباك، لكن أهالي الطَّرف الآخر ظلّوا حكماء وقابعين في بيوتهم ينتظرون خبراً يسرّهم؛ ويخرجهم من الورطة الَّتي وقعوا فيها، وقد انتشرَ الخبر حتّى في ريف ديريك، وشعرْتُ أن ضبط الوضع يستحيل إلّا بلقاء وفد من الأهل يلتقيني شخصيَّاً؛ كي يراني وجهاً لوجه، ويتأكّد من سلامة وضعي، وإلّا فمن المستحيل تهدئة الأوضاع، وكلّ هذه النّتائج انعكست كلّياً على الطّرف الآخر كما كانت لصالح أخي سليمان في الجزئيّة المتعلّقة بعدم موافقته على مقترحات نقيب المعلِّمين الأستاذ نعيم زيتون فيما يخصّ المصالحة المقترحة من قبله آنذاك، ثم قال لابن حميه الأستاذ يوسف حنّا تفضّل حضرتك وحضرة الأستاذ نعيم لمتماني؛ لأنّني لم أوافق على طلباتكم وشروطكم في المصالحة وها قد انتشر خبر وفاة أخي! فأجابه الأستاذ يوسف: صدّق كان معك حق؛ لأنَّ حساباتك كانت دقيقة، ونرجو أن يكون الخبر كاذباً، ثمَّ توافد الكثير من الأهل والأقارب إلى بيت أهلي، وأقاموا تقريباً التّعازي، لكنّهم ما كانوا متأكّدين بشكلٍ نهائي من دقّة الخبر، وكانوا يتّصلون بالمستشفى، لكنّ الخطوط كانت مشغولة، وكلّ هذه الأخبار ومنعكساتها حصلت خلال وقتٍ قصير؛ ولهذا تشوّش الأهل ولم يتمكَّنوا من التّصرُّف من هول الصّدمة، حاولتُ أكثر من مرّة أن أطلب ديريك عن طريق المستشفى لكنَّ خط ديريك كان مشغولاً! شعرتُ بصدمة قويّة، ورحتُ أفكِّر بطريقةٍ سريعة لتكذيب خبر انتشار هذه الإشاعة حول وفاتي بطريقةٍ حاسمة، تفادياً لأيَّة منعكسات كارثيّة ممكن أن تحصل في العائلة ضمن تفاقمات الوضع الّذي وصل إلى حافّات الانفجار!

  1. كيف تلقَّيتَ اتّصال العم حنّا اصطيفو وهو يطمَئنُّ عليك، وإذ به يقول: صبري أنت ما متِتْ؟

فيما كنتُ أفكّر بطريقةٍ سريعة لتكذيب خبر انتشار وفاتي، دخلت عليّ ممرّضة بسرعة وهي تقول: لديك اتصال من العم حنّا اصطيفو من ديريك، شكراً، توجّهت مباشرة إلى الهاتف، مردّداً: آلو آلو، فقال لي وهو في أوج قلقه: مرحباً مين معي؟ فقلت له: أهلاً عمّو حنّا معك صبري، فقال لي: صبري أنت ما متِتْ؟ كيف لو متتْ كنت راح أقدر أحكي معك؟ طمّني ما متِتْ؟ ياعمّو شو قصّتك كمان عم تعيد علي ما متِتْ، كيف راح أكون ميت وأنا عم أحكي معك؟ يا بني، صدّقني اصطدمنا كتير وتشوَّشنا كتير؛ لأنّنا سمعنا بديريك خبر وفاتك، أنت الأستاذ صبري عم تحكي معي؟ أيوه أيوه عمّو حنّا أنا الأستاذ صبري، صوتك مو واضح علي، وصوتك كمان عمّو حنا مو واضح عليّ، مين معك ممكن أحكي معه؟ معي ابني نعيم وأصلاً اليوم هو يوم إكليله لكنّنا سمعنا خبر وفاتك فقلنا: سنتّصل مع المستشفى لو كان الخبر لا سمح الله صحيحاً؛ كي نلغي الإكليل، عمّو أنا بخير واعملوا الإكليل وألف مبارك مقدّماً، وأعطني”نعيماً” من فضلك، تفضّل معك نعيم العريس! مرحباً يا بن العم، أهلاً أستاذ صبري، كيف صحتك؟ بخير والحمد لله، يا أخي سمعنا خبراً سيئاً عن وضعك بصراحة انتشر خبر في ديريك منذ ساعة تقريباً عن وفاتك؛ فجنَّ جنوننا، وكل ديريك عم تغلي غلياً، واليوم هو إكليلي، فجئنا منذ أن سمعنا الخبر؛ كي نتّصل مع المستشفى ونتأكّد من دقّة الخبر، لكنَّ الخطوط كانت مشغولة، لا تقلق يا بن عمّي أنا بخير،  يبدو أنّ الخبر وصلكم متضخّماً جدّاً، فقد مررت بظروف صعبة قليلاً، ومرّت الأمور على خير، يعني إذا عملنا الإكليل مو مشكلة؟ بالعكس من دواعي سروري تعملوا الإكليل، صدقّني لو كنتُ حاضراً في ديريك وأنا في وضعي؛ سأرقص في رأس الدّبكة، ضحك نعيم وقال: نشكر الله أنّك بخير، إن شاء الله نراك في ديريك، وتنتهي هذه المشكلة على خير. مَن هناك موجود، صدّق عشرات الأهل جاؤوا للاطمئنان عليك، وأغلب أولاد عمّك وأهلك هنا في البريد وأمام البريد، طيّب خالي اسكندر موجود؟ أيوه موجود، أصلاً هو من أمّن لنا الخط، جيّد أعطني خالي اسكندر، وبلّغ تحياتي لكلِّ الأهل وطمِئنهم جميعاً أنّني بألف خير، مرحباً أستاذ صبري طمّني عليك، كيف صحتك؟ صحّتي بخير يا خال، وأطلب منك أن تخبّر الأهل أنّني بخير، وزيادةً في التَّأكيد ممكن أن يأتي وفد من الأهل إلى القامشلي؛ للتأكّد من أنَّ صحّتي بخير، وسلّم على كلِّ الأهل وطمئنهم أنّ صحتي تتحسّن، لكنّي تعرّضت لحالة انهيار عصبي، والحمد لله انتهت الأمور على خير، وتستطيع التّحدُّث مع ممرّضة من المستشفى وهي بجانبي الآن؛ كي تؤكِّد لك أنَّ صحّتي عال العال. مرحباً أختي، أنا اسكندر عازار؛ خال الأستاذ صبري، كيف صحّته ووضعه الآن؟ الحمد لله بخير ومرّت الأزمة بالسّلامة، وهو قيد المعالجة عندنا، ونرعاه بكلِّ ما نستطيع من رعاية، وهو في حالة تحسّن، واطمئنّوا وطمئِن كلّ أهله أنّه يتحسّن نحو الأفضل، وإن شاء الله سيعود إليكم قريباً وهو في كامل صحته وعافيته. بارك الله فيكِ! وفيكَ! أعطني صبري لو سمحتِ، مرّة أخرى يا أستاذ ألف الحمد لله على سلامتك، اذهب يا خال إلى الأهل وطمئنهم أنّني بصحّة جيدة، وربّما قريباً أعود إلى ديريك بكامل عافيتي، وألتقيكم جميعاً إن شاء الله، سأخبّرهم، وهناك الكثير من الأهل أمام البريد ينتظرون هذا الخبر المفرح، سأزفّه إليهم، وإن شاء الله نراك قريباً في ديريك بكامل صحّتك وعافيتك، تسلم يا خال، سلّم على كلّ الأهل! معَ السّلامة يا أستاذنا الغالي، الله معك يا خالي العزيز، سلامي لكم جميعاً!

  1. من زارك من الأهل بعد انتشار خبر وفاتك مع أنّكَ اتَّصلت مع الأهل وطمأنتهم على أنّه إشاعة؟

زارني أخي نعيم وصليبا ابن عمّي، كانا قلقَين جدَّاً عليَّ، وجهان شاحبان، بدا الحزن واضحاً عليهما، اطمأنَّا عليَّ وبسمة فرح ممزوجة بدهشة وشرود وتساؤل رُسِمَتْ على وجهيهما، كان صليبا ينظر إليّ وهو يقول: لا أصدّق إنّي أراك؛ لأنَّ صدمة الخبر أفقدت صوابنا جميعاً، وقد جاء الخبر في وقتٍ كنّا نترقَّب أخبارك؛ فكان مثل ضربة الصَّاعقة علينا، أشعر وكأنّ هذه اللّحظات معك هي حلم، وأمّا نعيم فقد كان في حالة كئيبة للغاية، بدا على وجهه علامات حزن الأسرة كلّها، سألته عن صحّة أمِّي وأبي، ابتسم وبصوت خافت قال: إنَّهما بخير، لكنّهما قلقان جدَّاً عليك، ولا يصدّقان أحدّاً إلّا إذا شاهداك بين أحضانهما، حتّى الآن لم نخبِّر أمّي ولا أبي عن الخبر كما سمعناه؛ لأنّنا ما كنّا متأكّدين من صحّة الخبر، لهذا قلنا لن نخبِّر بابا وماما إلّا بعد أن نأخذ الخبر من المستشفى، خاصّة أمِّي قلبها رقيق وحنونة ومتعلّقة بك تعلُّقاً شديداً، ودائماً تقول لنا أشلون صار صبريي، والياء الثّاني عائدة على صيغة التّملك والتَّحبُّب عند أمِّي، وسليمان وأولاد عمّو كيف أخبارهم؟ سليمان جنَّ جنونه عندما تلقَّى الخبر، فتّش البيت شبراً شبراً يبحث عن مسدَّسه خبأناه عنه في بيت أختي نعيمة؛ كي لا يعثر عليه ويرتكب جريمة في حالة غضب، خيَّم حزن عميق فوق سماء ديريك، كم كانجيراننا الأكراد حزانى عليك عندما سمعوا، وقلنا لهم: لا تخبّروا أمِّي وأبي؛ فهما لا يعرفان شيئاً عن هذا الخبر، لهذه الدَّرجة الوضع متأزّم؟ كيف لا تريده متأزّماً وخبر وفاتك انتشر في ديريك وقراها؟ تخيَّل بيت عمّنا آل دلالة والطّوبجي وشحّو وتومي والأهل في ديريك في حالة استنفار تام، أفريم ابن عمّو طوال اليوم على موتوره يبحث عن الجناة ويدخل في بيوتهم ويسأل عنهم، عمّوا وأولاد عمّو وديع وشكري وجميل وعبّود وكريم متّو وجميع آل متُّو في حالة حزن شديد! أخي نعيم، بالحقيقة أريد أن أغلق هذا الأمر خلال الأيام القريبة القادمة، ولا أريد أن أسمع ردود فعل الأهل وتحدِّياتهم، ولا أريد استخدام العنف في حلِّ هذه المشكلة؛ لأنَّ العنف لا يحلُّ المشكلة، بالعكس يعقدّها أكثر، كيف ستغلقه وتحلّ المشكلة؟ أريد أولاً تهدئة الوضع؛ خاصّة من جانب الأهل والأقرباء وأبناء عمومتنا، أريد أن أوجد قنوات للحوار مع الطّرف الثّاني، وإدخال وجهاء على الخطّ للتحاور؛ كي نضع النّقاط على الحروف، ولكن أريد أن يكون هذا الحوار عبري مباشرةً، وليس عبر أي شخص آخر من العائلة، لكنّي سأستشير العائلة في طريقة سير الحوار والحل، ولا أتصرَّف إلّا بما يناسبنا جميعاً، لكن أريد أن أمسك كلّ الخيوط؛ كي نصل إلى حلِّ نهائي ومصالحة أمام وجهاء الطَّرفين، بحيث يكون الجميع راضين، وكلّ هذا ممكن أن أحقّقه خلال الأيام القليلة القادمة؛ لأنّني لا أريد أن تظلَّ أمِّي قلقة عليّ ولا أبي؛ كي نرتاح جميعاً من كلِّ الأطراف، ولا بأس أن يدخل الأخ سليمان وعمّي وأولاد عمِّي في الرّأي، وأهم شيء أنّني بخير والحمدلله، وما تبقّى من تفاصيل الحل والمصالحة ستتمُّ معالجتها بهدوء بعيداً عن أي عنف. نظر إليّ صليبا وقال: بعد كلِّ ما حصل، ما تزال تبحث وتركّز على خيوط المصالحة، حقيقة أنت رائع وعقلك كبير جدّاً، ولو يا صليبا، الصّلح كما يقال سيّد الأحكام! بارك الله فيك يا بن عمّي، تسلم يا صليبا، نظر نعيم إلي وقال: ألستَ جائعاً؟ يعني. فقال: سنذهب أنا وصليبا ونشتري طعاماً، ماذا تشتهي؟ أستطيع أن آكل أي طعام، اشتروا ما تشاؤون، نوُّعوا الطَّعام! ودَّعاني، انتهزت الفرصة وأخذت قسطاً من الرّاحة واسترخيت فوق سريري. قفزت صورة أمِّي أمامي وتناهى إلى أسماعي  صوت والدي، غمراني راحةً، ثمَّ استسلمتُ للنومِ آخذ غفوةً في عزِّ الظَّهيرة!

بعد حوالي ساعة عاد أخي نعيم وصليبا ومعهما صحن كباب وشرائح وثلاث أسياخ من القصبة، وصحن حمّص وسلطة وربطة خبز، وفيما دخلا إلى غرفتي، وإذ بخالي مسعود عازار يدخل الغرفة، نهضتُ من غفوتي والعشيرة قائمة ركباً؛ لأنّ خالي مسعوداًوحده عشيرة العشائر، نظرَ إلي وسلّم علي وقال: شو هل الخبر الَّذي سمعناه من ديريك؟ ماذا سمعت؟ كل ديريك سمعت أنّك توفَّيت! نظر صليبا إليه قائلاً: ولهذا جئنا؛ كي نأخذ الجنازة، فضحك خالي وقال: شو هاد؟ فقلتُ له: صدّقني يا خال الله جابك في الوقت المحدّد، أحسن شيء نأكل لقمة رحمة على روحي وأنا طيّب! فضحك الجميع وبدأنا نأكل بشهيّة مفتوحة وقال خالي: صدّقوا أنا متغدّي بس راح أشاركم قليلاً، دخلتْ علينا الدّكتورة إيلي، ما شاء الله الزّوار اليوم قائمون ركباً ورائحة الشِّوي بتشهّي، تفضّلي يا عزيزتي الدّكتورة تفضّلي الصّدر لك، ضحكت وقالت: صحتين على قلوبكم! ودّعتنا وقالت: سأعود بعد قليل؛ كي نعزمكم على شاي بعد الغذاء، رائع يا دكتورة نحن بالانتظار!

نظر إليّ صليبا وقال: كنّا قلقين حتّى بعد أن طمأنتنا عن طريق ابن عمّنا نعيم اصطيفو، وخالو اسكندر، وهناك الكثير من الأهل لا يصدّقون حتّى الآن، ولو لم يأتوا إلى هنا ويروك بأمِّ عيونهم وجهاً لوجه فلنيصدقوا أنّك على مايرام، كانت صدمة خبر الوفاة قاسية علينا، حتّى أنَّ عمّو حنّا قال لنا: من كتر ما دختُ قلت لصبري مرّتَين وأنا أحكي معه: صبري ما متِتْ؟ ثمّ قال لي: ياعمّو شو قصّتك كمان عم تعيد عليّ ما متِتْ؟ كيف راح أكون ميت وأنا عم أحكي معك؟ مع هذا قلتُ له: أنت الأستاذ صبري عم تحكي معي؟ فقال لي: أيوه أيوه عمّو حنّا أنا الأستاذ صبري، بعدين حكى معه ابني نعيم وتأكّد من صوته وقال له: اعملوا الإكليل ولو كنت في ديريك؛ سأرقص في رأس الدّبكة، فضحكنا وقلنا: يارب متى سنراه في ديريك وهو يرقص في رأس الدّبكات في أفراحنا، حقيقةً صبري يرقص أحلى رقص في الحفلات!

  1. هل زاركَ أفرام/ سنحاريب بهنان سارة، وماذا كان رأيه حول المشكلة المتفاقمة؟

نعم، زارني العزيز الغالي أفرام/ سنحريب أكثر من مرّة، وجهٌ بشوش، دائماً البسمةُ مرتسمةٌ على وجههِ، لكنّه أحياناً كانَ يسرحُ ومسحةُ حزنٍ كانت توشّحُ محيّاه، ويزمّ شفتيه قائلاً: لا أصدّقُ أنَّ ما حصلَ حصل! ثمَّ قالَ: ما فهمتُ أبداً لماذا تطوَّرتُ الأمورُ إلى درجةِ المواجهة بهذه الطّريقة الوحشيّة؟ يا صديقي، يا عزيزي، هذا السُّؤال متأخّر جدّاً، ولو تريد أن تسأله من المفروض أن توجّهَه لمَن قامَ بهذا الفعل الوحشي وليس لي، وأنا على فراش المستشفى، هزَّ رأسه وقالَ: المهم طلعت السَّلامة، حقيقةً الخبر الَّذي انتشرَ في ديريك هزّنا جميعاً، حتّى أهل الشّباب انزعجوا جدّاً وقالوا: يا رب يكون الخبر كاذباً، والحمدلله الخبرُ كانَ كاذباً، وعدَّت الأزمة على خير، الحمد لله يا عزيزي أفرام، الحمدلله أنا بخير ولا أشكُّ أبداً بما تقولُه حولَ مشاعر أهلِ الشَّباب وحتى بمشاعر الشَّباب أنفسهم الَّذين تشابكوا معنا؛ لأنّهم من أقرب المعارف، فلا تفكّر نهائيَّاً أنّني أحقدُ عليهم، أو أكنُّ لهم الكراهيّة، بل أفكِّر من كلِّ قلبي أن ألملمَ هذا الأمر، وأجد له حلَّاً مناسباً للجميع، ويليق بإعادةِ اعتباري واعتبار الأسرة ويعطي لكلّ الأطراف حقوقهم، ونغلق الموضوع، ونتابع حياتنا؛ لأنّ الحياةَ لا تستحقُّ كل هذه الصِّراعات وكلّها فاضية لا فائدة منها سوى الخسائر من كلِّ الأطراف! حقيقةً رأيك متطابق مع رأي والدي، بالمناسبة كيفَ والدك ووالدتك وشموني، كنّتنا الغالية؟! بخير والجميع قلقون عليك، ويدعون لك بالسَّلامة، وبأشدِّ الشَّوقِ للقياك، إن شاء الله ألتقيهم جميعاً بأقرب وقت ونحلُّ هذا الموضوع، ونحوّل كنّتنا في أقرب فرصة و”نهجّها هجّاً” في الرّقص! ضحكَ أفرام وقال: أعجبتني عبارة “نهجّها هجّاً”! أي نرقص من أعماق قلوبنا! فيما كنّا نتحدّث أنا وأفرام، لا أعلم لماذا ذهبتُ إلى خزانتي وأخرجتُ قميصي الخمريّة المورّدة وهي ممزّقة وملطّخة بالدم، وفانيلتي البيضاء، كلّها دم من جرّاء الجرح القاطع في رأسي ووجهي، نظرّ أفرام إلى قميصي وفانيلتي وأنا أفتحهما له بيدي، ودمي الجاف فوق قميصي مثل خارطة مفتوحة الجناحين على بحار من الحزن، وإذ به يبكي ويقول: هذه القميص كانت عليك لحظة الاشتباك، أيوه هذه القميص، ماذا ممكن أن يكون موقف القاضي عندما يرى هذه القميص والفانيلة لموجّه في إعداديّة من إعداديات ديريك يتعرّض لهجوم بهذه الطَّريقة الوحشيّة؟ صدِّقني أي إنسان ينظر لقميصك بكلِّ هذا الدم سيقشعرُّ بدنه، أرجوك أستاذ صبري ضع قميصك وفانيلتك في الخزانة، وحاول أن تنسى هذا الأمر، وفكّر فقط بصحّتك وبطريقةٍ مناسبة للمصالحة كما قلتَ لي منذ قليل. ولا يهمّك يا أخي أفرام، إن شاء الله المصالحة ستتمُّ، خاصَّة لو كان الأطراف الأخرى إيجابيين معنا؛ كي نغلق المشكلة ونفتح صفحة جديدة على جميعنا، أرجو هذا من كلِّ قلبي يا أستاذ صبري. قدّمتْ الممرضة لنا كأسين من الشَّاي، شربنا شاينا، ثمَّ ودّعني أفرام، وحمَّلته خالص التَّحيات والسّلام لكلِّ الأهل، لوالده وأمّه وأخيه ولشموني، وقلتُ له: إن شاء الله تروني قريباً في ديريك ونحن نتعانقُ معَ الشَّبابِ ونتصالحُ بما فيه خير الجميع، فردَّ عليّ أفرام: إن شاء الله يارب، والله يبارك في بطنِ الأم التّي أنجبتكَ، ودّعني أفرام فتراءَت ديريك أمامي كباقةِ وردٍ والحمائمُ تحلِّقُ فوقَ بيتنا وأمِّي وأبي ينظران إليها!

  1. هل تخيَّلتَ نفسكَ للحظات ميتاً، وماذا كان يراودك وأنتَ تتخيّل نفسك ميتاً؟

ما كان يراودني في ذلكَ الحينِ نهائيَّاً، ولكن راودني لاحقاً وأنا في أعماقِ عبوري في وهجِ الحرفِ وتجلِّياتِ بوحِ الرُّوحِ، بعدَ أن سبرتُ ماهية الحياة، وغصتُ عميقاً في جوهرِ العمرِ الَّذي يعيشه الإنسان، تخيّلتُ نفسي مراراً ميتاً، ويخطرُ يوميَّاً، أسبوعيَّاً، شهريَّاً سنويَّاً على بالي الموت، لِمَ لا؟ إنّه صديقي الأعمق في الحياةِ، أحاورُهُ عن مغزى الحياةِ، عن كيفيةِ سبرِ أغوارِ القصيدة، عن أسرارِ نجيماتِ السَّماءِ وعن نضارةِ خدودِ الحبيبة، وعن صفاءِ الماءِ الزُّلال! يبتسمُ لي كأنّهُ بأشدِّ الشَّوقِ لمعانقةِ هلالاتِ بوحِ حرفي، كأنّه خميرةُ الأرضِ، يهدهدُ أريجَ القرنفلِ وتمايلاتِ شموخِ السّنابلِ. أجل مراراً تخيَّلت نفسي ميتاً، وكلّما كنتُ أراني ميتاً، في الحلم، في الخيال، في أوجِ شهقةِ الحرفِ؛ ازددْتُ شفافيةً وحناناً وشموخاً فوقَ أجنحةِ المحبّة أكثر، وجامحاً بأقصى ما لدي من دفءِ المحبّة نحوَ أصفى رفرفاتِ بوحِ الرُّوحِ، وأراني سعيداً ومجنّحاً نحوَ أشهى دندناتِ الأغاني، أرقصُ طرباً من أعماقِ بهجةِ الرّوحِ وانتعاشِ مهجةِ القلبِ؛ لأنَّ الموتَ لا يقلقني نهائيَّاً، بل يمنحُني طاقاتٍ رهيفة لتكثيفِ رؤاي وتجسيدها فوقَ اخضرارِ الحياةِ، قبلَ أن نودِّعَ الحياةَ، وكلَّما عبرتُ في أعماقِ فلسفتي للموت؛ِ وجدتُ أنَّ الموتَ هو صديقُ الإنسانِ منذُ أن جاءَ الإنسانُ على وجهِ الدُّنيا؛ ولهذا توغَّلتُ عميقاً في مرامي الموتِ وروعته وجماله وعدالته وعمقه وتأثيره على منحي تجلِّياتٍ مدهشة في العطاءِ، إنّه أشهى ما في سموِّ الخيالِ؛ لأنّه يفتحُ أمامي آفاقاً مفتوحة على ضياءِ الكون، هو سيّد العدالاتِ، وهو الحكمُ الفصلُ في إقرار مساراتِ العمرِ، يحملُ فوقَ أجنحته ميزاناً مجنّحاً نحو أعالي السّماءِ، سيبقى ميزانه شامخاً كقاضي القضاةِ إلى مدى الحياةِ، تمرُّ بكلِّ طاعةٍ تحتَ أجنحتِهِ كلّ الكائناتِ، وقد وجدتهُ مراراً عبر هذه المرامي والمعاني الفسيحة يطهّرني من قشوريات الحياةِ، ويمنحني غبطةً وألقاً وإبداعاً شاهقاً من خلالِ عبوري في أبجدياتِ جمال الكونِ لمناغاةِ الكلمة من أعماقِ حبورهِا تارةً وعناقِ اللَّون بأبهى رهافاتِ شذاه طوراً، مجسّداً رحيقَ الحياةِ عبر حبري وأرقى ما في بهاءِ لوني فوقَ أريجِ الحياةِ؛ لأنَّ كل ما في الحياةِ هو باقٍ في الحياةِ ومعرَّشاً في جوهرِ الحياة، ونحن البشر لسنا أكثر من شهقةٍ عميقةٍ من شهقاتِ الحياةِ؛ لهذا أراني أبحثُ عن خصوبةِ القصيدةِ ووهجِ النَّصِ وعن جوهرِ الحياةِ؛ كي أمهرَ بصمتي بكلِّ ما لديَّ من تجلِّياتِ شموخِ البشرِ، شموخِ الإنسانِ، شموخِ الذّاتِ نحوَ آفاقِ السَّلامِ والمحبّةِ والفرحِ فوقَ أزاهيرِ الحياةِ؛ لأنَّ العمرَ الّذي نعيشه ليس أكثرَ من رحلةٍ عابرةٍ فوقَ جفونِ الحياةِ، فلا يملكُ المرءُ من الحياةِ سوى عمره القصير الَّذي يعيشه، ومهما عشنا وعاشَ المرءُ فهو مقمّطٌ في هُلالاتِ عمرٍ قصيرٍ؛ لأنَّ عمرَنا مهما طالَ فهو مؤقّتٌ فوقِ طينِ الحياةِ، والسُّنونُ الّتي نعيشُها ليستْ أكثرَ من ثوانٍ معدوداتٍ في شهقاتِ عمرِ هذا الزّمان؛ لهذا أراني غائصاً في بهجةِ انبعاثِ القصائد بشغفٍ عميقٍ، وكأنَّ الموتَ يحرّضني ليلَ نهار على كتابةِ أشهى تجلّيات حرفي عبرَ احتباكِ حنينِ القصائد قبلَ فواتِ الأوان، فأبحثُ بكلِّ حبورٍ وابتهالٍ عن مناجاةِ وهجِ الرُّوحِ وهي تعانقُ زرقةَ السَّماءِ، وتُحْبكُ هلالاتِ سموِّ الرُّوحِ  لتبقى هذه الرُّؤى الخلَّاقة طقوسَ حبٍّ شامخٍ فوقَ مزاميرِ الحياةِ!

  1. ما أكثر شيء كان يقلقك خلال وجودك في المستشفى؟

إنَّ أكثر شيء كان يقلقني هو قلق أمّي وأبي وأهلي علي؛ ولهذا شعرت بنوع من الأسى والأنين العميق لما أنا فيه، من جهتي وعلى صعيدي الشَّخصي أخذتُ كلَّ النّتائج من أوَّلها إلى آخرها بروحٍ رياضيّة عالية وبصبرٍ كبير، لكنَّ الأهل لا يفكِّرون بطريقتي، والأكثر قلقاً كان خوفي من انجرار الطَّرفين إلى اشتباكٍ جديد لا تحمد عقباه، من خلال المستجدّات والمشاحنات الّتي ممكن أن تقع بينهما؛ لأنَّ الاصطدام والاشتباك ممكن أن يقع في أيّةِ لحظة؛ لهذا بدأتُ أضعُ مخطَّطات جديدة لتفادي أي اشتباك ممكن أن يحصل، وطلبتُ من كلِّ الَّذين يزورونني من الأهل والمعارف والأطراف الحياديّة ضرورة ضبط الوضع المتوتِّر بين الطّرفين، وعدم إطلاق أيّة تصريحات استفزازيّة من الطّرفين، ومحاولة تهدئة الوضع ما أمكن؛ لأنَّ ما حصل قد حصل، وعلينا أن نفكِّرَ جميعاً بما يقودنا إلى الخروج من هذه المشكلة المتشابكة بشكلٍ حضاري، بعيداً عن أيَّةِ أضرارٍ لأيِّ طرفٍ من الأطراف، وحلّ المشكلة بشكلٍ مناسب للجميع، بحيث يأخذ كلّ واحد حقَّه دون أي تظلّم، وبدأتُ أشتغل بكلِّ هدوء ودقّة على هذا المسار، وحقَّقتُ نجاحاً أوليَّاً من خلالِ ضبطِ الوضعِ الّذي تفاقمَ هناكَ بعدَ أن سمعوا الخبر المفجع عنِّي، وقد قام أخي نعيم وصليبا على نقلِ مستجدّات وضعي، وطمأنّوا الأهل والأقارب والأطراف كلّها بأنِّي بخير، وهذا ما حقَّق هدوءاً نسبيّاً واستعداداً من الجميع لإغلاق المشكلة من جذورها؛ فقد تعب كلّ الأطراف من نتائجِ ما حصلَ، والجميع ينتظرون الحلول والمصالحة في أيّة فرصة قادمة!

وقد وردتني معلومات وترتيبات من ديريك أنَّ العم بهنان سارة أبو سمعان بصدد مقترح جديد سيقترحه عليّ شخصيّاً؛ كي نضع النّقاط على الحروف من خلالي كطرف مباشر وأساسي في حلِّ المشكلة، خاصّةً أن أخي نعيم خطيب ابنته شموني قال له: إن أخي “صبرياً”يريد أن يعالج ويغلق الموضوع بنفسه وبالتَّنسيق مع الأهل، وخلق قنوات للتواصل مع الأطراف الأخرى؛ كي يمسكَ كلّ الخيوط الَّتي تقودنا إلى مصالحة نهائيّة دون أن يفرِطَ خيطاً من هنا أو هناك، وانطلق أبو سمعان من هذه الفكرة والاقتراح، وبدأ يخطِّط لها من خلال الأستاذ جرجس بهنان؛ كي يكون الوسيط بين الطَّرفين؛ بصفته مدير الإعداديّة الَّتي كنت أشتغل فيها على مدى الفصلين الدِّراسيين، وهكذا بدأتُ أجهّز نفسي للقاء مع أبي سمعان بأقرب وقت يزورنيفيه؛ كي نناقش الموضوع بكلِّ هدوء ورويّة لعلّنا نحقِّقُ النّتائج المأمولة، وشعرتُ أنَّ آفاق المصالحة تلوحُ في الأفق؛ طالما الأستاذ جورج وأبو سمعان دخلا على الخطّ بكلِّ قوّة ونيّة طيّبة!

كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_يوسف Sabri Yousef ..في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..- من السؤال – 141 – إلى السؤال 150..

كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_يوسف Sabri Yousef ..

في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..

من السؤال – 141 – إلى السؤال 150..

  1. كيف وقعت المشاجرة بالهجوم عليك وعلى أخيك سليمان وابن عمّك جميل أدّت إلى كسورٍ في الرَّأس وجرحٍ قاطعٍ في نهاية جفن العين اليسرى ورضوض في الجسم لسببٍ لا ناقة لك فيه ولا جمل؟

ما هذا اليوم يا ربّ العباد، ما هذا اليوم؟ لم يخطر على بالي أبداً أن أمرَّ بموقف كهذا، ولا بحالة كهذه الحالة الَّتيتشبه إلى حدٍّ بعيدما يحدث في الرِّوايات والقصص الخياليّة، خاصّة مع شخص مسالم مثلي؛ شخص يعشق المحبّة والبشر والحياة، عفوي بسيط طَموح، كلّ همّه متابعة دراساته العلميّة وقراءة الشِّعر والأدب والفكر والفلسفة، والتَّعمّق في الفكر الإنساني الخلّاق، كيف أسأل ذاتي هذا السُّؤال، ما هذه الجرأة المميتة الَّتي خطرت على بالي، وما هذا الحوار مع الذّات طالما بين الحين والآخر أرى دمعتك يا صبري تنضح مثل الأطفال، هل تبكي على نفسكَ، أم تبكي على هؤلاء الخارجين عن القانون والخارجين عن منطق الحياة؟ يا إلهي، كم هي قاسية الحياة، وكم هي متناقضة، وكم هي غريبة الأطوار؛ لما تخبِّئه لنا بين منعطفات عمرنا من مفاجآت تدهش القصيدة وتحطِّمُ الآمال وتزيح عن بهاء الصَّباح بهجةَ الإشراق، وتمحقُ وهج الحنين إلى اخضرار الكروم، وتعكّر صفو السَّنابل الّتي تنمو في حقول ديريك، وتخلخل أجنحة الحمام، وتجعلنا في دوّامةٍ من أمرنا!

كنّا أنا وأخي سليمان وجميل ابن عمِّي نسير وحدنا في شارع المشوار، هذا الشَّارع الَّذي أحببته حبّاً عميقاً أكثر من شارع الشّانزيليزيه، وشارع الحرّيّة في محردة، وشارع القوتلي في القامشلي، وشارع القصَّاع في دمشق، وشارع الحمراء في بيروت؛ هذا الشَّارع الَّذي من المفروض أن يحضنني حتّى النِّخاع؛ لأنّي كنتُ وما أزال أعشقه، لأنّه منبع ذكرياتي وآمالي وحياتي، وإذ به في غفلةٍ من الزّمن يرميني أرضاً كأنّني قتلتُ أباه وأمّه وأخته وكلّ سلالته، مع أنَّ كلّ مَنْ فيه هم أهلي وإخوتي وأولاد عمومتي وأصدقائي وخلَّاني وأهل بلدتي ومسقط رأسي، ما هذا المسقط الّذي أنجبني للحياة ويرديني أرضاً، ومع هذا أظلُّ أحبُّه وأحمله فوق أجنحتي أينما حللتُ ورحلتُ؟ ولماذا أحمل هذه الذِّكريات الموغلة في الأنين والبكاء وأحاور هذه الذَّات المهشّمة من رأسها حتّى أخمص روحها؟! هل للروح أخمصٌ؟! إنَّني أتطهّر بكاءً في هذه الثَّواني واللَّحظات، كأنِّي أتلقَّى في هذه اللَّحظة خبر وفاة أبي وأمِّي وإخوتي وأخواتي وكلّ أهلي  دفعةً واحدة وأنا في أعماقِ غربتي، فلا أجد سوى البكاء ردّاً لهذا الخبر المميت، أليست وفاةً ما بعدها وفاة أن تكون سائراً في شارع عمرك وسط أهلك وأحبّائك، وإذ بالأحبّة الشّباب يهجمون عليك دون أيّة إشارة أو سابق إنذار، يهجمون غفلةً ويرمونك أرضاً على قارعة الطّريق أمام كنيسة تشمخ قبّتها في بهاء السَّماء، وسط مئات الأصدقاء والصّديقات والشَّارع في أوج فرحه؟! كم أنا سعيد أنَّنا قبل أن نخرج من المنزل، شاهدَتْ زوجة أخي سليمان مسدّسهُ مجدولاً في خاصرته، فقالت له شو هاد معك، راح تطلع مشوار في شارع الكنيسة بالمسدّس؟ أيوه بالمسدّس وفيه (12) طلقة! ومخزن إضافي، والله على جثّتي ماراح تطلع ومعك المسدّس، يا بنت الحلال الجماعة علقوا منذ فترة مع أولاد عمّي وأسمع طراطيش حكي أنّهم سيضربون صبري وهو الأخ الصَّغير المدلّل ولا يحب العنف ولا يستطيع أن يقاوم هؤلاء، اتركيني آخذ هذا الَّذي سيردُّهم على أعقابهم لو تعرّضوا لصبري أو لنا بطريقة غادرة، لن أترك شعرة من رأس أخي تسقط قبل أن أفرّغ هذا الرّصاص في جماجم كل من يهجم علينا. على حكيك راح تروح تحارب، أيوه راح أحارب، مين قالّك ما راح أحارب، أم أنَّ الحرب هي في جبهات القتال فقط؟ ممكن أن تكونَ في بيتنا وحيّنا وشارعنا. حاولت زوجة أخي المستحيل وهي تبكي وترتجف؛ كي تسحب منه المسدّس، وقالت له: يا بن الحلال، كلّ ضربة بوكس منك تهدُّ رجّالين، أصلاً أنت لا تحتاج لمسدّس؛ لأنّك مسدّس، أبوس إيدك أعطني المسدّس، وسحبت منه المسدّس، وقالت لنا: الله والعذراء معكم، هلّا روحوا لمشواركم! أشكر زوجة أخي؛ لأنّها سحبت مسدّس أخي بمخزنيه المملوءين بالرّصاص، وغالباً كان يسير خارج المنزل مسلّحاً، حتّى ولو لم يكُنْ هناك أيّة مشكلة؛ تحسُّباً لأيِّ طارئ، وخرجنا إلى شارع الحبِّ والمشاوير ونحن في أوج فرحنا، وكان أخي نعيم قد تسرّحَ حديثاً من الجيش، لكنّه لم يكُنْ معنا، وأمّا بقيّة أولاد عمّي فكانوا مجموعات أخرى، ولم نخطِّط نهائيّاً للمشاجرات والعراكات، وأخذنا الموضوع بروح رياضيّة، وقال سليمان: حتّى عشرة لو هجموا علينا خلال دقائق ستجدونهم أرضاً، لكن حسابات سليمان خابت نتائجها؛ لأنَّ طريقة المعركة لم تكُنْ كما يُخيّل إليه فجاؤوا غدراً، كنَّا نتمشّى في الشَّارع المملوء بمئات الشَّباب والبنات الحلوات، وصلنا مقابل بيت موسى شمو المطلّ على زاوية الكنيسة وأصبحنا في مفترق الشّارع المتقاطع مع الكنيسة، وإذ بمجموعة من الشّباب يستوقفوننا، وسلّموا علينا مرحباً، أهلاً وسهلاً، ردَّينا عليهم، فقال أحدهم: يا شباب نحن أصدقاء ومعارف، وبدأ بمقدِّمة ترحيبيّة أشبه ببادرة لملمة ما حصل منذ أيام مع ابن عمّي وديع وابن خالته، فرحَّبنا بمبادرتهم وقال أخي: ما في مشكلة نهائيّاً من طرفنا اطمئنّوا؛ بدليل شوفوا أولاد عمِّي وبقيّة الأهل مو معنا، وخرجنا كلّ مجموعة لحالها؛ لأنّ نيتّنا صافية، وما في أي شيء مبيّت من جانبنا، فقال: خلاص ما في شيء، فقلنا: خلاص، وكأنَّ كلمة خلاص كانت عندهم كلمة السّرِّ لبدء معركة حيث ما كنّا إطلاقاً مهيّأين نفسيّاً، وإذ بعد لفظ كلمة خلاص، بدأ الهجوم من الخلف والأمام والجوانب بالأحجار واللّكمات والرَّفسات، وفي الثَّواني الأولى ضربني أحدهم ببوكس والحجرة في يده في فروة الرّأس حتّى الآن آثارها بادية للعيان، ثمَّ تتالت اللّكمات، تشتَّتنا؛ لأنّنا كنّا ثلاثة وهم كانوا أكثر من عشرة، وكان لديهم شباب احتياط فيما إذا قاومنا، لم أستطِع المقاومة؛ لأنّني في الثّواني الأولى تعرّضت لضربة في الرَّأس؛ وبدأ الدّم يسيل، وبعد أقل من دقيقة تعرَّضتُلضربة حجر في قبضة يد أحدهم، وضربني الضّربة على خدّي من جهة العين اليمنى، شعرتُ أنَّ زلزالاً وقع على رأسي؛ وفقدتُ توازني، وصحْتُ سليمان اترك كل شيء والحقني فُقِئتْ عيني؛ لأنّني أغلقت عيني اليسرى وفتحت اليمنى فلم أرَ بها؛ لأنَّ الجفن كان مغلقاً من أثر الضَّربة الَّتي جاءت بجرحٍ قاطع من نهاية الجفن لعيني اليمنى وعلى مساحة من الخدِّ، فتورّم خدّي وعيني وأُغلقَ الجفن كلِّيّاً، عندما سمع أخي صوتي أستنجد به كان بمواجهة شابّين وجهاً لوجه وأكثر من واحد يضربونه من الخلف، فلكَمَهما وتوجّه نحوي وأنا ململم على الأرض بوضعيّة القرفصاء، ويدي على رأس أحميه من ضربات قادمة، وإذ به يرى مراهقاً يتقدَّم نحوي ومعه حجرة كبيرة في يده، وحسب أخي حسابه أنّ المراهق لو ضربني هذه الحجرة سأنتهي لا محالة، فقفز بسرعة جنونيّة نحو المراهق، وضربه لكمةً في صدره؛ فوقع أرضاً هو وحجرته، ثمَّ نهضَ وولّى هارباً، في هذه اللَّحظة عندما وجدوني في حالة خطرة وعيني مفقوءة ولّوا هاربين، وفي هذه اللّحظات وجدت ابن عمّي جميل بكامل قيافته وهندامه، أين كان لحظة التّصادم لستُ أدري؟! وكلّ المشاجرة لم تستغرق أكثر من دقيقتين، ولو لم يتم ضربي غدراً ومن الخلف؛ بكلِّ تأكيد كنت سأصدُّ من يتعرَّض لي؛ لأنّني صحيح كنت ضعيف البنية، ولا أصلح أن أخوضَ معارك عنف ومشاجرات، لكنِّي كنتُ وما أزال جريئاً جدَّاً للدفاع عن نفسي، وأستخدم أقدامي بطريقةٍ تجعل الخصم يرى أنّه أمام مواجِهٍ عنيفٍ رغمَ جسده الضَّعيف، وسمعت أخي سليمان يسبُّ زوجته قائلاً: الله لا يعطيكِ العافية مثل ما أخذتِ منِّي المسدّس، كان اليوم يومه، آخ لو كان معي مسدَّسي كنت سأصفِّيهم واحداً واحداً، وقفتُ على حيلي، وسندني أخي وجميل وتمكَّنت أن أسير، جراح خطيرة: رأسي ينزف، وعيني تنزف، ورضوض على الجسم، وضربة قوية في الصّدر، وتدرُّز في عظام الصّدر، ورضوض في الظّهر والخاصرة والقدمين، في الطَّريق نحو الطَّبيب لإجراء إسعافات أوليّة، وقفتُ وقلتُ لسليمان: أسندوني؛ أريد التَّأكُّد من عيني؛ لأنّني شعرتُ وأنا في تلك الحالة أنَّ عيني بخير، طاقة غريبة غمرتني، وشعرتُ براحة؛ لأنَّنا مشينا بجانب الكنيسة، فسندني، وفتحت جفنَي عيني المتورّمة، وحاولت فتح الجفنَين؛ لأنّ عيني كانت مغلقة، وتمكَّنت من فتحها، وفتحتُ الجرح أكثر؛ وإذ بي أرى بها، فقلت لأخي سليمان: عيني بخير يا أخي؛ فلا تقلق، لكنّها تؤلمني للغاية، وصلنا بعد دقائق للطبيب، تجمَّع مئات البشر في الشَّارع المطلِّ على عيادة الطَّبيب مقابل بيت صليبا الصولكر، وكانت العيادة في بيت لمبكي، فوق نادي البيمبون، صعدنا بضع درجات وأصبحنا عند الطّبيب، وحضر الشّرطة في نفس اللّحظة، سمعت صوت عمِّي وأنا في داخل العيادة، وإذ بالشّرطة تمنعه من الدُّخول، فقال للشرطي: أنا عم صبري؛ ويجب أن أدخل لأطمئنّ عليه، فقال له: بعد قليل سيخرج؛ وتستطيع مشاهدته والاطمئنان عليه، جلستُ على كرسي، وبدأ الطَّبيب يفحص عيني، وقال: الحمدلله يا أستاذ، عينك سليمة، مسح الدَّم وجاءت ممرضة تساعده في تنظيف خدّي من الدّم، طلبتُ منه أن أنظر في المرآة فمنعني، وقال: عينك بخير، إنّه جرح وورم لا أكثر، فقلت له: ماذا ستعمل الآن؟ فقال: سأقطّب الجروح، عندك جرح في رأسك، وجرح في نهاية الجفن، لظمَ خيطاً ووجدته يبدي أسفه على أنّه لا يتوفّر لديه إبر بنج، فقلت له: قطّب الجروح من دون بنج، فقال: هل تتحمّل؟ ولو دكتور أنت أمام رجل، نظر أخي سليمان إليّ، ثم بدا عليه وكأنّه سيغمى عليه، فأخرجوه خارج العيادة؛ لأنّه لا يتحمَّل مشاهدة جروحي، ولا يتحمّل خياطة جرح عيني من دون بنج، كان عمّي في بيجامته أمام مدخل العيادة، ومعه دبّورته الّتي ينحت فيها الحجر، وحوله مجموعة من الأهل والأصدقاء والجيران، والشّارع مملوء بالنّاس، حالما خرجتُ عانقني عمِّي وقال: آه لو كنتُ معكم سألقّنهم درساً كيف يوسف شلو ينحت الحجر، وقال بصوتٍ عالٍ: إذا هؤلاء الجبناء رجال فليتقدَّموا واحد مقابل مئة منهم! ثمَّ تقدّم وديع ابنه وأفرام وأخي سليمان وقال: لو هم رجال أصلاً ما ضربوا ضربة غدر ومن الخلف، لكنّنا سنتواجه! .. فيما كنّا نتوجّه نحو السَّراي، تساءلتُ ماذا كان سيحصل لو كان مسدَّس أخي سليمان معه ونحن نخوض معركة كهذه خلال دقيقيتن لا أكثر، أما كان سيقتل بحسب هجومهم المباغت دفاعاً عنّي وعن نفسه العديد من هؤلاء الشَّباب؟! سررت؛ُ لأنّه كان خالياً من السَّلاح؛ لأنّني كنتُ وسأبقى ضدَّ استخدام العنف، مجنّحاً نحوَ الحوار، والآن سأرى إلى أين سيقودنا حواري مع الذَّات؟!

  1. كيفيّة نقلكَ إلى السَّراي، لإجراء التَّحقيق معكَ، وحالما سمعتَ صوت خالك إسكندر عازار، طلبْتَ منه الإنجيل؛ كي تقبّله، فوضعَه على رأسك وجبينك، وقبّلتَ الإنجيل، فقبلكَ الآخرون ببكاءٍ عميق؟!

نقلوني سيراً على الأقدام ومئات الأهل والأصدقاء والمعارف ساروا خلفي نحو السَّراي، حملوني عبر درج السّراي الطَّويل، وحاولتُ أن أقف على قدمي لكنّي لم أستطِعْ، فقلتُ للذين يسندونني: إنِّي غير قادر على الوقوف، فجلستُ على الأرض، ولكنّي لم أتمكّن أن أحمل جسمي جلوساً؛ فأحببتُ أن أسترخي جسمي بكلِّ آلامه على ظهري، على بلاط مدخل السّراي، شعرت في تلكَ اللَّحظات أنّني سأفارق الحياة، آلام مبرحة في رأسي وكلّ أنحاء جسمي، ملايين الأفكار تخطر على بال المرء عندما يقترب نحو حافّات الموت أو الشُّعور بفراق الحياة، لا يكفي ألف سؤال وسؤال آخر للتعبير عمّا راودني في تلك اللّحظات، تعجز لغات الأرض قاطبةً عن ترجمة مشاعر إنسان طموح وسط بيئة فلّاحيّة بسيطة أن يجد نفسه في غمضة عين ودون أي مبرِّر في مدخل باب السّراي على البلاط ينازع الحياة، كم للعقل طاقة في استحضار الصُّور، ملايين الصُّور استحضرتها أو استُحْضِرَتْ من تلقاءِ نفسها، تراءت أمّي أمامي، وشعرت وكأنّي سمعت صوتها من أسفل الدّرج وهي تنظر نحوي، ورفعت يديها تدعو وتقول: الله يأخذ حقّي من هؤلاء الّذين ضربوا ابني على الغفلة كل هذا الضّرب، ابني الّذي يحبّه الجميع. هرجٌ كبير في أرجاء المكان، وأنا غارقٌ في منازعةِ وداعِ الأرضِ، متوجّهاً نحو أحضانِ السّماء، لا أعلم لماذا استسلمتُ للموتِ ربّما من الآلام، شعرتُ أن نزيفاً داخليّاً في الرّأس ربّما وقع لي أو ارتجاجاً في المخّ؛ لأنّني كنتُ في حالة مريعة، آلام وصور تتزاحم في ذهني، يا إلهي، تراءت صورٌ منذ طفولتي حتّى تلك اللّحظات المريرة، شعرتُ أنّني بعد لحظات سأسلم الرّوح لا محالة، فجأةً سمعت صوت ابن عمّي وديع وهو يقول: والله وبالله لو صبري يصيبه شيءلا سمح الله؛ سأمحي كل مَنْ رفع يده عليه من الوجود، ثمَّ شعرتُ وكأنِّي أسمع صوت خالي اسكندر عازار؛ لأنّني كنتُ في حالة شبه إغمائيَّة، فصحتُ: خالو اسكندر أبو رياض أنتَ هون؟ فسمع صوتي وقال: لحظة صبري عم يحكي، أيوه أنا عند رأسك، أمسكَ بيدي وقال: قُل لي ماذا تريد يا صبري؟ فقلت له: خالو أعرفك تحملُ في جيبك دائماً الإنجيل، فقال: صحيح، ماذا تريد؟ فقلت له ضع الإنجيل على رأسي؛ أريد أن أقبّله قبل أن أموت! فيما كان يخرج الإنجيل من جيبه سمعت موجة بكاء تتعالى من حولي، وضع أبو رياض الإنجيل فوق رأسي وقبّلته، وحالما قبّلته؛ شعرت وكأنَّ قشعريرة دافئة توغّلت في جسمي، ثمَّ أمسكتُ الإنجيل ووضعته على صدري المُدمى من الدِّماء الَّتي انسابت من رأسي وعيني، ثمَّ باسني أبو رياض، وباسني من بعده صهر لحدو عبدي الكبير، والأهل وبعض الأصدقاء؛ ظنّاً منهم أنّني سأودّع الحياة وصلّى خالي اسكندر على رأسي، وكأنّه كاهن يودّع إنساناً قبل أن يسلم الرُّوح، شعرتُ براحة عميقة فيما كنتُ أمسك الإنجيل فوق صدري، ثمّ أخذ أبو رياض الإنجيل منِّي ووضعه على رأسي، ورسم إشارة الصَّليب على جبيني بالإنجيل، وفجأة خفّ ألمي، وشعرتُ وكأنّ قوّة غامضة توغّلت في جسدي المسجَّى على الأرض، وفتحت عيني وقلت: أريد أمّي وأبي، شاهدتُ الجموع حولي، كان الشّرطة يريدون أن يكتبوا تقريرهم بما حصل ويأخذوا أقوالي، كانت أمّي منهارة ولم تتمكّن من الوقوف على قدميها، وأبي عندها يهدّئ من روعِها، باسني عمّي وأولاد عمِّي وإخوتي وأخواتي، سألني الشّرطي فيما إذا ممكن أن يأخذوا أقوالي، بكلِّ تأكيد تستطيعون، أخذ الشّرطة أقوالي وأقوال أخي سليمان وجميل وبعض الشُّهود، شعرتُ أنَّ آلامي تخفُّ شيئاً فشيئاً، ولم أجد تزاحماً في ذهني من الصُّور الّتي كانت تتراءى لي منذ قليل، كان زملائي حولي وقال أحدهم: هاد عمل بني آدمين يعملوا، شو كان عمل الأستاذ صبري؛ كي يضربوه كل هذا الضّرب ويورّموا عينه ويكسروا رأسه بطريقة همجيّة؟ مليح كان أخوه معه وإلّا كانوا قتلوه بأرضه، خسارة، خسارة، ضمير ميّت وكأنّهم هجموا على عدوّهم! هل هذا الَّذي يبوس الإنجيل وهو على وشك الفراق عدوّهم؟!

كم كنتُ أريدُ أن أعرفَ مَن قال هذا الكلام؛ لأنّني كنتُ وسطَ الزُّحام والضَّجيج لم أستطِع معرفة صاحب الصَّوت، اتصل الشِّرطة بالمستشفى الوطني في القامشلي وخبَّروهم أنَّ هناك حالة إسعاف للأستاذ صبري يوسف من المالكيّة/ ديريك ستأتيكم خلال ساعة من الآن؛ جهّزوا غرفة العناية المشدِّدة لاستقباله وإجراء الفحوصات والإسعافات اللّازمة بالسُّرعة القصوى!

  1. ماذا راودكَ في الطَّريق وأنتَ في حالةِ إسعافٍ فوريّة إلى المستشفى الوطني بالقامشلي؟

انطلقنا بسيارة تاكسي سيرفيس، واستلقيتُ على المقعد الخلفي، سارت السّيارة بسرعة فائقة، طلبتُ ممّن رافقني أن يخفّف السّائق من السّرعة؛ لأنّ الطَّريق كان يتخلَّله ححفرٌ صغيرة، وكانت ترجّ السيَّارة رجّاً أثناء عبورها فوقَ هذه الحُفَر الصَّغيرة والكبيرة، كانت تؤلمني خضَّات السّيَّارة، فلو تأخَّرنا ربع ساعة أفضل من هذه الخضّات اللَّعينة؛ نريد أن نصل بالسّلامة، لا أن نخرجَ من مشكلةٍ وندخل في غيرها، هدَّأ السَّائق من سرعته، وشعرتُ أنَّني مرتاح أكثر حالما خفَّفَ السَّرعة، قبل أن نصل مشارف تل زيارات شردتُ وتراءت أمامي مشاهد المشاجرة، وكلّ تبعاتها، فرَحْتُ في أعماقي أنّني أتنفَّسُ وعلى قيدِ الحياة؛ كي أكتبَ يوماً ما كل ما حصل، كم كنتُ متحمّساً آنذاك أن أجسّد هذه الأحداث ضمن عملٍ روائي في مستقبل الأيام، مع أنَّ تجربتي الأدبيّة في ذلك الحين كانت تجربة متواضعة في عالم الأدب والإبداع، لكنَّ رغبتي في كتابة ما حصل كانت أكبر من رغبةِ روائي كبير، وتذكّرتُ في تلك اللَّحظات، ما قاله سبينوزا: “إنَّ الرُّغبة هي الدَّافع وقع وعى ذاته”، وكأنّ الرُّغبة هي الأساس ومكمن الانطلاق في بعض الأحيان، خاصّة عندما تتعلِّق المسألة بقضايا إبداعيّة وفكريّة، أتساءل الآن: ماذا يا ترى كان يراودني من أهداف لتجسيد ما حدث، هل كنتُ أريد أن أقدِّم درساً مغزىً عبرةً لما حصل، أم أنّني كنت أهدف أن أغوصَ قليلاً في هذا الضِّياع الَّذي تاه فيه الكثير من شبّاننا وهم في أمسِّ الحاجةإلى مَن يساعدهم ويمسك بيدهم إلى برّ الأمان، هل ثمّة أمان في هذا أو ذاكَ الزَّمان؟ ثمَّ تراءى أمامي صديقي الَّذي طلبتُ منه أن يسلّم عليهم ويغلقوا هذا الموضوع، كيف سيكون موقف صديقي منّي، وكيف سيكون موقفه منهم وممّا جرى، وما هي النَّتائج الّتي تترتّب على مستقبل هؤلاء؟ عشرات الأسئلة راودتني، ثمَّ سطعتْ أمِّي أمامي بكلِّ حنانها وبراءتها وطيبة قلبها، تراءت لي وهي تدندنُ بكلِّ حزنٍ تناجيني، كم شعرتُ في تلكَ اللَّحظات أنّني بحاجة إلى احتضانها واطمئنانها على أنّني بألفِ خيرٍ؛ كي لا تحزن، أُمِّي بحرٌ من الحنان، وجهٌ مخضّبٌ بحقولِ القمح، أمّي وحقول القمح سيّان، كم من باقات السَّنابل لملمتها ونقلتها إلى أكوام الحنطة، أمِّي أجمل قصيدة عرفتها على مدى حياتي، هي مَنْ علّمتني أنَّ البسمةَ والمحبّةَ وهديلَ اليمام أجمل ما أحمله فوق أجنحةِ العمرِ إلى مدى العمرِ، هل أمِّي ألهمتني أن أركّزَ على صوت ابن خالها اسكندر عازار؛ كي يضعَ فوق رأسي وجبيني الكتاب المقدّس؟ أمّي رسالة فرحٍ فوقَ سماءِ ليلي وجرحي وكياني، أمِّي هي الّتي منحتني للحياة ككتابٍ معجونٍ من طينِ المحبّة، وأنقذتني مراراً من أنينِ الجراحِ، أراها في بصيرة روحي كأنّها إشراقة شمسٍ في صباحٍ باكر، سأعودُ إليك يا أمِّي؛ كي أضمَّكِ إلى قلبي وروحي؛ كي تفرحي فرحاً يجعلني أحلِّق عالياً كأسرابِ الزَّرازيرِ، ويتراءى لي أبي وهو ينظر إلى أمِّي، يسمع دندناتها الحنونة وهو يبكي مثل طفلٍ صغير، يهمسُ في سرّه، لا تبتعد عنِّي كثيراً يا صبري، سمّيتُكَ صبري؛ كي تكون صبريَّاً وصبوراً في الحياة، شعرْتُ وكأنّي أسمع صوتَ أخي سليمان وهو يعاتب زوجته، سامحكِ الله سامحكِ الله، آهٍ لو تركتِ غَضَنْفري معي، ولكن ماذا أقول لكِ؟ دمعَتْ عيناها وهي تنظرُ إلى زوجها، وحدَها المرأة تغوصُ في أعماقِ السَّلام، لا تحبُّ العنفَ ولا شراراتِ النّارِ، أراها مجنّحة نحوَ هديلِ الحمائم.

أصبحنا على مقربة من بابِ الحديد، مانك عطشان يا أستاذ؟ هزّيتُ رأسي رغم أنين ما أنا فيه، وهمستُ في سرِّي أنا متعطِّشٌ إلى حنين صديقة، إلى انبعاث حروفِ القصيدة، إلى أزاهيرِ الرَّبيع، إلى أصدقاءٍ من براءاتِ الطُّفولة. لو أنتَ عطشان يا أستاذ نأخذ استراحة دقائق ثمّ ننطلق، لستُ عطشانَ، تابع طريقك نحوَ بياضِ ملائكة الرَّحمة، سأشربُ هناك في المستشفى، ثمَّ انطلقَ وانطلقتُ معه في شرودي في متاهات أحلام اليقظة، تراءى أمامي أولاد عمِّي وعمِّي وأولاد خالة بيت عمي، والأهل يتناقشون بصوتٍ عالٍ، وسمعتُ عمِّي يقول لأولاده: كيف تتركونه وحده، فقال وديع: أصلاً نحن ما كنّا نعرف أنّهم في المشوار، راقبنا الشَّارع فلم نرَهم، لو رأيتهم؛ كنتُ سأنضمُّ إليهم بكلِّ تأكيد، لكن حظ الجبناء الّذين هجموا بالغدر والحيلة كان قويَّاً، كم كنتُ أتمنّى لو شاركتُ في هذه المنازلة، كنتُ سأريهم لَكماتي على أصولها! وصلنا قبور البيض، قريباً سنصل إلى القامشلي، تيبَّسَ الدَّم على قميصي وفانيلتي، وتمزّقت قميصي خلال العراكِ، شعرتُ بألمٍ في ظهري وعيني ورأسي وصدري، خدرتْ قدمي اليسرى، فطلبتُ من مرافقي أن يفرك ساقي المخدّرّة، ثمَّ شعرْتُ أنّني في حالةِ إعياءٍ، وطلبتُ أن يفتحَ السّائق بلّورَ النَّافذة قليلاً، دقائق ونكون في القامشلي، شاهدتُ أضواء المدينة من بعيد، حاولتُ أن أجلسَ وشعرتُ بألمٍ كلَّما كنتُ أحرّك جسمي. القامشلي ترحِّب بكم، قرأتُ آرمة كبيرة في مدخلِ القامشلي، حالما دخلنا المدينة أطلقَ السّائق زمّور الخطر موجّهاً أنظاره نحو المستشفى الوطني، كان باب المدخل الخارجي مفتوحاً، دخلت السِّيارة في باحة المستشفى، وإذ بعربة كسرير جاهزة لنقلي مباشرةً إلى قسم العناية المشدّدة، خلال لحظات وجدْتُ حولي فريقاً من الأطباءِ والممرِّضات وأنا مسترخٍ على السَّرير، وهكذا وصلتُ إلى مناغاةِ بوحِ القصيدة، وأنا في أوجِ شهقاتِ الأنين!

  1. من استقبلكَ في المستشفى، وكيفَ تمَّ إسعافك؟

استقبلني أصحاب الرّايات البيضاء، تمّ فحص رأسي؛ الجمجمة بخير، المخ في أرقى تجلّياته، مشكلة في الضّغط؛ نتيجة تفاقم الحُفَر على مدى الطَّريق، واحتراق ما تبقَّى من أعصاب المدرّسين بعد عامٍ كامل من العطاء يتفاجؤون بمرارات لا تخطر على بال، نقص في الدّم نتيجة النَّزيف، خياطة جرح العين والرَّأس في ديريك كإسعاف أولي كان ناجحاً، تدرّز في عظام القفص الصّدري، مشعور العظم في ثلاثة عظام لكن تجبّرها يتمُّ تلقائيَّاً مع الوقت، الرّضوض كانت كثيرة لكنّها ستخفُّ، القلب جيّد نتيجه عشقه العميق للحياة، لا يوجد مضاعفات للرأس، جرح العين كان خطيراً نظراً لتورّم الخد والعين، لكن الأطباء أكّدوا أنَّ هذا الورم سيخفُّ خلال أيام قليلة، آلام في الجسم نتيجة الرّضوض واللّكمات والأحجار، انفتاح ثغور الممرضات لكلِّ ما رأوه من مخطّطات شباب آخر زمن في مجابهة مربّي الأجيال، اندهاش الطَّبيب المشرف، عندما اطلع على تقرير الشّرطة، فتساءل باستغرابٍ كبير: أنتَ تشتغل موجّه يا أستاذ؟! أيوه دكتور، بحسب ما أرى من نتائج فحصك وقراءة تقرير الشّرطة وكأنّنا في العصر الحجري، ويبدو أنَّ هناك عودة للعصور الحجريّة، والغريب بالأمر لا أرى أي سبب يستوجب لكلِّ هذه الطَّنّة والرّنّة!

بالعكس دكتور هناك سبب وجيه جدّاً وقويّ جدّاً، ما هو هذا السَّبب الوجيه برأيك يا أستاذ؟! ولو يا دكتور، السَّبب واضح وضوح الشَّمس، طيّب ما هو هذا السَّبب الواضح وضوح الشَّمس؟! البطر يا دكتور، نعم البطر ما غيره يا دكتور، هل عندكَ سببٌ أقوى من البطر؟! ضحك الدّكتور وكلَّ الممرِّضات، ثمّ ردّتْ إحدى الممرِّضات أقوى تبرير وتحليل لمريض دخل المستشفى منذ زمنٍ بعيد! طيّب هل عندكِ تبرير أقوى من تبريري؟ أجابت: لا والله يا أستاذ ما عندي، وصدِّقني يا أستاذ، مقتنعة بكلامك وتحليلك تماماً رغم أنّه يحوي الكثير من الفكاهة، وما يدهشني كيف لإنسان في هذا العالم له القلب أن يتعارك معك وأنت مدرِّس محترم وخفيف الظّل إلى درجة أنّنا استقبلناك في العناية المشدّدة وما تزال جراحك ثخينة ونازفة ومع هذا تأخذ الحوار بفكاهة رائعة، كأنّك لا تعاني من شيء وفي رحلة فكاهيّة؟ طيّب ألَا يساعدني المرح والفرح والفكاهة على تضميد الجراح بسرعة؟ ضحك الطَّبيب بأعلى صوته، وهو يقول: إذاً سبب مرحك وفكاهيّاتك هو طبّي؟ طبعاً هو طبّي إن شاء الله مفكّرني جايي من المالكية إلى عندكم بكلِّ هذه الجراح والرّضوض من أجل أن أضحِّكَكم، أنا لا أؤمن بنظرية الفن للفن أو الضحك للضحك، بل أؤمن بأن يكون للضحك أثرٌ لالتئام الجراح في مثل وضعي، وتخفيف ورم عيني بسرعة الضّحك، وإلَّا ممكن أنّ أظل عندكم شهراً ولا يخفُّ هذا الورم؛ بسبب عدم قدرتكم على خلق أيّة حالات فرحيّة للمرضى، فقط تريدون كلّ شيء على الحاضر وتقهقهون بأعلى أصواتكم! ضحكوا ثانية ثمَّ قال الطَّبيب: المشكلة لو تقرير الشّرطة ليس بأيدينا، وكل هذه الجراح والرّضوض والدّم الّذي سال منك، كنتُ سأقول أنكَ تمثَّل علينا! لكنّكَ حقيقة الأمر أقوى من أي ممثل؛ لأنّك عبر الواقع تقدّم أجمل ممَّا يقدّمه الممثّل؛ لأنّ الممثّل بالنّتيجة يكذب علينا؛ لأنّه يمثِّل، بينما أنتَ يا أستاذ تعرض الواقع بنكهة فكاهيّة مسرحيّة، وكأنّها مشاهد مسرحيّة بديعة! شكراً.

تفضّل أستاذ إلى غرفتك، الممرّضات سيجهِّزن لك إبرة سيروم للتغذية وتحتاج إلى دم؛ لتعويض دمك، وأي طلب تحتاجه نحن بالخدمة فقط دق علينا جرس التَّنبيه، وإن شاء الله تشفى وتتحسّن، وتعود لأهلك بخير وسلامة في أقرب وقت. بارك الله فيك دكتور!

غرفة نظيفة، زوَّدوني بحدود كيلو دم، وإبرة لتخفيف الآلام، وقدَّموا لي وجبة خفيفة، وبعد تناول الطَّعام طلبت فيما إذا يتوفّر عندهم في مكتبة المستشفى دواوين شعريّة، أو مجموعات قصصيّة، أو كتب أدبيّة كالرِّوايات أو المسرحيّات؟ أجابت الممرضة: عندنا مكتبة وبعض الكتب، لكن لا أظن عندنا كتباً أدبيّة من هذا النَّوع؛ لأنَّ أغلب كتبنا في المكتبة هي طبِّيّة. طيّب هل بالإمكان غداً تأمين بعض الكتب لي واستعارتها من مكتبة المركز الثّقافي؟ سنحاول ربّما نستطيع تأمين طلبك، لكن أستاذ أنت تحتاج إلى راحة، بكلِّ تأكيد أحتاج إلى راحة، هل تعلمين أنِّي أجدُ في قراءة الكتب راحتي الكبرى في الحياة؟! رائع يا أستاذ، صدّقني سأحاول تأمين طلبك غداً بأيَّةِ طريقة كانت، حتّى ولو استعرت الكتب باسمي لك، مادام وأنت هكذا تنظر إلى أهمّيّة قراءة الكتاب بما يحقّقه لك من راحةٍ وفائدة!

عندما استيقظتُ من نومي في اليوم الثَّاني، بعد أن أخذت قيلولتي بعد الغذاء، وجدتُ على طاولتي مجموعة كتب؛ ففرحتُ كثيراً، وشعرتُ أنّه ليس الضّحك فقط يخفِّف الأوجاع ويشفي الأورام والجراح، بل الكتب أيضاً، وهذا ما حقَّقته لي الممرضة الشَّابة، الّتي تسعى مع طاقم العمل الطّبي إلى رعايتي وتقديم كلّ ما يحقِّق راحتي، وما وجدته من رعاية وحفاوة يجعلني أقول: إنَّ الدُّنيا ما تزال بخير!

  1. ماذا دارَ في خلدِكَ وأنتَ تنتقلُ من أوجِ حالاتِ التَّأمُّلِ إلى غرفة الإنعاش لأتفهِ الأسباب؟!

دار في خلدي أن أقفَ بكلِّ صلابةٍ ورباطةِ جأشٍ أن أستكملَ تأمُّلاتي، بعد أن أجدَ هذا القفص العلوي الرَّأس المخ على ما يرام، ولا أنظر إلى الأسباب التَّافهة الَّتي قادت إلى ما قادت إليه، بقدر ما أنظر إلى ذاتي في أيِّ موقفٍ كنتُ ماذا ممكن أن أقدِّم للحياة للمجتمع لذاتي من فعل خير ومحبّة وسلام؟ لهذا وجدتُني بعد أن تمَّ الاطمئنان على صحّتي، أنّني كنتُ في أوجِ مرحي وكأنّني في رحلة ترفيهيّة، وكان فعلاً هناك ترفيه قوي، خاصّة أنَّ كلّ وسائل الرّاحة وجدتها حولي، وهكذا منذ اليوم الأوَّل استطعت أن أتغلّب على المصيبة أو الكارثة الّتي مررتبها، ولكنَّ السُّؤال المطروح: هل هؤلاء الّذين تصرّفوا بطريقةٍ همجيّة من دون أي سبب وجيه يستحق الذّكر -إلّا سبب البطر كما أشرات في جوابي السَّابق وبنوع من الطّرافة والفكاهة- هل هم مرتاحون مثلما أنا مرتاح والأطباء والممرِّضات يقدمْن لي أفضل رعاية وكأنِّي بيت أمي وأبي، أم ما يزالون فارين من ديريك إلى القرى؟ لهذا فإنّي أرى أنّني كنتُ وما أزال منتصراً في تصارعاتي في الحياة مع أيّة جهة أو طرف كان؛ لأنّني أنظر دائماً منذ ذلك الحين وقبل ذلك الحين إلى الجانب الخيّر في أيّة قضيّة تتعلَّق بي أو بغيري، وأكون طرفاً فيها بصيغة أو بأخرى؛ لهذا دار في خلدي وأنا أنتقل من أوج تأمُّلاتي قبل أيام من وقوع التَّشابكات إلى غرفة الإنعاش، أن أخطِّط بكلِّ هدوء وروية بعد الاطمئنان على صحتي وما آلت إليه الأمور لإيجاد حل يناسب كلَّ الأطراف المتعلِّقة بالأُسرتَين، وبدأت أمسك الخيوط المتصارعة هناك في ديريك، وأضع مخطَّطاتي في الحلول للوصول إلى حلٍّ نهائي يرضي كلَّ الأطراف من دون أن نهرق نقطة دم من الطَّرفين، كما بدأت من اليوم الأولفي الحصول على بعض الكتب؛ كي أتابع تأمُّلاتي وقراءاتي في الشّعر والقصص والرِّوايات، بحيث أحافظ على لياقتي في التَّأمُّل الخلَّاق؛ وكي أحافظ على صفاء ذهني رغم تفاقم الأوجاع والرّضوض والجراح؛ لأنَّ هذه الأوجاع والجراح والرّضوض يتمُّ شفاؤها عبر المشافي والأطباء والأدوية والرّعاية، وأمّا جراح العقم الفكري والتَّخشُّب الذّهني والعنجهيّات السَّقيمة فتقودُ المرء دائماً إلى نتائح وخيمة، وتضرُّ بذات الإنسان ومَن يُحيط به؛ وهكذا أرى من الضُّروري أن يتحلّى المرء بالصَّبر، ويتحلّى بالحمكة، ويرفع شعار السَّلام والوئام مع الآخر كائناً من كان، فكيفَ والحالة هذه إذا كان جيرانه وابن بلده ومن معارفه وخلَّانه؟!

عندما جاءت الممرّضة، وجدتني مسترخياً على سريري، أقرأ أحد الدّواوين الشِّعريّة، وفي حالة هدوء وتأمُّل، فابتسمتْ لي، وشعرتُ أنّني في قمّة سعادتي ولياقتي، وشعرتُ بحزنٍ على هؤلاء الشُّبان ومصيرهم الّذي آلوا إليه، وفكّرتُ أن أهدّئ الأوضاع من جانب أهلي؛ كي لا يتفاقم الأمر من جانبهم، خاصّة لو حلَّلوا أنّني في حالة خطرة، سيردُّون هم أيضاً بعنف كبير، وهذا ما لا أريده وما لا تُحمَد عقباه لو حصل؛ ولهذا جلُّ تفكيري انصبَّ على ضبط الأوضاع، والاشتغال على إحقاق حقِّي وإعادة اعتباري، مع أنَّنيأجدُ نفسي في قمّة اعتباري؛ لأنَّ هذه التُّرّهات لا تؤثّر على اعتباري نهائيّاً، سواء في المجتمع أو تجاه ذاتي، ومع هذا لابدّ أن يدفع هؤلاء الجناة ثمن غلطتهم وعنجهيّاتهم وهمجيّاتهم؛ كي يشعروا بغلطتهم الكبيرة، ويتّخذوا منها درساً وعبرةً لهم بأنَّ التّعدّي على كرامة وحقوق النَّاس ليس رحلة في الهواء الطّلق، وهكذا سارت الأمور بهدوء تام. أهلاً بكِ وأشكركِ على هذا الدّيوان والكتب الّتي استعرتِها لي من المكتبة. هل أنتَ مرتاح اليوم؟ بوجودكم مرتاح، هل تحتاج شيئاً أو لديك طلب ما؟ أريد الاتِّصال مع المالكيّة/ ديريك؛ كي أُطَمْئِنَ أهلي عليّ، بكلِّ تأكيد ممكن، بعد حوالي ساعة أمّنت لي مكالمة هاتفيّة مع بريد ديريك، واتَّصلت مع خالي اسكندر عازار، وخبّرته أنّني بخير، وضرورة تبليغ الأهل أنَّ نتائج الفحوصات تشير إلى أنّ عيني بخير وسليمة، وأستطيع أن أقرأ بين الحين والآخر، ورأسي بخير، والجرح يتحسّن ولا مخاوف من ارتجاج في المخّ ولا أيّة مضاعفات على المخ، عندي أوجاع في الجسم وتدرُّز في بعض عظام الصّدر لكن سأتحسّن، فأنا بخير والحمدلله جاءت سليمة، وأشكرك على ما قمت به من أجلي يا خالي الغالي. الحمدلله طمأنتني وحالما أنتهي من الدَّوام سأزور الأهل وأطمِئنهم! عدتُ والممرضة تحاول أن تسندني، فنظرتُ إليها وقلت: أستطيع أن أسيرَ وحدي، لكن لا مانع أن تسنديني قليلاً، فضحكتْ وقالت: آه يا شقي، خلّيك بقراءة الشِّعر، فقلت لها: هل تعلمين أنَّ نسبة كبيرة من استلهام الشِّعر مستوحاة من المرأة؟ فقالت: عن جد؟ ابتسمتُ وقلتُ: عن جد، ألا تقرَئِين الشّعر؟ قالت: عندما كنت طالبة، وأمّا الآن فمشاغلي تعيقني عن القراءة، كان سريري بانتظاري، كتبتُ بعض الملاحظات، وتناولت حبّة لتخفيف الأوجاع، ثمَّ نمتُ نوماً عميقاً!

  1. كيف انقلب شارع المشوار رأسأ على عقب، وخيَّم حزنٌ عميق فوقَ ربوع ديريك؟!

وصلتني المعلومات تباعاً، من خلال الأهل الَّذين كانوا يزورونني في المستشفى، خيّمَ حزنٌ عميق فوق ربوع ديريك، حتَّى أنَّ أهل الشُّبَّان آلمهم ما آلت إليه الأمور من مستجدَّات وخيمة، وقالوا لأولادهم وشبابهم: تضربوا أنتم وعنجهيّاتكم وتصرُّفاتكم الغريبة العجيبة، يخرب بيت سماكم شو هل الضَّرب الّذي ضربتم الأستاذ صبري؟ بكلّ صراحة سمعة هذا الأستاذ في كلِّ ديريك مثل العسل، ما فهمنا ليش هيك جنَّ جنونكم وهجمتم على شاب لم يؤذِ نملةً، ولو كنتم قد تشاجرتم مع شاب شرس وَزرز وصاحب مشاكل؛ قلنا: أمرنا لله، مو تهجموا كل هذا الهجوم على إنسان كل صفاته أفضل منكم، ومن خيرة شباب ديريك باعتراف الأكراد قبل السِّريان، ولم نسأل شخصاً عنه إلَّا وقال كلمة رائعة بحقّه، ونشعر أنّنا أصبحنا في موقع محرج جدّاً من أهله ومعارفه وأصحابه ومن ذواتنا، ولا يوجد أي مخرج وأي مبرَّر لتصليح الموقف مع أهل الأستاذ صبري وبيت عمّه وأقربائه إلّا الاعتذار إليهم، والمصالحة معهم؛ لإعادة اعتباره أولاً، وتحقيق كلّ طلباتهم دون أي قيد أو شرط، وإلّا خلّيكم هناك في القرى والبراري بين الأبقار والأغنام، ولكن إيّاكم أن تعلقوا مع الأغنام والأبقار فلها أصحابها!!! وهذا حقّكم ومستحقّكم لم يصلكم، وكلّ من يبقى ضدّ هذا الطَّرح ليتفضَّل ويقاوم الخير بالشَّر لنرى نتائج أفعالكم إلى أين ستقودنا؟!

وقف أهل الشَّباب العشيرة الكبيرة موقفاً حازماً وحاسماً ضدَّ سلوك وتصرُّف الشَّباب، وهذا ما خفَّف من الضَّغط الّذي كان ناجماً ومتصاعداً من جانب أهلي، وكانوا فعلاً يستقبلون غضب أولاد عمِّي وإخوتي برحابة صدر قائلين: ولا يهمُّكم؛ أخوكم هو أخونا، وأي ضرر عليه هو ضرر علينا كلّنا، ونحن تحت تصرُّفكم بما تشاؤون وتطلبون، نعتذر منكم الآن وغداً والله يجعل فيه الخير ويرجّع أخوكم وابن عمّكم بالسَّلامة يارب! لكنَّ أهلي كانوا في قمّة غضبهم، خاصّة أخي سليمان وأولاد عمِّي وأولاد خالتهم من آل متّو، أقلقتني هذه التَّوّتُّرات، لكنِّي كنتُ على صلة مباشرة مع الأهل؛ لتخفيف الوضع، والعمل على كافّة الجبهات بشكلٍ متوازن، وعدم تصعيد الموقف، والوقوف عند نقطة التّصعيد فقط، بل الوقوف عند الحلول السّلميّة وفي الوقت نفسه متابعة الضّغط والمطالبة بحقّي؛ كي تتمَّ معالجة الأمور بشكل مناسب لكلِّ الأطراف، ولا يبقى أي طرف مظلوماً، جاءني ابن العم صليبا وجميل وأخي نعيم أكثر من مرّة لزيارتي، وتناقشنا في الكثير من المواضيع، كان نعيم منحازاً جدّاً إلى المصالحة؛ لأنّ هناك طرفاًمهمَّاً في المشاجرة من جانبهم صديقه المقرّبوطرفاً آخر أكثر أهمّية هو صهرهم، حتّى أنَّني قلت لأخي: كيف خطر على بال صديقك أن يقوم بفعلته وكان رأس الحربة في المواجهة، وهو مَنْ فاتحنا قبل المواجهة بلغة نحن أصدقاء وأهل وغرّر بنا، ثمّ انقضُّوا علينا غفلةً من كلِّ الجهات، كيف لم يفكّر بموقفه منكَ، كيف سيواجهك وهو يتعرّض لي؟! نظر إليّ وقال: دواؤه عندي، سأبهدله على أيّة حال عندما ينتهي كلُّ شيء على خير. عموماً أنا لستُ ضدّهم حتّى الآن، لكن حقوقي وبشكلٍ قانوني سآخذها كاملةً، ولكن أريدها عبر الحكمة والتّصالح والهدوء، بعيداً عن أي ضجيج، ووافقني صليبا وجميل أيضاً، وركّزنا على مبدأ المصالحة؛ لأنَّ الصّلح سيّد الأحكام!

  1. مَنْ هي الدَّكتورة إيلي/ إيليزابيت، الّتي تعاطفت معكَ تعاطفاً كبيراً إلى درجة طفوح الدَّمعة؟!

يا إلهي، كم هذه الإنسانة رائعة وإنسانيّة وعظيمة! كانت تعمل في قسم التّحليل، كيف فاتني أن أشير إليها منذ البداية، تعاطفتْ معي تعاطفاً كبيراً، خاصّة عندما عرفت الموضوع من كلِّ جوانبه، كانت تناقشني في كلِّ صغيرة وكبيرة، وتسمع منطقي وتحليلي، وتستغرب كيف حصل ما حصل مع إنسان مثلي حسَّاس ومثقَّف وهادئ ولطيف، وإنسان يحبُّ السَّلام ولا يحبُّ العنف ولا التّحدِّيات العضليّة، ومنحاز إلى لغةِ الحوار والعقل؟ وقد زاد من تعلّقها وتعاطفها أنّها كانت تخصُّ آل الحياكي، وكان بيننا مصاهرة أو قريباً ستتمُّ ترتيبات المصاهرة؛ لأنّ حماة أخي كانت من آل الحياكي، فقلت لها: يا عزيزتي الدُّكتورة، كلّنا في ديريك والقامشلي وبقية مدننا أهل بصيغة ما؛ لأنَّ الأسر والمصاهرات تكبر وتكبر ونصبح أقرباء من خلال الأهل المصاهرين لأسرٍ أخرى ومن خلال علاقاتنا مع بعضنا بعضاً، كانت تحبُّ منطقي وهدوئي وتحليلي وشغفي وجنوحي نحو المصالحة وتهدئة الأوضاع، ولكنَّها ركّزت على ضرورة استحصال حقِّي القانوني وحقّي الاعتباري، واعتذار الجهة المتعدِّية بطريقة تليق بي وبأسرتي؛ كي يأخذ كل واحد حقّه كاملاً، كما كانت توصي الممرِّضات بي، مع أنَّ الممرّضات كنَّ يعتنينَ بي، وكذلك الأطباء، شعرت أنّني بين أهلي حقَّاً، وكم كنت أرتاح لوقوف الدّكتورة إيلي بجانبي! حيث كانت تطلُّ عليّ كلّما تجد لها وقتاً، وتتابع وضعي ومستجدّات تحسّن صحتي، وكانت تفرح عندما تخفُّ أورام عيني وخدّي، حقيقةً كنتُ أحبُّها حبَّاً عميقاً كأنّها أمِّي وأبي وأختي وأخي .. ! شيء عجيب كان حضورها يريّحني خاصّة أنّني كنتُ بعيداً عن أهلي، فكانت في موقع أحد أفراد أهلي معي في المستشفى، ولفتَ انتباهي أنّها قريبة من طبيعتي؛ لأنّني سهل المعشر وطيّب القلب، وازدادت تقرُّبَاً واهتماماً بي؛ لأنّها هي نفسها تحبُّ مساعدة مَنْ هم في وضعي؛ لأنَّ إنسانيَّتها وأخلاقها الرَّاقية إضافة إلى كونها طبيبة وتعمل مع ملائكة الرّحمة، كل ذلك جعلها تكون إنسانة نادرة في العطاء والمحبّة والرّعاية، فكانت نعمة متهاطلة علي من فوق؛ كي تضمِّد جراحي وأحزاني، مع أنّني كنت مرتاحاً في المستشفى، ولكنّها زادت من راحتي؛ ممّا جعلني أقول للمرّة الثَّانية: أنَّ الدُّنيا بخير، ولابدَّ أن نجد في مسارات حياتنا الأحبّة الرَّائعين والخيِّرين، يفعلون فعل الخير والمحبّة، ويزرعون الوئام والفرح في قلوب الطِّيِّبين من دون أي مقابل، منطلقين من مقولة: “اعمل الواجب؛ لأنّه واجب، ولأنّه يمنحك فرحاً وسعادةً كما يمنحُ الواجبُ الآخرين فرحاً وسعادةً” فكم تصبح الحياة جميلة ورائعة عندما نسهم في مساعدة بعضنا بعضاً، وتوفير كل سبل الرَّاحة والهناء أينما كنّا؛ كي نشعر بأهمّيّة وجودنا وعطائنا بكلِّ ما لدينا من إمكانيَّاتٍ راقية؛ لاستكمال دورة الحياة من بابها الإنساني الخلّاق.

  1. مَنْ كان يزورُك في المستشفى، وكيف كنتَ تستقبلهم؟

أغلب زُوَّاري كانوا يزوروني عبر جموحاتِ الخيال، فقد زارتني أمِّي مراراً، لم تفارقها البسمة أبداً، كانت تزرعُ في قلبي وروحي أملاً عميقاً بأنَّ الحياةَ هي كلمة طيّبة نقولها ونعملها ونمارسها في حياتنا أينما كنَّا، كما زارني والدي بفكاهيَّاته وقفشاته الرّائعة، وكأنّه آتٍ من الفدّانِ وحراثةِ الأرضِ، أو من حصاد العدس والحنطة منذ دقائق، تفوحُ منه رائحةَ العشبِ البرّي والسَّنابلِ واخضرارِ الكروم، بدا لي والدي كأنّه بسمة مبرعمة من أريجِ الطَّبيعة، كان معطاءً كغصنٍ بهيٍّ من أغصانِ الطَّبيعة!

زارني إخوتي وأخواتي، كما زارني أولاد عمّي وسائر أهلي؛ منهم عبر مخيالي، ومنهم عبرَ بهاءِ العناقِ. إنَّ أكبرَ نعمةٍ على وجهِ الدُّنيا ممنوحة للبشر هي هذه الزّيارات العناقيّة المتاحة لنا عبر رحاب الخيال؛ والخيال كقيمة حياتيّة أهم من أي فكر على وجه الدُّنيا؛ لأنّه يخلق دائماً عبر تجلّيات الإبداع رؤىً جديدة، كما زارني وفدٌ رسمي من نقابة المعلِّمين، وكان الوفد مستاءً جدّاً من الطَّريقة الوحشيّة الّتي قام بها هؤلاء الشَّبّان، وتابعوا جهودهم برفع الشّكوى عبر نقابة المعلِّمين؛ للاقتصاص من هؤلاء بشكل قانوني في حال لو لم ينتهِ حلّ الأمور بشكل عشائري، مع أنّني كنتُ أميل نحو الحلول العشائريّة؛ لأنّها أكثر صفاءً للنيّات من الحلول القانونيّة الَّتي غالباً ما يشوبُها نوعٌ من الإضمارات الضِّمنيّة من خلال الحساسيّات والغبن أحياناً، وعدم صفاء النِّيّات، ممَّا لو تمَّت المصالحات على أيدي الكبار وأصحاب الحكمة ودعاة الخير؛ كي نعانق بعضنا بكلِّ نيّة سليمة، ونقلب خلف ظهورنا كلّ ما يشوبه البغض والحقد والعنف، ونبدأ صفحة جديدة، ونصبح أصدقاء كسابقِ عهدنا؛ لهذا تمَّ تركيز أهل الشَّباب على حلِّ تفاقمات ما حصل عبر نقابة المعلّمين، وسرّني أن تتمَّ المصالحة بهذه الطَّريقة؛ كي يبقى للمدرِّس مكانته، وتدافع النَّقابة بإدارتها الرَّشيدة عن حقوق معلّميها ومدرِّسيها، وزارني بعض الأصدقاء والأهل من القامشلي، أمثال: بيت خالي مسعود عازار، وكانت الممرّضات في زيارات دائمة للاطمئنان علي، ولم تغفل الدُّكتورة إيلي عينها عنّي، كانت تزورني وتطمئنُّ علي كلّما وجدَت وقتاً لها، ولن أنسى ما حييت حنانها العميق وتعاطفها، حتّى أنّها صرّحت لي أكثر من مرّة قائلةً: لو حصل -لا سمح الله- مضاعفات معيّنة معك وتحتاج إلى معالجة في حلب أو دمشق؛ فأناسأتبنّى مصاريف علاجك كاملةً كأنّك أحد أفراد أسرتي، أبهجتني إنسانيّتها الرّاقية، ثمَّ وضعتْ يدها على صدري وقالت: لا تقلق عزيزي أستاذ صبري، أنا معك حتّى تشفى تماماً، أمسكتُ يدها ووضعتُها على جبيني، ثمَّ نظرتُ إليها وأنا أقبّل يدها بكلِّ احترام، فطفحَت عيناها دموعَ حنانٍ، كانت تعني لي حنان الدُّنيا، وكانت بلسماً لجراحي، ثمَّ باست جبيني وكأنَّ أمّي وأبي وكلّ عزيز عليّ يعانقني؛ عندها شعرتُ أنَّ دعاء أمِّي وأهلي أرسل إليَّ هذه الطّبيبة الحنونة الَّتي تحملُ في قلبها كلّ معاني المحبّة والإنسانيّة، ما يكفي لبلْسَمة جراحي ورسم البسمة على وجهي، وزرع الأمل في قلبي، كأنّها قصيدة محبوكة في مرامي قلبي ومروجِ روحي، ستبقى ابتسامتها الوضَّاءة معرَّشةً في مخيالِ ذاكرتي إلى أمدٍ طويل!

  1. ما هي التَّطوُّرات الَّتي تفاقمت في ديريك من جرّاء المماحكات الّتي تصاعدت بين الطَّرفين؟!

نظراً لأنّني كنتُ غائباً عن مسرح الأحداث ومحاولات الحوارات الجاريّة في ديريك ما بين أسرتي ومَنْ يمثِّلها في الحوار مع أهل الشّبّان الّذين اشتبكوا معنا في واقعةٍ مريرة، تصاعدت تبعاتها إلى متاهاتٍ لا تُحمد عقباها، فقد تصاعدت الأوضاع؛ نتيجة عدم مرونة أخي سليمان في إيجاد خيوط لمفاوضات الحوار؛ حيث كان متصلِّباً في رأيه، ولا يترك أملاً يقودُ الطَّرفين إلى الحوار الفعَّال؛ خاصّةأنَّه كان مشتركاً في الاشتباك من جهة، وغير مطمئن على صحّتي من جهةٍ أخرى، لهذا كان يعلِّق الحوار وما يقود إلى المصالحة، مركّزاً على أنّه من الممكن أن يضعوا النِّقاط على الحروف بعد خروجي من المستشفى ويراني وجهاً لوجه، علماً أنّني اتّصلت عدّة مرَّات مع ديريك، وبلّغت الأهل وتحديداً أخي سليمان عبر أخي نعيم وابن عمِّي صليبا وجميل، مركّزاً على ضرورة أن نترك باب الحوار والصّلح مفتوحاً، لا أن نغلقه في وجه الطَّرف الآخر؛ كي لا يضّطرّوا هم أيضاً إلى متابعة الحل بطرقهم الخاصّة، وهذا ما حصل فعلاً عندما وجدوا أخي سليمان عبر قنوات الحوارات الجارية متصلِّباً في رأيه فلجؤوا إلى وسائل أخرى؛ كي يخفِّفوا المسؤوليّة عن أبنائهم فيما إذا تمَّ الاستمرار بمتابعة الشَّكوى أصولاً عبر المحاكم وعن طريق مديرية التَّربية معاً، حيث كانوا هم أيضاً ينحازون إلى المصالحة العشائريّة مثلما كنتُ أخطِّط أيضاً؛ ونظراً لأنّهم ما كانوا قادرين على الحوار معي بشكل مباشر؛ لأنّني كنتُ في المستشفى من جهة؛ ولأنَّني كنتُ قد أقمتُ دعوى قضائيّة ضدَّ الشّباب، فكيف سيقابلوني وأنا في المستشفى دون الاتِّفاق على تفاصيل الحلّ النِّهائي؟ لهذا اعتمدوا على الحوار مع مَن يمثِّلني) ويمثِّل الأسرة فما كان أمامهم سوى أخي سليمان، مع أنَّ طروحاتهم كانت تصبُّ في تطلُّعاتي في الكثير من الوجوه، وعندما وجدوا الطّريق مسدوداً أمامهم عبر الحوار المباشر مع أخي سليمان؛ لم يجدوا أجدى من أن يتركوا الحلَّ النّهائي بيد نقيب المعلِّمين الأستاذ نعيم زيتون؛ كي يتحاور هو بنفسه ممثّلاً عنهم مع أخي سليمان بالشُّروط الَّتي يراها مناسبة، لعلَّ وعسى يتمَّ إغلاق الملف، والعودة إلى طاولة مفاوضات المصالحة عبر أعلى هيئة تعليميّة تمثِّلني في المحافظة؛ تفادياً من متابعة الدَّعوة القانونيّة وتبعاتها المتعدّدة، والَّتي لا تعود لصالح أي طرف من الأطراف، خاصَّة لو تعرّضَ الشبّاب لعقوبات كالسّجن، والعقوبات الوظيفيّة، وغيرها من النّتائج الَّتي من المؤكّد ستوتّر الأمور أكثر، وممكن أن تعيدنا إلى المربّع الأوّل، ومن غير المستبعد أن ينتج عنها مواجهات جديدة أكثر عنفاً من ذي قبل! وهكذا تفادياً لأية مستجدَّات عنفيّة، بدأت المحاولات من قبل الأستاذ نعيم زيتون نقيب المعلِّمين آنذاك مع أخي سليمان، وكنتُ على علاقة جيّدة معه، ولا يمكن أن أكسرَ له كلمةً فيما إذا حاورني في هذه القضيّة وفي أيّة قضيّة أخرى تخصّني؛ لأنّه كان نقيباً بديعاً راقياً متفتِّحاً سلساً شهماً شعبيّاً، حريصاً أن يقدِّمَ خدمة كهذه لشعبه، وكنت أعدُّه بمثابة الأخ لي ولكلِّ أبناء ديريك؛ لأنّه من أبناء بلدتنا، وهكذا بدأ الأستاذ نعيم يعدُّ ترتيبات اللِّقاء مع أخي سليمان بالتَّنسيق مع الأستاذ يوسف حنّا؛ لأنّه شقيق زوجة أخي سليمان من جهة، وهو صديقي وصديق مقرّب من الأستاذ نعيم زيتون أيضاً!

قبلَ أن أستسلم للنوم، وبعد أن قرأتُ بعض قصائد بوشكين، همستُ في سرّي: هل من الممكن أن يتمكَّنَ الأستاذ نعيم زيتون من إقناع أخي سليمان في إيجاد حلٍّ لكلِّ ما حصل حتّى ولو عبر إدخالي على الخطِّ؛ لإغلاق هذا الملف الَّذي بدأ فعلاً يغيظني جدّاً؛ لأنّي أريدُ أن أقرأ قصائد نيرودا صافي الذِّهن؟!

  1. هل تمكَّن نقيب المعلّمين الأستاذ نعيم زيتونمن أن يقنع أخيكَ سليمان في حلَّ المشاكل القائمة؟

هذا سؤال وجيه للغاية، ومندهشٌ لأبعد الحدود كيف لم يتمكّن الطَّرفان أن يصلا إلى حلٍّ ولو جزئي، ووصلا إلى طريقٍ مسدود، مع أنّني كنتُ قادراً على حلِّ هذه القضيّة المستعصية مع نقيب المعلّمين خلال دقائق معدودة؛ لأنَّ كلّ الخيوط الَّتي تقود للحل كانت متوفّرة من الطّرف الآخر، ولا أعلم لماذا لم يتمكّن الأستاذ نعيم من إقناع أخي، صحيح أنَّ أخي متصلِّب جدّاً في رأيه، لكنّه شخص بسيط وطيّب القلب ومرن للغاية عندما يكون مقتنعاً في حلٍّ معيّن، ولكن يبدو أنَّ الطّرفين ما كانا يشتغلان عمّا يقرِّبهما إلى بعضهما بعضاً، ويخيّل إليّ أنَّ طريقة الحوار ولغة الحوار ما كانت واضحة لدى الطَّرفين، وبرأيي كان من الأجدى أن يتمَّ لقاء كهذا مع كلِّ من: الأستاذ نعيم زيتون؛ نقيب المعلّمين، وأخي سليمان يوسف، والأستاذ يوسف حنّا، وحضرتي؛ صبري يوسف، وكان من الممكن أن يتمَّ هذا اللِّقاء عندي في المستشفى؛ حيث كانت متاحةً زيارتي بكلِّ رحابة صدر، وخلال دقائق كنتُ سأضع النِّقاط على الحروف؛ لأنَّ خيوط الحلّ برمَّتها كانت واضحة ولا تقود من جهتي إلى أيِّ خلاف، خاصّة أنَّ الطَّرف الآخر الَّذي فوَّض الأستاذ نعيم هو على أُهبة الاستعداد للمصالحة وحسم الأمر بأيِّ شرط معقول ومقبول نعرضه عليهم، بحيث يناسبنا ويناسبهم، دون أن يظلم أيّ طرف الطَّرف الآخر! وهكذا فوَّت هؤلاء الثَّلاثة فرصة ثمينة كانت بأيديهم ولم يتداركوها، ولو علمتُ أنَّ الأستاذ نعيم زيتون سيلتقي بأخي بهذا الخصوص، بحضور الأستاذ يوسف حنّا، لكنتُ سأعرض عليهم أن يكون اللِّقاء عندي؛ لأنّ عقدة الحلّ النِّهائي هي عندي، خاصّة أنّني المحور رقم واحد في إعطاء كلمة نهائيّة في الحلّ، حتّى ولو وقف أخي سليمان ضدّ وجهة نظري؛ لأنَّ الدَّعوة ضدّ الشَّباب كانت من جهتي، وكنتُ أنا المتضرّر وصاحب الكلمة الأولى والأخيرة قانونيّاً وعشائريّاً؛ لأنّ القانون أو الحل العشائري أيضاً ينسحب على القانون المدني؛ لأنّه أثناء المصالحة يتمُّ إسقاط حق المدّعي بكتاب خطّي؛ كي يتمَّ تقديمه إلى المحكمة لإخلاء سبيل المدَّعى عليهم، وهكذا فإنَّ كلمتي الأخيرة في هذا الأمر هي المرجّحة والحاسمة وهكذا بعد كلّ ما حصل في اللِّقاء الأخير، دخلنا في متاهةٍ جديدة، وإذ فجأةً بممرّضة عصر يوم صيفي ربيعيّ تقول لي: إنَّ زائراً ينتظرُ موافقتكَ بالدُّخول، حيث كنتُ لا أستقبل الزُّوّار إلَّا بعد معرفتهم؛ تحسُّباً لأيّة مشكلة ممكن أن تقع؛ لأنَّ الأوضاع كانت متوتِّرة رغم أنَّني من جانبي ما كنتُ أصعّد المواقف نهائيّاً، بل كنتُ مع إغلاق الموضوع عبر المصالحة بحيث يأخذ كلّ ذي حقٍّ حقّه. من هو الزَّائر؟ الأستاذ يوسف حنا، أدخليه؛ إنّه صديق مدلّل!

دخل الأستاذ يوسف حنّا وسلّم عليّ واطمأنَّ علي، ووجدني في كامل لياقتي، وكانت عيني قد خفّ ورمها، لكنّها كانت حمراء للغاية، والتأم جرحها، وفرح؛ لأنَّ نتائج أغلب الفحوص تبشِّر بالخير، ثمَّ بدأ يستعرض ما حصل باللّقاء مع نقيب المعلِّمين وأخي سليمان! كيف لم تستطيعا أن تقنعا شخصاً وأنتما شخصان: نقيب المعلِّمين، ومدرِّس لغة عربيّة؟ يا أخي، صهري متصلّب في رأيه، لم نترك أحداً من وجهاء البلد بمن فيهم المختار العم حنّا اصطيفو، واليوم حاول نقيب المعلّمين الأستاذ نعيم زيتون ولم نستطِع أن نقنعه!

يبدو أنّني سأدخل على الخطّ؛ كي أحسم هذا الأمر بشكلٍ نهائي، هل أنت قادر أستاذ صبري أن تحلَّ هذه المشكلة؟ معقول تشكّك في إمكانيّاتي يا أستاذ يوسف؟ لا يا أستاذ لا أشكِّك بإمكانيَّاتك ولكنَّ المشكلة أنَّ أخاك سليمان لا يقبل بالحل؛ لأنّني غائب عن الحل؛ لهذا فهو قلق على إعطاء أيّ حل؛ لأنّه من الممكن أن يستجدَّ عندي منعكسات صحّيّة معيّنة؛ عندها سيشعر أنّه ظلمني؛ لهذا عندما أتحدّث بنفسي وأمامه سيقتنع بكلامي، خاصَّة عندما يجد أنّني أخذت حقوقي أو حقوقنا؛ لأنّكم نسيتم أنّه أخي ويدافع عنِّي بطريقة شرسة فيقع بأخطاء في الحوار؛ لأنّه في حالة غضبيّة ولا يراوده إلّا الطّريقة الوحشيّة الَّتي تعرّضتُ لها، خاصَّة أنّه كان مشتركاً في الاشتباك المرير، وليس من السَّهل أن ينسى عيني الّتي تورّمت أمامه وما كنتُ أرى بها، وحتّى تاريخه لم يزرني، لأنّه لا يستطيع أن يراني في المستشفى، يعني ممكن أن تحلَّ المشكلة؟ بكلِّ تأكيد يا أستاذ يوسف، الله يسمع منّك يا أستاذ صبري! كيف ستحلُّ المشكلة؟ لا تقلق، سأضع الخطَّة وأشتغل عليها، ولا أستطيع أن أقول لك خطّتي الآن؛ لأنَّ لدي عدّة اقتراحات للحل، ولابد أن أنجح في النِّهاية؛ لأنّني صاحب القرار والكلمة في الحلّ النّهائي!

وهل تستطيع أن تقنع سليمان؟ بالتَّأكيد، إنّه أخي وأعرف كيف أقنعه وأحاوره! والله يا أستاذ صبري لو حلّيت هذه المشكلة الَّتي لم يحلها نقيب المعلّمين ومختار المخاتير العم حنا اصطيفو؛ فسأعدُّك محامي المحامين وقاضي القضاة! أيام معدودة وسترى كيف سأغلقُ الموضوع من جذوره. نظر إليّ الأستاذ يوسف والبسمة مرتسمة على وجهه، وقال: أملي فيك كبير يا أستاذ صبري؛ لأنّك رجل فكر وأدب وسلام!

ودّعني الصَّديق يوسف حنّا، ثمّ أعدَدْتُ العدّة لوضع مخطَّطاتي؛ لإغلاق هذه القضيّة؛ تفادياً من تفاقماتٍ أكبر؛ لأنّ السيّد أخي أغلق كلَّ منافذ الحوار؛ لأنّه على ما يبدو قلق علي، ولا يستطيع أن يتخيَّلني إلَّا مُدمى الرّأس ومتورّم العين، فكيف سيقبل الحوار وهذه الصُّورة ملتصقة في خياله إزاء كلّ حوار ونقاش يصدر منه؟ لهذا لابدَّ أن يراني بكامل قيافتي وصحَّتي؛ كي يقتنعَ منّي ومن الجميع أنَّ الصّلح هو طريقنا الأسلم في عناق الحياة، ولا حلَّ غيره على مرِّ الأزمان!

كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_يوسف Sabri Yousef ..في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..- من السؤال – 131 – إلى السؤال 140..

كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_يوسف Sabri Yousef ..

في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..

من السؤال – 131 – إلى السؤال 140..

 

  1. ما الدّور الَّذي قمتَ به مع الأهل بعد الوصول إلى مرحلة التَّقدُّم لخطوبة شموني لأخيك نعيم؟

شغفٌ كبير كان وما زال يراودني في تعاون الأخ مع أخيه، مع جاره، مع حيّه، مع مدينته، مع بلده ومع الحياة برمّتها، ومنذ أن شببتُ عن الطّوق، أرى أنَّ بناء أي مجتمع ينبع من بناء الذَّاتِ أولاً بناءً صافياً، ثمَّ بناء مَنْ نعلّمه ونعمل معه سواء في مجال التّعليم أو في الأسرة أو خارج الأسرة أو في أيِّ مجالٍ من مجالات الحياة، وهذه الرُّؤية أشبه ما تكون رؤية طوباويّة حلميّة خالصة، وحقيقة الأمر أنَّ هناك طغياناً شبه كامل على وجدانيّاتي في هذا السِّياق، حيث أراني طوباويّاً حلميّاً خياليّاً؛ لما لهذه العوالم من متعةٍ سواء عندما نطبِّقها على أرض الواقع، أو عندما نكتبها ونعالجها إبداعيّاً، أو نعيشها عبر منعرجات الحياة الَّتي نمرُّ فيها، ومن هذا المنطلق الواضح في شخصيّتي، وكما أنا واضح لنفسي وضوح الشَّمس، وجدتني مجنّحاً نحو تقديم أبهى ما لديّ لغيري؛ وهذا الغير يبدأ من أخي، ويتعانق مع جاري وابن حيِّي ومدينتي، ويصبُّ في الإنسان كائناً من كان، ونظراً لطغيان الرُّؤية الحلميّة الطُّوباويّة في آفاقي؛ جعلتني هذه الرُّؤية أن أظلَّ طوباويّاً حلميَّاً خياليّاً فيما يخصُّ عالمي الشَّخصي الأرضي المباشر المعاش، فغالباً ما تكون آفاقي العطائيّة تصبُّ في الآخر، سواء كان هذا الآخر أخي أو غيره، وهي رؤية إنسانيّة إلى حدٍّ بعيد، ولكنّها رؤية انشطاريّة في بعض الأحيان أو الكثير من الأحيان، فقد شطرتني نحو فضاءات الحلم والطُّوباويّة اللَّذيذة، وظلَلتُ منشطراً نحو هذا العالم إلى أن انفصلت تقريباً عن واقع الحياة كحياة، وهذه الرُّؤية المنبثقة في سياق الرَّد على هذا السُّؤال هي قفزة غير مبرّرة في سردها هنا والآن، لكنَّ الإشارة إليها ضروريّة؛ لأنَّ فيها ومنها الكثير من محاور الأسئلة الَّتي سأرتكز عليها للانطلاق إلى فضاءات مهمَّة في سياق حواري مع الذَّات، هذه الذَّات الغائصة في متاهات الطُّوباويَّات اللَّذيذة وتجلِّيات بوح الحلم، ولم أجنِ منها سوى طاقات حلميّة إبداعيّة، لكنّها هشّمتني، وأبعدتني عن وقائع رحيقِ الحياة؛ لهذا قرّرتُ أن أحاور ذاتي بذاتي ألفَ سؤالٍ وسؤالاً، وكما قلت في استهلال مقدِّمتي: أنّه يستحيل أن يفهمني شخصٌ آخر على وجه الدُّنيا، ويحاورني مثلما أفهم ذاتي فيما يخصُّ أعماقي الدَّفينة؛ لأنّه كيف سيصل إلى أغوار الذَّات إلّا صاحب الذَّات بعينها، وواضح جدّاً أنّني خرجت كلّياً عن سياق الرّد عن هذا السُّؤال، لكنّي أحببت أن أشير إلى بعض من يظُّنون أنَّني أوغلتُ كثيراً في عرض السِّيرة الذَّاتية، في سياق حواري مع الذّات، معتقدين أنَّ تساؤلات كهذه لا تصبُّ بعمق في فضاءات الأدب والإبداع، وأجيب كلّ مَنْ يراوده تساؤل كهذا، أنَّ حواري مع ذاتي هو لوضع هذه الذَّات على المحك، وفي الوقتِ نفسه أودُّ أن أقول عبر هذه الرُّؤية للقارئ والقارئة: لِمَ لا تضعوا ونضع أنفسنا نحن البشر على محارق المحكّ؛ كي نصفِّي شوائبنا العالقة في مرافئ ذواتنا، ونقول ما يجب قوله؛ كي نستفيد ممَّا لا ضرورة لما قلناه يوماً أو نقوله يوماً أو سنقوله، ونسحب هذه الرُّؤية على القرّاء في كلِّ زمان ومكان، كي يستفيد الآخر من هذه الرُّؤية الحواريّة مع الذَّات ذواتنا؟!

.. وهكذا رغبةً منّي في التَّعاون والتَّضامن مع أخي؛ انطلقت نحو تقديم أجمل وأبهى ما لدي، ثمَّ بدأتُ أشرح الموضوع لأمِّي وأبي وإخوتي وأخواتي فيما يخصُّ ترتيبات ما وصلنا إليه أنا وأخي نعيم؛ كي نحضّر أنفسنا بتشكيل وفد للِّقاء مع بيت العم بهنان لخطوبة ابنته شموني لأخي، وعرضتُ الفكرة برفقة نعيم مع الأهل واحداً واحداً، ووجدوا أنَّ رؤيتي سديدة وسليمة، وباركوا خطواتي من أوَّلِها إلى آخرِها، وخبّرتُ عمّي وأولاد عمِّي وبيت خالي والأهل ورتَّبتُ الأمور لتشكيل وفد رسمي؛ كوجاهة للتقدُّم إلى خطوبة شموني من أهلها خلال الأيام القريبة القادمة.

  1. ممَّن تشكّل وفد الوجاهة الّذي تقدّم لشموني بعد أن وضعتَ النِّقاط على الحروف من الطَّرفين؟

بعد الموافقة على تحديد موعد الخطوبة قريباً، خطّطتُ مع أخي نعيم بتحديد الوفد الَّذي سيلتقي مع بيت العم بهنان، فتألَّف من عمِّي يوسف شلو أبو أفرام؛ وقد ناب عن والدي أيضاً، وأخي سليمان، وأنا ونعيم! وقد اعتذرتْ أمّي وزوجة عمِّي وأختي كريمة ونعيمة عن الحضور وغيرهنَّ من النِّساء، لأنّهنَّ اكتفينَ أن يكون الوفد ممثلاً عن الأسرةبهؤلاء الرّجال، وخبّرتُ أبا سمعان أنَّنا ننوي زيارتهم؛ كي نطلب كريمتكم بشكل رسمي، فحدَّدَ لي مساء يوم الأحد القادم؛ كي تتبارك الخطوبة، وأذكر جيّداً كيف ناقشني عمِّي يوسف وهو يبتسمُ في موضوع الخطوبة والزَّواج قائلاً: يا بني، أراك متحمِّساً في خطوبة أخيك نعيم، وتعرف معزَّتكم جميعاً عندي واحدة، وتعرف أنت بالذَّات كم لديك عندي من معزّة مميَّزة؛ لما عندكَ من رغبة في التَّعاون مع إخوتك وأهلك وأغلب وقتكَ تقضيه عندنا مع أولاد عمّك، إلى درجة أنَّ هناك الكثير من الأصدقاء والمعارف يظنُّون أنّكَ ابني، فأقول لهم: صبري بمقام ابني، لكنّه ابن أخي صامو، فقلت له ما هو السّؤال يا عمّي؟ سؤالي يا بني: لماذا لا تقوم بهذا العمل والجهد والموقف لنفسكَ أنتَ، لماذا قمتَ بكلِّ هذه المهام بحسب ما شرحتها لي ابتداءً من لقاء أبي سمعان بنعيم وبك ومروراً بكلِّ المستجدّات الَّتي شرحتها، بما فيها موضوع فسخ الخطوبة، ومحاولتك إقناع أخيك بموضوع الفسخ، ووضع مقارنات بين هذه الخطيبة والأولى، وإلى ما هنالك؟ وبرأيي كان من الأجدى لكَ أن تفكّر بكلِّ هذه الأمور لك، نعم لكَ، أي تبحث لك أنتَ عن صديقة من صديقاتك، معلِّمة من المعلّمات، أو أي بنت يهفو إليها قلبك وتخطِّط لخطوبتها، صحيح أنت أصغر من أخيك نعيم بسنتين، لكن وضعك أفضل منه بكثير؛ فأنت على الأقل معلّم وتشتغل في التّعليم ولك راتب ثابت ومضمون، وعندك بيت مع والدك…. وإلخ، صحيح أنّك لم تؤدِّ الخدمة العسكريّة، وهذه ليست مشكلة عويصة، وكلّ ما في الأمر بالنّسبة لأخيك نعيم أنّه أدّى الخدمة العسكرية، طيّب ما هو عمله، ماذا سيعمل، ومتى سيؤمِّن له عملاً ومورداً ثابتاً؟ بعد شهر بعد سنة لا أحد يعلم، لكن أنت وضعك مؤمّن وأفضل منه الآن وغداً، سواء عندك خدمة عسكريّة تنتظرك أو تكون مسرَّحاً من الخدمة!

أشكرك يا عمِّي؛ لاهتمامك بي وتركيزك عليّ وعلى مستقبلي، لكنّي عندما أساعد أخي كأنّي أساعد نفسي، هذه بادرة طيّبة منكَ يا بني، لكنّها فكرة نظريّة؛ لأنّني أتساءل هل سيقوم أخوك نعيم أو سليمان أو حتَّى أولادي بما تقدّمه لهم من مواقف؟ لا أظنُّ أنّ إخوتي أو أولاد عمِّي سيقصّرون بحقِّي يوماً ما لو احتاجَ الأمر. سنرى يا بني، وآمل أن لا تظن أنّني لا أحب إخوتك؛ فأنتم بالنّتيجة أولاد أخي. لكن محبّتي لك مميّزة، لأنّك حنون وذكي ومطيع وهادئ وشخصيّة محترمة، وأستاذ، ويحبُّك الجميع، حتّى أنني مندهش كيف لا تفكِّر بأقصى سرعة أن تجد لنفسك معلِّمة من زميلاتك وتخطبها، وسأكون أوَّل من يخطبها لك ولو احتجت لأيّة مساعدة سأقدِّمها لك مثلما أقدِّمها لأولادي؟ وتأكَّد أنَّني أستميل إليك أكثر من استمالتي لبعض أولادي؛ لأنّكَ لم توجّه لي في حياتك كلمة أحلى من السُّكّر. شكراً عمِّي، أحلى عم وأرجل عم وأقوى عم في ديريك، بطل من أبطال ديريك. أم أفرام، حضِّري الأكل لصبري وشكري؛ لأنَّ أمامهما مشواراً بكلّ تأكيد، حضّرتْ زوجة عمّي طعاماً شهيّاً، تناولناه، ثمَّ خرجنا نتمشّى أنا وشكري في شارع المشوار، وفيما كنّا نتمشّى قال لي شكري: كل ما قاله والدي صحيح ودقيق تماماً، لماذا لا تخطِّط وتفكِّر بنفسكَ قبلَ أن تفكّر بنعيم وبي وبأيِّ مخلوق آخر من الأسرة؟!

كان نسيم ديريك ينعش صدورنا ونحن نسيرُ ذهاباً وإياباً في شارع الكنيسة المزدحم بالشّباب والصّبايا، وتمرُّ الأيام والشُّهور والسُّنون، وتبقى هذه المواقف ساطعةً على مسارات انبعاث حنين الذَّاكرة!

  1. كيف تمَّ إعلان خطوبة شموني على أخيك نعيم؛ استعداداً لترتيبات الزَّفاف والإكليل؟

أعددنا أنفسنا لزيارة بيت أبي سمعان أنا وعمّي ونعيم وأخي سليمان، استقبلنا العم أبو سمعانوأخوه العم يعقوب سارة وأم سمعان، وكان أفرام وميخائيل وشموني في الانتظار أيضاً، جلسنا في الكوجكة؛ أي غرفة المضافة الَّتي كانت تقع في نهاية البيت، قعدنا قعدة عربيّة كما يقال على البساط والدَّواشك والعديد من المخدّات والوسائد، مضافة جميلة في دفئها وبساطتها، رحّب بنا أبو سمعان بحفاوة كبيرة، ثمَّ أعطى الكلمة للعم يعقوب سارة الأخ الكبير في عائلة آل سارة، ورحّب العمّ يعقوب بنا بكلمة طيّبة وكان يمتاز بكلامه الرّائع وقفشاته الفكاهيّه، وهو الشّماس الإنجيلي المخضرم على مدى سنوات عمره، وبعد أن رحّب بنا معتبراً إيّانا كأهله، ويُسِرّه أن يكون بيننا مصاهرة ونصبح نسائب، ثمَّ ترك الكلمة لنا، فأجاب عمّي يوسف باقتضاب، وشكرهم على حسن استقبالهم لنا وعلى حفاوتهم في التَّرحيب والكلام الطّيب الَّذي تقدّموا به، وقال: بالنِّيابة عن أخي صامو وأولاده سليمان ونعيم وصبري، وباسمي واسم الأسرة ككلّ، يشرّفني أن أتقدّم إلى ابنتكم الغالية شموني خطيبةً لنعيم ابن أخي صامو شلو، بعد أن وجدنا فيها أنّها البنت الَّتي تناسب ابننا، ونرى أن ابننا يناسبها، ونحن من طينة واحدة، وكأنّنا أهل، وسنصبح أهلاً من خلال هذه المصاهرة الَّتي نرجو أن تتمَّ بخير، فبكلِّ فخر واعتزاز نتقدَّم نحن وكلّ أولاد أخي وأسرتي إلى طلب يد شموني لنعيم ابن أخي.

أجاب أبو سمعان، أهلاً وسهلاً بكم وبقدومكم إلى بيتنا والبيت بيتكم، والبنت ابنتكم ولكن لا بدَّ أن نسأل شموني بحضور عمّها وأبويها وأخويها وحضوركم: شو رأيك يا بنتي العم يوسف مع أولاد أخيه وباسم آل شلو جاؤوا ويطلبون يدك لنعيم، هل توافقين على نعيم خطيباً لك؟

رفعت شموني رأسها بكلِّ حياء وبصوت خفيض قالت: بابا الكلمة كلمتكم، وفي حال لو وافقتَ أنتَ، ووافقَ عمِّي وإخوتي وأمِّي؛ فأنا موافقة.

من جهتنا يا بنتي، نحن موافقون، فهل أنت موافقة؟ أيوه بابا موافقة. فزغردت أم سمعان وقالت: ألف مباركيا بنتي، وألف مبارك عليكم كنَّتكم خطيبةً لنعيم. ثمَّ أردفتْ تقول: لدينا طلب واحد؛ وهو شراء مقدار عربي، اسوارة صبّ، وزنجير ذهب، مع صليب وخاتم وحلق من نوع تختاره شموني، فوافقنا على طلب أم سمعان برحابة صدر، ثم تدخَّل عمّو يعقوب بفكاهته الرّائعة قائلاً: سمعتُ من بعض النّاس وهم يعرفونكم جيّداً، بأنّكم حتّى الآن تستخدمون البابور، وليس لديكم مسخّن الغاز، فأنا طلبي هو أن تشتروا غازاً للعروس، ضحكتُ بدوري ودخلتُ على الخطّ، عفواً عمّي أبو أفرام، اسمح لي أن أردَّ على عمِّي يعقوب حول طلبه الرَّائع، وهو طلب مستجاب على أيَّة حال، حقيقةً يا عمّو يعقوب، ليس عندنا غازٌ، لكن لدينا بابوران من أفضلِ البوابير، نطهي الطَّعام على البابور الصَّغير، ويقضي لنا حاجتنا منذ سنين، وهو بالنّسبة لنا أفضل من الغاز بكثير، كما لدينا بابور كبير الحجم؛ لتسخين الماء في برميل صغير، ولا تقلق من جهتي لا مانع من شراء غاز؛ لأنَّ الغاز قيمته بحدود (80) ليرة بهذه الحالة سيصبح عندنا غازٌوبابوران! ضحكَ الجميع وقال عمّو يعقوب: الله يعمر بيتكم، ويزيد من بوابيركم، بلكي تتحمّسوا وتقدمولي شي بابور هديّة، فضحكنا من جديد،وكدنا أن ننقلب على ظهورنا من الضّحك، فقلت له: أوعدك وعد شرف عمّو يعقوب راح أجيبلك أحلى وأقوى وأكبر بابور في ديريك، فضحكَ عمو يعقوب من أعماقه وردّ علي قائلاً: الله يعمر بيتك وبيت عمّك وإخواتك، وبيت كل آل شلو. بارك الله فيك عمّو يعقوب وبكلِّ آل سارة وآل بولص حياكي.

فرحنا لإعلان الخطوبة بهذا الجو الفكاهي الجميل، قامَ نعيم وسلّم على خطيبته، وبارك لها ولبَّسها خاتماً، ثمَّ سلّمنا على بعضنا، وباركنا بعضنا بعضاً على الموافقة على الخطوبة، ثمَّ وزّعت الخطيبة السَّكاكر علينا، وبدأنا نتحدّث بكلِّ فرحٍ ومرح، ثمَّ دخل على الخط أبو سمعان يعرض لنا بعضاً من قفشاته وقصصه الفكاهيّة، خرجت شموني مع أمّها إلى المطبخ، ورحنا نستمع إلى أبي سمعان، وخيّم علينا جوٌ حميميٌّ، دخلت شموني مع أمّها، وقالت: يا جماعة العشاء جاهز تفضّلوا خذوا أماكنكم؛ كي نصبَّ العشاء لكم، ونتعشّى معاً بهذه المناسبة السَّعيدة. جلسنا، وخلال دقائق كانت الطّاولة مُعِدّة بأشهى أنواع الطَّعام.

تناولنا العشاء ورفعنا نخب إعلان الخطوبة، وهلهلتْ أم سمعان لهذا الفرح، وتمنَّينا جميعاً أن يبارك الله في هذه الخطوبة، ويسعد الخطيب والخطيبة، كانت سهرة عامرة بالفرح والمرح والتَّفاهم، ودَّعنا أهل البيت بكلِّ ممنونيّة، وخرجنا ونحن في أوجِ سرورنا، ننتظر يوم القران والإكليل والفرح الكبير بفارغ الصَّبر!

  1. لماذا لا يتأنَّى المرء قبل أن يقدمَ على أفعال وحشيّة وكارثيّة ممكن أن تؤدّي إلى هدر الدّماء؟

غالباً ما نرى هكذا أفعال تظهر في البيئات الزِّراعيّة البدويّة الرِّيفيّة القرويّة، خاصّةً لدى بعض الشّبان الَّذين يتبجَّحون بالقّوة والعنجهيّة وحبّ الظّهور؛لأن شبَّاناً بهذه الكيفية شبّان لا يفكّرون بالنَّتائج، ولا يحسبون حساب النَّتائج الوخيمة الَّتي ممكن أن تتفاقم إلى درجة مواجهات وتصارع أُسَر برمّتها بطريقةٍ هوجاء، كأنّ الأطراف المتصارعة في حالةِ حربٍ حقيقيّة؛ لهذا برأيي تفكيركهذاهو تفكير قاصر، ولا يحملُ حكمةً، ولا يحملُ بُعداً حضاريّاً متمديناً، وليس كلّ أهل الرِّيف والمجتمعات الزّراعيّة هم على هذه الشَّاكلة، فهناك نسبة كبيرة من أهل المجتمعات الريفيّة،معروفون بالطِّيبة والتَّعاون والتَّضامن والتَّآخي في العمل وفي الحقل والمزارع والبناء وفي الكثير من الأعمال؛ لهذا فإنَّ هذه القضيّة المنتشرة لدى بعض الشّبَّان في تصعيد المواقف والمواجهاتمقتصرة على نسبة قليلة، ولكن ممكن أن تتفاقم الأمور أكثر بكثير من النّسبة الّتي بدأت في العنف والمواجهات، وتتوسَّع رقعة التَّصارعات حتّى تشمل أحياناً كبار القوم؛ لأنَّ العنف يتصاعد إلى درجة القتل؛ وبالتَّالي يتوالد من العنف عنفٌ مضادٌّ، حتَّى ولو كان العنف المضادّ ناجماً عن حالة أشبه ما تكون بالدِّفاع عن النَّفس، ولهذا أرى من الضُّروري أن تتمَّ تنشئة الأجيال على حسن المعاشرة والرَّويّة والتَّفاهم، وبثّ روح التَّعاون والهدوء فيما بين نفوس الشَّباب، وزرع قيم المحبّة والمسامحة والحكمة في قلوبهم؛ لأنَّ الشّاب الَّذي لا يتشرّب بهذه القيم أحياناً يجرفه عنفوان الشَّباب والمراهقة وحبّ الظُّهور والكثير من العوامل الَّتي تجلعه يقوم بأفعال عدائيّة ووحشيّة غالباً ما يندم عليها؛ لهذا أراني منذ يفاعتي مجنّحاً بشغفٍ كبير نحوَ فضاء الكلمة والقصيدة والمحبّة والسَّلام والمسامحة والهدوء وليالٍ محبوكةٍ بتجلّيات التَّأمُّل، لا أجيد لغة العنف، ولا العنف المضادّ، مع أنَّ شخصيّتي صداميّة، لكن صداميّتها غالباً ما تكون مرتكزة حول قضايا الفكر والرّؤية الخلّاقة والبحث عن الأفضل في قضايا الحياة؛ لهذا أراني مغامراً في الرّد على الطُّروحات الرَّجعيّة والتَّخلّف؛ مناصراً للمرأة والرّجل المظلومَين؛ مناصراً للإنسان كائناً مَنْ كان. أندهش كيف ممكن أن يقف شاب في وجه شاب ويتحدّاه لأمرٍ تافهٍ أو حتّى لأمرٍ مهم، فإنَّ أي أمرٍ على وجه الدُّنيا ممكن أن يعالج عبر الحوار؛ وما حواري مع  الذَّات إلَّا أحد أكبر الفضاءات لحلِّ مشاكل الكون عبره، عبر الحوار وليس بالضُّرورة عبر تساؤلات حواري، بل عبر الحوار كمفهوم كفكرة كدليل؛ إلى أن نصلَ عبره إلى أعمق ما نريده في الحياة!

جلستُ في صومعتي في ديريك العتيقة، أسمع فيروز، وهي تهدهد روحي، فشعرتُ أنَّ روحي تنسابُ مع سكونِ اللَّيل، أنقلُ علامات الطّلاب إلى جلاءاتهم، كنّا قد انتهينا من الفصل الثّاني، غائصاً في نقل علامات الطُّلاب إلى سجلِّ العلامات وإلى الجلاءات، كم كنتُ سريعاً في جمعِ العلامات وفي نقلها على السّجل بخط جيّد وواضح، مراراً شعرتُ أنَّ الكلمة الطّيبة، الكتابة، القصيدة، الفكر الخلَّاق هي طريقنا إلى بناء الأمم كلَّ الأمم، إلى بناءِ مجدِ البشر، إلى بناءِ مجدي وأنا غارق في هذه الزَّاوية المنفيّة من العالم!

ما كنتُ أفكِّر آنذاك أين تقع ستوكهولم من خارطة العالم، الشَّيء الوحيد الَّذي كانَ يعشِّشُ في أعماقي هو شغفي العميق لوهج الحرف، متسائلاً: متى سنعطي للكلمة حقّها، متى سنبني مجتمعاً حضاريَّاً راقياً؟ أسئلة كبيرة كانت تنتابني وأنا في مقتبلِ العمرِ، كبرتُ وكبرَتْ تساؤلاتي وغربتي وآفاق طموحاتي وتطلُّعاتي، لكنِّي ما كنتُ أظنُّ يوماً أن أضعني على المحكِّ أمامَ ألف سؤال وسؤال؛ كي أجيبَ عنها منذ أن رأيتُ النّور حتّى آخر لحظة أتنفَّسها من السُّؤال الأخير. أجل أتساءل بكلِّ أسىً وأنين: لماذا لا يفكِّر المرء بالمحبّة ويتحلّى بالصَّبر قبلَ أن يقدِمَ على أفعالٍ وحشيّةٍ وكارثيّة ممكن أن تؤدّي إلى هدر الدّماء؟ ربّما لأنّه يحتاج إلى مَنْ يزرع في نفسه حبَّ الحياة وحبَّ الذَّات وحبَّ الآخرين؛ كي يكونَ إنساناً مفيداً حكيماً عاقلاً، يقدِّم لنفسِهِ وأهله وجيرانه وأصدقائه وأحبَّائه كلَّ الخير والحبّ والفرح، كي يعيشَ سعيداً وفي حالةِ وئامٍ مع ذاتِهِ ومعَ كلِّ الأحبّة الَّذين يعيشونَ حوله، كي ينامَ نوماً هنيئاً معَ عوالمِ رحلته الفسيحة في الحياة!

  1. بماذا كنتَ تفكِّر في مقتبلِ العمرِ وأنتَ في أوجِ حالاتِ التَّأمُّل؟!

كنتُ غائصاً آنذاك وما أزالُ في طموحاتٍ تزلزلُ عرشَ الجبال، وإذ بهذه الطُّموحات تقذفني في مهبِّ الحياة من بابها المجهول، وتزلزلُ ما في أعماقي من رؤى وآفاق موغلة في شهقات التَّجلّي، أنبشُ منها وميض حرفي، عابراً وعورةَ القدر، كأنّي في حالةِ مواجهة مع تربّصات الغول اللَّعين، الحياةُ شراعٌ مفتوح على أزاهيرِ الدّنيا، لكنّنا نواجه شوكاً يدمي الرّوح وسيوفاً مسمومة لا تخطر على بال، وحده الحلمُ ينتشلني من أدغالِ الاشتعال ومن غدر الزّمان، وحدَها الكلمة الطّيبة قادرةعلى أن تنقذني من قباحات الحياة؛ لهذا أراني فارشاً أجنحتي لنسيمِ اللَّيل؛ كي أستلهمَ من بهائِهِ إشراقةَ حرفٍ رغمَ دكنةِ اللَّيل، شغفي في الإبحار في مروجِ الحرف لا يضاهيه شغفٌ آخر، حرفي هو سفينةُ خلاصي من شفيرِ الانكسار، وهوَ محرابُ أملي في أبهى حالات التَّأمُّل، دائماً كنتُ أراني كلّما نامَ اللَّيل، في حالةِ انغماسٍ معَ هدهداتِ القصائد، أحلِّقْ عالياً؛ كي ألتقطَ من ضفائرِ الرّوحِ أشهى تدفّقات انبلاج الحرف، كنتُ أهمسُ في سرّي وأنا في أوج حالات التَّأمل: نعمةُ النِّعمِ أن نستلهمَ من دواخلنا الشَّفيفة بسمةَ الرّوحِ وهي في أوجِ عناقِها معَ قبِّةِ السَّماء، فجأةَ أراني أمسكُ قلمي، وأرسمُ مخطّطات بوحِ الحلمِ، كانَتْ وما تزال أحلامي تناطحُ غمامَ اللَّيل رغم كلّ ما كانَ يحيقُ بي من شراهاتِ الاشتعال، مهدهداً تلألؤات نجوم اللَّيل على إيقاعِ حبورِ اخضرارِ القلب، يغمرني شوقٌ لا يُضاهى إلى حبرِ القصيدة، وحدَها القصيدة تعانقُ روحي على إيقاعِ تلألؤاتِ النّجوم وهي تخرُّ بكلِّ وميضها فوقَ هلالاتِ حروفِ الحنين، وحدَها الكلمة وهي في أوجِ انبعاثها تخفِّفُ من لظى الاشتعال، وحدَها الكتابة صديقةُ ليلي ونهاري، وحدَه حلمي احتضنَ مراراً تدفُّقات انبعاث الخيال.

أفكِّرُ وأنا في أوجِ التَّأمُّل كم هي جميلةٌ بسمةُ الأطفالِ، كم تشبهُ تلألؤات النُّجوم كركرات ضحكة الأطفال، كم تشبهُ السَّماءُ حنيني العميق إلى أحضانِ أنثى من نداوةِ المطر، أفكِّر بكيفيّة الفكاكِ من غدٍ متشابكٍ معَ هديرِ الزَّمهرير، أفكِّرُ بكلِّ هذه الرّحلة المحفوفة بوعورةٍ منفلتةٍ من جحافلِ النّارِ، أفكّرُ في أوجِ تأمُّلي بمصيرِ دقَّاتِ قلبي الّتي تحصي شهقات أنثاي وهي تهفو إلى مناغاةِ ضياءِ القمر، أفكِّر بحروفٍ منسابةٍ فوقَ ضفائرِ الرّوحِ، شوقاً إلى عناقِ تلالٍ تنضحُ اخضراراً بأشهى تجلّيات بهجةِ الاحتضان.

أفكِّرُ بإشراقة الفجرِ وهي تعانقُ ندى الصّباح؛ كي أنسجَ من بهاءِ الإشراقِ دفءَ تهاطلاتِ حبرٍ منسابٍ من ماءِ الحياةِ، أسمعُ موسيقى حنونة منبعثة من رهافةِ حناجرِ الأطفال، كأنّ موسيقاهم منبعثة من نسائم اللَّيلِ الحنون، تناجي سطوعِ هلالاتِ القمر، أشعرُ بغبطةٍ عميقة، تزدادُ روحي تجلِّياً فأرسمُ فوقَ خدودِ اللَّيلِ أهازيجَ جامحة محبوكة من عناقِ الأرضِ لزرقةِ السَّماءِ، ثمَّ أزهو فرحاً؛ كي أشعلَ شموعَ الحنينِ فوقَ أسوارِ بيتي العتيق، حبري من رحيقِ القرنفل، وحرفي من لونِ الخبز المقمَّر، تشمخُ أمامي اخضرارُ قاماتِ السنّابل، تتناهى إلى أسماعي هدهدات بوح الحبيبة الّتي هامَتْ على وجهِ الدُّنيا، أشعرُ وكأنَّ وهجاً استلهاميّاً يتهاطلُ بكلِّ ابتهالٍ فوقَ مآقي حرفي، فيمتزجُ ألَقي وابتهالات حبورِ العناقِ معَ هديلِ اليمام!

  1. ما رأيكَ بالتَّعاون ومساعدة الآخرين؟

التَّعاون موقف نبيل ومهم ولا بدَّ منّه؛ كي تكتمل دورة الحياة في التَّعامل مع بعضنا بعضاً، لكن يبقى الأمر متعلِّقاً بحسب نوع التَّعاون والمساعدة الّتي يتوخّاها كلّ منَّا للآخر، فلو طُلِبَ منِّي مثلاً تعاوناً ما ومساعدة ما غير قانونيّة، أو تعاوناً ما وأنا غير قادر على تقديمه، فهل أُعَدُّ في هذه الحالة متخاذلاً ولا أحبُّ التَّعاون، أم أنَّ القضيّة فوق طاقتي ولا تتعلّق بماهيّة التَّعاون؟ وهذه المسألة فضفاضة جدّاً ومتشعّبة، وهي خاضعة أيضاً لنوع التَّعاون والمساعدة والقدرة على الاستجابة له ضمن ظروفي وظروف المتعاون معه، وبكلِّ الأحوال هذا الأمر يتعلَّق أيضاً حتَّى ولو كانت كلّ السُّبل والظُّروف تساعد وتسهمفي التّعاون، بمزاج المتعاون ومدى انسجام المتعاون مع المتعاون معه، ولهذا أرى أنَّ موضوع النَّظر إلىتساؤل كهذا هو موضوع حسّاس ودقيق، ولا يمكن أن يرسو المرء على قناعة واحدة؛ حيث يتغيَّرُ مزاج الشَّخص من لحظة لأخرى، وأحياناً نطلب من شخصٍ ما موقفاً يتطلَّب فيه نوعاً من التَّعاون والتَّعاضد والمساعدة، وإذ به بأمس الحاجّة لمن يساعده في مِحَنه وهمومه ومشاكله؛ وبالتّالي نتساءل، هل سيقف الَّذي طلب المساعدة ويقوم بواجبه تجاهه حتَّى ولو كان موقفاً معنويَّاً، أم أنّه سيتوارى عن الأنظار؛ لأنّه لم يحقِّق طلبه وأهدافه منه ويختفي عن ناظريه بلمح البصر، كأنّه في ورطة من أمره ولابدّ أن يتوارى بعيداً؟ وهكذا فإنَّ هذا التَّساؤل ممكن أن يجيب عنه كلَّ شخصٍ بحسب ظروفه وتفهُّمه وقدراته على التّعاون أو اللَّاتعاون وهذا أيضاً يخضع لظروفه النّفسيّة والمزاجيّة، كما يخضع لموضوع التّعاون نفسه؛ لأنّه ممكن أن يكون غير قادر على تنفيذ ما يحتاج إليه الآخر، أو يكون الطَّلب غير قانوني وتتداخل الأمور، وتصبح ربّما مشادّات فيما بين الطَّرفين، خاصَّة لو كان بينهما علاقات وطيدة، ولهذا أرى ضرورة أن نفرش كلَّ المواقف على مصراعيها، وندقِّق في كافَّة العوامل الَّتي تقودنا إلى التّعاون بحسب ما تقتضيه الأمور أو الإحجام عنه!

تساءلتُ نفسي هذا التَّساؤل؛ تمهيداً للسؤالي الَّذي يليه؛ والَّذي ينجم عنه سلسلة من التَّساؤلات قد تكون مرتبطة مع بعضها بعضاً بطريقةٍ أو بأخرى؛ وقد نجمَ عنها جملة من العوامل الَّتي لعبت دوراً كبيراً في تفاقم المواقف بشكلٍ دراماتيكي، وأدّت إلى نتائج لا تُحمَد عقباها، وما كانت تخطر على بال الجنّ الأزرق! ولهذا قلتُ في إجاباتٍ سابقة: من الضُّروري جدَّاً أن يتحلَّى المرء بالتَّروِّي، وعدم التَّسرّع حول موضوع العنف والعنف المضاد، سواء كان بين شخصين أو أكثر، أو بين أُسرةوأخرى، أو بين حيٍّ وآخر، وبين مدينة وأخرى، إلى ما لا نهاية من التَّصارعات العنفيّة الَّتي لا ضرورة لها، طالما لدينا فكرٌ وعقلٌ وحكمةٌ، حيثُ نستطيع من خلال العقل والفكر الخلّاق والحكمة أن نحلَّ كلَّ مشاكلنا وصراعاتنا مع بعضنا كبشر؛كي نبرهن لأنفسنا أولاً أنّنا بشر ومن فصيلة طينيّة راقية، وإلَّا سيرتكب المرء حماقات لا يتحكّم بنتائجها الوخيمة، وسيندم في وقتٍ لا يفيده النّدم! .. إنَّ حواري مع الذَّات هو حوارٌ مع الآخر بصيغةٍ أو بأخرى وفي الوقت نفسه هو مماحكة حواريّة عميقة مع الذَّات، والهدف من هذه المماحكة الحواريّة هو أن أقدِّمَ رؤيةً وئاميَّةً إنسانيّة عميقة للآخر من خلال تجاربي وآفاق رؤاي المتنوّعة في الحياة!

  1. مَن طلبَ منكَ أن تساعد أحد الطلّاب في مادّة التَّربية الدِّينيّة، ومواد أخرى صيف (1977)؟

طلبَ منِّي صديق عزيز عليَّ مساعدة أحد الطَّلَّاب في مادّة التَّربية الدِّينيّة في نهاية الفصل الثَّاني من عام (1977)؛ ونظراً لأنَّ هذا الصَّديق كان صديقاً غالياً وأعرفه معرفة عميقة من خلال زمالتنا وصداقتنا عبر المرحلة الإعداديّة والثّانويّة؛ فوعدته خيراً فيما إذا كان بالإمكان، وتصوّرتُ بحسب طلبه أنّني مدرّس المادّة الّتي رسب فيها الطَّالب، حيث جرت العادة آنذاك أن يدرِّس مادّة التَّربية الدِّينيّة المسيحيّة الموجّهون وبقيّة الإداريّين: كأمناء السّر والمكتبة، وما شابه، وبعد مراجعة اسمه؛ لعلَّ وعسى أكون قادراً على مساعدته بحسب ما هو ممكن؛ تلبيةً لطلب صديقي، خاصةً أنَّ مادّة التَّربية الدِّينيّة أصلاً ما كانت من المواد المهمَّة، فأحببتُ أن أعيد النّظر في جمع العلامات أو إعادة تصحيحها، والوقوف معه ما أمكن، وإذ بي أجد أنّه من عداد الشُّعب العائدة لزميلي الموجّه؛ ولهذا لم أتمكّن من مساعدته نهائيَّاً؛ لأنَّ ورقة الامتحان كانت بحوزة الموجّه الزّميل وليست بحوزتي، ولا عائدة إليّ نهائيّاً، وقد عرضتُ على بعض المدرِّسين أن يتساهلوا مع الطَّالب إلى حدٍّ ما، بحيث يقدّموا له نوعاً من المساعدة، أو إعادة جمع العلامات؛ لعلَّ وعسى هناك خطأ ما بالجمع، ولكن أغلب المدرِّسين كانوا قد انتهوا من تصحيح المواد، وثبّتوا العلامات وسلّموها إلى المدير ووقّع عليها، ثمَّ سيزوِّدها إلى الموجّهين؛ كي ينقلوا بدورهم العلامات إلى جلاءات الطُّلَّاب، وأجابوا فيما يتعلّق بجمع العلامات: يحقُّ لكلِّ طالب لو شكَّ بعلاماته أن يراجع إدارة المدرسة، وهكذا نقلت الصُّورة لصديقي بعد أيَّام قائلاً: يا صديقي العزيز، هذا الطّالب ليس من عِداد طلَّابي في مادّة التَّربية الدِّينيّة، وزميلي الموجه الآخر هو أستاذ المادّة، ولا يستطيع أن يساعده بدرجة واحدة؛ لأنّه صحّح الأوراق وسلّمها للإدارة، وتمَّ نقل العلامات إلى سجل درجات الطُّلَّاب ووقّع عليها المدير؛ ولهذا يستحيل التَّلاعب بدرجة واحدة، إلَّا إذا كان هناك خطأ ما في الجمع، وقد راجعنا الورقة مع مدرّس المادّة للتأكُّد من جمع العلامات؛ وبعد المراجعة تبيّن أنّه حصل على درجته المستحقّة، ومع كلّ هذا أعتذر؛ لأنّني لم أتمكَّن من مساعدة الطَّالب بحسب الوضع الَّذي شرحته لك بكلِّ أمانة، وشكرني صديقي بدوره، وحسبتُالموضوع انتهى من جانبي وليس لي أيّة علاقة به، علماً أنّني حاولت جهدي بما هو مُتاح لمساعدة الطّالب، لكن الأمور كانت منتهية وخارجة عن نطاق المساعدة، إلَّا عبر التَّلاعب والتَّزوير، وهذا ما لم أقُمْ به يوماً طوال اشتغالي بالتَّوجيه والتَّدريس، وطوال بيعي سلال العنب وأنا في العاشرة من العمر!

  1. ما الغاية من نشر هذه المحاور الحساسة في مشاجرة عنيفة وقعت معك منذ (40) عاماً؟!

بادئٍ ذي بدء أرجو من كافّة القرّاء والقارئات، الأصدقاء والصّديقات والمتابعين والمتابعات عدم التَّطرُّق كلّياً عبر تعقيباتهم وردود فعلهم إلى الجهة الّتي تعرّضَتْ إلى ابن عمِّي ولاحقاً لي ولأخي، وعدم شخْصَنْة المواقف، بل الوقوف عند تساؤلاتي وردودي كنصوص سرديّة وحواريّة، وكبحث عميق في أدب الحوار؛ لأنّ حوار مع الذَّات، ألف سؤال وسؤال، هو حوار أدبي فكري سِيْروي إبداعي خالص، خاصّة في مقاطع الإجابات القادمة الّتي سأنشرها تباعاً فيما يخص المواجهات الّتي تمَّت ونتائجها الكارثيّة، لكن حكمتي وحكمة أصحاب الخير -آنذاك- حالت دون تصاعد المواقف، وتمَّ حلّ المشكلة من جذورها، وتعمّدْت عدم ذكر الأسماء من الجانب الآخر؛ احتراماً لمشاعرهم ومشاعر الكثير من الأحبّة الأهل والقرّاء والقارئات! لأنَّ هدفي ليس ذكر الأسماء في هذا الجزء من الحوار، بل أن نأخذ عبرةً ممّا حصل؛ ولهذا فإنَّ الهدف من عرض ما حصل في سياق تساؤلات وإجابات ليس من باب عرضها كأحداث، بل  من باب عرضها كعبرةٍ وتجربةٍ وأدبٍ وحالاتٍ إبداعيّة في أدب الحوار مع أعماقِ الذّات، فقد سبق وأغلقت هذا الموضوع وتمَّت المصالحة منذ قرابة أربعين عاماً؛ لهذا تفادياً لأيّة حساسيّة من أيِّ طرفٍ آمل من كافّة المتابعين والمتابعات، عدم التَّطرّق نهائيّاً إلى موضوع الحقِّ على فلان وفلان أو التَّهجُّم على فلان وفلان، وربّما هناك من يراوده أن يتهجَّم على الطّرف الآخر، والَّذين أصلاً هم أصدقائي وبمثابة أهلي وخلّاني؛ لهذا فكّرت طويلاً قبل أن أدرج محاور هذا الحوار الخاص لحساسيّته المفرطة، ولكن إنصافاً للتاريخ ولهذه الذّاكرة المحبوكة بالحنين، حتّى ولو كانت مجبولة بالأسى والأنين، أحببتُ الوقوف عند مفاصلها العميقة؛ لكي تكون عبرةً لنا وللأجيال القادمة، حيثُ غصتُ عميقاً في ذاتي؛ كي أواجهها بأسئلة حارقة من العيار الثَّقيل؛ كي أتطهَّر كلِّيّاً من كلِّ الشّوائب العالقة في الكثير من محطّات الحياة، وأنّني وجدتُ بعد دراسة الأسئلة الَّتي صغتها في هذا الملف الشَّائك، أنّها مادّة غنيّة ومهمّة للغاية لإدراجها في حوار مع الذَّات؛ لما لها من علاقة مباشرة وعميقة مع الذّات، وقد كانت مدرجةً في برنامجي مادةً لعملٍ روائي، لكنّي وجدتها مادَّة غير مناسبة لعمل روائي؛ لحساسيّتها، مع أنّني كنتُ أميل جدّاً لكتابتها عملاً روائيّاً؛ لما فيها من تشابكات عميقة في عمليات السّرد الرِّوائي؛ ولهذا أحببتُ الآن أن أصيغ من معالمها بعض الأسئلة الّتي تغطِّي الجزء الأكبر من الأحداث الّتي وقعت منذ أربعةعقود من الزّمن، وأعرضها هنا من باب مواجهة الذَّات ذاتي، وليس من باب نبش الماضي؛ فأنا كما يعلم الجميع أنّني كنتُ وما أزال رجل سلام ومحبّة ومصالحات، وعلى يدي وبقرارٍ منّي تمّت المصالحات كلّها، وبالاتِّفاق والتّنسيق مع أهلي طبعاً، كما سأعرض كيفية سير المصالحة الّتي تمّت في سياق الحوار القادم عبر الكثير من التَّساؤلات!

أشكر هؤلاء الشَّباب الَّذين تعرّضوا لي يوماً، وتعرّضوا لأولاد عمّي وأخي، ولولاهم؛ لما ولدَتْ هذه الأجزاء من الحوار والَّذي أرى بين طيّاتهعبرةً عميقة لأقدّمها للأحبّة القرّاء والقارئات في كلِّ مكان!

  1. لماذا وقعت مواجهات بين بعض الشّبان وابن عمّك وديع يوسف شلو وكان برفقته يعقوب متّو؟

في بداية صيف (1977) كنّا نتمشَّى في شارع المشوار، الممتدّ من زاوية البلديّة ولحدو نعمان حتّى كنيسة السّريان وكنيسة الكلدان، كم لشارع المشوار ذكريات طيّبة في حياتنا وخيالنا، ومع كلّ ذلك البهاء، أتساءل بكلِّ أسى كيف كان لبعض شباب أيام زمان أدنى رغبة للمشاجرات مع أصدقائهم ومعارفهم، ونحن نتمشّى بكلِّ فرح في شارع المشوار وفي يوم الأحد والَّذي يعتبر يوماً مقدّساً؟ تتراءى أمامي مواقف أنينيّة، كنتُ في حينها برفقة الأصدقاء بالقرب من أستوديورازاي، وإذ بأحد الأصدقاء يقول بلهجة استنجاديّة عاجلة: يا أستاذ الحق وديع ابن عمّك؛ علقانين معه مجموعة شباب عند زاوية الكنيسة، استأذنت من الأصدقاء، وسرتُ مسرعاً؛ لعلّ وعسى أفضُّ المشكلة قبل أن تتفاقم، فوجدتُ هناك عشرات الشّبان، صرختُ ودييييع! فرفع يده مباشرةً، لا تقلق أبو نزيه ما في شيء، ملاسنة حادّة ومواجهة خفيفة انتهت على خير، مرحباً شو صار؟ صدّق فلان وفلان وفلان .. حاولوا يتعنتروا علينا، كنتُ أنا ويعقوب متّو فقط، لكنّنا تصدَّينا لهم وتدخّل بعض الشَّباب وفضّوا المشكلة. وما هي المشكلة؟ أجابني: لا أعرف أي شيء عن المشكلة، وليس عندي أيّة مشكلة معهم، فتصوَّرتُ أنّهم تذرَّعوا بأيّة حجّة ربّما جكارةً بي، هكذا خُيّل إليّ، انتهت المشكلة على خير، تابعنا المشوار ثلاثتنا بحذرٍ؛ تحسُّباً لأي تدخُّل طارئ، كانَ الجوُّ بديعاً، الصَّبايا يملأن الشَّارع فرحاً وبهجةً وجمالاً، أندهش جدّاً كيف شاب في أوج شبابه يطاوعه قلبه أن يعكّر مزاج النّاس والصَّبايا الجميلات والشَّباب يتمشّون في الشَّارع وهم في قمّة فرحهم ويتمتَّعون بمشوارهم؟! أتخيّل تلك المشاوير كأنّها أحداث في زمنٍ غابر بعيد أكثر من بُعدِ الواقع، يا إلهي، كم كنّا نتمتّع بمشاويرنا، نسير عشرات المرّات في الشّارع ولا نملُّ، عرّجنا إلى ماميكون مرطَّبات أديب الشَّهيرة، أخذنا قسطاً من الرَّاحة، وطلبنا الضُّونضرمة والهيطليّة والكلاسة، على أنغام بعض الأغاني والهواء العليل ينعش صدورنا، قلت لوديع ابن عمّي ويعقوب متّو؛ وهو ابن خالة وديع: عليكما الحذر أثناء المشوار، وحاولا أن تكونا أكثر من اثنين أو اثنين اثنين قريبين من بعضكما، وحاولا دائماً أن تتحاشا المشاجرة والعنف، انزعج منِّي وديع ومن طرحي واقتراحي، وقال: شو بدّك نعمل إذا كنّا ماشيين بالمشوار وتحرّشوا فينا؟ تعرف لو لم نستطِع الدّفاع عنّ أنفسنا كان راح يضربونا قتلة محترمة، ولهذا لا تطرح علينا طروحاتك في استخدام الهدوء والصَّبر والحكمة، يا بن عمّي نحن كنّا ماشيين في الشّارع وقطعوا علينا الطّريق وهم جاهزون للمشاجرة، يعني شو راح يعمل الحوار والهدوء في موقفٍ كهذا؟ الحل الوحيد هو ردّ الصَّاع صاعين. ولكن يا عزيزي وديع، في هذه الحالة ستقع مواجهات عنيفة وتعرف نحن أسرة شرسة وعنيفة، وخاصّة لو وقعت مشاجرة في شارع المشوار وتدخّل أخي سليمان ونعيم وأخوك أفريم وجميل وشكري وابن خالتك كريم متّو وأنت ويعقوب وكابي ومتّي، صدّقني لو تدخَّلت هذه المجموعة مع مجموعة من الجهة الأخرى، يصعب على دورية شرطة مسلّحة فضّ مشاجرةكهذه، طيّب إذا تحرّشوا بنا مرّة أخرى صدّقني سأضرب ضربة القتيل، أنتَ تعرف ضربة بوكسي تخلع الرّقبة والفكّ على الخالص! يا أخي يا بن عمّي، لا أرى بينكما مشكلة نهائيّاً، هي قضيّة سوء تفاهم، وممكن معالجة الأمر، سألتقي بهم؛ كي نغلق الموضوع. أوعى تلتقي بهم لوحدك؛ سيضربونك ضرباً مبرحاً وينتقموا منك؛ لأنّهم لم يتمكَّنوا منّا، يا أخي، أنا أحاول تخفيف الموقف وأنت تزيد العيار، فأجابني وديع: الحل الوحيد هو وضعهم عند حدّهم؛ وإلّا سيتحرّشون بنا كلّما استفردونا، على كلٍّ أنا مع فكرة المصالحة والتّفاهم، ونحن مع المصالحة والتّفاهم، ولكن لو تعرّضوا لنا مرّة أخرى؛ سيرون بأمِّ عيونهم من هو وديع يوسف شلو؟ تدخّل يعقوب وقال: نحن لن نتعرّض لهم نهائيّاً، وما في مشكلة من جانبنا أبداً، ولكن لو تعرّضوا لنا؛ بصراحة سنردُّ عليهم بطريقةٍ حاسمة، وأخي كريم سمع بالأمر وجنّ جنونه، وقال: سنسير في الشَّارع مجموعات مجموعات، بحيث لا تقل المجوعة عن أربعة أشخاص، هل هذا رأي كريم؟ أيوه هذا رأي كريم، إذاً كريم أيضاً يصعّد الموقف، لا ما يصعّد الموقف بالعكس كريم يهدّئ الموقف؛ لأنَّ برأي كريم عندما يروننا على أهبة الاستعداد مئة بالمئة سينسحبون من المواجهة؛ لأنَّنا نستطيع كل أربع منّا أن نصدَّ العشرات منهم! فتحت يديّ وقلت: بحسب تخطيطاتكم وعنجهيات هؤلاء الشّباب المعركة قادمة لامحال! إذا هم ينوون للمعارك فنحن لها، ردّ وديع وأكّد كلامه يعقوب، وفيما كنّا نتناقش، دخل كريم متّو على الخطّ، وسلّم علينا وقال: صار لي ساعة أبحث عليكم وأنتم تأكلون الضُّونضرة هنا، كان حادّاً للغاية، تحدّث بصوتٍ عالٍ وبغضبٍ كبير، نشكرُ الله ونحمدُه لم يكُنْ أحد من طرف الشَّباب في الماميكون؛ وإلَّا كانت كارثة الكوارث ستقع؛ لأنّ استعداد وديع وكريم ويعقوب للمواجهة كان في أوجه، وعندما حاولتُ تهدئة الوضع، تدخّل كريم وقال: رجاءً يا أستاذ صبري هكذا وضع لا يهدأ إلّا إذا خافوا منّا ووضعنا حدّاً لهم! الله مطوّل روحك يا روح، قلتُ وأنا في أوج انفعالي: طوّلوا بالكم يا جماعة، القضيّة بسيطة جدّاً، وبعدين الجماعة هم أصدقاؤنا ومن معارفنا؛ فلماذا تصعِّدون الموقف، نحن لا نصعِّد الموقف، قال وديع لكنَّنا سنأخذ احتياطاتنا وأي تدُّخل منهم وتحرّش؛ سنردُّ عليهم ونضعهم عند حدّهم! طيّب شو رأيكم لو أغلق الموضوع وأتحدَّث معهم؛ لأنّهم أصحابي وأعرف كيف أتفاهم معهم؟ تصرّف كما يحلو لك، ولكن لو تعرّضوا لك تذكّر كلامنا بأنَّ النّقاش معهم لا يفيد!

كنتُ غائصاً في نقل علامات الطُّلاب على الجلاءات، حاولتُ اللّقاء مع الشّباب الَّذين تحرّشوا بوديع ابن عمّي، وهم شباب من جهة الطَّالب الَّذي طلب أحد أصدقائي مساعدته، لكنِّي لم أفلح، وفيما كنتُ أسيرُ نحو المدرسة، التقيتُ به، فقلت: كنت أبحث عنك، فقال: خير، الشّباب تحرشوا بابن عمي وابن خالته منذ أيّام، قلت لك بالنِّسبة لموضوع الطَّالب ليس لي أيّة علاقة في رسوبه، وحاولت مساعدته كما تعلم، لكن الأمور خرجت عن نطاق المساعدة؛ لأنَّ المحصّلات؛ أي النّتائج النّهائيّة موقّعة من الإدارة والمدرِّسين، فلماذا يصعِّدون الموقف وكأنِّي ضدّهم؟ بالعكس يا أستاذ أنتَ لستَ ضدهم وخبّرتهم حرفيَّاً بكلِّ ما حصل معك، وليس لهم أي موقف منك، فلماذا إذاً تعرضوا لابن عمّي؟ يا صديقي، هذه المرّة انتهت على خير ومرّة أخرى ربّما تقع كوارث، وأنت تعرف أولاد عمّي شرسين للغاية، وكذلك أخي سليمان عنيف جدّاً، وأولاد خالة أولاد عمّي تعرف أنت هم على أتمِّ الاستعداد للمواجهات، فرجاءً خبِّر الشَّباب وبلّغهم تحياتي، وقُل لهم: نحن أصحاب ومعارف وأصدقاء، والموضوع غير محرز لتصعيد الموقف إلى حدِّ المواجهة؛ لأنّني قلق جدّاً من استعدادات إخوتي وأولاد عمي وأولاد خالتهم، لا تقلق يا أستاذ سأغلق معهم هذا الموضوع نهائيَّاً! أرجو أن ينتهي الموضوع على خير، يا رجل نحن أصدقاء، ولا يهمّك يا أستاذ، سأبلّغهم رغبتكَ وتحيَّاتك! لا أعلم لماذا راودني القلق؟ شعرتُ أنّ الأيام القادمة تنبئ بما لا أرجوه، هواجس كثيرة راودتني، بدا لي طرح وديع وأولاد خالته بحسب المستجّدات أكثر منطقيَّاً من طرحي، لكنَّ شخصيّتي المجنّحة نحو الصّلح، جعلتني مصرّاً على إغلاق الموضوع مع أنَّه مغلق من جانب أهلي لو لم يتعرَّضْ لهم هؤلاء الشُّبّان!

  1. بماذا كنتَ تفكّر بعد المناوشات الَّتي نشبت مع ابن عمّك وديع ويعقوب؟

ما كنتُ أنامُ مرتاحاً، انتابتني حالة قلق غير مسبوقة، ليس من باب الخوف من الشَّباب الَّذين تعرّضوا لابن عمّي وديع وابن خالته؛ بل كنتُ قلقاً من تفاقم المواقف وتصاعدها ومواجهة عشيرتين شرستَين، وتربطنا مع بعضنا بعضاً الكثير من الصَّداقات وتداخل في المصاهرات، إضافة إلى أنَّ شخصيّتي وئاميّة يقلقها جدّاً قضايا العنف والمواجهات، خاصّة أنّها على مسائل قشوريّة سخيفة للغاية، وقد قرأتُ النّتائج فيما لو حصل اشتباكٌ ما؛ فلا بدَّ من وقوع ضحايا بلا أدنى شك، لهذا شعرتُ بقلق كبير على الأسرتين؛ لأنَّ أسرتناكعشيرة كبيرة وأسرتهمكعشيرة كبيرة أيضاً، فما كنتُ أتخيَّل نفسي أن أكون طرفاً بشكل مباشر أو غير مباشر لتصارع أسرتينينتميان إلى عشيرتَين كبيرتَين، وفيهما ما فيهما من الشّبان الّذين لهم هواية في العنف والتّحدّي واستعراض العضلات، ولا بأس أن يستعرض المرء عضلاته؛ لكن شريطة أن يكون الاستعراض يستحقُّ العرض في إبرازه وظهوره، فليس من المعقول أن أرى تصاعداً خطيراً يتمُّ بين أسرتي وأسرةأخرى وأظلُّ صامتاً ولا يكون لي دور في حلِّ أو إخماد نار الصّراع والمصادمات.

ناقشتُ الموضوع مع العم بهنان فكان مناصراً لفكرتي، منحازاً إلى لغة المصالحة والتَّفاهم والحكمة وعدم تصعيد المواقف، وطلبتُ منه التَّدخّل كوننا نسائب، ومن جهة أخرى كانوا هم أيضاً نسائب مع الأسرةالمتشاحنة معنا، وهكذا صرنا نشعر بضرورة أن نشتغل على إخماد نار الحريق الّتي من الممكن أن تحرق الطَّرفَين من دونِ سببٍ يستحقُّ الذّكر، وهذه الصِّراعات في العمق قائمة على البطر؛ ولهذا على الحكماء من الأسرتَين التَّدخُّل والضَّغط والتَّفاهم معَ أبنائهم؛ كي يتمَّ حلّ المشكلة الّتي لا ترى بالمجهر أي لا يوجد (1) % من خلاف بيننا سوى الحساسيّة الّتي تولّدت من جانبهم، وتعرُّضهم أكثر من مرّة لأولاد عمّي، وهكذا تحوَّلت المشكلة من حالة تحسُّس منّي، متذرِّعينبأنّني كنتُ قادراً على مساعدة الطّالب ولم أساعده، علما أنّني حاولت قصارى جهدي، لكنّي لم أستطِع، ويستحيل أن أقوم بعملية تزوير النّتائج؛ لهذا سرتُ مع القوانين مع ميلي العميق لمساعدته لو ما كانت النَّتائج قد تثبّتت، حيث كان بإمكان المدرِّسين مساعدته بعض الشَّيء؛ كونهم هم الَّذين يقرِّرون علاماته بالشَّفهي والوظائف ومسائل أخرى، ولكن كلّ شيء كان قد انتهى. كم تبدو لي تلك الأيام أنّني كنتُ في مجتمعٍ غريب عنِّي، وبعيد عنّي بُعد الأرضِ عن السَّماء، والمشكلة الأقوى أنَّ شباب أسرتي نحن وبيت عمِّي وبيت خالتهم بالإجماع كانوا شرسين جدّاً، حقيقة الأمر كانوا أكثر عنفاً وشراسة للمواجهات، وهذا ما كان يقلقني أكثر، مع أنّه من جهة كان موقفهم يمنحني الحماية وحماية الأسرة، لكنِّي ما كنتُ أؤمن بحماية بهذه الطّريقة ولا باستخدام هؤلاء الشَّباب منهج القوة والغطرسة والعنف في حلِّ المشاكل، علماً أنّ لا مشكلة سوى سوء تفاهم بسيط لا يعدو عن كونه نكتة سمجة مقارنة بالمشاكل الَّتي تحصل أحياناً بين بعض الأسر، كان والدي يميل إلى المصالحة أيضاً، وكذلك عمّي؛ لأنّهما لم يرَيا أيّة مشكلة؛ كي يعدَّا العدّة للمواجهة، أندهش كيف ترعرعتُ في أوساط أسرويّة وبيئويّة كهذه، وظلَلْتُ أحمل فوق أجنحتي حتّى الآن شغفاً وهدفاً عميقاً بأبجدياتِ السَّلامِ والوئامِ بينَ البشر كلَّ البشر؟!

كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_يوسف Sabri Yousef ..في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..- من السؤال – 121 – إلى السؤال 130..

كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_يوسف Sabri Yousef ..

في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..

من السؤال – 121 – إلى السؤال 130..

  1. ما أهم ما تعلَّق في الذَّاكرة خلال فترة التَّعليم في مدرسة خربة عدنان؟

“اشتغلت في ابتدائيّة خربة عدنان قرابة شهرين، كنت أذهب من بيتي إلى القرية مشياً على الأقدام، لكنِّي حلّيتُ مشكلة الذِّهاب والإياب باستعارة درَّاجة أخي والرُّكوب عليها ذهاباً وإياباً!

شعرتُ أنَّ العمل في ابتدائيّات القرى أشبه ما يكون أشغالاً شاقّة، خاصَّة عندما يكون المعلِّم وحيداً في تدريس التَّلاميذ من الصَّف الأوَّل حتَّى الصَّف السَّادس. تعرّفتُ على الطُّلَّاب ووزَّعتهم إلى مجاميع؛ كل مجموعة تضمُّ صفّاً، قرابة (40) طالباً من كافّة الصُّفوف، أكثر مَن لفت انتباهي طالب من طلَّاب الصَّف الثَّالث الابتدائي، كان يسمى ميشيل سليمان، ابن السَّيد “سلي”، حيث كان والده معروفاً بشجاعته ونحافة جسمه وقصره، وجرأته النّادرة، وكان ميشيل يتذرّع كلَّما أسمِّعه الدَّرس قائلاً لي: أستاذ، والله العظيم لمبتنا انكسرت امبارحة باللَّيل، ما قدرت أعمل دروسي.

طيب ليش ما عملت وقرأت دروسك بالنّهار؟

يا أستاذ أبوي هلكني هلكان، ما يخلِّيني أرتاح لا باللِّيل ولا بالنّهار.

ليش هلكك، عم يضربك؟

لا، ما عم يضربني بس يا ريت يضربني ولا يعمل شي الّي عم يعلمو فيني.

شو يعمل فيك؟

امبارح مثلاً وقبل امبارح أخذني على الوروز، حقول الجبش والبطيخ، وقال لي: بدّك تقطف الجبش وما تخلّي جبشة في الورز، تعا ولحّق يا أستاذ.

شو رأيك أستاذ لو أجيبلك معي بكرا جبشة أو بطيخة على المدرسة؟

خلّينا من جبشتك ومن بطِّيختك، وركّز على دروسك وبعدين اِحكيلي على الجبش والبطّيخ والشّمَّام والتَّرعوز.

بدّي أركّز يا أستاذ بس يفكّ أبوي منّي وما يورّطني في الورز مرّة تانية!

طيّب ميشيل، سلملي على أبوك وقلّو خلّي يخفِّف عليك موضوع لملمة الجبش والبطيخ والفنجكات من الوروز!

معليش أستاذ تسلَّم عليو وأخبّره على وصيّتك.

خطَّطتُ أن أنتقل من خربة عدنان، قبل حلول الشّتاء؛ لأنّه يستحيل أن أتمكَّن من الذِّهاب والإياب على الدّراجة خلال الشِّتاء، وليس من المعقول أن أذهب إلى القرية على ظهر البغال، مع أنَّ فكرة ركوب بغلة مثل بغلتنا البيضاء كانت تراودني، ولكنّنا ما كنّا نملك بغالاً في حينها! ولهذا وضعت كلّ تركيزي للانتقال من القرية إلى ديريك، وبعد جهود جهيدة، تمكّنتمن أن أنتقل إلى إعداديّة يوسف العظمة موجّهاً لطلّاب الصَّف السِّابع والثَّامن، وهكذا تخلّصتُ من همِّ الذِّهاب والإياب إلى مدرسة خربة عدنان؛ لأنَّ برودة الشِّتاء كانت على الأبواب!”.

  1. راودكَ همٌّ كبيرٌ أن تستمرَّ في مدرسة خربة عدنان خلال الشّتاء، ولكن قبل حلوله تمَّ تعيينك موجِّها في إعدادية يوسف العظمة، مدرسة ناظم الطَّبقجلي سابقاً، تحدَّث عن فترة عملك موجّهاً؟

حاولتُ أن أنتقل إلى إعداديّة يوسف العظمة موجّهاً؛ لأنَّ نقلي معلّماً إلى إحدى المدارس الابتدائيّة  الشَّاغرة كان مستحيلاً، لأنَّ التَّنقلات كانت تتمُّ بحسب القِدم، ولا بدَّ أن يخدم المعلّم على الأقل سنة في الرِّيف، ثمَّ ينتقل إلى المدينة، ولكن موضوع تعيين المعلّم وندبه موجِّهاً في إعداديّة وثانويّة أيّة مدرسة كان يتمُّ من دون النَّظر إلى فترة خدماته؛ لأنّه كان يُعيَّن تعييناً وليس نقلاً بحسب القِدم، وهكذا “بعد حوالي شهرين من التَّعليم في مدرسة خربة عدنان وقبل حلول الشِّتاء، تمَّ تعييني وندبي موجّهاً في إعداديّة يوسف العظمة، والّتي كانت سابقاً مدرسة ناظم الطَّبقجلي الَّتي درست فيها الابتدائيّة حتّى الفصل الأوَّل من الصَّف الرَّابع، وقد عمَّروا للمدرسة الابتدائيّة ملحقاً يتضمّن عدّة غرف للشُعَبِ الإضافيّة، وكان يعمل معي في حينها في التَّوجيه الأستاذ أفرام رفو المعروف باسم أفرام كورية جلو والَّذي أصبح لاحقاً قسيساً لكنيسة ماردودو في ديريك، وكان الأستاذ جرجس بهنان في حينها مديراً للإعداديّة”.

سررتُ جدَّاً بنقلي إلى ديريك موجِّهاً، كنتُ قد استلمت أربع شعب للصف السّابع، والأستاذ أفرام كان لديه أربع شعب من الصّف الثّامن. كان فوق باب الصَّف الَّذي كان يقع في نهاية الصّفوف من الجهة الشَّرقيّة للمدرسة، حكمة مكتوبة منذ أن كنتُ أدرس فيها عندما كانت مدرسة ابتدائيّة، بخطٍّ عريض: “الصّحّة تاجٌ فوق رؤوس الأصحّاء”، امتازت هذه المدرسة بباحة كبيرة، وقد كان لديّ شعبتان في البناء الأساسي وشعبتان في الملحق، وكان مكتبي الخاص بالتَّوجيه في الملحق أيضاً.

كنتُ حازماً ومرناً في الوقت نفسه، وجادَّاً وملتزماً بالدَّوام، فجأةً وجدتُ نفسي موجّهاً والكثير من زملائي كانوا في صفِّ البكالوريا أو الحادي عشر، حيث رسبَ بعضهم في الصَّف التّاسع وفي البكالوريا، وقد سألني مدير الإعداديّة فيما إذا أريد الانتقال إلى القسم الثَّانوي على أساس أنّها قريبة من بيتي، لكنّي رفضتُ رفضاً قاطعاً، قائلاً للمدير: يا أستاذ نصف طلّاب الصّف الحادي عشر والبكالوريا هم زملائي، فضحك وقال: فعلاً هذا يسبِّب لك إحراجاً كبيراً عندما يتأخّر أحد زملائك وتقول له: ليش متأخّر على الدَّوام؟! وقد داوم آنذاك القسم الثّانوي خلال الفصل الأوَّل في إعداديتنا ولهذا كنّا في الفصل الأوَّل دوامَين ثمّ انتقل طلَّاب الشُّعب الثَّانوي إلى ثانوية يوسف العظمة.

كان الموجّه أفرام رفو ناجحاً جدّاً في عمله، واستفدتُ منه الكثير من المعلومات المتعلّقة بالتَّوجيه، مركّزاً على ضرورة أن لا يأخذ الطُّلّاب الّذين أعرفهم معرفة قريبة وجهاً عليَّ؛ لئلّا تفلت وشائج الاحترام والطّاعة فيما بيننا، مشدِّداً على ضرورة أن أكون حازماً نوعاً ما، بحيث أن تكون العلاقة قائمة على الاحترام المتبادل وضبطِ الطّلاب بهيبة سلسة لتطبيق قوانين المدرسة دون أيّة صدامات أو إشكالات، وفي حال وقوع مشكلة فيما بين الطُّلاب؛ ضرورة حلّها بحكمة وبحسب القوانين الواردة في النّظام الدَّاخلي للمدارس!

كانت سنة ولا أحلى، حضرتُ حفل زفاف زميلي أفرام، وحضر هو حفل زفاف أخي الكبير، وكلَّلَ مارينا ابنة أخي في سودرتالية، حيث يقيم القسيس في السُّويد مع الخورية ماري الَّتي كانت زميلتي في الصَّف الخاص!

  1. ما هي أبرز المواقف الطّريفة الَّتي حصلت معك خلال فترة اشتغالكَ موجّهاً في الإعداديَّة؟

.. “إنَّ أطرف ما يتلألأ في مروج الذَّاكرة، بعض القصص الطَّريفة الّتي حصلت مع الأستاذ نوري خلف مدرّس مادّة العلوم، خلال فترة اشتغالي موجّهاً في إعدايّة يوسف العظمة.

ما كان يستطيع الأستاذ نوري خلف أن يقضي فصلاً كاملاً من فصول السَّنة في أيَّة مدرسة يتعيّن فيها، وسرعان ما كانت الشَّكاوي تتقدّم من قبل الطُّلاب والمدرِّسين والمدير ضدّه، فيضطرُّ مدير التَّربية أن ينقله من مدرسة إلى أخرى، وقد كان مدرِّساً مكلّفاً من مدينة القامشلي.

عرف مدير الإعداديّة الأستاذ جرجس بهنان بموضوع تنقُّلات الأستاذ نوري خلف من مدرسة إلى أخرى، فأراد أن يفاجئَ مديريّة التَّربية بأنّه قادر مع الهيئة الإداريّة والمدرّسين والطُّلَّاب، على أن يستوعب هذا المدرّس على مدى فصلين متتاليين، وفعلاً نجح المدير البارع في إبقاء المدرّس على صفوفه وشعبه على مدى فصلَين متتاليَين للصفِّين الأوَّل والثَّاني الإعدادي!

لم أرَ في حياتي الأستاذ جرجس بهنان يضحك، لكنّه ضحك مراراً من خلال القصص الطَّريفة الَّتي كان يسمعها عن الأستاذ نوري خلف، فقلت للمدير: تعرف أستاذ جورج أنتَ إنسان ذكي جدَّاً.

وكيف عرفت هذا؟

لأنّه لو تعيَّن الأستاذ نوري خلف موظِّفاً في مديريّة التَّربية؛ سوف ينتقل مدير التّربية بعد شهور إلى الرَّقّة أو ديرالزّور هرباً من مشاكله وغرائبيّته.

ضحك المدير وقال: أريد فعلاً أن أتحدّى مديريّة التَّربية على أنّه ممكن أن نتحمّل مدرّساً كهذا على علَّاته، وإلّا لماذا نحن مدراء ندير المدارس؟!

ونظراً لأنَّ بعض ساعات الأستاذ نوري كانت ضمن صفوف شعبي المسندة إليَّ كموجّه ومشرف على الطُّلاب الَّذين يدرّسهم؛ لهذا عندما كنتُ أجد لديَّ وقت فراغ، كنتُ أطلب منه أن أحضر درساً عنده على أساس أنَّ حضوري هو جزء من عملي كموجّه؛ ولضبط الصَّف من جهة أخرى؛ كي يسير الدَّرس بشكل هادئ بدون مشاكل مع الطّلاب!

حضرت درساً من دروسه، وجلستُ في الصُّفوف الخلفيّة؛ كي أستطيع مراقبة الطُّلاب المشاكسين؛ وكي أرى كيفية شرح المدرِّس دروسه للطلّاب!

دخلت قبله إلى الصَّف، ولهذا عندما دخل تفاجأ بانضباط الطُّلاب وهدوء تام خيّم على الصَّف، سجَّل أسماء الغياب. ثمَّ بدأ يشرح الدَّرس، وكأنّه يستعرض عملاً مسرحيَّاً، على أساس أنَّ شخصيّته قويّة، ثمَّ بدأ بشرح الدَّرس قائلاً: هناك حيوان “سغير سغير”، يعيش في البحار “والمحيتات”، وفي الأنهار “السَّغيرة”، اسمه اسمه…. ثمَّ ينظر إلى السَّقف ولا يتذكّر اسم عنوان الدَّرس!!!

يعود ويبدأ من جديد، قائلاً: درسنا اليوم هو على حيوان “سغير سغير”، يعيش في البحار “والمحيتات”، والأنهار “السَّغيرة”، هذا الحيوان يتغذَّى على الأسماك وبعض الكائنات “السَّغيرة” الّتي تعيش في الأنهار والبحار، يدعى يدعى، ثمَّ ينظر ثانيةً إلى السّقف ويركَّز لاستحضار اسمه، لكنه لا يتذكَّره، فتتغيّر ملامح وجه، ويعود قائلاً: درسنا اليوم هام جدَّاً، ويدور حول حيوان “سغير سغير” يعيش في البحار والأنهار “السّغيرة” اسمه اسمه، ولا يتذكَّره؛ فيتعصّب من نسيان الاِسم ويقول: اسمه باللُّغة الكرديّة “الكيفشال”!

أنا متأكّد، لولا وجودي في الصَّف لقام الصَّف فوقاني تحتاني، لكنَّ طلَّاب الصّف ظلّوا منضبطين ولم أجد أيّة فوضى فيه، وإلّا سيتعرّض المشاغب إلى عقوبة، مع انَّني كنت على وشك أن أنفجر من الضّحك عندما قال: اسمه باللُّغة الكرديّة “الكيفشال”!

رفع أحد الطُّلاب بكلِّ جدّيّة يده وقال عفواً أستاذ عندي سؤال!

تفضَّل ابني تفضَّل.

هذا الحيوان الصَّغير الّذي تتحدّث عنه يسمّى بالكرديّة “الكيفشال” وماذا يسمَّى بالعربيّة؟!

نظر المدرِّس إلى الطَّالب بجدِّيّة أكبر، ثمَّ تمتم لنفسه: “نْها وخْتي تبُوْ”! أي هلَّا وقتكْ كانْ، تسألني هذا السَّؤال، وقال للطالب برافو يا شاطر. ثمَّ فتح الكتاب وقال، افتحوا الكتاب على الصَّفحة كذا.

فتحوا الطُّلاب الكتب على الصَّفحة المطلوبة، وقال لهم اسم هذا الحيوان هو: سرطان الماء العذب! ثمَّ همس لنفسه متمتماً: “نافي وي كَلكْ دريشا، اشْوِلي مشْبيركرْ نافي وي”. أي اسمه طويل جدّاً، لهذا نسيتُ اسمه!

أجاب الطَّالب: لكنِّي يا أستاذ كنتُ أستطيع أيضاً أن أفتح الكتاب وأقرأ اسمه.

ابتسم للطالب وحاول أن يلفلفَ الموضوع من خلال طرحه السُّؤال التَّالي:

طيّب، أيّهما أحلى وأسهل أن نقول: سرطان الماء العذب أم “الكيفشال”؟!

أجاب جميع الطُّلاب وبصوتٍ إيقاعي، “الكيفشال”!

أيّهما أحلى وأسهل؟ ردَّ الجميع ثانيةً بما فيهم أنا بالذَّات: “الكيفشال”.

كان مدير المدرسة يسير بجانب الصّف فيما كان الطُّلاب يردِّدون عبارة “الكيفشال”، وسمع جميع الطُّلاب بإيقاع واحد يردِّدون “الكيفشال”، فاستغرب على هذا الصَّوت متصوِّراً وجود فوضى في الصَّف في حصّة الأستاذ نوري خلف، فدخل الصَّف، وإذ الدَّرس يسير على خير ما يرام، والهدوء يخيِّم على الصَّف، فتساءل المدير، أظنُّ أنَّ الطُّلاب ردَّدوا مرَّتين “الكيفشال”!

ضحك الأستاذ نوري وقال بكلِّ ثقة: فعلاً هذا ما حصل؛ لأنَّ درسنا اليوم أستاذ هو على “الكيفشال”!

وقفتُ وأنا ابتسم للمدير، والبسمة مرتسمة على وجوه الطُّلاب أيضاً، وأسعفتُ المدرّس، قائلاً للمدير: فعلاً أستاذ جورج الأستاذ نوري أجادَ في شرح درس اليوم، والَّذي حمل عنوان: “الكيفشال”، وقد خيّر الطُّلاب وسألهم مرَّتين: أيّهما أحلى وأسهل: اسم سرطان الماء العذب أم “الكيفشال”؟ فأجاب الطُّلاب بالإجماع: “الكيفشال”.

سألني المدير، هل حضرت الدَّرس من بدايته؟

طبعاً، حضرته من بدايته.

إذاً مرّ على الإدارة في نهاية الدَّرس؛ لنناقش بعض الأمور الإداريّة.

بكلِّ سرور.

انتهت الحصّة الدَّرسيّة، شكرتُ المدرّس على الجهود الَّتي بذلها في شرح الدَّرس، خرج المدرّس وخرجت بدوري متوجِّهاً نحو الإدارة، وخرج الطُّلاب وهم يردِّدون “الكيفشال”، والضُّحك يغمر قلوبهم!

نظرتُ إلى المدرّس مؤكِّداً له أنَّ نسبة كبيرة من الطُّلاب لا تتذكّر عنوان الدَّرس؛ نظراً لطوله وصعوبة حفظه، بينما جميع الطُّلاب حفظ بكلِّ سهولة اسمه القصير بالكرديّة “الكيفشال”.

ضحكَ المدرِّس قائلاً: أنا نفسي نسيتُ اِسمه فكيف لا ينسونه الطُّلاب؟!

ضحكتُ بدوري، ثمَّ توجّهت نحو غرفة المدرِّسين ودخلت غرفة الإدارة!

حالما نظرتُ إلى المدير، ابتسم لي وقال: “الكيفشال”! ضحكنا ثمَّ جلستُ أشرح للمدير كيفيّة سير الدَّرس. كانت قهقهاتنا ترتفع عالياً، ثمَّ قال المدير: حقيقةً ستكون خطَّة جبّارة لو استمرَّ الأستاذ نوري حتَّى نهاية الفصل الثَّاني، عاماً كاملاً يدرِّس في إعداديّتنا، ستكون أوَّل مرّة في تاريخ محافظة الحسكة، أن يستمرَّ فصلين متتالين؛ لأنّه هو نفسه لا يستطيع الاستمرار بأيّة مدرسة أكثر من فصل واحد، فهو يطلب نقله؛ لأنّه لا يتحمّل مشاكل الطُّلاب، ويريد أن يدرّس طلاباً جدداً في مدارس جديدة!

وهذا ما أشتغل عليه يا أستاذ جورج؛ لأنّني أحاول أن أحلَّ كلّ مشاكله، وأحضر بشكل مفاجئ لدروسه، وأجد انضباطاً في دروسه؛ لأنَّ الطُّلَّاب يتوقّعون حضوري في أيَّةِ لحظة”.

  1. كيف كان ردّ فعل مفتّش العلوم الأستاذ ميخائيل لولي عندما أجبته: الأستاذ نوري خلف ممتاز؟

تموجُ هذه المشاهد والذّكريات بحنان كبير أمامي، وأتذكّر “فيما كنتُ في أحد الصُّفوف، كيف بلّغني أحد المدرِّسين، أن مفتّش مادّة العلوم الأستاذ ميخائيل لولي يريد أن يلتقي بي، وكان في الإدارة بانتظاري.

مرحباً أستاذ.

أهلاً وسهلاً، أنا مفتش العلوم، أسألكَ كونكَ موجّه طلاب الصَّف السَّابع وقسم من الصَّف الثَّامن، كيف هو الأستاذ نوري مع الطُّلاب؟

قلت له، ممتاز!

نظر إليَّ مندهشاً، كيف موجّه صف يقول عن الأستاذ نوري خلف: ممتاز؛ لأنَّ كلّ موجّهي المحافظة كانوا يعانون منه ومن مشاكله مع طلَّابه، مع أنّه كان يدرِّس طلاب الصَّف الأوَّل والثَّاني الإعدادي فقط!

من أيّة ناحية هو ممتاز؟

من أغلب النَّواحي!

معقول؟!

لِمَ لا؟

يا أستاذ أنا جاد معك!

ولو أستاذ، هل وجدتني أمزح معك؟

مرَّ المدير على مقربة منَّا، فاستوقفته، عفواً أستاذ جورج، ممكن دقيقة.

نعم خير أستاذ.

حضرة الأستاذ المفتّش يسألني عن الأستاذ نوري، أجبته عن السُّؤال لكنِّي أحوِّل السّؤال لك أيضاً؟!

الأستاذ نوري مدرِّس جيّد، يحضر دروسه بانتظام ولا يغيب عن الدَّوام إلّا إذا كان مريضاً وإلّا فهو أوَّل من يحضر وآخر من ينصرف من الصَّف.

هل داوم الفصل الأوّل كلّه في إعداديّتكم؟

طبعاً، أجاب المدير.

عجيب!!! قال المفتش.

أين العجب؟ قال المدير.

العجب يا أستاذ، أنَّنا دائماً نتلقّى شكاوى عن الأستاذ نوري، ولو لم نتلقَّ شكاوى من إدارة المدرسة أو الطُّلاب أو أوليائهم، هو نفسه يطلب منّي شخصيَّاً أن أنقله إلى مدرسة جديدة بحيث لا يعرفه الطُّلاب!

فيما كنَّا نتحدَّث عن الأستاذ نوري، مرَّ من جانبنا بعد أن انتهى من إحدى حصصه الدَّرسيّة!

حلو، ها قد حضر الأستاذ، عفواً أستاذ نوري ممكن دقيقة!

حالما شاهد الأستاذ نوري المفتّش، تقدَّم نحوه ببشاشة مرحِّباً به، وهو في قمّة بشاشته وحفاوته ولياقته.

أستاذ نوري هل أنتَ مرتاح في هذه الإعداديَّة؟ سأله المفتّش.

جدَّاً يا أستاذ، مبسوط جدَّاً من المدير ومن الموجّه صبري بشكلٍ خاص!

والطُّلَّاب، هل أنتَ مبسوط مع طلَّابك ومرتاح بدروسك؟!

مرتاح يا أستاذ، مرتاح كتير.

بالمناسبة كونكمفتّش مادّة العلوم، هل ترغب أن تحضرَ درساً عند الأستاذ نوري؟ تستطيع أن تختار الصَّف السَّابع أو الثَّامن!

هل أنتَ جاهز أستاذ نوري؛ كي أحضر أحد دروسك؟

بكلِّ سرور يا أستاذ، بكلِّ سرور.

الحصّة الثّالثة، الصَّف السَّابع!

هل تودّ أن أحضر معكم الدَّرس؟ سألتُ المفتِّش.

لا مانع لو وافق المدرّس!

المدرّس يوافق طالما أنتَ موافق.

تفضَّلوا على الإدارة عندنا فرصة، لنشرب قليلاً من الشَّاي أو القهوة.

كم كان سعيداً الأستاذ المفتِّش، فرح جدَّاً عندما وجد هذه التَّطوُّرات مع مدرّس، دائماً يصادف مشاكل في المدارس الَّتي يتعيّن فيها، وإذ به يجده بشوشاً، مرتاحاً مع طلّابه، مع الإدارة ومع المدرِّسين!

بهذه الخطوة استطاع مدير المدرسة بإصراره على عدم تغيير المدرّس، وعلى زرع الثِّقة في نفسه، رغم كلَّ النّقص والتَّقصير الَّذي كان يراه منه لكنّه صبر عليه، وأعطاه فرصة تلو الأخرى، إلى أن أصبح مدرِّساً جادَّاً وملتزماً بدوامه. يحضِّر الدُّروس أوَّلاً بأوَّل، وشيئاً فشيئاً اِنسجم مع الجوّ العام في المدرسة، صحيح كنَّا بين الحين والآخر نصادف بعض المشاكل مع بعض الطّلَّاب، لكنّه مقارنة بالمدارس الأخرى، كان في قمّة السَّعادة والاِرتياح والعطاء.

حضر المفتّش الدَّرس، وكذلك أنا، هدوء تام خيّم على الدَّرس، سار الدَّرس بشكلٍ منظَّم وناجح، كنتُ قد أعطيت للمدرّس خطوات شرح الدَّرس منذ أن أصرَّ المدير أن يحوّل الأستاذ نوري إلى مدرِّس ناجح، وتعاونّا معه إلى أن تجاوز الكثير من مشاكله مع الطُّلاب!

اندهش المفتِّش، عندما شاهد وظائف الطُّلاب، واستجاباتهم للشرح ومشاركتهم في الإجابة عن أسئلة المدرّس! وهكذا خرج من الحصّة مرتاحاً هو الآخر، وقال: حقّاً أنا أمام إدارة ناجحة من الطّراز الرَّفيع! مؤكّداً أنّه لمجرِّد استمراريّة المدرّس وهو مرتاح في المدرسة مع المدير والموجّه والطُّلاب والمدرِّسين، هذا كافٍ أن أعدَّ الإدارة ناجحة نجاحاً باهراً!

في نهاية الفصل الثَّاني، وجّه مدير التَّربية بالحسكة ثناءً لإدارة المدرسة على حسن إدارتها وتفاديها لمشاكل المدرِّسين والطّلاب، قاصداً بذلك بكلِّ تأكيد نجاح استمراريّة الإدارة مع المدرِّس نوري خلف.

  1. ما هي المفاجأة الّتي غيَّرت حياة أخيكَ نعيم عندما زاركَ في المدرسة بعد تسريحه من الجيش؟

شكّلت زيارة أخي نعيم إلى إعداديّة يوسف العظمة، عندما كنتُ أعمل موجّهاً فيها، منعطفاً مهمّاً في حياته، وقد التقى آنذاك مع العم العزيز بهنان سارة الّذي كان يعمل في الإعداديّة، والمعروف عن هذه الشَّخصيّة النّادرة وسط مدينة صغيرة مثل ديريك، أنَّ حضوره كان مهيباً، وقصصه فكاهيّة مفعمة بالقهقهات، حيث كان روائيَّاً شفهيّاً موغلاً في خلق النّكتة والفرح والمرح إلى درجة أنَّ المستمع إليه يقهقه عالياً وهو يسمع قصصه الرّائعة؛ لما فيها من حبكات طريفة؛ ولما يمتلك من طاقات تمثيليّة مدهشة في رشاقة السَّرد. لم أجد في حياتي قدرةً لساردٍ يسردُ قصصاً كوميديّة وفكاهيّة مثلما للعم الرّاحل بهنان سارة من قدرات، وأقوى ما كان يعزّز سرده لقصصه الفكاهيّة إمكانيَّاته العالية في التَّمثيل، تمثيل الحركة واللُّعب على إيقاع وطبقات الصَّوت، والطَّريف في الأمر أنّ قصصه الفكاهيّة كانت واقعيّة، وأغلب مقالبه كانت فكاهيّة بريئة مع صديقه الرَّائع العم بهنان كلعو، وكان يربطني بالعم الرَّاحل بهنان كلعو أيضاً علاقة طيّبة، كم كان يعجبني أبو سمعان الرِّوائي الشَّفهي في بساطته وعفويّته وشخصيّته الرّصينة الجانحة نحو المَحبّة والسّلام وتقديم الكلمة الطّيبة لما فيه الخير لأي طرف يكون فيه حَكَماً، وكلّ هذا عمّق علاقتي به إلى درجة أنّه أصبح بمكانة صديق رغم فارق السّن الكبير؛ حيث يكبرني ابنه الكبير بسنوات، وتربطني به صداقة واحترام عميق؛ لما امتاز بطيبِ المعشر، وقد سرّه جدّاً اللِّقاء بأخي وأُعجبَ به، وبعد أن ودّعني أخي بقليل سألني العم العزيز أبو سمعان عن وضع أخي، فقلت له: صدّق وضعه جيّد، الحمد لله تسرّح منذ أيام من الجيش، ولم أدخل معه في تفاصيل أخرى، وقال: حقيقةً يا أستاذ صبري، أعجبني حضور أخيك ومنطقه ووسامته، فقلت له: الله يبارك فيك، ويخلّي أولادك ويباركهم يارب! أعجبني طرحٌ طرحه عليّ بكلِّ وضوح وثقة، طرحٌ يختلف عن منطق رجال ذلك الزّمان، ونظراً لأنّني بصدد مشروع كبير، حوار مع الذَّات، يتضمّن ألف سؤال وسؤال؛ لهذا فإنّ طبيعة الحوار تقتضي أن أتطرّق إلى مئات الأسئلة الَّتي تحوي بين رحابها الكثير من المصداقيّة والصَّراحة والخصوصيّة، واضعاً ذاتي الَّتي أُحاورها بكلِّ رحابتها على المحكِّ إلى أقصى ما تكون المكاشفة من صفاءٍ ووضوحٍ؛ كي أوثّقَ الكثير ممَّا في جعبتي من رؤى ووجهات نظر ومواقف وقرائن وآراء حصلت معي في الحياة أو أراها في هذا السِّياق أو ذاك؛ لأقدِّمها للقارئ العزيز على طبقٍ من الصّراحة والحياد؛ لعلِّي أحقِّق الهدف المنشود من هذا الحوار الّذي أعدُّهُ مشروعي الأدبي الأعمق في تجربتي الأدبيّة منذ أن حملت القلم، لهذا آمل من الأصدقاء والصَّديقات والمتابعين والمتابعات أن يأخذوا صراحتي ومكاشفتي بعين الاعتبار للكثير من الخصوصيّات الَّتي أراها ضروريّة للغاية؛ كي يأتي حواري بمقام الهدف الّذي أتوخّاه، بعيداً عن الإساءة لأحد، وخطَّطتُ أن لا تكون تساؤلاتي تقليديّةولا تكون إجاباتي عابرة، بل تصب إجاباتي في فضاءاتِنصوص أدبيّة وسرديّة وشعريّة، ومتدفِّقة في بعض جوانبها، وهي تتقاطع في الكثير من منعطفات الحوار مع السِّيرة الذَّاتيّة والسِّيرة الغيريّة، أي المتعلّقة بسِيَر غيري في بعض الأحيان وخاصَّة عندما تكون سيرة الغير محبوكة في بعض جوانبها مع وقائع حصلت على مساحات الذَّاكرة، وهكذا فيما كنّا ندردش أنا وأبو سمعان بعد أن ودّعني أخي نعيم، نظر إليّ نظرةً تحمل معنىً كبيراً كأنّه يخفي وراء نظرته سرّاً أو كلاماً مهمَّاً، ثمّ قال، إنِّي أرى فيك الشّهامة والرُّجولة والذّكاء، والحديث معك يا أستاذ شيّق جدّاً، ونظراً لأنّني أثق بك مثلما أثق بأولادي؛ لهذا سأصارحكَ مصارحةً ربّما تندهشُ لمصارحتي، ولكن أريد أن أعرضَ رأياً عليك؛ لعلَّ وعسى نصل معاً إلى نتيجة تفيدنا وتفيد من لهم علاقة بالفكرة الَّتي سأطرحها!

تفضّل أبو سمعان، كلّي آذان صاغية، وسأكون عند حسن ظنّك، وتخيّلتُ أن يطلب منّي خدمةً ما؛ طلباً ما يتعلّق بأخي أو بأولاد عمّي أو عمِّي يوسف شلو؛ لأنّه معمارجي، لكنِّي إطلاقاً لم أتصوِّر أن يطرحَ علي ما طرحه، ولا يطرح ما طرحه إلَّا رجلٍ عظيم وله آفاق عميقة في الحياة ويفهم ماذا يريد من الحياة، بعيداً عمَّا هو سائد في بعض التَّقاليد الشَّرقيّة، فقلت له: أسمعكَ.

أجابني: بعد أن التقيتُ بأخيك نعيم، وبعد أن قلت لك انطباعي عليه ورأيي فيه وفي منطقه وشخصيّته وحضوره ووسامته، أودُّ أن أقول لك يا أستاذ، لديّ بنت وحيدة جميلة رصينة ربيّتها تربية صالحة، درسَتْ فترة من الزّمن وتجيد القراءة والكتابة بشكل جيّد، لكنّها لم تتابع دراستها، وتفرّغت لمساعدة أمّها في أعمال البيت، وتعلّمت مهنة الخياطة ببراعة، وتعمل وتنتج ربما أكثر ممَّا تنتج معلّمة في هذا الزّمان، وهي مناسبة لأخيك نعيم تماماً من حيث العمر والطَّبقة الاجتماعيّة والأهليّة، فما رأيك باقتراحي يا أستاذ؟!

امتقعَ وجهي حالما سمعتُ اقتراحه، وتغيّر لوني، صدمني تماماً طرحه ورأيه فيما قاله، ولم أتمكّن أن أجيب عنه؛ لأنّني كنتُ بحاجة للترويّ؛ كي لا أفاجِئه بدوري كما فاجأني، فقال: هل أزعجَكَ طرحي ورأيي؟ لا أبو سمعان بالعكس، طرحك رائع وحضاري وراقٍ، وينمُّ عن أنّك أب رائع. ولكنّك يا أستاذ لم تتقبّل طرحي. لا تغلط في حكمك عليّ يا أبا سمعان، أشكرُكَ وأتقبّلُ جدّاً هكذا رأي وطرح حضاري، قاطعني وقال: لكن ملامح وجهك تقول غير هذا، دعْكَ من ملامح وجهي الآن، ثمَّ خبّأت ملامح وجهي بيدي، وكنت على وشك أن أبكي من شدّة إحراجي وانفعالي؛ تقديراً لمشاعر العم أبو سمعان، فقال: هل ترفض فكرتي ورأيي، بالعكس تماماً، رأيك رائع وموافق جدّاً عليه، طيّب لماذا أراك غير طبيعي وكأنَّ سطلاً من الماء اندلق عليك؟ قلتُ له: أكثر من سطل ماء، قُل جرّة ماء، هل تقصد أنَّ أخاك ممكن أن لا يوافق على فكرتي ورأيي؟ لا يا أبا سمعان لا أظنُّ أن يكونَ ضدَّ فكرتك ولا ضدّ رأيك، بالعكس سيكون موافقاً بحسب ما قلته عن كريمتك، فهي تناسبه تماماً. إذاً لماذا اصطدمتَ وتفاجأتَ وتغيّر لونك ما دام أنت موافقاً على رأيي وفكرتي وتقول: أنّ أخاك بكلِّ تأكيد سيوافق على طرحي، أين المشكلة إذاً كي تتغيَّر بهذا الشَّكل؟!

سأخبّرك فيما بعد ليس الآن، لا يا أستاذ ستخبِّرني الآن، يبدو أنَّ هناك مشكلة ولا تريد مصارحتي بها، مع أنّني أعرفك صريحاً وصادقاً بكلِّ ما تقول. أرجوك اعفِني من الرّد الآن، والله، ستقول لي الآن؛ لأنَّ مشكلتك أو مشكلة أخيك هي مشكلتي، ولو لم أحب أخيك وأراه مناسباً لابنتي؛ لما طرحتُ هذه الفكرة عليك!

أوكي، سأقول لك، وأعدك وعد شرف أنّني سأحاول قصارى جهدي أن أحلَّ كلَّ العوائق والألغاز، بحيث نصل إلى نتيجة تناسب رأيك وفكرتك! أيّة عوائقة وأيّة الغاز تقصد؟! احكِ لي الصَّراحة، أعرفك صريحاً ومباشراً. نعم أنا صريح جدَّاً ولكن أحياناً ينعقد لساننا عن الكلام المباشر. عجيب أمرك حيّرتني! معك حق أبو سمعان أن تحتار؛ لأنّي أنا نفسي حائر، نعم حائر حائر! ولماذا أنتَ حائر إذا كلّ ما سمعته منك حول رأيك وتصوُّرك عن رأي أخيك كان إيجابيّاً؟ حائر؛ لأنَّ أخي يا أبا سمعان هو خاطب بنت من محردة؛ لهذا انعقد لساني ولم أستطِع أن أفاجئك على طرحِكَ الحضاري الرّاقي مباشرةً، ولكن كما قلتُ لك أعدك وعد شرف أنْ أعالجَ كلَّ العوائق، وأحقِّق فكرتكَ ورأيكَ! عندما وجدني متأثّراً للغاية، تأثّر هو الآخر، وحضنني قائلاً: كم أنتَ رائع يا أستاذ، ما كنتَ تريدُ أن تصدمني مباشرةً، لهذا وجدتكَ قلقاً ومحتاراً في الرّد، وتغيّرتْ ملامح وجهك، أيوجد أكثر من هكذا سبب؛ كي تكون حائراً، لكنِّي كما قلتُ لكَ سأعالج الموضوع؛ فلا تقلق، وسأحقِّق اقتراحك وفكرتك بعون الله! كيف ستحقّق فكرتي وأنت تقول إنَّأخاك خاطب بنتاً من محردة؟ هنا اللُّغز وهنا العائق الَّذي لا بدّ من حلّه! ماذا تقصد يا أستاذ؟ أقصد بأنّني سأقنع أخي في حال لو وافقَ على كريمتكم بعد اللِّقاء بها، أن يفسخَ خطوبته من خطيبته، وبعد فترة يتقدَّم لخطوبة ابنتكم بشكل رسمي؛ وهكذا أكون قد حقّقت طلبك بكلِّ سلاسةٍ وبشكلٍ قانوني، لكنّي سأكون قد أخطأتُ بحقِّ خطيبته، خاصَّةً لو كانت على حبِّ كبير، فلا أجد هنا إلَّا أن أقدّمَ عميق اعتذاري للعزيزة أليسار خطيبة أخي، وتأكّدي تماماً أنَّ قراري وقرار أخي وكل قرارات الحبّ في العالم، تتحكّم فيها عوامل خفيّة أو مرئيّة، لا نعرفها، لكنَّي أعترف أنِّي سأكون السّبب المباشر في فسخ خطوبتك من أخي فآمل أن تقبلي اعتذاري!

  1. بماذا فكَّرتَ بعدما قال لك ما قاله أبو سمعان، وبعد كل ما حصل بينكما من مصارحات؟

كم أعجبني طرحه ورأيه، وكم شعرتُ أنَّ الكثيرَ من مفاهيم الشَّرق ممكن أن تتغيّر وتتطوَّر؛ عندما نجدُ ونصادفُ مَن يطرحها ويروّجها ويطبّقها، وتساءلت نفسي مراراً قبل أن يطرحَ أبو سمعان الاقتراح علي بخصوص كريمته: لماذا دائماً الشّاب هو الّذي يبدأ بمبادرةِ الحبِّ والمفاتحة والإعجاب والخطوبة، لماذا لا يكون الموقف مفتوحاً للطرفين، ويحقُّ للمرأة أيضاً أن يكون رأيها وطرحها بأن تعبِّرَ عن رأيهاومشاعرها وعواطفها، وإذ بي اليوم أصادف رجلاً في هذا العمر ولديه أربعة أولاد وبنت، يفكّر نيابةً عن ابنته؛ لأنّها تربيّته ويعرفُ مذاقها ومزاجها ورأيها في الحياة، ويطرح طرحاً مغايراً للسائد، وكأنّه يطبّق وجهات نظري الّتي أطرحها بضرورة أن يكون للمرأة أيضاً طرحها والتَّعبير عمَّا يختلج في ذهنها، مع فارقٍ بسيط أو جديد؛ هو أنَّ الطَّرح في قضيّة الإعجاب جاء من طرف الأب مباشرةً، وليس من طرف البنت، ولكن النَّتيجة عندي ذاتها؛ وهي أن الأطراف المتعلِّقة بالبنت هم المبادرون، وهكذا شعرتُ بفرحٍ كبير أن تكون أفكاري الّتي أروِّجها وأناقشها في الأوساط الشَّبابيّة مع الزُّملاء والزَّميلات والأصدقاء والصَّديقات، تمَّ طرحها على أرضِ الواقع، وفعلاً تساءلتُ مراراً: لماذا لا يحقُّ للمرأة والفتاة ما يحقُّ للرجل والشَّاب من إبداء الإعجاب؟ وهكذا شدّني هذا الطَّرح وكأنّه جزء ممتد من أفكاري وبدأتُ أشتغل على تحقيقه، خاصّةً أنّه لصالح أخي بكلِّ تأكيد، وسررتُ جدّاً أن يصبح العم أبا سمعان عم أخي، وبالتَّالي نصبح نسائب، خاصَّة أنَّ ابنته، وحيدته المدلَّلة الَّتي ربَّاها أحلى تربية، ستكون من نصيب أخي لو سارت الأمور كما يراها والدها وأراها أنا أيضاً، وهكذا بدأت أخطِّط لهذا المشروع العاطفي البديع!

لم أذهب إلى البيت مباشرةً، بل ذهبتُ إلى مكتبة المركز الثّقافي؛ كي آخذ قسطاً من التَّأمُّل، وأفكِّر بكلّ هدوءٍ في الخطوات الّتي سأقدم عليها، أمسكتُ ورقةً وقلماً وبدأتُ أكتبُ ملاحظاتي، كيف سأعالجُ هذا الموقف العويص، هل ممكن أن أقنعَ أخي بموضوع فسخ خطوبته من خطيبته أليسار، ماذا سيكون موقفي لو كان متشبّثاً بخطيبته وعلى علاقة حب عميقة معها ويُصعب فسخها؟ أسئلة كثيرة راودتني، لكنَّ الَّذي رجّح عندي كفّة إقناعه، هو وضعه غير المهيّأ لترتيبات الزّواج، فيما إذا أصرَّ على الاستمرار بحبِّ خطيبته، سأعرض عليه مغريات تجعله يغيّر رأيه، ويقتنع بفسخ خطوبته في حال لو كانت علاقته معها مجرّد خطوبة، وحل مشكلة الزّواج كزواج، وبحسب تقديري وتقييمي لطلبات أخي، شعرتُ أنّه من المرجّح أن يوافق على اقتراحي عندما أبيّن له أنَّ وجود خطيبة لك في ديريك ومن هذه الطِّينة والمستوى الرَّاقي، وهي منتجة كخيّاطة، وأصغر منك بسنتين، وجميلة ووحيدة، ومن أسرةوبيئة قريبة من بيئتنا ومستوانا الاجتماعي والاقتصادي، كل هذا يجعلنا نتضامن معك أكثر ممّا لو استمررت مع خطيبتك في محردة؛ لأنَّ ترتيبات القيام بمهام الزّاوج، والإكليل والسَّفر ومتفرّعات عديدة تكلِّفنا كثيراً، ومَنْ عندكَ ممكن أن يقدّم لك كلّ هذه المصاريف؟ ولا تنسَ أنَّني بعد شهور سألتحق بالخدمة الإلزاميَّة، ولا أحد في العائلة هو منتج، حتَّى أنت بالذَّات تسرَّحت من الجيش منذ أسابيع، وبصدد البحث عن العمل، ومتى ستجد عملاً؟ كيف والحالة هذه ستستمرُّ مع خطيبتك؟ لهذا فكّرت أن أضع كلّ هذه الأمور بعين الاعتبار؛ كي يكون جوابه إيجابيَّاً معي، وسأقترح عليه أنّني سأساعده بمبلغ لا يقل عن (2000) ليرة لترتيبات الخطوبة والجهاز الخاص بالخطوبة، ثمَّ سنخطِّط للزفاف ونستدين (2000 ــ 3000) ليرة للإكليل، ونسدّد جزءاً من الدّيون من خلال الصَّباحية، هدايا الزّفاف، وبعد أن وصلت إلى هذه النَّتائج؛ طويتُ ورقتي في جيبي، وتوجَّهت نحوَ البيت، بعد أن وضعتُ في الاعتبار أنّ أبي وأمِّي وأخي الكبير وأختي سيوافقون على اقتراحي، ولا بدَّ أن يوافق أخي نعيم على اقتراحي أيضاً؛ لأنّ كلّ الاقتراحات والنّتائج المترتّبة عليها هي لصالحه قلباً وقالباً!

  1. كيف ناقشتَ الموضوع معَ أخيكَ، في الوقت الّذي كان قد خطب الفتاة المحرداويّة؟

مرحباً، كيف حالكم، رحّب والدي بي ببشاشته، وطلب من أمِّي أن تعدَّ لي الطَّعام، وقالت لي: اليوم رجعت متأخِّراً من الدَّوام، صحيح ماما؛ لأن كان عندي التزامات بعد الدَّوام، بدّي أحضِّر الأكل، طيّب ماما جهّزي الأكل بدّي أحكي مع نعيم شوي، ثمَّ أخذتُ أخي نعيم جانباً، وشرحتُ له الأمر بكلِّ تفاصيله، ابتداءً من أوّل جملة نطقها أبو سمعان حتّى آخر كلمة، وبدأتُ أنفّذ ترتيبات مخطِّطي الّذي وضعتُ نقاطه في المكتبة، وبعد أن شرحتُ له بإسهابٍ كل ما يتعلّق بموضوع فسخ الخطوبة بعد زيارة بيت أبي سمعان أن يقول كلمته الأخيرة فيها، ثمَّ يبدأ بترتيبات فسخ الخطوبة، فكان جوابه إيجابيّاً جدّاً، خاصّة عندما عرضت عليه مساعدتيله وتبنّي كلّ تكاليف الخطوبة، ومحاولتي استدانة مبلغ من المال؛ لترتيبات الإكليل، فقال لي: فعلاً اقتراحك صائب جدّاً، خاصة أنَّ مصاريف الخطوبة والإكليل ستكون أقل، ومن جهة أخرى ستساعدني في الخطوبة والإكليل، وهكذا نجحت في إقناعه، ولكنّه كان متردِّداً وقال: أخشى أن يكون قصد أبي سمعان هو أنتَ وليس أنا، فهو لا يعرفني، ولم يرَني سوى مرّة واحدة فقط، بينما أنت يراك يوميَّاً في المدرسة. لا لا يا أخي لا يقصدني، إنَّه يقصدك تحديداً، فلو قصدني،أنا تحت عينيه منذ شهور، ولم يشِرْ ليبهذا الأمر نهائيَّاً، هو يقصدك تماماً، وقال بالحرف الواحد: لقد انتهى من الخدمة العسكريّة وبحاجة إلى الاستقرار وتأسيس أسرة، وسأحاول أن أوجد له عملاً؛ لأنَّ لدي علاقات مع الكثير من وجهاء البلد والمسؤولين، وتحدَّثنا طويلاً في موضوعك، وحتّى لو قصدني، من جهتي سأترك السّاحة لك بالمليان، فضحك نعيم وقال: رائع، أنا موافق كخطوة أولى للقاء بها وزيارتهم في أقرب فرصة، فقلت له سآخذ موعداً من والدها، ثمَّ سنزورهم أنا وأنت فقط، وعلى ضوء النَّتائج ممكن أن نقرِّر تفاصيل المرحلة القادمة بما يخصُّ فسخ الخطوبة، ثمّ إعلان خطوبتك على الخطيبة الجديدة! ضحك وقال: ممتاز؛ لو سارت الأمور كما تخطِّط لها! في اليوم الثّاني، التقاني أبو سمعان، وببشاشة ردّيتُ السَّلام والتّحيّة وقال: حنطة أم شعير؟ فقلت: حنطة إيطالي خالص، أي كلّ شيء إيجابي، سأراك بعد أن أنتهي من صف الطُّلَّاب، وإدخالهم إلى صفوفهم وبعدها سنشرب الشَّاي، ونناقش بهدوء عن تفاصيل مخطَّطنا القادم! أنا بالانتظار، دقَّيت الجرس وبدأ الطُّلاب يصطفُّون في صفوفِهم، وبعد أن انتهيتُ من ترتيبات تحيّة العلم ودخلَ الطُّلّاب إلى صفوفهم، وزّعت دفاتر التّوقيع على الصُّفوف عن طريق العرفاء، ثمَّ توجّهتُ إلى مكتب التَّوجيه، وإذ بالعم بهنان سارة في الانتظار! وهو في أوج لياقته ومرحه ووقاره! تفضّل أستاذ، خبِّرني عن نتائج حنطتكَ! بالحقيقة يا صديقي قطعتُ شوطاً طيّباً مع أخي نعيم صاحب العلاقة؛ لأنَّ موضوعنا أوَّلاً وأخيراً متعلّق مع نعيم، وبعدئذ سنناقش تفاصيل الأمر مع الوالد والأسرة ككل ومع بيت عمِّي؛ كي نقوم بالتَّرتيبات المتعارف عليها. كلام جميل، ماذا قلت لنعيم؟ شرحت له بالتَّفصيل الموضوع من أوَّله إلى آخره، وركّزتُ له على أنَّ وجود خطيبة له من ديريك ومن طينتنا نفسها، ولها عاداتنا وتقاليدنا ومن المستوى نفسه، كل هذه المعطيات المشاركة بيننا تساعدنا على حلِّ الكثير من مشاكل الزّواج، فمن الصّعب أن نقوم بمهمّة إكليلك لو كان في محردة، فقضايا السَّفر ومكان الإكليل يلبّكنا ويقلق حتّى أهل العروس هناك، ولهذا لو كانت العروس من ديريك، فإنَّ ترتيبات حفل العرس والإكليل سهل، ناهيكَ عن أنّني سأساعدكَ بحدود (2000) ليرة فيما إذا كانت شموني من نصيبك واتفقنا على كلِّ شيء، وماذا كان جواب نعيم؟ جوابه: فمه انفتحَ على المليان ووصل إلى أذنيه، فضحك أبو سمعان، والآن ماذا علينا من خطوات؟ علينا أن نحدّد موعداً معكم؛ كي نزوركم أنا ونعيم أولاً، وبعد أن يلتقيا ويوافق كلاهما، سنقدم على الخطوة الثّانية، وهي فسخ خطوبته؛ لأنّني لا أريد أن يفسخ خطوبته قبل أن يوافق على كريمتكم وهي توافق عليه ويتّفقان معاً على أنّه بعد فسخ خطوبته سيتمُّ إعلان الخطوبة بشكل رسمي مع وفد من الأسرة من طرفنا ومن طرفكم! كلام جميل وتعمل مثل الرّجال الكبار، بل أشتغل بطريقة أفضل من الرّجال الكبار، ضحك أبو سمعان ثانية وقال: صدّقني عقلك يوزن بلد!

متى يناسبكم أن نزوركم؟ يناسبنا يا أستاذ مساء ليلة السّبت. جيّد اتفقنا إذاً، سأخبِّر نعيم؛ كي يجهّز نفسه للقاء يوم السّبت بحدود السّاعة كم؟ بحدود السّاعة السَّادسة؛ كي نسهر مع بعضنا، رائع جدّاً بلّغ تحياتي للأهل، اليوم هو الخميس وغداً عطلتنا، الأسبوعيَّة، نلتقي عصر يوم السّبت على خير، الله يعطيك الخير، وأشكرك على شهامتك ومواقفك وأرجو أن تنتهي الأمور على خير لكافّة الأطراف.

خرجت من المنزل، متوجّهاً إلى البيت، كان أخي نعيم في انتظاري، وخبَّرته عن تفاصيل ما حصل معي والموعد المحدّد للِّقاء يوم السَّبت القادم، السَّاعة السَّادسة عصراً! فرح بهذه النّتائج وتطوُّرات الأوضاع، وهكذا بدأتُ أرسم معالم علاقة جديدة بين طرفين، ستثمر على الأرجح بنتائج بديعة!

  1. ما هي انطباعات اللِّقاء الأوَّل الَّذي تمَّ بينكم أنتَ وأخيك نعيم مع أبي سمعان وابنته شموني؟

كانت انطباعات اللِّقاء الأوَّل طيّبة ومريحة لكلِّ الأطراف، استقبَلنا على الباب العم أبو سمعان، ثمَّ استضافنا في غرفة الصَّالون، بيت دافئ بالمحبّة والحفاوة والبساطة والأصالة والتَّقدير، بعد قليل جاءت شموني وسلّمت علينا، وقدّمها والدها لنا وقدّمنا إليها، وبعد أن جلستْ قليلاً وتجاذبنا أطراف الحديث، سألنا أبو سمعان: ماذا تحبون أن تشربوا؟ قهوة وسط أجبتُ، وكذلك نعيم طلب قهوة، وفيما كنّا ندردش جاءت أم سمعان وسلَّمت علينا، أم حنونة، رؤوم، كتلة من الحنان والمحبّة والتَّقدير والهدوء، ما كانت البسمة تفارق وجهها البشوش، كانت تعرفني، قدّمَ أبو سمعان نعيم إليها، وقدّمها إلى نعيم، لقاء مفعم بالحميميّة والطّيبة والاحترام، دخلت شموني وقدّمت إلينا القهوة، بينما أبو سمعان شرب الشّاي وكذلك أم سمعان، وشربت شموني القهوة، شعرنا كأنّنا في بيتنا، كنّا في غاية الارتياح، كان أبو سمعان ونعيم بجانب بعضهما وأنا إلى يسارهما، وجلستْ شموني وأمّها مقابل أبي سمعان ونعيم، ورحنا نتحدَّث عن قضايا الحياة، وباركتْ أم سمعان تسريح نعيم من الجيش، وكذلك شموني هنَّأته بالتَّسريح، ثمَّ جاءَ أفرام شقيق شموني وسلّم علينا، وجه أشقر وسيم، عينان باسمتان تنضحان فرحاً وأملاً بالحياة، وفي مستهلِّ السَّهرة جاء ميخائيل بحضوره الطَّيب، وجه حنطي مكتنز بحبِّ الفنِّ، كم كان يهوى العزف على العود والجمبش، يعشق الموسيقى، وأمّا أفرام فكان مولعاً بالاستماع إلى أغاني أم كلثوم في أغلب الأوقات. حكى أبو سمعان في معرض سهرتنا بعض القصص الطَّريفة الخفيفة، ولم يدخل في تفاصيل فكاهيّاته، فقط أحبَّ أن يعطي للجوِّ فكاهةً، وأنا كنتُ أتحدَّث مع ميخائيل وأفرام، وأحياناً كنتُ أسأل شموني بعض الأسئلة عن كيفية تعلّمها الخياطة، وما هي المهارات الَّتي تتميّز بها في الخياطة، كانت خجولة ووقورة وهادئة، قليلة الكلام، قالت: أنا أعرف أكثر شيء خياطة بدلات نسائيّة، وأخيِّط على التَّصميم أيضاً لو طلبت الزّبونة أن أخيّط فستانها على تصميم معيّن، برافو عليكِ، طيّب هل يصعب عليك خياطة رجاليّة، بناطيل وما شابه؟ لا ما هو صعب علي لو عندي التَّصميم، لكنِّي لا أحب خياطة البناطيل ولا زبائن شباب للخياطة، فقط زبائني هم بنات.

سررنا بالوقت الَّذي قضيناه، كان نعيم هادئاً يصغي إلى الجميع ويردُّ على تساؤلاتهم؛ لو سأله أحدهم سؤالاً ما، ويشارك في الدَّردشة، وجهه ينضح بالبسمة والانشراح، أعطى انطباعاً طيّباً، كما بدَتْ شموني مرتاحة في السّهرة، وكانت طبيعيّة في ظهورها ولباسها، لكنّها كانت توحي أنّها بنت خجولة، عندها حياء بديع، سررتُ بطريقة استقبالهم لنا، وكأنَّنا نعرف أهل البيت من زمان، بعد أن سهرنا قرابة ساعتين، وتحدَّثنا في الكثير من الأمور، وشاهد كلّ من نعيم وشموني بعضهما، واستراحا لبعضهما من اللِّقاء الأوَّل.

كانَ الأستاذ سمعان الابن البكر يؤدّي الخدمة الإلزاميَّة آنذاك في دمشق، وقد التقى به نعيم عدّة مرّات في دويلعة. نظرتُ إلى ساعتي، وشكرتُ أبا سمعان وشموني وأم سمعان والشَّباب على الحفاوة الَّتي استقبلونابها، ثمَّ استأذنت منهم، وكذلك شكرهم أخي نعيم على كلِّ ما قدَّموه من احترام وتقدير، وقلت لهم قبل أن نودِّعهم: ممكن في قلب الأسبوع القادم نزوركم زيارة أخرى، فرحّبوا جميعاً، قائلين: البيت بيتكم، تقدرون تشرفوننا متى ما تشاؤون، أهلاً بكم بالرّحب والسَّعة، ودّعناهم على أمل زيارة قريبة، وقلنا لهم: أنتم أيضاً تستطيعون زيارتنا متى ما تشاؤون، فقط أخبرونا عن موعد الزّيارة، وسنستقبلكم بكلِّ المحبّة والاحترام، خرجنا ونحن في غاية الامتنان؛ ممّا قدموه لنا من حفاوة واحترام وتقدير، وحالما أصبحنا في الشَّارع ونحنُ في طريقنا إلى البيت، قال أخي نعيم: هذه البنت، كما قال والدها، وأشكره جدّاً على طرحه واقتراحه، مناسبة جدّاً لي، وأشكرك يا أخي على كلِّ ما تقوم به من أجلي، ومن خلال اللِّقاء الأوَّل أقول: أنا موافق من دون أي تردّد على التَّقدُّم لهذه البنت الطَّيّبة الهادئة الوقورة، وسوف أذهب لمحردة بأقرب وقت؛ كي أفسخ خطوبتي، وأعود لأعلن خطوبتي على هذه الفتاة بعد أن نزورهم زيارة أو زيارتين، ونتّفق على بعض التّفاصيل، ونسمع رأيها منها وجهاً لوجه، ثمَّ نرتّب أمورنا؛ كي نتقدّم لخطبتها بشكل رسمي! ابتسمتُ لأخي، وقلتُ له: وهذا ما كنتُ أفكر به أيضاً، وألف مبارك مقدّماً يا أخي، والله يجعل تنتهي الأمور على خير!

  1. كيف تابعتَ السَّهرة في البيت بعد عودتكما أنت وأخيك نعيم وما الحديث الِّذي دار بينكما؟

وجدتُ أخي نعيم مرتاحاً جدَّاً من الزِّيارة الَّتي قمنا بها لبيت أبي سمعان، لكنّه كان في الوقت نفسهأمام موقف محرج من ذاته، بدا لي وكأنّه يتساءل مع نفسه: ما ذنب خطيبتي أن أتخلّى عنها دون أي سبب مقنع أو مباشر، كيف سأقنعها بأنَّنا لا نناسب بعضنا؟ هي متعلّقة بي كثيراً، هكذا قرأتُ ملامحه وشروده، ثمَّ دخلت معه في نقاشٍ واضح وصريح بخصوص خطيبته؛ كي نضع النّقاط على الحروف قبل أن نعطي كلمة نهائيّة مع بيت العم بهنان؛ كي يتحمَّل نعيم بنفسه قراره، ولا أكون متسبّباً أو ضاغطاً عليه، أريد أن يتّخذ قراراته عن قناعة؛ كي لا أتحمّل نتائج أي قرار يتّخذه، مع أنّني شعرت ضمناً أنّني أقوم بموقف خاطئ بحقِّ خطيبته الأولى، ولكن في الوقت نفسه شعرت أنَّ موقفي عادي وطبيعي؛ لأنّني أفكّر بمصلحة أخي بشكل منطقي؛ لأنَّني سألته منذ البداية عن الفكرة كفكرة، فوافق عليها، ولو كان أصلاً متمسِّكاً بخطيبته لما راق له طرحي ولا طرح أبي سمعان، علماً أنَّ أبا سمعان ما كان لديه أي إطلاع على وضع أخي، أنا طرحت الفكرة عليه وتركني على راحتي وراحة أخي، وهكذا وضعت أخي على المحكِّ النّهائي لأسأله من جديد عن موقفه النّهائي في موضوع خطيبته، نظر إليّ وقالَ أشعر بنوع من الذّنب وكأنّني أخونها لأنّها ماتزال خطيبتي وأنا أفكّر بغيرها، لكنّها الحياة يا أخي فأنا لست أوَّل وآخر مَنْ يفسخ خطوبته، وبعد أن أجريت مقارنات بين خطيبتي وبين شموني وجدتُ كفّة شموني مرجّحة على خطيبتي في قراري الأخير لعدّة اعتبارات كما أشرتَ إليها يا أخي أثناء عرضكَ عليّ الفكرة، فأنا متأكّد أنّني لو تابعت حياتي مع خطيبتي سوف لن تكون سعيدة معي ولا أكون أنا سعيداً معها لأنَّنا من بيئتين مختلفتَين ناهيك عن أنّي غير قادر على الإقدام على هذه الخطوة لو اخترتُ المتابعة معها، لهذا قرَّرت بقناعة تامّة أن أفسخَ خطوبتي منها وليس لكَ أنتَ أيّة علاقة، وأتحمَّل أنا كامل المسؤوليّة حتّى ولو كنتَ السَّبب بطريقة أو بأخرى، لكن هذا بالنَّتيجة هو قراري وليس قرارك، ولا تقلق قريباً جدّاً سأذهب إلى محردة وأعتذر منها وأعلن انسحابي، ستحزن بلا شك؛ لأنّها متعلّقة بي كثيراً، لكنّها ستنساني مع الزّمن وتشقُّ طريقها، وأتمنَّى لها بكلِّ الأحوال كلَّ الخير. خيّم علينا صمت، ثمّ قلت لأخي: أنا لا أريد أن أتسبَّب لك بأيَّة مشكلة لا مع خطيبتك ولا مع الخطوة الجديدة، كلّ ما في الأمر عرضتُ وما أزال أعرض عليك كلّ الخيارات، وأنتَ سيّد الموقف، لا تقلق يا أخي فأنت لم تتصرّف إلّا ضمن منطق الحفاظ على الأسرة والتَّعاون معها وتقدِّم لي أقصى ما تستطيع، وفعلاً لو لم أختَر شموني شريكة لي في حياتي القادمة، ستكون حياتي متعبة مع خطيبتي؛ لأنَّه لا يبدو لي أنَّنا سنكون سعداء بحسب ظروفنا، بينما مع شموني سأكون أكثر استقراراً وسعادةً، لأنَّ أهلها هنا وأهلي هنا وسوف تبقى بجانبي من خلال عملها وأسرتها وسنؤسِّس معاً أسرة هادئة، ونعيش بكلِّ تأكيد سعداء مع بعضنا، هكذا أرى وأحس؛ ولهذا ليس لدي أي خيار سوى توجيه الأنظار إلى محردة في أقرب وقت والعودة حرّاً ممَّا يربطني هناك من التزامات!

بعد أيّام قال لي نعيم: سأذهب إلى محردة، جهّزت له ترتيبات السَّفر، شعرتُ بغصّة؛ لأنَّ هناك مواقف يمرُّ بها الإنسان تسبِّب له بعض الإحراج، لكنّها الحياة دائماً تطالعنا بمفاجآت لها أوَّل وليس آخر، وأهم شيء أن تنتهي الأمور على خير، عادَ نعيم بعد أيّام وأيضاً شعر بغصّة، وقال: وضعتُ النِّقاط على الحروف؛ كي انتقل إلى حروفٍ أخرى من طينِنا، فقلتُ له: على بركة الله! ثمَّ قال لي: أنت تفكّر بي وتخطِّط لي أكثر ممّا أفكِّر بنفسي وأخطِّط لنفسي!  إذا لم أفكِّر بكَ بهذه الطَّريقة لماذا نحن إخوة ومن رحم واحد؟!

نظر إليّ بإمعان وقال: حقّاً، الإخوة لهم حقوق وواجبات على بعضهم بعضاً، ثمَّ خرجنا مشواراً وفي انتظار الزِّيارة القادمة لبيت أبي سمعان؛ كي نتحدّث عن الموافقة، والبدء في التَّقدُّم إلى شموني لإعلان الخطوبة.

  1. كيف كان انطباع أبي سمعان عن زيارتكما لهم، وهل اتّفقتم على الزِّيارة القادمة؟

كان الانطباع بديعاً؛ بدليل أنّه الآن بكلِّ بشاشته يصبّح عليّ، صباح الخير يا أستاذ، أهلاً وسهلاً صباح الخيرات أبا سمعان، كيف حالك يا أستاذ، وكيف أخبار وحال العزيز نعيم؟ بخير، لقد عاد البارحة من محردة، لماذا ذهب إلى محردة؟ صدّق فجأة قرّر الذِّهاب إلى محردة وفسخ خطوبته وعاد، ولكنّكَ قلتَ لي: أنّك تفضّل أن نتّفقَ هنا على موضوع شموني بشكل نهائي، وبعدها ينهي موضوع الخطوبة، بالحقيقة هو قرّر بنفسه أن يفسخَ الخطوبة قبل أن يحصلَ على موافقتكم النّهائيّة أو موافقة شموني؛ لأنّه قال لي: يفضّل أن أفسخ خطوبتي أولاً، ولو عندي نصيب مع شموني أهلاً بها وبأهلها، مع أنّه من جهته هو موافق تماماً، لكنّه أراد أن يفاتحها ويتقدّم إليها وهو حرّ وصافي الذّمة، حسناً فعل، وهو رأي صائب ودقيق، حتّى أنّني كنتُ أريد أن أقول لكَ هذا الأمر، لكنّ قلبه الصَّافي قاده إلى تحقيق رغبتي، حقيقةً أنا نفسي ارتحتُ؛ لأنّه قام بهذا الأمر قبل أن يفاتح شموني ويناقشها؛ كي يكون مرتاح الضَّمير، وقد ريّحني أيضاً تصرّفه، وهو في انتظار موعد آخر معكم؛ كي يلتقي مع شموني، ويتناقشا في بعض الأمور؛ تمهيداً للتقدُّم إليها وإعلان الخطوبة بحضور بعض الأهل من الطَّرفين.

ما رأيكَ بيوم الخميس بحدود السَّادسة أيضاً؛ كي نستطيع أن نسهر على راحتنا؛ لأنّ اليوم الثّاني عطلتنا الأسبوعيّة، جيّد إنَّه وقت مناسب لنا جميعاً، خبّرتُ نعيم على موعد الزّيارة القادمة، وهيَّأ نفسه لهذا اللِّقاء، وشعرَ أنّه أكثر حرّيّة من قبل؛ لأنّه أنهى علاقته بشكل نهائي مع خطيبته؛ كي يخطِّط لحياته من جديد وهو متفائل للخطوة الّتي يقدم عليها بكلِّ قناعة، حيث وجد فعلاً أنّه لو لم يصادف شموني، واستمرّ مع خطيبته؛ فإنَّ حياته ستشوبها المشاكل، خاصّة أنّه غير قادر على العيش في محردة، وغير قادر على خلق الجوّ المناسب لها في ديريك ضمن ظروفه الحاليّة والمستقبليّة، فكيف سيؤسّس أسرةً وهو في بداية حياته سيواجه حالات وظروفاً صعبة؟ فعلى الأقل خياره الثَّاني أكثر أملاً في بناء حياة سعيدة وأسرة بالتَّعاون ما بين الأسرتين، وهو وسط أهله وأقربائه وأصدقائه، والأمل في الحصول على عمل وارد جدَّاً،  خاصّة أن هناك الكثير من المجالات الَّتي تناسبه. عدتُ من الدَّوام يوم الخميس وإذ بأخي نعيم خارج المنزل، فسألتُ أمّي: أين هو نعيم؟ فقالت: ذهب إلى السّوق، وسيعود بعد قليل، وفيما كنّا نتحدّث عنه، دخل باب الحوش وهو يحمل بعض الأغراض الّتي اشتراها من السُّوق، جلسنا في الغرفة؛ كي نحضّر أنفسنا لزيارة العم بهنان، كان هادئاً، شارداً قليلاً، يبتسمُ تارةً، ثمَّ قال: مَن كان يتوقّع أنَّ زيارة عابرة لي إلى المدرسة ستشكِّل كل هذه التَّطوّرات في حياتي؟! دائماً الحياة فيها مفاجآت ومتغيّرات جديدة، لكلِّ سببٍ مسبّب، فعلاً يبدو هكذا مقدّر لي قال نعيم، ربّما يا أخي. دخلتْ أمِّي والبسمة مرتمسة على وجهها، تفضلوا كُلوا، الأكل جاهز، تفضّلوا قبل ما يبرد. شكراً ماما، صبّي الأكل، سنأتي حالاً، كم كانت أمِّي هادئة، رزينة، مطيعة، صافية القلب، كم كنَّا غرباء عن أنفسنا وعن أمّهاتنا وآبائنا وأهلنا وأخواتنا وإخوتنا، كم كنّا جهلاء في مصير أعمارنا! أبكي الآن في هذه اللّحظات وأنا أسمع صوت أمِّي تدعونا للغداء، فقفز إلى ذهني عمري الّذي قضيته هناك؛ عمري الَّذي راح ثلاثة أرباعه هدراً في الكثير من متاهات الحياة، رغم أنّني استلهمت من هدره أبهى ما لدي من تدفُّقاتٍ إبداعيّة، جمحتُ بعيداً. كان الأحبّة في الانتظار ونحن بعد أن تناولنا الطَّعام خرجنا نتدرّج قليلاً؛ كي نذهب في الموعد المحدّد، اسقبلنا أبو سمعان وابنه ميخائيل ببشاشة طيّبة، دخلنا الغرفة وإذ بأم سمعان ترحّب بنا، جلسنا بارتياحٍ كبير، رحّبوا بنا، وبدأنا ندردشُ على قضايا الحياة، دخل لطيف وسلّم علينا، قال أبو سمعان: لطيف ابني الصَّغير وقدّمنا إليه، جلسَ قليلاً ثمَّ خرج إلى الحوش ينظّم زينة بسكليته، كان شغوفاً ببسكليته، دخلت شموني وسلَّمت علينا، ثمَّ جلست قريباً من نعيم، كان اللِّقاءُ ودوداً بين الجميع، يبدو أنَّ أبا سمعان خبّر شموني عمّا حصل مع نعيم من مستجدَّات، فزادَت قناعتها من الاقتراب أكثر منه، وكان كلاهما مصمّمَين على هدفٍ واحد، وبدأنا نتحدَّث عن موضوع الهدف الَّذي جئنا من أجله، فلمّح أبو سمعان لابنته عن نيّة نعيم من جهتها، وسألها عن رأيها فأجابت: بابا أنت وأمّي وإخوتي الَّذي تقولونه أنا موافقة عليه، فقالَ نعيم: وأنا موافق على ما يقولونه أيضاً، فهلهلتْ أم سمعان وقالت: مبارك، ثمَّ قلتُ: ألف مبارك على هذا التَّفاهم، قريباً سأخبِّركم؛ كي نأتي ونتقدَّم إلى خطبة شموني مع وفد رسمي من أهلي، فرحَّبوا باقتراحي، ثمَّ خرجتْ شموني وبعد قليل جاءت وقدّمت بعض السكاكر عربون فرحنا وبداية الموافقة من كلِّ الأطراف، ثمَّ قدّمت القهوة والشَّاي، قضينا وقتاً طيّباً إلى وقت متأخّر من اللَّيل، ثمَّ استأذنا، وعدنا والبهجة تغمرنا، كنّا نسمع أصوات خطواتنا، كأنّها إيذان بأنّ مشروع الألف ميل يبدأ بخطوة فعلاً، وها قد قطعنا الخطوة الأولى يتلوها خطوات العمر الأخرى!

كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_يوسف Sabri Yousef ..في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..- من السؤال – 111 – إلى السؤال 120..

كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_يوسف Sabri Yousef ..في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..- من السؤال – 111 – إلى السؤال 120..

  1. تحدّث عن دراستك في الفصل الثّاني حتَّى نهاية الامتحان مع غالب عبدو ومحمد رمضان؟

“أتذكَّر منذ أكثر من أربعين عاماً كيف انتقلتُ من غرفتي في علّية بيت الأستاذ جان زكّو بسبب حرارة الشَّمس الحارقة الّتي بدأت تتزايد منذ بداية نيسان في الغرفة الَّتي أسكن فيها، شعرت أنَّ حرارة الغرفة لا يمكن تحمُّلها، خاصّة أنَّ الامتحانات كانت على الأبواب، وكان من الصّعب أن أراجع المنهاج في البراري مثلما كنتُ أفعل في ديريك بسبب عدم توفُّر هذه الأجواء في الحسكة، فلم يكنْ أمامي خيارٌ آخر سوى الانتقال إلى غرفة أخرى، وفيما كنتُ أشكي همِّي للزميل غالب عبدو في إحدى الفرص، بما كنت أعانيه من حرارة مرتفعة في الغرفة الَّتي أسكن فيها، قال لي: هل تريد أن تنتقل إلى مسكن جديد؟

قلت له: بكلِّ سرور!

أجابني: أنا ومحمّد رمضان انتقلنا منذ أيام إلى غرفة قبو كبيرة نوعاً ما، قريبة من المدرسة وتستطيع إذا أحببت، أن تنتقل إلى الغرفة نفسها؛ لأنّها تتَّسع لثلاثة أشخاص بشكل مريح، ونستطيع أن ندرس معاً في الغرفة، وهناك مجال في أن ندرس أمام البيت الَّذي نسكنه خلال اللّيل على أضواء المصابيح!

وافقت على اقتراحه؛ لأنّه كان مناسباً لي جدّاً، وانتقلت خلال أيام إلى الغرفة الجديدة، ودّعت أصحاب البيت وأعطيتهم إيجار الشَّهر كاملاً، لكنَّ الأستاذ جان لم يأخذ الإيجار منّي، حتّى أنّه أعفاني من دفع قيمة الأيَّام الَّتي سكنتها في الشَّهر الَّذي انتقلت، شكرتهم على حفاوتهم وكرمهم، وخدماتهم الَّتي قدَّموها لي، واعتذرت لهم عن مسألة انتقالي، شارحاً لهم أنّ السَّبب؛ هو أنَّ الحرارة لا يمكن تحمُّلها حتُّى ولو كان لدي مروحة في الغرفة!

ودَّعتهم بكلِّ امتنان، وانتقلتُ إلى غرفة الأصدقاء، استقبلني غالب بكلِّ فرح، وزّعتُ كتبي وحاجياتي في ركنٍ من أركان الغرفة، وقمنا بحملة تنظيفٍ شاملة في الغرفة، ثمَّ خرجنا لشراء بعض الحاجيات الضّروريّة وخطّطنا لراحتنا ودراستنا على أكمل وجه.

استفدت جدَّاً من انتقالي؛ بسبب تكثيف قراءتنا وتحضيرنا للمنهاج، وتقسيم المصروف والإيجار على ثلاثة، وكان غالب ورمضان شاطرَين في طهي الطّعام، فقال لي غالب: أنتَ بشو شاطر يا صبري فيما يخصُّ الطَّعام؟

قلت له: بالحقيقة أنا شاطر جدَّاً بتناول الطَّعام، خاصَّة عندما يكون شهيّاً بالطَّريقة الّتي تعدّونه، فضحكا لردّي وضحكتُ معهما، وخلال وقت قصير تعلّمت كيفيّة طبخ الكثير من الطَّبخات، وكنتُ أساعدهم في تقطيع الخضار وتجهيز الطّاولة، شعارنا كان التّعاون والنّظافة ورمي النِّفايات يوميّاً؛ كي تكون الغرفة نظيفة! كنّا نستغل أغلب وقتنا في الدّراسة، ونحدّد الأسئلة الَّتي نراها مهمّة، خضنا الامتحان باقتدار مادّة تلو الأخرى، ونجحنا نحن الثّلاثة دون أن نحمل أيّة مادّة! ..”.

  1. حضرتَ لقاء في مطرانيّة السَّريان الأرثوذكس في الحسكة، وسألت سؤالاً عبر أوراق سرِّيّة للمطران قرياقس، عندما أجاب المطران عن الأسئلة قفز على الإجابة عن سؤالك، ماذا سألته آنذاك؟

.. “كان لقاءً مهمَّاً جدّاً، أتذكّر جيّداً وقائع هذه الأمسية الرُّوحيّة الدِّينيّة، فقد تحدّث نيافة المطران الرّاحل قرياقس عن بعض الآيات وشرحها، وضرب بعض الأمثلة عليها، وقد دعاني أحد الأصدقاء لهذه الوعظة، فقلتُ له: هل سيتخلّل بعد الوعظة أسئلة من قبل الجمهور الحضور، فقال: بالضّبط؛ لأنَّ المحاضرات تتمُّ بشكل وعظات، ثمّ يتمّ فتْح باب النِّقاش للشبّان والشَّابات من خلال طرح تساؤلاتهم بشكل سرّي عبر أوراق، ثمَّ يستلمها نيافة المطران، وبعد الاطِّلاع عليها، يجيب عنها سؤالاً سؤالاً، فقلت رائع، سأحضر هذه الوعظة؛ لأنّ لديّ سؤالاً مهمَّاً جدّاً، ومحَيّراً جداً، ويحمل بُعداً دينيّاً فلسفيَّاً، ولا أظن أنَّ نيافة المطران سيجيب عنه، فقال لي صديقي: معقول أن يكون سؤالك محرجاً وعويصاً إلى درجة أن يعجز المطران قرياقسعن الإجابة عنه؟ أجل أغلب الظَّن أنّه لا يستطيع الإجابة عنه، أو ربّما يجيب عنه بطريقةٍ ما، لكنّه لا يستطيع إقناعي؛ لأنّ أي جواب ديني محض عن سؤالي سيكون جواباً ناقصاً بحسب تصوّري. جعلتني أتشوّق لسماع السُّؤال ومن ثمّ جواب المطران!

حضرتُ الوعظة في الوقت المناسب، وكنت في الصُّفوف الأماميّة، ركّزت انتباهي على كلّ كلمة قالها نيافة المطران، استغرقت بحدود (45) دقيقة، ثمَّ تخلَّلتها أسئلة عن الوعظة وأي سؤال يخطر على بال الجمهور، وقد كان سؤالي جاهزاً، وزّعوا علينا قصاصات ورقية، فكتبتُ السّؤال التّالي بعد تمهيد السّؤال:

سؤالي نيافة المطران يتعلَّق بموضوع الخير والشَّرّ، وموضوع محاسبة الله لأفعال البشر في الحياة الثَّانيّة، من خلال قراءتي الكتاب المقدّس، تبيّن لي أنَّ الله يعرف كل ما يقوم به البشر من أعمال وأفعال بمعرفته المسبقة للأمور، وبحسب الرُّؤية الدِّينيّة أنّ كل أعمال البشر مكتوبة على جبينه، وهناك الكثير من الآيات تشير إلى هذا الأمر، ففي هذه الحالة لا أرى أيّة ضرورة لمحاسبة الله الإنسان عندما يقوم بأيِّ فعل خيّر أو شرِّير؛ لأنّ فعل الإنسان مرتبط بما كتبه الله على جبين البشر، وبهذه الحالة ينفّذ الإنسان ما كتبه الله على جبينه؛ وبالتَّالي فهو -أي الإنسان- خاضع لإرادة الله؛ ولهذا عندما يقوم الشّرير بفعلٍ ما؛ فهو بهذه الحالة ينفّذ ما كُتِبَ على جبينه؛ أي: ينفذ إرادة الله المسبقة والمقدّرة عليه، فلماذا والحالة هذه يُحاسب الله الإنسان على عملٍ لا يستطيع أن يتجنّبه ماداممقدراً عليه من قبل الله؟!

تمَّ توزيع الأوراق، وعرفتُ ورقتي؛ لأنّني قصّيتُ إحدى زواياها، وأجابَ المطران عن الأسئلة واحداً واحداً؛ لأنّه اطّلع عليها وتصفّحها قبل أن يجيب عنها عبر المنبر، وعندما جاء دوري، قال نيافته:

وردني سؤال من أحد المؤمنين، أعتذر عن الإجابة عنه؛ لأنّه يتطلّب وقتاً طويلاً للإجابة عنه، وهو خارج عن نطاق وعظة اليوم، ويستطيع المتسائل أن يزورني في المطرانيّة؛ كي نناقش معاً هذا السُّؤال! ولم يقُل للإجابة عن هذا السُّؤال، بل قال: للنقاش في هذا السُّؤال؛ لهذا لم أذهب إلى مكتبه، ولم أناقشه ما دام لم يجب عن تساؤلي أمام الحضور!

اندهش صديقي عندما وجد بأمِّ عينيه اعتذار المطران عن الإجابة عن سؤالي.

واستكمالاً لتفنيد السّؤال من جميع جوانبه واحتمالاته؛ كي أتركَ السُّؤال مفتوحاً للقرّاء والقارئات، أقول لو كُتِبَ على جبين إنسان ما أن يقوم بفعل الشَّر، ولم يَقُمْ الإنسان بهذا الفعل من منطلق أنّه يرى فيه فعلاً شرِّيراً، ولا يرضي الله، مع أنّه مُقدَّر عليه من قبل الله، فهل في هذه الحالة يعتبر أنّه خالف إرادة الله المقدّرة عليه، علماً أنّه يقوم بفعل الخير استجابةً لممارسة فعل الخير وعمل الخير، فهل هنا تتمُّ محاسبته أم لا؟ فمن وجهة النَّظر المنطقيّة، فإنَّ عَمَلَ الخير فهو خير، ولكن بحسب مخالفته للقدر المقدّر عليه يكون في موقف مخالفة إرادة الله المقدّرة عليه، فلو تمَّتْ محاسبته في هذه الحالة، وهو يقوم بفعل الخير -من منطلق أنّه خالف إرادة الله من خلال القدر المقدّر عليه- تكون محاسبته غير منطقيّة؛ لأنّه قام بفعل الخير، ولو لم تتمُّ محاسبته على أساس أنّه قام بفعل الخير، فكأنّه خالف ما قُدّرَ عليه، ومع هذا لم يحاسبه الله على كسر إرادة الله، ففي الحالتين يكون الحكم عليه غير مقنع دينيًاً، لهذا أرى أنَّ نظريّة الجبر الإلهي كما هي مطروحة فلسفيّاً ولاهوتياً هي نظريّة غير منطقيّة وغير مقنعة، أي ما هو مكتوب على الجبين، نظرية غير منطقيّة وغير مقنعة دينيّاً وفلسفيّاً معاً؛ لأنّ الإنسان يبقى مقيّداً بإرادة الله المسبقة للأمور؛ لهذا يجب والحالة هذه أن لا يُحاسب على فعله الخيّر أو الشَّرّير؛ لأنّه على الوجهين هو منصاع لإرادة الله بحسب وجهة النَّظر الدِّينيّة، وبهذه الحالة ينتفي مبدأ المحاسبة مادام أنَّ ما يقوم به الإنسان خيراً أو شرّاً هو مقّدرٌ عليه، وهو مجرَّد عبد مأمور لفعل الخير والشَّر! أم أنَّ لديكم وجهات نظرٍ أخرى وتفنيدات أخرى؟!”.

  1. كيف ومتى ترعرع عندكَ شغف الكتابة وكيف تنامت ترجمة هواجسكَ الإبداعيّة تباعاً؟

ترعرعَ عندي شغف الكتابة منذ المرحلة الابتدائيَّة، عندما وجدت الحرف حالة إبداعيّة غريبة ومدهشة، حيث كنتُ وما أزال مندهشاً للغاية من مسألة إبداع الحروف والكلمات والجملة واللُّغات ونقل الأفكار الَّتي تراودنا عبر اللُّغة، حقيقةً أنَّ أكبر إنجاز على وجه الدُّنيا هو إبداع البشريّة للحرف، ولولا الحرف؛ لكانت البشريّة في ظلمة داكنة، وأرى كلّ الفتوحات الإبداعيّة والتَّطوُّرات الَّتي تمّت على مدى التَّاريخ البشري جاءت من خلال الكلمة: الحرف من خلال التّراكم الحضاري على مدى آلاف السّنين، وانبعثَ العديد من الحضارات، وتوزّعت في كلِّ بقاع الدُّنيا. فأنا منذ أن كنتُ طفلاً أبهرني الحرف، وظلَّ يبهرني عاماً بعد عامٍ، كبرتُ وكبر معي هذا الانبهار وصادقته بصدق فكان لي خير صديق، وتنامى معي هاجس اللُّغة وبدأتُ رويداً رويداً أترجم مشاعري عبر قصائد وخواطر وأنا في المراحل الإعداديّة والثّانويّة، وكم كنت أشعرُ بالفرح كلَّما كتبتُ وعبِّرتُ عمَّا يجول في خاطري، كنتُ وما أزالُ كائناً مسكوناً بالحلم، مجنّحاً على مدى سنوات عمري نحو عوالم وفضاءات أحلام اليقظة، مراراً استلهمت قصصاً وأشعاراً ونصوصاً من أحلام اليقظة، ألتقطُ من هذه التَّوهُّجات الحلميّة أفكاراً وأصيغ منها نصوصاً وأشعاراً وقصصاً، لكنِّي أراني في أغلب الأحيان غير قادر على التقاط هذه الهواجس والانبعاثات الحلميّة بكلِّ تفاصيلها وتفرُّعاتها لغزارة انهمارها عليّ، وأحياناً أخرى أشعر وكأنّ هذه الحالة نعمة متهاطلة علي من السّماء، حيث تمنحني غبطةً وفرحاً وجموحاً في فضاءات بوحِ الخيال، لكنّي أجدني في حيرةٍ من أمري إزاء هذه التَّهاطلات الحلميّة المجنّحة نحو مسارات خيالٍ، تموجُ فيه هذه الأحلام الرَّهيفة بطريقةٍ أكون غير قادر على الإمساك بها؛ لهذا أراني أمام عشرات عشرات الأفكار الشِّعريّة والقصصيّة والنُّصوص الأدبيّة المتنوّعة؛ وعلى مدى مساحات المراحل الَّتي حملتُ القلم، أراني منجذباً إلى مئات الأفكار والمشاريع الإبداعيّة، حتَّى أنّني أرى لو عشت ألف سنة فلا تكفيني لتجسيد ما يراودني من أفكار وتطلُّعات وأحلام متلألئة في خيالي؛ لأنَّ الأفكار تتوالد من بعضها بعضاً بطريقةٍ أكون غير قادر على إيجاد الوقت لصياغاتها وتحويلها إلى نصوصٍ إبداعيّة؛ فهي غزيرة ومتفرِّعة على مساحات شاهقة من الخيال، حتّى أنّني أجد نفسي عاجزاً عن استلهام جزء بسيط منها وتدوينه فوق ناصية الورقة، أو على الشّاشة الصَّغيرة، والَّتي أكتب نصوصي مباشرة منذ قرابة عشرين عاماً على برنامج الوورد الخاص بالكتابة، وقد سهَّل عليّ عمليّة الكتابة، فلا أستخدم الورقة والقلم نهائيّاً منذ سنوات، وأصبحت مفاتيح الحروف هي قلمي الَّذي أستخدمه، حتّى أنّني ما كنتُ أصدّق أنّ غابرئيل ماركيز وغيره من الكتّاب ممكن أن يكتبوا رواياتهم وقصصهم وإبداعاتهم على الآلة الكاتبة مباشرة كما قرأتُ عنهم، لكن بعد أن خضتُ تجربة الكتابة على الكومبيوتر مباشرةً، تبيّن لي أنَّ هذه العمليّة أكثر سهولةً وأكثر تدفُّقاً من القلم والآلة الكاتبة، ولا يوجد أي فرق بين القلم ومفاتيح الكتابة من حيث التَّعبير عن تجسيد الحالة الإبداعيّة؛ لأنَّ القضيّة وما فيها ترتكز على أنّنا أمام تدفُّقات أفكار تنساب فوق ساحة المخيّلة، ويجب تلقُّفها وترجمتها وصياغتها على الورق أو على الصَّفحة البيضاء من جهاز الكومبيوتر، وبرأيي أنَّ الكومبيوتر أسهل لترجمة هذه الإبداعات؛ لأنّني أكتب بالأصابع العشرة؛ فلا أجد إرهاقاً وضغطاً على الأصابع؛ لأنَّني عندما أكتب بالقلم أضغط على أصابع الإبهام والسّبابة، وأبذل جهداً في الكتابة؛ فأشعر خلال ساعة أو ساعتين أنَّ طاقتي في إمسكاك القلم في إرهاق شديد، حتّى أنّني أحياناً أشعر بنوع من الخدر في يدي اليمنى، وأمّا في حالة استخدام مفاتيح الكتابة فالضغط هو خفيف وموزّع على الأصابع كلّها، وهو أشبه ما يكون بعزف أغنية على آلة موسيقيّة أو على مفاتيح البيانو، حيث تعطي النّقرات إيقاعاً يدبُّ بالحياة والحركة والتَّفكير والمتعة وأنا أتلقّف انبعاثات وهجِ الإبداع، ولا أرى متعةً على وجه الدُّنيا تعادل نشوة انبعاث ولادة الإبداع، وتمنحني طاقات خلّاقة وقدرات مدهشة في الاستمراريّة على الكتابة، وهكذا فإنَّ بداية مشواري في الكتابة وُلِدَ من خلال شغفي بالكتابة والتَّعبير عمّا يعتريني من هواجس ورغبات دفينة في أعماقي، وتنامى شغفي مع الزّمن إلى أن وصلتُ إلى حدِّ الَّلاعودة من هذه الرِّحلة الممتعة مع عالم الحرف والأفكار وترجمة توهُّجات الخيال، وأشعر بسعادة عميقة تغمرني كلَّما أكتب نصَّاً جديداً، كأنِّي ذلك الطّفل وذلك المراهق والشّاب في أوج عمري وعطائي، وأزدادُ عودةً وغوصاً في عوالم طفولتي ومرابع الشَّباب عندما أكتب نصوصي، ومَن يتابعني يجدُ بكلِّ وضوحٍ أنَّ نسبةً كبيرةً من إبداعي تعود إلى الذَّاكرة البعيدة، وأنَّ الإنسان يحنُّ إلى طفولةٍ وشبابٍ مضى؛ كي يعيشَ ما فاته من الماضي بطريقةٍ حلميّةٍ جديدة، أو ربّما يرفض المبدع في عقله الضَّمني موضوع التَّقدم في العمر، والعمر أشبه ما يكون نسمة عابرة وسريعة، ولا يشعر المبدع بالعمر ولا بالزَّمن؛ لأنّه غالباً ما يكون خارج الزَّمن؛ لأنّه في حالةِ انغماسٍ متواصل مع التَّدفُّقات والتَّحليقات والمشاعر الَّتي تنتابه، فهو يعيش في حالة شبه دائمة مع عوالم تدفُّقاته الإبداعيّة، فيمرُّ الزَّمن ولا يشعر به إلّا وهو على أبواب الوداع الأخير، ولهذا أراني في الآونة الأخيرة في حالة تدفُّقات شرهة للكتابة، كأنِّي بهذه الشَّراهة أريد اختزال الزّمن والعمر والحياة؛ كي أترجم بعضاً أو كثيراً ممّا يعتريني، ويبدو أنَّ هذا الشُّعور بالفقدان والإسراع في ترجمته عبر نصوص هو نوع من التَّركيز على البقاء في الحياة؛ لأنّه يبدو وكأنَّ المبدع يريد لهذه الذّات أن تبقى في الحياة من خلال ما يترجمه من أفكار، مع أنّني لا أهاب الرَّحيل ولا أفكر نهائيّاً بموضوع الوداع الأخير، أكتب وكأنّني سأعيشُ إلى مدى الدَّهر؛ لأنَّ الموت هو نوع من الحياة من خلال الكلمة الَّتي كتبناها، سواء من حيث خلود الكلمة، أو من حيث امتداد الفكر والرُّؤى الَّتي نحملها بين أجنحتنا وتبقى مرفرفة على وجنةِ الحياة، وهكذا هناك عدّة طرق لاستمراريّتنا في الوجود، كما هو الأمر عند بعض الأنبياء والقدِّيسين والمفكِّرين والفلاسفة الكبار والشُّعراء والمبدعين الخلَّاقين بمختلف أجناسهم الإبداعيّة والفنّيّة، فهم بطريقة أو بأخرى كأنّهم أحياء وفي عالم الخلود من خلال الرّؤية والأفكار الخلّاقة الّتي قدّموها عبر إبداعهم على مدى سنوات عمرهم وتبقى حيّة وخالدة في الحياة، مادامت ستظلُّ متعانقة مع بني البشر جيلاً بعد جيل؛ ولهذا أجنح نحو تجسيد الأفكار الخلّاقة الّتي لها معنى شاهق في ترجمة إنسانيّة الإنسان، والوقوف في وجه الحروب والصّراعات والعنف والقتل والدّمار؛ لأنَّ الحياة جميلة وراقية بما نحمله ونترجمه من رؤية خلّاقة، والحياة رغم جمالها وأهمِّيتها، هي مجرّد رحلة قصيرة وعابرة على وجنةِ الزّمن، وما على الإنسان إلَّا أن يقدِّم أجمل ما لديه للحياة؛ كي يبقى موغلاً في أعماق الحياة على مدى الزّمن، وإلّا سيرحل مثلما يرحل أي كائن يدبُّ على وجه الدُّنيا؛ ما لم يحمل بين أجنحته فكراً خلَّاقاً مستنيراً؛ وما لم يقدِّم أبهى معالم الجمال والحب والفرح والعطاء المفيد لبني البشر بأقصى ما لديه من عطاءٍ عبر فضاء تجلّياته الإبداعيّة والمعرفيّة والفكريّة والرُّوحيّة والإنسانيّة الوئاميّة الرّاقية الّتي تصبُّ في رحاب أرقى حضارات البشر.

  1. ما هي الطُّموحات الّتي كانت تراودك بعد أن اجتزتَ امتحانات الصَّف الخاص؟

راودتني الكثير الكثير من الطُّموحات، إلى درجة أنّني كنتُ محاصراً بالطُّموحات منذ نشأتي وبداية شبابي حتّى الآن، حتّى أنّني أرى أنَّ الطّموحات سرقتني من الحياة بكلِّ بهائها وروعتها؛ لأنّني كنتُ مشغولاً بطموحاتي ودراساتي، ثمَّ غصتُ في متاهات فضاءِ الإبداع حتَّى النّخاع، وظللتُ أغوص عميقاً في هذه الجموحات ولذائذ الإبداع؛ إلى أن أصبحَ الإبداع محور حياتي، وأقصاني عن الحياة بكلِّ دقائقها وروعة تفاصيلها، وبرأيي أنَّ المبدعين والمبدعات الَّذين هم على هذا الإيقاع هم أكبر المظلومين والمظلومات في الحياة؛ لأنّهم يعيشون حالاتهم الإبداعيّة بعيداً عن الحياة بكلِّ بهائها وجمالها واحتياجاتها ولذائذها ومهامها؛ لأنَّ الحياة قصيرة جدّاً، ولا تتحمّل كلّ هذا الغوص العميق والتّوهان في عوالم الإبداع، وأرى الإبداع أشبه ما يكون محرقة المبدع نفسه، لأنّ الإبداع يحاصر المبدع حصاراً حارقاً، ويجعله أسير توهُّجاته الإبداعيّة، وكأنّ الحياة هي مجرّد حالات إبداعيّة لا غير؛ لهذا أرى من حيث التّحليل المنطقي ضمن هذه السِّياقات الانغماسيّة في مسارات الإبداع، أنَّ حياة المبدعين خاطئة خطأً من العيار الثّقيل، ويجب أن يتوازن المبدعون مع الحياة كما تقتضي الحياة كحياة ومعيشة واستمتاع بكلِّ ما فيها من جمال وخصوبة وعطاء وعشق وأسرة وترحال وسفر ولقاءات على كافّة المناحي، ولكن الإبداع كحالة لا يخضع لأي منطق، فهو يخترق المنطق نفسه؛ لأنّه حالة تجلِّياتيّة خارقة، ولا يمكن ضبطه ضمن معايير منطقيّة معيّنة؛ لأنَّ المبدع نفسه لا يتحكَّم بهذه الحالات، بل يبقى كما قلت أسير هذه الحالات الإبداعيّة، وكأنّه مدمن على الإبداع، ولا يجد متعته في الحياة إلّا عبر شغفه المتواصل مع ممارسة إبداعه، ومن هذا المنظور ممكن أن نعدَّ المبدع مريضاً أو مصاباً بمرض الإدمان على الإبداع، لكن الفرق ما بين إدمانه هذا وإدمان من يدمن على المخدّرات والقمار والغش والاحتيال والإفراط في الجنس شاسعٌ للغاية؛ لأنَّ إدمانه قائم على عطاءات خلّاقة، بينما بقيّة أنواع الإدمان، هي إدمانات هدّامة؛ لهذا أبيح لنفسي أن أكون مدمناً على الإبداع إلى أقصى درجات الإدمان من أن أكون مدمناً على المخدّرات أو القمار، وليس من السّهولة في هذا السِّياق أن يخلق المبدعون المدمنون حالات توازن في حياتهم، ويتوقَّف هذا الأمر على مدى انغماس المبدع نفسه في عوالمه الإبداعيّة، فهناك من المبدعين الَّذين يحبُّون التَّواصل مع المجتمع ومع الحياة، ويمارسون حياتهم بشكل رحب وجميل وممتع، كما هو الأمر عند الرِّوائي العراقي صموئيل شمعون محرّر مجلة كيكا ومجلّة بانيبال، فهو أشبه ما يكون بابن بطوطة العصر، كل أسبوع نراه في قارة ودولة وعاصمة، إلى درجة أنّني أراه مدمناً بامتياز على السّفر والتّرحال والبارات واللّقاءات ومعايشة الحياة أكثر من أي شخص عادي منغمس في الحياة، مع أنّه طوال عمره مشغول بالأدب والإبداع والكتابة وإصدار المجلّات وترويج الأدب والثّقافة الإبداعيّة الرّاقية، لكنّه استطاع أن يسخّر الإبداع لمتعه وفرحه، وينقل الإبداع من الجدران الأربعة إلى فضاء الكون من خلال لقاءاته وتواصله مع الحياة من بابها العريض، ويعجبني صموئيل شمعون كمبدع وروائي يعيش الحياة بكلِّ ما فيها من جمال ومتعة وتواصل وتعاون وعطاء، حتَّى أنّني أحسده على ما يستطيع القيام به من صولات وجولات في عواصم العالم، لكنّه حسد إيجابي على أيّة حال، وهو صديق رائع وراقٍ من الطّراز الرَّفيع، وكم مرّة وعدني هذا الصَّديق الجميل أنّه سيهديني سيارة من أحدث السِّيارات عندما يصبح غنيّاً، مرفقاً بوعده هذا قهقهة من قهقهاته الرّائعة، وهو في حقيقة الأمر كريم للغاية وذكي للغاية في وعده؛ لأنّه على هذه الطَّاسة والحمّام لن يصبح في حياته غنيّاًمادام هو في حالةِ عناقٍ محموم لزيارةِ عواصم الكون، وهو على ما أراه من أكثر المبدعين الَّذين لديهم صداقات في العالم؛ ولهذا أعتبره من أغنى الأغنياء، سواء أهدى إليّ سيارة أم درّاجة ناريّة أم كاساً من النَّبيذ المسكّر!  كما أعجبني المبدع الرّائع الصَّديق بدل رفو في تجوالاته إلى أصقاع العالم وكتابة نصوصه الرّاقية عن أدب الرّحلات، فكم يبهجني أدبه عن هذه العوالم البهيجة الَّتي يزورها ويكتب عنها بطريقة سرديّة راقية للغاية! .. وغيرهم كثير ممَّن يعيشون الحياة والإبداع معاً.

وهكذا نجدُ أنَّ الكثير الكثير من المبدعين غير راضين عن حياتهم؛ لما فيها من خسائر وتضحيات وفي الوقت نفسه نجد الكثير من المبدعين أو المهتمِّين والشَّغوفين بالإبداع، غاصوا في لذائذ الحياة وكنف الحياة الاجتماعيَّة والأُسريّة والحياتيّة، ويشعرون أنّهم فقدوا أجمل ما في الحياة؛ وهي طموحاتهم الَّتي راودتهم مراراً ولم يحقِّقوا منها إلَّا الجزء اليسير، وهكذا نجد أنَّ البشر بمختلف تصنيفاتهم؛ المبدعون منهم أو غير المبدعين غير راضين عن طريقة حياتهم بنُسبٍ معيّنة؛ ولهذا من الأهمّيّة بمكان أن يحقِّق المبدع نوعاً من التَّوازن، وكذلك من جمّد إبداعه عليه أن يعطي للإبداع حيّزاً من اهتماماته، وعلى هذا وذاك أن يخلقَ نوعاً من التَّوازن في حياته؛ كي يعيش الحياة، ويحقِّق أجمل ما يمكن أن يبدعه، وعموماً لا يمكن أن يحصد المبدع إبداعاً خلّاقاً، ويعيش الحياة بكلِّ رغائبها ومعالمها، فكلّ إبداع يأتي على حساب خسارات أخرى؛ ولهذا علينا أن نقبلَ أقلَّ الخسارات، وتختلفُ الخسارات من شخص إلى آخر، ومن جهتي أجدني خسرتُ خسارات فادحة في الحياة، وفشلتُ فشلاً ذريعاً في معايشة الحياة، لكنّي ربحت من جهةٍ أخرى كتابات ربّما تعادل أكثر بكثير ممّا خسرتُ في الحياة؛ لأنَّ كل ما نعيشه في الحياة يموت برحيلنا، ويبقى الإبداع مرفرفاً على وجنةِ الحياة إلى الأبد، حتّى ولو كانت حياتنا الَّتي عشناها سلسلة مريرة من العذابات، وعزاؤنا الوحيد هو أن يبقى إبداعنا ساطعاً وشامخاً على وجه الدّنيا على مرِّ السِّنين!

115- ما رأيك بواقع حال المرأة في الشَّرق، وواقع حال الرَّجل أيضاً؟

راودني هذا السُّؤال مراراً، وتحدّثتُ عن واقع المرأة مراراً، وواقع حال الرّجل ليس أفضل من المرأة في بعض جوانبه، فكلّما كان واقع المرأة مريراً؛ انعكست مرارته على الرّجل أيضاً؛ لأنّه مسؤول بطريقة أو بأخرى عن هذه المرارات، ومسؤول عن حلّ ومعالجة هذه المرارات، فكيف سيحقِّق الرّجل هذا التّوازن المخلّ في طينِ الحياة وفي إعداد الطَّريق للسير على مسار الحضارات؟؛ لأنَّ الرّجل الَّذي يظلم المرأة ليس ذلك الرّجل الموجود في قاع المجتمع، وليس ذلك الرّجل الموجود في المجتمع، فهو مسحوق أيضاً مثل المرأة، إن لم يكُنْ أكثر منها، وهو أيضاً ضحيّة انسحاق وتخلّف المرأة؛ لأنّ عليه تقع الكثير من التَّبعات، فمثلاً: في إدارة الأسرة وبناء الأسرة والزَّواج والتَّكفُّل بتمويل الأسرة غالباً ما تقع أغلب هذه المسؤوليات على كاهل الرّجل؛ على أساس أنّه ربّ الأسرة، ولا يعجبني اصطلاح عبارة ربّ؛ لأنّ الرّجل في وضعٍ لا يسمح له نهائياً أن يكون في موقع الرّب، لا معنىً ولا مكانةً ولا واقعاً؛ لأنَّ واقعه هشٌّ وميئوس منه؛ لهذا أرى أن الرَّجل أيضاً ضحيّة من ضحايا المجتمعات العربيّة المتخلّفة؛ لأنّه هو الآخر مقموع من قبل السُّلطات والأنظمة والقوانين الجائرة في حقِّ المواطن، ناهيك عن الظّلم الجائر على المرأة من خلال الكثير من القوانين والعادات والتَّقاليد السَّائدة في دنيا الشَّرق والعالم العربي، وكم أضحكُ عندما أجد بعض برلمانات الدَّول العربيّة تناقش التَّساؤل التّالي: هل قيادة المرأة للسيارة حلال أم حرام؟ وأجيب بدوري: أنّه لمجرّد أن يراود برلمان ما، أن يطرح هذا التّساؤل كافٍ أن أقول: أنّ برلماناً كهذا يعيش في عصر ما قبل الظُّلمات، في الوقت الّذي نرى كيف تقود المرأة في أوروبا البواخر والطّائرات والقطارات والشّاحنات وكل أنواع السِّيارات، وتقود السِّياسات بما فيها قيادة الاتّحاد الأوربي برمّته، أليس من العار والغرابة والنّكتة السَّمجة أن يتساءل برلمان ما في هذا العالم تساؤلكهذا؟! ويذكِّرني هذا التّساؤل بحالة أخرى أكثر ظلماً وقبحاً وانحداراً؛ وهو موضوع جرائم الشَّرف، والّتي تقود بعض العادات والتَّقاليد في بعض المجتمعات العربيّة إلى قتلِ المرأة عندما تتعرّض لجريمة اغتصاب وما شابه ذلك، والغريب بالأمر أنّهم يتركون الجاني الَّذي اغتصب المرأة ويقتلون المرأة؛ بحجّة أنّها جريمة الشّرف، ولا بدَّ أن يغسلوا العار، وقد نسي هؤلاء الّذين يقتلون المرأة أنّه من العار أن يتركوا الجاني ويقتلوا الضَّحية، وقد قلت في سياق هكذا استبيان منذ سنوات: إنَّ الّذي يقتل المرأة من منظور الدّفاع عن الشّرف ليس لديه ذرّة شرف! ولو عنده شرف، فليبحث عن الجاني، ويحيله إلى محكمة عادلة، ويحيل المرأة المغتصبة إلى أطباء نفسانيين؛ كي تتمَّ معالجتها من الصّدمة والهول الّذي لحقَ بها؛ لأنّها ستكون في حالة مريعة يُرثى لها!

المرأة لا تختلف عن الرَّجل في الإبداع والعطاء والعمل والإنتاج، خاصة إنتاج البشر، وأتمنّى من كلّ قلبي لو حبل الرّجل بقدرة قادر، وحمل الجنين في بطنه تسعة شهور، خاصّة الرِّجال الَّذين يظلمون المرأة؛ كي يعرفوا إلى أي مدى هذا الكائن الحنون الرَّاقي يتعذّب بإنجاب البشر كلّ البشر، فكلُّ البشر جاؤوا من رحم المرأة، وكلّ ما قام ويقوم به الرّجل في هذه المعادلة هو قيامه بمتعة عميقة وهو ينكح أنثاه، ثمَّ نجدها كيف بعد هذه المتعة تحمل جنينها في أحشائها تسعة شهور، وكم من النّساء يتمُّ ضربهنَّ وهنَّ حبالى وهنَّ مرضى وهنَّ في عشِّ الزَّوجيّة؛ لهذا على كل رجل أن يفكّر دقيقة واحدة أنّه بطوله وعرضه وجبروته وسلطته وصولجانه جاء من رحم المرأة؛ فمن العار عليه أن يظلم المرأة الّتي أنجبته وأنجبت البشريّة برمَّتها، ويهدر حقّها ثمّ يتساءل بكلِّ صفاقة: هل قيادة المرأة للسيارة حلال أم حرام؟ إنّه لمن الوقاحةِ ومن الجريمة بمكان أن نرى أو نسمع تساؤلاً كهذا يُطرح تحتَ قبّةِ البرلمان! .. برلمانات آخر زمن!

إذا أرادَ المجتمع الشَّرقي والعربي أن يتقدّم نحو الأمام، ويلحق بركب الحضارة العالميّة، ويحقِّق نجاحاً في تطوير مجتمعه وبلاده؛ ما عليه إلَّا تشريع قوانين ودساتير تعطي للمرأة والرَّجل حقَّيهما، ويعملان معاً جنباً إلى جنب؛ كي يتمَّ النُّهوض بالبلاد، وإلَّا سيبقى العالم العربي والشّرقي في حالةٍ يُرثى لها إلى أجلٍ مفتوح!

  1. ما سبب انحسار ثقافة الفرح والحب والسَّلام في الشَّرق وفي الكثير من أرجاءِ العالم؟

لقد “تاه الإنسان عن بهجةِ الفرح والحب والسَّلام في الكثير من أرجاءِ العالم، انخفاسٌ مرعب في خاصرةِ الكون، جنوحٌ مريع نحوَ خراب إنسانيّة الإنسان، ضياعٌ مخيف عن أهداف الوجود، توهان لا يخطر على بال عن جادة الصَّواب، يغوصُ العالم رويداً رويداً نحوَ القاع، ينزلقُ عميقاً، ينحدرُ إلى أسفل السَّافلين، من حيث انحسار وضمور ثقافة الفرح والحبِّ والسَّلام، مع أنَّنا الآن وعلى مستوى المعمورة قاطبةً، خاصَّة في الشَّرق والعالم العربي المرير، بأمسِّ الحاجة إلى تعليم وترويج وتعميق ثقافة الفرح وثقافة الحبِّ وثقافة السَّلام والوئام بين البشر كلّ البشر، ليس بالكلام فقط، بل بترجمة هذه الثَّقافة على أرضِ الواقع بالفعل، بحيث أن يكون هذا الهدف ضمن أهم استراتيجيّات الدُّول والبرلمانات في كلِّ أنحاءِ الكون؛ لأنَّي لا أرى على السّاحة العالميّة -وخاصَّة في دنيا العالم العربي وما يجاوره- سوى تفشِّي “ثقافة” الكراهيّة والبغض والحقد الدِّفين، وتفشِّي الحروب والصّراعات المجنونة بشكلٍ مرعب، وكأنَّ مجيء الإنسان في هذه الدَّول والكثير من الدُّول الَّتي على هذه الشَّاكلة، هو من أجل العذاب والألم والأنين والقتل والموت البغيض والكراهيّة المقيتة والانحطاط الفكري، إلى درجة أنَّ هذه الدُّول توحي لنا بممارساتها، وكأنّها لم تدخل في القرن الحادي والعشرين، بقدر ما عادت إلى العصور ما قبل الحجريّة بكثير!

والسُّؤال الَّذي يضع النّقاط على الحروف هو: هل من المعقول أنّه لا توجد قوى كونيّة، عالميّة، محلِّيّة إقليميّة، تفهِّم هؤلاء المهابيل وأنصافِ المهابيل والمهابيل إلى درجةٍ لا تُطاق، أنَّ كلَّ هذه الانجرارات نحو هذه البؤر العقيمة والمميتة من الدّمار واندلاعات النّار، ليست لصالح أيِّ طرف من الأطراف، بل هي لصالح بعض المرضى من بعضِ الأطراف الَّتي تؤيِّد هذه التُّرّهات السَّقيمة؟! فمنهم مَنْ يطبّق توجّهات خنفشاريّة لا تناسب أي بشر على وجه الدُّنيا، ومنهم مَنْ يتاجر بالسِّلاح ويريد افتراس النَّفط والغاز والإنسان وروعة الاخضرار والقائمة طويلة في استفحال الشَّراهات الافتراسيّة، ونسَي هؤلاء المفترسِين عن قصدٍ أو عن غباء، أنَّ الحياةَ لا تتحمّل كلّ هذه السَّخافات والصِّراعات القميئة الَّتي نراها متفشِّية في الكثير من أرجاءِ المعمورة، حتّى ولو كانت آلهة الآلهة تطرحها، فكيف لو طرحها بعض البشر الجهلاء؟!

نسَوا إنسانيّتهم، كينونتهم، نسَوا الأهداف والأخلاق والقيم النَّبيلة الَّتي من أجلها خُلِقَ الإنسان على وجهِ الدُّنيا، نسَوا أنَّ جوهر الحياة يتمحور في العطاءات الخلَّاقة الرَّاقية، وليس بالقتل والعنف والعنف المضاد المهيمن على وجه الدُّنيا بشكلٍ بغيض وغير مقبول لأيِّ عاقلٍ على وجهِ البسيطة!

نحن في القرن الحادي والعشرين، قرن “الآيفون” الَّذي لا يتجاوز بضع سنتيمترات، مع هذا يستطيع المرء أن يطلَّ من خلالِه على الكون برمّته عبر كبسة زر أو لمسة خفيفة، فكيف جنَّ جنون البعض وكأنّهم خارجون عن سير التّاريخ، وخارجون عن جغرافيّة هذا الزّمن، ليدخلوا في زمنٍ معشَّشٍ بالرّماد؟!

كيف لم يفهم هؤلاء أنَّ كلَّ فعل أحمق لابدَّ أنّه يُفَهْرس ويُسجّل ويوثّق في قائمة الغباء الأزلي بحقِّ الكثير من البشر الحمقى، من حيث تثبيت وتوثيق ما نراه ويراه الجميع، فلماذا لا يقف الإنسان في كلِّ بقاعِ الدُّنيا وقفةَ رجلٍ واحد، ضدَّ بعض الجهلاء، ويضعهم عند حدِّهم رغماً عنهم وعن ترّهاتهم، ويعالج عقدهم المستعصية على الحلّ، بأيّةِ طريقة من الطُّرق المناسبة للمجتمع البشري، قبل أن يستفحلوا في القارَّات، ويرشرشوا سمومهم بشراهةٍ مشينة على الكثير من أبرياء هذا العالم؟!

الرُّدود بسيطة والتَّبريرات كثيرة، تبريرات فعل الشَّر! ولكن مهما تكن التَّبريرات مقنعة أو محاججة للردِّ على تساؤلاتي، فإنّه من غير المقنع أن يهجر هؤلاء الفرح، الحبّ والسَّلام ويغوصوا في بؤرة الخراب والدَّمار ويركِّزوا على القتل والنّار وإشاعة الرُّعب في قلوب البشر. لا أرى أي هدف لكلِّ هذه الممارسات سوى تشويه الدِّين وتشويه صورة الإله نفسه، فهل من المعقول أن يسمحَ الإله ممارسات قميئة كهذه، وأسألهم: ماهي الغاية في قتلِ البشر وكأنَّهم يصطادون الفراشات بالشِّباك ويتمتَّعون بجمال الفراشة، أو كأنّهم في رحلة ترفيهيّة وهم يقصُّون رقاب البشر بقلبٍ بارد وحارق، ولا يمتُّ للإنسان والإنسانيّة بصلةٍ على الإطلاق؟ فإلى متى سيُتْرَكون هؤلاء يسيرون في متاهات غيِّهم وكأنّهم حالة طبيعيّة ومقبولة لدى البشر؟!

إنَّنا لو نظرنا إلى سلوكهم الفرحي وانتصاراتهم الوهميّة وهم يدحرجون جماجم البشر ويلعبون فيهم بأرجلهم ككراتٍ، سنجد أنّهم يحتاجون إلى ملايين الأطباء النّفسانيين؛ كي يقنعوهم أنّهم مرضى من العيار ما فوق الثَّقيل؛ لأنّهم لا يمكن أن يكونوا طبيعييِّن وهم يستمتعون بقتل البشر بهذه الطَّريقة المرضيّة، هذه اللّذة المرضيّة هي لذّة وهميّة عقيمة، وتولّد لهم حالات انفصام وخلل في المخِّ والمخيخ والذّاكرة والحياة؛ لأنّهم -أصلاً – لا يعيشون حياتهم حياةً  طبيعيّة، وإلّا لو فكّروا بالحياة الطَّبيعيّة؛ لكانوا طبيعيين، وبحثوا عن الفرح، والحبّ والسَّلام! وإنَّ كلّ كائن حي لا يركِّز عبر علاقاته وسلوكه وممارساته على هذا المثَّلث البديع: الحبّ، والفرح، والسَّلام مع الإنسان، ومع البشر كلَّ البشر هو إنسان مريض؛ ويحتاج إلى معالجة ما بعدها معالجة!”.

  1. أين كنتَ عندما تمَّ إصدار نتائج الصّف الخاص؟

كنتُ في ديريك مع الأصدقاء، في صيف (1976)، اتّصلت مع قسم النّسخ في مديرية التَّربية، وهناك كان أبو بول السّيد عيسى بولص يقدّم لنا خدمات جليلة، وخبَّرني أنّني من النَّاجحين؛ سررتُ لهذا الخبر، وقال لي: إنَّ أغلب الطُّلَّاب والطَّالبات نجحوا باستثناء عدد قليل حملوا بعض المواد، وسيقدّمونها كدورة استثنائيّة، ثمَّ أصبح الصَّف الخاص يخضع لنظام السَّنتين كمعهد إعداد المدرِّسين. دخلت في العام الواحد والأربعين منذ نجاحي في الصَّف الخاص، وهكذا تمرُّ السُّنون من مرافئ العمر وتبقى هذه الذّكريات ساطعةً في محراب الخيال، أشعرُ وكأنَّ الماضي البعيد حصل في زمنٍ آخر غير الزّمن الذَّي عشته، يبدو لي أحياناً بعيداً إلى مساحات لا تُحصى؛ من كثرة الأحداث الَّتي غمرت حياتي؛ ومن كثرة التَّشظِّيات الّتي خلخلت مساحات كبيرة من منعطفات عمري وحياتي، وفي الوقت نفسه أتذكّر تلك الفترة بالكثير الكثير من تفاصيلها، كأنّها حصلت منذ أيام من حيث التّذكُّر ومن حيث الوقوف عند بعض التّفاصيل المدهشة في تذكُّرها، خاصّة استعادة الأسماء والكثير من المتفرّعات الَّتي كانت تربطني في المكان والزّمان والصّداقات، أندهش جدّاً من ذاكرتي الحجريّة في الكثير من الأحيان، كأنّ المواقف والأحداث تمَّ تدوينها على الحجر، وظلّت ساطعة أمامي بكلِّ نقوشها الحجريّة، حاولت أكثر من مرّة أن أجري بحثاً لهذه الذّاكرة وتبيان سبب قدرتي على التّذكُّر بهذه الخصوبة الرّهيفة، خاصّة عندما أتذكّر مواقف من الماضي البعيد والّذي لا يمكن تذكّره حتّى ولو كان مكتوباً، أحياناً كثيرة أتذكّر حتّى النّأمة والحركة والهفوة والكلام العابر وبسمة من صديقة، ووردة قدّمتها زميلة، وتنفرش أمامي النّكات والقهقهات ومواقف بسيطة غير هامّة، لكن استحضارها يبدو لي بهيجاً وممتعاً للغاية، تشمخ أمامي بحفاوة وحميمية عميقة، وبعد مراجعة دقيقة لهذه القضايا المتعلّقة بالتّذكُّر تبيّن لي أنَّ الإنسان يتذكّر هذه الأمور أو أنا أتذكَّر هذه الأمور بعيداً عن لغة التَّعميم؛ لأنّه لا يمكن تعميم هذه القضيّة فيما يخصُّ الذَّاكرة والتَّذكُّر؛ فكلُّ إنسان له طريقته في التّذكُّر، فبالنّسبة إليّ يبدو أنَّ محطَّات العمر الّتي أتذكَّرها  بكلِّ حضورها وتفاصيلها ناجمة عن مدى تفاعل الرُّوح والخيال والعقل والشُّعور واللَّاشعور في كلِّ هذه التّفاصيل؛ لأنّني عندما التقطُها في سياق نصوصي وكتاباتي وحرفي أشعرُ ببهجة عميقة تغمرني، حتّى وإن كانت بعض المواقف مؤلمة وحزينة للغاية، فمجرّد أن أتذكَّرها؛ تمنحني بهجةً غامرةً، وتطفحُ من عينيّ دموعُ الحنين، وأشهقُ وكأنّني ماثلٌ أمامَ الحدث، وكأنّي أعيشُ اللّحظات ذاتها لحظة كتابتها وتجسيدها على شاشة الكومبيوتر، وتبيّن لي أيضاً أنّني كنتُ وما أزال أخبِّئ كلّ ما أتذّكره بهذا الوضوح والتّفاعل والكثير من الدّقة، ناجمٌ عن استرخاء هذه الحميميات بكلِّ تنوُّعاتها بين مروج الرُّوح، وأشعر وكأنَّ للروح ذاكرة، فهل للروح ذاكرة؟ هذا سؤال موجّه لعلماء النّفس وعلماء اللَّاهوت والرُّوحانيّات، وهل عندما يتواصل المرء مع الذَّاكرة البعيدة كأنّه يتواصل مع روحه ومع ذاته؛ لهذا تزداد الذُّكريات سطوعاً وتذكُّراً، وهل حواري مع الذَّات هو نوع من تفعيل الذَّاكرة وتجسيدها عبر الذَّات الحاضرة كنوع من استعادة الماضي وخلقه من جديد، وبالتَّالي تدوينه عبر الحرف على الورق؛ كي يبقى شامخاً إضافة إلى سطوعه في الذَّاكرة، وهل هو شعور عميق بأهمِّية أن يتمَّ تدوين هذه الذِّكريات الحميمية؛ حبّاً في أن تبقى في الحياة بعد الرَّحيل، وهو نوع من إصرار الإنسان على أنّه باقٍ في الحياة رغم رحيله حتّى ولو عبر حرفٍ ظلَّ ساطعاً عبر الذّاكرة وبهاء الرُّوح وقد آن الآوان أن يغفو فوق يراع القصيدة بكلِّ تجلِّياتها من خلال انبعاث هفهفات بوح الذّاكرة المنبلجة فوقَ منارةِ طينِ الحياة الآن وبعدَ الآن؟!

ذلك هو السّؤال، وهو من أهم محاور حوار مع الذَّات! فهل تمكَّنت أن أوصلَ المرسال عبر حيويّة الذّاكرة المتناغمة مع بوح الرُّوح وتجلّيات حنين الذّات المبرعمة من جديد عبر احتضان حبور الذَّاكرة البعيدة؟

  1. أين كنتَ عندما صدر قرار تعيينك في إحدى المدراس الابتدائيّة بعد تخرّجك من الصَّف الخاص؟

كنتُ قبل إصدار قرار تعييني بأسبوع في دمشق، وقضيتُ قرابة شهر في ربوعها، “وقد شعرتُ بعد صدور نتائج الصَّف الخاص، أنَّ لوزتيَّملتهبتان، تناولت الكثير من الحبوب وبعض الإبر من دون أيّة فائدة، نصحني بعضهم أن أجري عمليّة لوزات خلال الصَّيف قبل افتتاح المدارس، فوجّهت أنظاري نحوَ دمشق، حيث كان أخي نعيم يؤدّي الخدمة الإلزاميّة، وكانت أوّل مرّة أرى دمشق، يا إلهي دمشق عاشقة لا تنام!

توجّهت من سوق الحجاز نحو طبّالة عن طريق باصات طبّالة جرمانا، نزلت في موقف طبّالة، شارع دويلعة، وهناك وجدت عشرات الشَّباب من ديريك، فدلُّوني على بيت أخي نعيم، أخذني بالأحضان، وكان الصَّديق سمير حماوي مستأجراً معه، بعد فترة راجعت الطَّبيب وعاينَ لوزتيَّ، ثمَّ طلب منّي أن أزوره مرّة أخرى؛ لتحديد موعد لإجراء عمليّة لاستئصال اللَّوزات!

حاول نعيم أن يقنعني بفكرة إلغاء إجراء العمليّة، ونجح في إقناعي؛ كي نتمتّع في الوقت بدلاً من أن نصرف كلّ هذه المصاريف على إجراء العمليّة، مؤكّداً لي أن التهاب اللَّوزات يحصل مع أغلبنا، وسوف تتشافى اللَّوزات مع الزَّمن، ونستطيع أن نقضي وقتاً ممتعاً في دمشق خلال فترة وجودي، وستتحسّن لوزتاي من خلال تغيير الجو. اليوم نستطيع أن نذهب إلى السِّينما خلال المساء، وأعرّفك على معالم الشَّام، وغداً سآخذك إلى باب توما؛ كي نتمشّى في أزقّتها الضَّيقة الجميلة وبيوتها القديمة الملاصقة لبعضها بعضاً، وسأريك كنيسة حنانيا والبطريركيّة، ثمّ سنذهب إلى شارع القصّاع، ستجد أجمل جميلات دمشق، ستطيب لوزتاك من دون أيّة عمليّة! ضحك سمير حماوي، فيما كان يسمع مخطَّط أخي نعيم.

…. … أخذنا ليلاً باصات الحجاز، ثمَّ مشينا في قلب المدينة متوجِّهين نحو ساحة المرجة، ومن هناك نحو سينما الكندي، كان جبل قاسيون يعانق السّماء، حضرنا فيلماً لغوَّار الطَّوشة، مليئاً بالمقالب والفكاهات، خرجنا ونحن نضحك، ثمَّ تناولنا سندويشة فلافل وكأس عيران، وتمشَّينا في المدينة، كنتُ شغوفاً بقراءة آرمات المحلَّات والفنادق والمطاعم، تجذبني أنواع الخطوط؛ لأنّني خطّاط ومولع بأنواع الخطوط، ثمَّ أخذنا باص طبّالة، حيث كان سمير بانتظارنا؛ لتناول طعام العشاء!

قضيتُ وقتاً طيّباً في دمشق، نسيتُ الهدف الَّذي جئت من أجله، حتّى أنّني شعرت أنَّ لوزتيَّ في تحسُّن مستمر، وخفَّ التهابهما كثيراً، ظلَلْتُ في دمشق حتَّى قبل صدور قرار تعيين المعلِّمين بأسبوع، أعطيت لنعيم أغلب ما تبقّى معي من فلوس، وقطعت بالبولمان المتّجه نحو القامشلي، وتركت مصروف طريق فقط معي، وإيجار طريق للذهاب للحسكة والعودة إلى ديريك.”.

وصلتُ إلى ديريك بعد رحلة ممتعة في ربوع دمشق، وبعد أسبوع صدر قرار تعيين دفعتنا من الصَّف الخاص، فوجّهتُ أنظاري نحو الحسكة، التقيتُ بالعزيز أبو بول؛ رئيس قسم النَّسخ، وبلّغني أنَّ قرار تعييني تمَّ مبدئيّاً في مدرسة محركان؛ وهي قرية تابعة لقبور البيض، مؤكّداً لي أنَّ موضوع نقلي إلى قرية تابعة لديريك سهل، لكن لا بأس أن تباشر بالعمل في مكان تعيينك، ثمَّ سنعالج موضوع نقلك إلى أطراف ديريك، تسلَّمتُ قرار تعييني، وودّعته وودَّعتُ ابنته ختام الّتي كانت تعمل معه، ووجّهتُ أنظاري نحو محركان!

  1. كيفيّة التحاقك بابتدائيّة محركان التَّابعة للقحطانية، قبور البيض؟

بعدَ أن “صدر قرار تعيين المعلمِّين والملِّعمات، وكان تعييني في مدرسة محركان التّابعة لقبور البيض، تسلَّمت قرار تعييني، وتوجّهت نحو قبور البيض، ثمَّ أخذت سيارة أجرة من قبور البيض إلى محركان!

التقيت مع مختار القرية، دعوتُ عن طريق المختار إلى اجتماع سريع عند المختار لبعض أولياء التَّلاميذ؛ ولبّوا دعوتي، فتحتُ أبواب المدرسة، كانت المدرسة تتألّف من غرفتين من اللّبن: غرفة صغيرة للمعلّم، وغرفة صف كبيرة للتلاميذ، طلبتُ من المختار أن يكلِّف بعض أولياء الطُّلَّاب بأن ينظِّفوا المدرسة، ويمسحوا الأرض والجدران، ويكلِّسوا الجدران بالكلس؛ كي تكون نظيفة، وأعطيتهم مهلة ثلاثة أيّام، وفعلاً بدأ -بعد ساعات- العمَّال بالعمل بهمّة كبيرة، دعاني المختار إلى الغداء، ورحّب بي بعض وجهاء القرية، وتناولنا الغداء، ثمَّ زرنا كنيسة مار جرجس في محركان. أشعلت شمعة هناك بنيّة أن أنتقل من محركان إلى أقرب قرية متاخمة لديريك!

داومتُ يومَين في مدرسة محركان، ثمَّ عدتُ أدراجي إلى الحسكة؛ كي أنتقل إلى أقرب قرية من ديريك”.

هل من المعقول أن تمرَّ كلّ هذه السَّنوات وتبقى محركان شامخة في ذهني مع قبّة كنيستها المقدَّسة مارجرجس، مع أنَّني لم أبقَ فيها سوى يومَين فقطـ، ومع هذا لمجرّد أن ينتقل لفظ محركان إلى ذهني، أشعر بحنين عميق إلى هذه القرية الّتي كانت الخطوة الأولى في تعييني معلّماً في الحلقة الابتدائيّة، معَ أنّني لم أعلّم يوماً واحداً في ابتدائيّة محركان؟ كم كان الأهالي يحملون طيبةً ورغبةً عميقة في المساعدة والتَّكاتف والتَّعاون، تحيّة إلى كلِّ أبناء محركان وإلى أبنائها الَّذين توزّعوا من هناك إلى الكثير من بقاعِ العالم!

  1. كيف انتقلت إلى قرية خربة عدنان خلال أيام قلائل؟

ذهبتُ إلى مديريّة التّربية في الحسكة؛ كي أرتّب موضوع نقلي، التقيت من جديد مع رئيس قسم النَّسخ؛السيّد عيسى بولص أبو بول، وناقشت معه موضوع نقلي من محركان، فقال لي: نقلك إلى ديريك بالذّات صعب مباشرة، ولكن ممكن أن يتمَّ نقلك إلى قرى قريبة من ديريك.

أنا أريد في البداية أن أنتقل إلى قرية قريبة من ديريك. أخذَ قرار تعييني ومباشرتي بالعمل، وذهبنا معاً إلى مدير التّربية، قدّمني على أنّني معيل لأسرتي وأحد أقربائه، ويعرف وضعي معرفة جيّدة، وطلب من مدير التَّربية نقلي إلى أقرب قرية من ديريك، فقال له مدير التَّربية: ولكن الأستاذ معيّن بمدرسة محركان منذ أيّام، أجابه أبو بول: أن ينتقل الآن أفضل من أن يتمَّ نقله بعد شهر أو شهرين؛ كي يباشر بطلّابه على مدى العام كله! طيّب دقيقة، نظر مدير التَّربية إلى الشَّواغر في القرى التَّابعة لديريك وقال: هل يناسبك يا أستاذ أن تنتقل إلى مدرسة خربة عدنان؟

أيوه أستاذ، يناسبني تماماً!

فتمَّ نقلي إلى قرية خربة عدنان!

أصدر مدير التَّربية قرار نقلي مباشرة بخطِّ يده، وأخذنا قرار نقلي إلى قسم النَّسخ ودقَّت ختام، ابنة أبو بول، القرار، لأنّها كانت تعمل في قسم النّسخ أيضاً، ثمَّ عدْتُ أدراجي إلى محركان ثانية، وقدّمتُ انفكاكي وختمتُ انفكاكي بختم المدرسة وظلَلَت تلك اللَّيلة في محركان، وفي اليوم الثَّاني قلت للمختار: سأتوجّه إلى ديريك وأعود قريباً للمباشرة في العمل فيما إذا بقيت مستمرّاً في تعييني على قيود مدرستكم، ولم أخبره عن موضوع انتقالي؛ كي لا أصدمه!

أجابني: عفواً أستاذ، نحن نريدك في مدرستنا، وستلقى كلّ الحبّ والتَّعاون، تفضَّل ألقِ نظرة على المدرسة، أصبحت مثل العروس!

كانوا فعلاً قد نظّفوا المدرسة وكلَّسوها بحسب طلبي، وقبل أن أنطلق من محركان باتجاه قبور البيض، جاءني ولي أمر أحد الطُّلاب وطلب منّي أن أزوِّده بشهادة نجاح أحد الطُّلاب الرَّاسبين في الصَّف السّادس العام الماضي، فقلت له: أنا ما كنتُ العام الماضي معلمّاً في هذه المدرسة، بأيِّ حقٍّ سأزوِّدك بوثيقة كهذه؟إنَّ مدير التَّربية نفسه لا يستطيع أن يزوِّدك بوثيقة، فقط المعلّم الَّذي درّس تلاميذ هذه المدرسة العام الماضي هو الوحيد الَّذي يستطيع تزويدك بوثيقة نجاح.

أجابني: نعم، زوَّدنا بوثيقة راسب للطالب، فقلت له: إذاً يجب على الطَّالب أن يداوم في صفّه، ولو اجتهدَ؛ سأزوِّده بوثيقة نجاح في هذا العام!

شكرني، ثمَّ ودَّعني، وأنا وجّهت أنظاري نحو القحطانة، ومنها إلى ديريك!

وضعتُ قرار انفكاكي في بريد قبور البيض، وفيما كنت أنتظر على الطَّريق العام، وجدت سيارة تاكسي تتوقَّف من تلقاء نفسها، نزلَ منها أحد الرُّكاب في قبور البيض، وصعدتُ بدوري في مكانه متوجّهاً نحو ديريك بسرورٍ كبير!

… وصلتُ إلى ديريك عصراً، ثمَّ “ذهبتُ باكراً في اليوم التَّالي إلى مدرسة خربة عدنان، والَّتي كانت تبعد بحدود ساعة أو أقل سيراً على الأقدام. كتبتُ مباشرتي بالعمل، وختمتها بختم مدرسة خربة عدنان، وأرسلتها عن طريق بريد ديريك إلى مديريّة التَّربية بعد عودتي من الدَّوام.”.

كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري يوسف.. في حوار مع الذّات .. ألف سؤال وسؤال – الجزء الثَّاني – من السؤال – 100 إلى السؤال – 110-..

اسم المؤلِّف: صبري يوسف
عنوان الكتاب:حوار مع الذّات، ألف سؤال وسؤال
الجزء الثَّاني
حوار
الطَّبعة الأولى: ستوكهولم 2017
الإخراج، التَّنضيد الإلكتروني، والتَّخطيطات الدَّاخليّة (المؤلِّف)
تصميم الغلاف الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو
صور الغلاف للأديب التَّشكيلي صبري يوسف
حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف

دار نشـر صبري يوسف
[email protected]
FB: Sabri Yousef
(محرر مجلة السلام)

Sabri YOUSEF
Storbyplan 27 BV
163 71 Spånga SWEDEN
الإهداء:
أهدي هذا الحوار الموسوعي:
“حوار مع الذّات، ألفُ سؤال وسؤال”،
إلى كلِّ إنسانٍ يسعى إلى تحقيق
السَّلام والوئام بين البشر
في كلِّ بقاعِ الدُّنيا

مُقَدِّمَة

أحاور ذاتي بذاتي؛ لأنَّني لن أجد محاوراً على وجه الدُّنيا ممكن أن يفهم ذاتي مثلما أفهمها، ولا يستطيع أيُّ صحافي في الكون أن يضع أسئلة تغوص في عوالمي العميقة الّتي ممكن أن أقدّمها أنا نحو ذاتي؛ لهذا قرّرتُ -وأنا أعبر عتبات السّتين- أن أحاور ذاتي ألفَ سؤالٍ وسؤالاً، ألخِّصُ عبر تساؤلاتي آرائي وتطلُّعاتي وآفاقي في الحياة، ما دام لم ولن أجد من يحاورني بهذا الإيقاع، ولا من يحاور بهذه الطَّريقة الشَّاملة الشَّفيفة العميقة الرَّهيفة، ولا يمكن أن تخطر على بال أيِّ صحافي أو محاور؛ لهذا وجدتُ نفسي مندفعاً لهذا الحوار بكلِّ تفاصيله، الَّذي سيكون خلاصة فهمي لنفسي أولاً، وللحياة ثانياً، ولأدبي وفكري وفنِّي ثالثاً وأخيراً، ويبدو لي أنّنا نحنُ البشر لا نفهم أغلب الأحيان ذواتنا، كما لا نفهم ذوات الآخرين في الكثير من الأحيان؛ لأنّنا غامضون عن أنفسنا؛ وبالتَّالي سنكون غامضين عن الآخرين أيضاً.
من هذا المنطلق أودُّ أن أغوص عميقاً في حيثيات حواري مع الذّات؛ ذاتي، وأحاول كشف المستور إلى أقصى الحدود، خاصّة ما يتعلَّق بالحياة، والكون، والطُّموح، والآمال، والأحلام، والأهداف، والإبداع، والحبّ، والطُّفولة، واليفاعة والشَّباب، ورحلتي الفسيحة في الحياة، تاركاً نفسي تحلِّق في أقصى ما يمكن أن يُقال؛ كي تكون مكنوناتي عبرةً لغيري على مرِّ الزّمان؛ لأنَّ البشرَ عبارة عن آمال وأهداف وطموحات متماثلة في الكثير منها مع البشر، لكن الكثير من هذه الآمال تنمو في دواخلنا، تكبر وتكبر وتبقى حبيسةً في داخلنا، نرحل عن الحياة وتبقى غارقة في دواخلنا، فلماذا لا نكشفها قبل أن نرحل، ونعرضها للأجيال؛ كلِّ الأجيال القادمة عبر كلّ العصور؟!

صبري يوسف


ــــــــــــــــــــــــــــــ
حوار مع الذَّات
ألف سؤال وسؤال
الجزء الثّاني

101.لماذا التحقتَ بالصَّف الخاص مع أنَّ معدّلات النَّجاح كانت تخوِّلك للالتحاق بالأدب الإنكليزي، وسائر المواد النَّظريّة من: حقوق، وفلسفة، وأدب عربي، وسائر المواد الاجتماعيَّة؟
قرّرت بعد نجاحي في الثَّانويّة العامّة، القسم الأدبي أن ألتحقَ بالصَّف الخاص، كأقرب طريق إلى تأمين لقمة الخبز؛ على أمل أن أخطِّط لاستكمال دراساتي الجامعيَّة لاحقاً بعد الانتهاء من دراسة الصَّف الخاص، ولم أتمكّن من متابعة دراستي في قسم الأدب الإنكليزي الَّذي كنتُ شغوفاً به إلى أبعد الحدود؛ بسبب الظّروف الاقتصاديَّة الصَّعبة؛ حيث دراسة أربعة سنوات متواصلة في جامعة حلب أو دمشق ترهق كاهل الأسرة، المرهق بالأساس؛ ولهذا أقلعت كلِّيّاً عن التّفكير بدراساتي الجامعيَّة؛ لأنَّ الموضوع كان بالنّسبة إليّ محسوماً، ولا يتحمَّل أيَّ نقاش؛ لأنّ أوضاع إخوتي الأكبر منّي كانت صعبة أيضاً، ولا يمكن لأيِّ واحد منهم أن يخصِّص مبلغاً ما من راتبه لمتابعة دراساتي الجامعيّة؛ لهذا قرّرت الالتحاق بالصّف الخاص دورة (1976م) وكانت آخر دورة لنظام السَّنة الواحدة، وقد شجّعني على الالتحاق أكثر أنَّ مديريَّة التَّربية كانت تمنح الطَّالب شهريّاً مبلغ مائة وعشرين ليرة تقريباً أثناء دراسته، وكان هذا المبلغ يكفي لإيجار غرفة ومصاريف خفيفة، وهكذا ما كان عليّ سوى أن أدرس الصَّف الخاص، حسماً للظروف الّتي كنت أمرّ بها، مع أنّه لو تمَّت دراسة وضعي داخل الأسرة، وكوني كنتُ متفوّقاً وشغوفاً ومتحمّساً لدراسة الأدب الإنكليزي، لكان ممكناً حلّ هذا الأمر، حتّى ولو تطلّب الأمر استدانة كامل مبلغ المصاريف المترتّبة عليّ على مدى أربع سنوات، علماً أنّني كنتُ أعمل في عطلة الصّيف، ولكن بعض الأسر الفقيرة المخلخلة تزداد حلولها خلخلةً في مثلواقعكهذا، ولا يفكِّرون بالحلول أصلاً، ولو تابعت دراساتي في حينها بالجامعة؛ لكانت حياتي ستتغيَّر جذريّاً؛ لأنَّ الدِّراسة ما كانت مهمّة عندي فقط، بل تحقيق رغبتي في متابعة الدِّراسة كانت أكثر أهمّيَّةً. وهكذا اضطررت أن أقلب هذه الصّفحة؛ نظراً للضغوط الَّتي كنت أمرُّ بها، والطَّريف بالأمر أنَّني في صيف (1975م) وبعد حصاد البيقيا، التحقتُ بالعمل مع عمِّي في البناء أنا وابنه شكري، وقد اشتغلت (30) يوماً متواصلاً عدا أيام الأحد؛ كي أوفّر بعض المال لمصاريفي في الصّف الخاص، وبعد أن عملت (30) يوماً، قال لي عمِّي: يا بني،) لك عندي (300) ليرة سورية مقابل (30) يوماً، وقد طلبتُ ديوني من أخيك الكبير، حيث استدان منِّي (500) ليرة سورية أثناء زواجه منذ شهرين، فقال لي: تستطيع يا عمي أن تقتطع (300) ليرة الَّتي عملها معك صبري من ديوني، فقال عمِّي: سأخبِّر صبري بهذا الأمر، وفعلاً خبّرني وشعرتُ أنّني محرج جدّاً؛ حيث كنت في موقف أن يساعدني عمّي وأخي وكلّ الأسرة، وإذ بهم يوجّهون أنظارهم نحو ليراتي القليلة الَّتي أنتجتها كعامل بناء، وافقت من منظور التَّعاطف مع أخي، ومن جهة أخرى لم أرِدْ أن أحرجَ عمّي، لكنّي شعرتُ وكأنَّ زلزالاً وقعَ فوق رأسي؛ لأنّني بعد شهرين سألتحق بالصّف الخاص، وأحتاج لبعض المصاريف الجانبيّة، ولم يكُنْ معي مصاريف تغطية إيجار سيرفيس تاكسي من ديريك إلى الحسكة؛ لأنّ الصَّف الخاص كان في مدينة الحسكة، وهكذا ذهب جهد ثلاثين يوماً لتسديد ديون أخي، وشعرتُ بالأسى والحزن العميق، وأستغرب كيف يوافق المرء في الشَّرق نتيجة تربية وعلاقات أسرويّة، وكرمال فلان وفلان و ….، كيف يوافق على هضم حقّه، ولا يناقش، ولا يطالب بحقّه؟ برأيي كان من المفروض أن أرفض رفضاً قاطعاً هذا الأمر، وأقول لعمِّي: يا عمِّي، من جهتي أريد مساعدة أخي، وتسديد قسماً من ديونه، لكنّي أحتاج لهذا المبلغ أكثر من تسديد ديونه، وبإمكانه هو أن يسدِّد لك ديونه من راتبه وعلى مراحل إلى أن يصفِّي ذمّته، ولكن العادات والتَّقاليد الشّرقية السَّخيفة الَّتي كما قلت في جواب آخر تقولب المرء بعادات غريبة الأطوار أحياناً، ومسايرة هذا وذاك، ولا ينشأ الطّفل والمراهق والشّاب على بناء شخصيّة مستقلّة، عمليّة ومنطقيّة، لهذا نراه يقع في أخطاء مريرة، مع أنّني في أعماقي شعرتُ أيضاً أنّني قمتُ بواجب أُسري معيّن؛ وهو تسديد جزءٍ من ديون أخي، لكن هذه المشاعر لو درسناها بدقّة لوجدنا أنها مشاعر مريرة من حيث النّتائج، فما فائدة أن يشعر المرء أنّه قام بواجبه تجاه أخيه وأسرته، وهو نفسه محطّم، وفي حالة يُرثى لها؟ ما فائدة أنّني قمت بواجبي تجاه الأسرة، ولا أقوم بواجبي تجاه حقّي في الحياة، وأنا بأمس الحاجة إلى هذا الحق؟! لهذا أرى أنّ مسألة التَّضحية -كفكرة في هذا السِّياق- هي مسألة سخيفة من حيث المنطق، ولو درسنا حتّى مسألة التَّضحية في قضيّة الدّفاع عن الوطن وما شابه ذلك من تضحيات، فإنها برأيي مسائل سخيفة وتافهة جدّاً في الكثير من الوجوه؛ لأنَّ الوطن – أيَّ وطن على وجه الدُّنيا- من المفروض عليه أن يدافع عن المواطن وكيان المواطن؛ لأنَّ الإنسان أغلى من أوطان الكون برمّتها، وكل الحروب الّتي نشبت في العالم، وكل الَّذين ضحَّوا بأنفسهم؛ دفاعاً عن الوطن، هو دفاع سخيف والحروب سخيفة والأهداف سخيفة أيضاً؛ لأنَّ الَّذين ضحَّوا بأنفسهم ماتوا، والوطن ما يزال وطناً، وهو باقٍ سواء ضحَّى فلان أو لم يضحِّ، لهذا أعدُّ كل سياسات العالم من دون أي استثناء عندما تضحِّي بمواطنيها وتزجّ بهم في حروب، ويتعرّضون للقتل، سياساتٌ فاشلة، ولا تفهم بالسِّياسة إطلاقاً؛ لأنَّ السِّياسة الرّشيدة والحكيمة والحضاريّة والإنسانيّة، عليها أن تخطِّط كيف تحافظ على بنيها ومواطنيها وتجنّبهم الحروب، وهذا الموضوع شائك وطويل، ولا يمكن وضع النِّقاط على الحروف على عجالة؛ لأنّ الإنسان مهم، وحقوقه مهمّة؛ لهذا أتساءل: لماذا أعمل (30) يوماً ليل نهار وأنا الشّاب الضَّعيف البنية، وبأمس الحاجة إلى نتاج عملي؛ أقدّمه لتسديد ديون أخي؟ .. وإن السُّكوت على حقٍّ كهذا هو ثقافة شرقيّة سخيفة، والتَّعاون في مواقف كهذه، هو تعاون قائم على الظّلم، فلماذا الأسرة والأسرة الكبيرة لم تتعاون معي وتدعمني وتقدِّم لي المساعدة بأيّة طريقة؛ كي أستكمل دراساتي؟!
لا شك أنَّ التّعاون ومساعدة الأهل مهم وضروري؛ لكن عندما يتمكّن المرء من القيام بهذا التّعاون، وهكذا عدتُ إلى نقطة الصّفر، وعملت شهراً كاملاً آخر، واتفقت مع عمِّي بأن يسلِّمني حقِّي لي؛ كي أقدِّم أوراقي وقال ابن عمي شكري لوالده: عليك أن تعطي (300) ليرة سوريّة مقدِّماً لصبري؛ لأنّه يحتاجإلى هذا المبلغ الآن، وسيسدِّده لك بالعمل، وقدَّم لي (300) ليرة قائلاً: تفضّل، دبّر أمورك في هذه الفلوس، وتستطيع أن تعمل معي لتسدّدها على راحتك! قبضت (300) ليرة، وبعد أن تمَّ فتح باب التَّسجيل في الصّف الخاص، ذهبت إلى الحسكة وسجَّلت في الصّف الخاص، اندهشَ أمين السّر عندما شاهد علاماتي، لكنّه عرف أنّ الظّروف جعلتني أطرق هذه الأبواب، وتمَّ قبولي مباشرةً، وبدأتُ أرتّبُ أموري؛ لأخوضَ مشوار رحلتي الجديدة!
102. تقدّمت إلى الصّف الخاص، وفي أعماقِكَ غصّة الغصَّات؛ لأنّك لم تتابع دراسة الأدب الإنكليزي!
فعلاً تقدّمتُ إلى الصّف الخاص وفي أعماقي غصّة الغصّات؛ لأنّني لم أتابع دراستي في قسم اللُّغة الإنكليزيَّة، وقد اضّطررت للالتحاق بالصّف الخاص؛ منصاعاً للظروف القاسية الّتي تتحكّم بمصيري ومصير آلاف الطّلاب والطَّالبات أمثالي، وبهذا السِّياق أودُّ أن أشير إلى أنًّ تأمين حقّ الطّالب في مواصلة دراساته في أيِّ تخصُّص من التَّخصُّصات واجب يقع على الدَّولة ذاتها في أيّة دولة من دول العالم، حتَّى ولو كان تقديم المساعدة للطلَّاب والطّالبات كقروض؛ لأنّ الدُّول الّتي لا تهتمُّ بطلَّابها وطالباتها دول متخلّفة، وستبقى متخلّفة مهما حاولت اللِّحاق بالدّول المتقدِّمة، والغريب بالأمر أنَّ سوريا مثلاً والعراق تعدَّانِ من الدّول الغنيّة والنّفطيّة وخاصّة العراق المعروف بقدراته النّفطيّة العالية، ومع هذا نراهما يرزحان تحت وطأة القحط المريع الآن، وقد عادا مئات السِّنين إلى الخلف اقتصاديّاً وسياسيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً، وعلى أكثر من ألف صعيد وصعيد! أَمَا كانت الأموال الّتي هُدِرَت في هذه الحروب العقيمة تكفي لتدريس آلاف بل ملايين الطُّلاب والطَّالبات منذ نشوء الدَّولتين حتّى تاريخه، فلماذا لم تقدِّما ومعهما بقيّة الدُّول العربيّة لمواطنيهم كلّ ما يحتاجونه من رعاية واهتمام ودراسة؟! بل تزجُّ بالمواطنينفي حروب جوفاء عقيمة مريرة، أقل ما يمكن أن أقول عن صانعيها ومصنِّعيها: إنَّهم مجانين من الطّراز الرّفيع.
كم أشعر بالحزن والأسى والأنين عندما أرى واقع الحال السُّوري والعراقي وأغلب العالم العربي وما يجاوره بهذا الشَّكل المزري، لماذانرى دولة مثل السُّويد لها حضارة حديثة العهد؛ وحضارتها ليست آلاف السِّنين بل هي مئات السّنين، ولا نفط عندها ولا غاز، ومع هذا كل طفل يولد في السُّويد، لمجرّد عنده الإقامة في السُّويد له كلّ الحق في العيش، والحياة، والطّبابة، والدّراسة، حتّى ولو وُلِد ولادة غير شرعيّة، وتُعِدُّه الدَّولة السّويديّة طفلاً شرعيّاً، ويولد في أفضل مستشفى ولادة طبيعيّة، ويتمُّ تسجيله في اسم أمّه لو لم تتمكّن من العثور على والده الّذي مارس العشق مع أمّه وعبر البحار أو غاب عن الأنظار، لكن الدَّولة السُّويديّة تقدِّم واجبها بالكامل لهذا الطّفل غير الشّرعي، وتعدُّه شرعيّاً أمام كلّ ما هو شرعي وقانوني، كما تقدّم لكلِّ أبنائها وبالمستوى نفسه. وكم يؤلمني أن أرى الفرق شاسعاً ما بين السُّويد وبلادنا كالفرق ما بين الأرض والسَّماء، وليس لأنّني أقيم في الغرب أقول هذا الكلام؛ بل لأنَّ واقع الحال هو هكذا، فلماذا نجدُ الأطفال في دنيا الشَّرق يتضوَّرقسمٌ كبيرٌمنهم جوعاً، ولا يستطيعون متابعة دراساتهم، ولا يستطيعون أن يفتحوا بيوتاً ويتزوَّجون، مع أنّ اقتصاد بلادنا أفضل بكثير من اقتصاد هذه البلاد؟! وكلّ هذا يدلُّ على أنَّ سياسات الشَّرق سياسات فاشلة لأبعد الحدود، حتَّى قبل أن تتفاقم هذه الحروب والويلات، وأصلاً نجمَ ما نجمَ؛ بسبب فشل البلاد والأنظمة، لكن للأسف الشَّديد لم تتم معالجة الخطأ، بل تمَّت مضاعفة الخطأ وتحويله إلى كوارث لا يمكن تصديقها في القرن الحادي والعشرين؛ عصر التّكنولوجيا والتّسارع الكبير في تقدُّم المجتمع البشري، فإلى متى سيظلُّ الكثير من عالمنا الشَّرقي العربي بهذا التَّخلف والتّصارع المرير، وهو يمتلك ميزانيّات وإمكانيات كبيرة وطاقات خلّاقة، يستهلكها في دمار وخراب البلاد على رؤوس مواطنيها؟!
103. بدأت تكتب شعراً بالعربيّة والإنكليزيَّة خلال المرحلة الثَّانويّة، لماذا لم تستمر الكتابة بالإنكليزيَّة؟
نعم، كان لدي محاولات في كتابة الشِّعر بالعربيّة والإنكليزيَّة، لكنّ كتابتي قصائد باللُّغة الإنكليزيَّة كانت مجرّد محاولات، وقد كتبتُ ما يقارب (20) قصيدة شعريّة، إلَّا أنّها كانت محاولات شعريّة لا أكثر، وتتطلّب الكثير من المراجعات والتَّصويبات، كما تتطلَّب تدقيقاً من قبل مدقّقين لغويين بالإنكليزيَّة، ولم أستمرّ آنذاك في الكتابة بالإنكليزيَّة؛ لأنَّ كتابة الشِّعر بعمق تتطّلب لغة عميقة بحيث يتمكَّن الشَّاعر من أن يعبّر عن رؤاه الشِّعريّة وتدفُّقاته بسلاسة وانسيابيّة، وهذا ما لم يكُنْ متوفِّراً في معلوماتي الإنكليزيَّة؛ لأنَّ معلوماتي كانت مدرسيّة تعليميّة حفظيّة، وكنت أفتقر إلى الاطِّلاع بعمق على الأدب والشّعر والرّواية الإنكليزيَّة، ولأنّني لم أعمّق لغتي خلال مطالعاتي الخاصّة، ولم أتابع دراستي الإنكليزيَّة؛ لهذا لم استمر في كتابة الشّعر في هذه اللُّغة الَّتي كنت أعشقها حتَّى النّخاع، إضافةً إلى أنّني كنتُ أعبّر عن نفسي شعريّاً بالعربيّة بشكل أعمق، لهذا استمررت في الكتابة بالعربيّة، والشِّعر كما هو معروف هو لغة المشاعر الجامحة، لهذا يكتب الشَّاعر نصّه باللُّغة الّتي يجيدها ويحلم بها ويتمكّن من ناصيتها، ولكنِّي أشعر أيضاً في قرارة نفسي أنّني ارتكبتُ خطأ فادحاً في حقِّ نفسي؛ لأنَّني لم أتابع تحصيلي الدّراسي في اللّغة الإنكليزيَّة على أرض مملكة السُّويد، وكان من السَّهلعليَّ متابعة دراساتي لهذه اللُّغة الّتي عشقتها يوماً، بعد وصولي إلى السُّويد وحصولي على الإقامة الدَّائمة؛ لتوفّر كلّ الظّروف لتحقيق طموحاتي القابعة في حنايا الذّاكرة البعيدة، ولكن عدّة عوامل أدّت إلى تواري تحقيق هذه الطُّموحات، ويبدو أنَّ الأهداف والطُّموحات تتغيّر وتتبدّل من حالٍ إلى حال ومن ظرفٍ إلى آخر، وهذا ما سأجيبُ عنه في سياق محاور أسئلة أخرى تتعلَّق بتجربتي الاغترابيّة فيما يخصُّ دراسة اللُّغات والكتابة في اللُّغات الأجنبيّة وهموم المغترب، وقضايا إبداعيّة عديدة أخرى، ممكن الدُّخول في تفاصيلها؛ لأنَّ هذا السُّؤال يتعلَّق بتجربتي في الكتابة في الوطن الأم، ويدور حول بداية رحلتي في حمل القلم، والّتي استمرّت قرابة أربعين عاماً.
104. تحدَّث عن بداية مرحلة دراستك الصَّف الخاص نظام السَّنة الواحدة؟
التحقتُ بالصَّف الخاص قبل نهاية الفصل الأوَّل بشهر أو أكثر بقليل؛ لأنّ نتائج القبول تأخّرت في ذلك العام، مع أنَّ الدِّراسة كانت سنة واحدة وعلى مدى فصلين، وخلال هذين الفصلين لم ندرس أكثر من (4) شهور، وقد تخلَّل قسمٌ من دراستنا دروس الاستاج، الّتي كنّا نقدّمها دروساً تدريبيّة في المدارس الابتدائيَّة، كم أحنُّ إلى ذكريات هذه السَّنة الَّتي قضيتها في ربوع الحسكة، أقولها صراحةً: لم أتمتّع بقراءة منهاج الصَّف الخاص ولم يستهوِني، وقد حذفت ثلاثة أرباع المنهاج ولم أقرَأْه، وأرى أنَّ نصف المنهاج هو حشو، وممكن أن يكون كمرجع للمعلِّم والمعلّمة، قرأتُ القسم الأكبر من المنهاج بدون أيّة رغبة، أعجبتني المواد الَّتي كانت تحمل فكراً، تلك المتعلِّقة بالعلوم الاجتماعيّة والفلسفيّة والفكريّة وبعض المواد المتعلّقة بأصول التّدريس، بينما المواد الأخرى الكثير منها كنت أقرَؤُه بمللٍ كبير، حتّى أنّ أسلوب المنهاج والمواد المقرّرة كانت غير جيّدة والغريب بالأمر أنَّ مواد الصَّف الخاص كانت تعادل سنتين دراسيّتين، ونحن درسنا الصّف الخاص خلال خمسة شهور، ولدقّة كلامي بعد دورتنا أصبح الصَّف الخاص وبالمنهاج نفسه تقريباً، وأجمل ما في هذه المرحلة الدّراسيّة هي الصّداقات الرَّائعة الّتي ربطتني بأغلب الزُّملاء والزَّميلات، والوقت الجميل الَّذي قضيته مع الأصدقاء والأحبّة الّذين كنت ألتقيهم بين الحين والآخر!
عندما التحقت بالدّوام، لم يكُن لدي غرفة للإيجار؛ فاتَّفقت قبل ذهابي أن أسكن مؤقَّتاً مع كلٍّ من الأصدقاء: كريم متّو، توما عيسى، شكري سيسي، في بيت “صوصي” كما كان يطلق على إحدى صبايا أهل البيت، إلى درجة أصبح البيت مكنَّى باسمها! قضيتُ أوقاتاً طيّبة مع الأصدقاء، وكم حزنتُ عندما توفي الغالي شكري سيسي في مقتبل العمر، شاب وسيم طويل طيّب، كيف توفي بتلك القامة والعنفوان؟ شعرت بحزنٍ عميق للغاية، وكم أتخيّله وهو يناقش في الغرفة، وقد وزّع في إحدى طرائفه الغرفة إلى أربعة أقسام، جاءت الزَّاوية الركنيّة من نصيبي، وإلى يساري زاوية كريم متّو، ومن الجهة المقابلة توما ومقابله شكري، فوقف الرَّاحل شكري بكلِّ بهائه وهو يقول: من هون لهون الك، ومن هون لهون لكريم، ومن هون لهون لتوما، ومن هون لهون إلي! مساحة حصّته كانت المتاخمة لباب الغرفة، وقال: لا يحقُّ لأحد منكم أن يدوس على الأمتار المخصَّصة لي، ولا يحقُّ لي أن أدوس على المساحة المخصّصة لكم! ضحكتُ وقلت: يا كريم، بأيَّة طريقة سأخرج من الغرفةما دام أنّه لا يحقُّ لي أن أدوس على المساحة المخصَّصة لشكري؟ فقال لي: عندي فكرة قويّة لحل المشكلة، فقلت له: تفضّل، كلِّي آذان صاغية، إنَّ المسافة المخصّصة من زاوية توما حتَّى الباب هي بحدود متر وسبعين سم، أولاً خلِّي توما ينط وبعدين أنا وأنت نأتي عند مساحة توما وأحملك وأرميك لتوما، كلّك على بعض ما فيك خمسين كيلو، ضحكتُ وقلتُ: طيّب بلكي ما وصَّلتني لتوما أو بلكي توما ما يقدر يمسكني وأقع على رأسي، كان شكري يضحك ويردُّ قائلاً: مشان تتأدَّبوا تحطُّوني عند الباب! كنّا نضحك من أعماقِ قلوبنا، وخرجت بنتيجة مناسبة لشكري قائلاً: طيّب شو رأيك نعطيك ميّزة قوّية بحيث تسمح لنا أن نسير على المساحة المخصّصة لك؟ فقال: نسمع الميّزة أولاً ثم نحكم عليها! قلتُ له: كل يوم الجلي هو على واحد منّا، أنتَ كلَّما يأتي دورك على الجلي سيجليه واحد منّا وبالدور، في هذه الحالة ستتخلَّص من الجلي وستتخلَّص من مشكلة أن يرميني كريم وآجي على رأسي عندها ما راح تخلص من آل شلو، ضحكنا وقال شكري: صدِّق الاقتراح ممتاز وموافق بقوّة، أشكرك على هذه الميّزة الرّائعة. أسمع رنين قهقهاتنا، تتراءى أمامي قامة شكري والأصدقاء كأنّني أعيش تلك اللّحظات!
بعد حوالي شهر انتقلت إلى غرفة في علِّيّة بيت الأستاذ جان زكّو، علّية صغيرة بحدود (3 × 3.5) م كان فيها سريرٌ صغيرٌ، نقلت أغراضي كلّها، وقد ساعدني الشّباب في نقلها، أجّرتُ الغرفة الجديدة بـ (50) ليرة بما فيها الكهرباء والماء، وما كان يتوفّر فيها دوش، لكنَّ الأستاذ جان حلَّ موضوع الاستحمام بأن آخذ دوشاً في حمّامهم الكبير مرّتين في الأسبوع، أو بحسب الظّروف المتاحة، أتخيَّل أمامي بوضوح الأستاذ جان ووالدته وأخته بكلِّ ملامحهم، لكنِّي لا أستطيع تخيُّل والده، أم أنَّ والده كانَ متوفيّاً؟ لستُ أدري!
105. كيف تلقَّيتَ توبيخ مدرّس مادّة التّربية وعلم النفس عندما ضبطك المدرِّس، فيما كان يلقي محاضرته وأنت تكتب باللُّغة الإنكليزيَّة، فوبّخك على أنّك لا تنتبه إلى ما يقوله أثناء الدَّرس؟
.. “في صباح أحد الأيّام، فيما كان الأستاذ/ موسى حسين، مدرّس أصول التَّربية، يشرح الدّرس، وكان تقريباً يحفظ الدَّرس غيباً، وإذ به يمسكني بالجرم المشهود، قائلاً:
شو عم تعمل؟ انتبه عليّ، عم أشرح الدَّرس.
أنا أكثر من ينتبه عليك يا أستاذ!
كيف عم تنتبه علي، وشايفك عم تشخبط وتكتب بالإنكليزي)، من أوِّل الدّرس؟!
أنا عم أشخبط؟!
إيه أنتَ عم تشخبط، لكان شو عم تعمل؟!
يا أستاذ عم ألخّص شو عم تشرح بالإنكليزي!
شو قلت، عم تلخّص شرحي بالإنكليزي؟
إيه نعم، تفضَّل! هل تريد أن أشرح لك ماذا قلتَ بالعربي وما يقابله بالإنكليزي؟
طيِّب ليش ما تكتب بالعربي، مو أحسن لك؟!
لا مو أحسن لي!
وليش مو أحسن لك؟!
لأنَّني أريد أن أقوّي إنكليزيّتي وأحافظ عليها، وعربيّتي قويّة، ولا تحتاج للتقوية!
ضحك وقال: تقوِّي إنكليزيّتك في الصَّف الخاص؟!
ولِمَ لا، شو فيه الصَّف الخاص؟!
طيِّب طالما أنت مغرم باللُّغة الإنكليزيَّة إلى هذا الحدّ، لماذا لم تتابع أدب إنكليزي وتكتب محاضراتك على مزاجك بالإنكليزي؟!
عم تسخر منّي؟!
لا والله ما عم أسخر منّك!
تعرف يا أستاذ معدّلي باللُّغة الإنكليزيَّةكان الأوَّل على دفعتي في المالكيّة! وكنت مقبولاً بالمادّة وبالمجموع للالتحاق بقسم اللُّغة الإنكليزيَّة أو بأيِّ فرعٍ من فروع كلّيات الآداب في جامعات سوريّة!
لماذا إذاً التحقتَ بالصّفِّ الخاص؟!
لأنّه-كما قلتُ لغيرك- أقرب طريق إلى لقمة الخبز!
عندما وصل إلى لقمة الخبز، توقّف عندها وسحب تساؤلاته؛ لأنّه شعر من نبرة صوتي أنّني سأصعّد معه متفرّعات الحوار!
تابع الدَّرس، وتابعت تلخيص رؤوس أقلام بالإنكليزيَّة، وما كان هناك أيّة ضرورة للتلخيص بأيّةِ لغة؛ لأنَّ المقرّر كان متوفّراً عندنا!
أثناء الفرصة، جاءت الزَّميلة منتهى قائمقام، تسألني:
عن جد صبري كنت الأوَّل في دفعتك، وكنت مغرماً بمتابعة دراساتك ولكن …؟ وتوقَّفت عن السُّؤال!
إيه، فعلاً، وسأتابع يوماً ما، الآن أنا بصدد تأمين لقمة الخبز، والحصول على شهادة ما فوق محو الأمّيّة بقليل!
ضحكت منتهى وأنا أقول ما فوق محو الأمِّيّة بقليل!
صدّقيني، الصّف الخاص، بالنّسبة لطموحاتي أشبه بـمحو أمّيّة!
طيّب كيف وضعكم؟
وضعنا عادي، مثل وضع أي فقير من فقراء محافظتنا!
… تمرُّ السُّنون فوق جسد العمر، ولا نملك سوى أوجاعنا الضَّامرة في أعماقنا الخفيّة”.
106. ربطتكَ علاقة طيّبة مع زميلك جان يطرون، وأخيه أديب وأديبة، وأخيه صبحي يطرون، ومروان ووالدته ووالده، ماذا بقي في الذَّاكرة من هذا التَّواصل الحميمي مع آل يطرون؟
كم كانت هذه العلاقة طيّبة وجميلة ومبهجة للقلب والرُّوح، بقي هذا التّواصل الحميمي مع آل يطرون محفوراً في أعماق الذّاكرة، حيث بهاء الحفاوة والاحترام والمحبّة الّتي كانوا يمنحونها لي بطريقة جعلتني لا أشعر أنّني بعيد عن الأهل، أجل “هناك أصدقاء، لم ولن أنساهم أبداً، الصَّديق الغالي جان يطرون، زميل دراسة، وأصبح صديقاً بكلّ معنى الكلمة، وأصبحتُ صديقاً لكلِّ الأسرة، .. أسرة راقية، كنتُ أشعر بالفرح والحميميّة أثناء زياراتي لهم، شعور بأنّني في أحضان أسرتي، أنا المعروف بقرويَّتي وعفويّتي وفكاهاتي، تتراءى أمامي الزِّيارات الَّتي كنتُ أقوم بها لبيت جان يطرون، تستقبلني والدته بحنان كبير وبسمة دافئة، شعور بالفرح كان يغمرني عندما كانوا يتلملمون حولي ببشاشة غير متكلِّفة، جميلةٌ هي الحياة عندما تشعر أنّكَ أحد أفراد الأسرة في أسرة جديدة، لك فيها صديق أو صديقة، الحياة بسمة عطاءٍ، ومصداقية شعورٍ!
أين أنتَ يا جان الآن؛ كي أزرع شوقي بين أحضانكم الفسيحة وأبكي فرحاً من بهجة الحنين إلى أيَّامٍ كانت وستبقى مرفرفة فوق مروجِ الرُّوح؟ شوقٌ عميق إليك يا جان وإلى كلِّ أسرتكَ، وزوجتك الغالية الزَّميلة نظيرة اسيو، ولأخيك أديب، ومروان وصبحي أبو زكي، وأديبة وبقيّة أخواتك، والدٌ حنون وعائلة كادحة على شاكلة الفلّاحين المعجونين بعبق الحنطة….”.
107. أين تخبِّئ الزُّملاء والزَّميلات: عائدة قاطرجي، نظيرة اسيو، منى لولي، منتهى قائمقام، فلك، مَلَكي، غالب عبدو، جاكلين جرادي، راحيل كنعو، عبدالله النّزال، عبدالبصير الحسيني، محمّد رمضان، عطا، جميل برو، أميرة عبدالكريم، نهاد بصمة جي وعشرات الزَّملاء والزَّميلات الأجمل من الجمال؟
أخبِّئهم بين حنايا القلب ومروج الذَّاكرة، أفرشهم على مساحاتِ حنينِ الرُّوح، إلى دنيا من فرح، أجمل ما في دراستي في الصَّف الخاص أنَّ هؤلاء وأولئك الزّملاء والزّميلات مرَرْنَ في حياتي، كلّما أتذكّر الزُّملاء والزّميلات في الصَّف الخاص، وزملائي وزميلاتي في التَّعليم والتَّدريس وفي أيَّام الدِّراسة؛ تطفحُ عيناي شوقاً إلى ربوعهم الطَّيّبة، وأتساءل هل يوجد أجمل من البشر على وجه الدُّنيا؟ البشر أزاهيرُ فرحٍ فوقَ مروجِ الحياةِ، هل يوجدُ أجمل من منى لولى بكلِّ غنجها وبهائها وهي تسبِّل شعرها فينساب على كتفيها كشلّالٍ متناغمٍ مع خيوطِ الفرح، تسيرُ كأنّها هديّة منبعثة من إشراقةِ الصَّباح وهي تشقُّ طريقها في يومٍ ربيعي منعش للقلب، نحو معالم الصَّف؛ كي تنثرَ عبيرها في سماءِ المحبّة؟ تمرُّ الأيامُ والشّهور والسُّنون، وتبقى القامات شامخة في مزامير الذَّاكرة، عائدة قاطرجي حنانٌ منقطع النَّظير في هدوئها وثقتها وبهائها وطبيعيّتها، زميلة منشرحة الصَّدر، ترفرفُ على خارطة الذَّاكرة، كم مرة شربنا القهوة في بهاء حوشكم المتاخم من الجهة المقابلة لغرفتي في علّية بيت الأستاذ جان زكو، المتعانقة من الجهة الأخرى لمطرانيّة السّريان الأرثوذُكس، هل قرأتُ لكِ وأنعام فناجين القهوة أم أنّني ما كنتُ شغوفاً في حينها في قراءةِ الفناجين؟ أنعام قاطرجي أخت عائدة قاطرجي، وجه شامخ كأنّها مبرعمة من أزاهيرِ الصّباح، شوقٌ يتنامى إلى الزّمن البعيد القريب، وكأنّه يموج أمامي منذ أيّام قليلة، ما هذا الحنين المتلألئ في كينونتي إلى الزّمن الغافي بين أجنحة الرّوح، كأنّي مجبول من بسمةِ أطفالٍ يحنّون إلى أمّهاتهم وأحبّائهم في ليلة العيد؟ منتهى قائمقام: يا إله الفرح، يا إله الفرح، يا إله الفرح، كم كان حضورك مفرحاً يا منتهى الفرح، يا وجهاً مخضّلاً بألقِ الحياة، مراراً رأيتُ في شموخكِ بريق الأمل السَّاطع فوقَ خيوطِ القصائد، الحياةُ رحلةٌ عابرة مثل نسائم الرَّبيع، وأمّا “فلك” عريفة الصّف، فلا تسعفني كنيتها؛ لأنَّ كحل عينيها الأخضر كان يحوّل الحياة في غمضةِ عين إلى مروج خضراء، لربّما طغى اخضرار كحلها على كنيتها، فلك بسمة نضرة كندى القصيدة، وجهٌ تفاؤلي، حضورها متميّز، شاهقٌ شهقةَ الانبهار، يهابها مدرّس التّربية العامّة وعلم النّفس، مراراً بدا لي وهو يوقّع حصّته مرتعشَ اليدين، هل ارتعشت يداه وهو يوقّع على حصص التَّدريس من بهاء الحضور أم من شموخ الألق المتنامي حولَ بهاءِ الاخضرار؟
نظيرة اسيو قامة جانحة نحو ترتيلة متناغمة مع حبورِ السَّماء، تصيغُ من لهفةِ الحنين إلى منارةِ الأعالي أناشيدَ المحبّة، ترسمُ بأجنحةٍ مفتوحةٍ على هلالاتِ الغدِ الآتي انبعاثَ هديلِ اليمام، لا ترى أجملَ من نورِ السَّلامِ حرفاً يضيءُ فوقَ أغصانِ المحبّة، تبتسمُ لجان يطرون، رفيق دربها في ضياءِ أبهى شموعِ الحياة. جاكلين جرادي يا وردةً طافحة بـأناشيدِ الرّبيع، تحلِّقين مثلَ فراشةٍ فوقَ منعرجاتِ الدّرباسيّة، ترسمينَ ما يختلج في الذَّاكرة فوقَ تيجانِ الحياة؛ كي تعبري دروب المحبّة على تجلِّيات بوح السُّؤال، تهمسُ راحيل كنعو للعصافيرِ المهاجرة، تنتظرُ عودة البلابل إلى أعشاشها قبلَ أن تحطَّ فوق قارعة الحنين، حيث براري الدّرباسيّة في انتظارِ انبعاث اخضرار السّنابل فوقَ بساتينِ الرُّوح، فتهتفُ ملَكَي بقامتها الطّافحة ببهاء سمرةٍ معجونةٍ بأريجِ الزّنبق البرّي حيثُ بسمةُ الحياةِ مرتسمة على وجهها المنساب كزخّاتِ المطر، جانيت شمعون قامة رهيفة من خامةِ شموخ السَّنابل، تبحث عن خميرة الرّوح المنسابة من مآقي السَّماء حيثُ أناشيد السَّلام تتناهى من أعماقِ براري ديريك شوقاً إلى بخارِ الخبزِ المقمَّر، فترسمُ نهاد بصمة جي من الجهة المتعانقة مع أزاهيرِ الفرحِ المبرعم في ليالي ديريك المقمرة، تاركةً الحسكة معرّشة في مخيالها؛ كي تبني عشّاً مخضوضراً بأشهى عناقيد الكروم، وإذ بأميرة عبدالكريم تهتفُ بكلِّ ابتهالٍ لأسرابِ الحمام؛ كي ترسمَ فوقَ أجنحتها أغصان الزَّيتون وهي تحلِّق عالياً فوقَ مروجِ ديريك، وجهٌ يضيءُ شوقاً إلى أريجِ النَّرجس البرّي، حيثُ الورد الجوري يزدادُ عبقاً فوقَ خميلةِ الحياة، تذكّرني أميرة بأناقةِ الحرفِ وألقِ الكلمة، تبتسمُ لزميلتنا كلستان المرعي، فتنمو القصيدة فوق أزقّةِ الطُّفولة، وتزهرُ الأغاني على أراجيحِ الحنين!
تموجُ أمامي قامات الزُّملاء الأحبّة، غالب عبدو ومحمّد رمضان، ونحن نقرأ على أضواء المصابيح، نحضّر مقرّراتنا بعد أن أعدّ رمضان عشاءً شهيّاً، كم أكلنا بشهيّة مفتوحة على دندنات موسيقى الشِّمال، يضحكُ غالب فاتحاً صدره لنسيمِ اللّيل، يتقدّمُ رمضان نحوي قائلاً: الدِّراسة معكَ يا صبري تخلقُ لنا حافزاً عميقاً، يتقدّم عبد البصير الحسيني في ظهيرةِ يومٍ مندّى بأزهى ما في عذوبةِ السُّؤال، يسألنا بكلِّ فرحٍ وابتسامة الأمل مرتمسة على محيّاه، يضحكُ عطا، كأنّه في أوجِ استقبالِ بهجةِ اللّقاءِ، تاركاً الكلمة لجورج يعقوب وهم يضحكونمن أعماق القلبِ، وإذ بالعزيز العزيز جميل برو بحضوره العفوي يدخل على الخطِّ، ويقدّم لنا شطحةً من فكاهاته؛ فيزدادُ عندنا منسوب بهجة القهقهات! .. وهكذا نعبرُ البحارَ، وتبقى قامات الأصدقاء والصَّديقات والزُّملاء والّزميلات شامخةً على مساحاتٍ رحبةٍ من أهازيجِ الذّاكرة البعيدة!
108. تعمّقَت علاقتكَ مع الأستاذ سعيد زكو إلى درجة أنّه طلب منك أن تقدّم وعظة على المنبر، كيف تعرّفت على سعيد زكو، وكيف حضّرت الوعظة، ولماذا لم تستمر في هذا المنحى في الاتّحاد الإنجيلي؟
“.. التقيتُ مع الأستاذ سعيد زكُّو خلال دراستي الصَّف الخاص في مدينة الحسكة، ثمَّ تواصل معي، محاولاً أن يبشِّرني؛ كي يضمّني إلى الإخوة المبشِّرين، شخصيّة تبشيريّة هادئة ورزينة، وبدأ يدعوني إلى الكنيسة الإنجيليّة، وبعد أيّام أمطرني بالكتيّبات الدِّينيّة، وبدأت أقرأ بما يقدِّمه لي أكثر ممَّا أحضِّر منهاجي، مع أنَّ الوقت المخصَّص لقراءة المنهاج ما كان يكفيني، فدخل الأستاذ سعيد زكّو على الخطِّ دخولاً قويّاً، وخلال شهر طلب منّي أن أقدِّم وعظة على الإخوة الحاضرين، فوافقت على طلبه، وفعلاً حضر بعض الإخوة الإنجيلييِّن التّابعة للطائفة البروتستانتيَّة، وقف الأستاذ سعيد وبدأ يقدّمني إلى المنبر، قائلاً: معنا اليوم الأخ المؤمن صبري يوسف من المالكيّة وهو يدرس حاليّاً الصَّف الخاص؛ ليقدّم لنا وعظة اليوم، فصعدتُ إلى المنبر، وبدأت أشرح وعظتي، وفيما كنتُ أقدِّم تحاليلي عن الموضوع الَّذي اختاره الأخ سعيد لي؛ والَّذي كان يتمحور حول الخلاص؛ خلاص الإنسان المؤمن من الخطيئة ونيل الفردوس، انتابني الكثير من التَّساؤلات وأنا على المنبر، أليس من الأجدى لو أحضِّر مقرَّرات منهاجي من أن أقوم بتحضير وعظة عن خلاص الإنسان، هل هذه الوعظة ستخلِّصني من ورطة الامتحانات الَّتي أصبحت على الأبواب؟! ثمَّ أزحت هذه الفكرة من ذهني؛ كي أستطيع أن أمسك خيوط الوعظة دون أن أنسى بعض النّقاط الَّتي كنت بصدد عرضها على مسامع الحضور!
هدوء تام خيّم على الجوّ، ثمَّ استرسلت في الشَّرح والتَّفنيد، وشعرتُ أنّني أخذت وقتاً أكثر ممَّا هو مطلوب منّي؛ لأنَّ هناك بعض التَّساؤلات والمداخلات والنِّقاشات بعد الوعظة، فأومأ إلي الأستاذ سعيد على أن أقفل الموضوع الّذي أستعرضه على أساس أنَّني أعطيتُ الموعظة حقّها فلا داعي للاسترسال.
شكرته؛ لأنّه سمح لي بهذه الفرصة، ثمَّ قدَّم بعض الحضور مداخلات شكر لي، ولم يسألني أحد عن أيِّ سؤال عمَّا قدّمته، ثمّ بدأنا نرتِّل بعض التَّراتيل عن محبَّة المسيح ومحبّة الإنسان لأخيه الإنسان.
.. ثمَّ خفَّ حضوري عن اللِّقاءات والوعظات الأسبوعيّة، إلى أن انقطعتُ كلِّيّاً عن حضور الوعظات واللّقاءات، ولم أتواصل مع الأخ سعيد من حينها؛ لأنَّ تطلُّعاتي منذ البداية ما كانت تصبُّ في مسألة التَّبشير، أنا سرياني أرثوذكسي فلا أريد أن أدخل في قضايا التّبشير والطَّوائف؛ لأنّني لم أحمل طموحاتٍ دينيّة، جل تفكيري فيما يخصُّ الأديان هو احترام الأديان ككلّ والاكتفاء بسريانيّتي الأرثوذكسيّة؛ لأنَّ السّيد المسيح تكلّم الآراميّة؛ أي السّريانيّة وبهذا يُعتبر سريانيّاً من حيث النَّسب اللَّغوي، هكذا كنتُ أنظر إلى أهمِّيّة سريانيّتي، ولم أتوقّف في أيّة مرحلة من مراحل عمري عند الموضوع الدِّيني إلّا من باب واسع ورحب، ويصبُّ فيما هو إنساني واحترام كلّ الأديان، وتقديم أبهى ما لدي ولدينا للبشر كلَّ البشر!”..

109. ما قصَّة الغناء بالإنكليزيّة، والسّلام الّذي وصلكَ من جميل برو عن طريق أستاذ جرجس بهنان؟
” .. وصلني من الصَّديق الزّميل جميل برو، سلامٌ بعد سنوات من نجاحي في الصَّف الخاص عن طريق الأستاذ جرجس بهنان أبو حيّان! فقد التقى جميل برو مع الأستاذ جورج، ونطلق على الأستاذ جرجس بهنان الأستاذ جورج، بينما تتمُّ كتابة اسمه في السّجلات جرجس! قال لي: أنَّ جميل برو من الحسكة يسلِّم عليّ جزيل السٍّلام، ثمَّ أشار أن جميل أفاده بأنّني أغنّي بالإنكليزيّة أحلى الأغاني!
ضحكتُ، قائلاً: جميل برو قال لك: أنّني أغنّي أحلى الأغاني بالإنكليزيّة؟
قال أبو حيّان: نعم جميل قال لي بالحرف الواحد: “صبري غنّى لنا مراراً أغاني بالإنكليزيّة”.
وماذا ردّيتَ عليه؟
اندهشتُ عندما قال لي هذا الكلام، خاصَّة أنّني لم أسمع أبداً أنّك تغنّي بالعربيّة، فكيف دفعةً واحدة ستغنِّي بالإنكليزيَّة! شو القصّة، هل جميل كان يبالغ؟
لا، يا أستاذ، جميل برو ما كان يبالغ، هو شخص جميل، اسم على مسمَّى، القصّة وما فيها يا أستاذ، أنَّني أحبُّ الفكاهة، وأحبُّ أن أخلق أجواءً مرحة في الرّحلات وفي الاستراحات وفي اللِّقاءات المختلطة!
أيوه، لا حظت هذا في شخصيّتك.
كنَّا في رحلة من طلاب وطالبات الصَّف الخاص إلى حلب، وتعرف الطَّريق من الحسكة إلى حلب طويلة، فلا بدَّ من النِّكات والأغاني وخلق جوّ فكاهي؛ كي نقضي وقتاً ممتعاً في الطَّريق!
طيّب، وشو علاقة الرِّحلة بالغناء بالإنكليزي؟
جاييلك بالكلام، طوّل بالك يا أستاذ جورج!
تفضّل، معك خمس دقائق؛ لأنَّ بعد ذلك يجب أن تقرع الجرس، وحان وقت إدخال الطُّلاب إلى صفوفهم.
باختصار، أثناء الطَّريق غنَّينا بعض الأغاني الفولكلوريّة المحلّيّة، والأغاني الشَّعبيّة، والأغاني الَّتي نتقنها، ثمَّ وقفتُ وقلتُ للزملاء والزَّميلات: بالحقيقة عندي بعض الأغاني الإنكليزيّة الّتي كتبتُ كلماتها بنفسي، ولطشتُ ألحانها من بعض الأغاني السُّوريّة، فصفَّق لي الزُّملاء والزَّميلات وأوَّلهم جميل برو، وقال: معنا الآن المطرب صبري يوسف؛ ليقدِّم لنا وصلة باللَّغة الإنكليزيّة، تصفيق حاد!
كنتُ على وشك أن أضحك، لكنّي حاولت أن أتمالك أعصابي، وقلت لهم: سأغنِّي أغنية سميرة توفيق “لا باكل ولا بشرب بس بطلَّع في عيونك” فصفَّق الجميع مع تصفير، ثمَّ بدأت أترجم بشكل فوري وعلى إيقاع لحن الأغنية، مشترطاً عليهم أن يردِّدوا كل مقطع بمقطع، كان الضّحك مهيمناً على الكورث وعليّ، إلى درجة أنَّ سائق الباص نفسه ضحك وانخرط مع عوالمنا؛ ممّا أدَّى إلى انحراف الباص عن طريقه، وسار على الطَّريق التُّرابية بضعة أمتار، ثمَّ حصل هرج ومرج وقلق كبير؛ لأنَّنا شعرنا أن الباص سيهوّر بنا، واستقام سير الباص، وسألنا السَّائق: شو صار بالباص؟
ما صار شي، بس شردت قليلاً وبقيت معكم وبدأت أردِّد معكم وأضحك معكم، ونسيت نفسي؛ وإذ بالباص ينحرف عن الطَّريق قليلاً، الحقّ كلّه على صبري، راح يودِّينا في ستِّين داهية لو ظلَّ يغنِّي لنا بالإنكليزيّةبهذه الكوميديا الفكاهيّة!
يا شيخ الشَّباب، يعني راح تحطّ كل شي في رقبتي! يا أخي أنا عم أغنِّي، ما عم أسوق الباص، هل تريدني أن أغنّي وأغير الألحان إلى الأغنية الإنكليزيّة، وأقود الباص بنفس الوقت؟! مستحيل؛ لأنَّ التَّرجمة لوحدها تحتاج إلى صفاء ذهن وتركيز كبير، أليس كذلك أخي جميل؟!
أجابني جميل برو بكلِّ تأكيد تحتاج إلى تركيز وإلى توزيع الأغنية من جديد!
ضحك الجميع ثمَّ هدأنا قليلاً، وخيَّم صمت على كلِّ مَن في الباص، مستسلمين لاسترخاء، بعد ضحك وفرحٍ وغناءٍ على مدى ساعات!
دخل أستاذ جورج على الخطّ قائلاً: يعني لو قمنا برحلة مع الطُّلاب والمدرِّسين ممكن تغنِّي لنا بالإنكليزي؟
ممكن لكن بشرط؛ أن يرافقنا في الرّحلة الصَّديق جميل برو.
وليش تشترط وجود جميل برو، من أين سندعوه إلى الرّحلة وهو في الحسكة ونحن في ديريك؟!
أجبتُ: لأنَّ جميل أقوى مشجّع وأقوى كورث!
ضحك أبو حيّان، ثمَّ دقيّتُ الجرس؛ كي يدخلَ الطَّلاب إلى صفوفهم!”.
110. كيف قرأتَ خلال بضعة شهور مواد الصَّف الخاص، وكيف كانت دروس الاستاج التّدريبيّة؟
قرأتُ المواد على مضض، وحذفتُ قسماً من المواد، .. “تتراءى أمامي الآن قامات الزّميلات والزُّملاء مثل حلمٍ جميل يغفو فوق طيّات الغمام، وأتذكّر بعض النّقاشات الّتي كانت تدور بيننا في الاستراحات والرّحلات، وأثناء تقديم دروس “الاستاج” التَّدريبيّة، أتذكّر في إحدى تقييمات درس من الدُّروس الّتي قدّمتها على تلاميذ الصَّف الثّالث، بعد أن قدَّمتُ الدَّرس، أثناء النّقاش التَّقييمي، وجّهت لي الزَّميلة منى لولي ملاحظة نقديّة، لكنِّي اعتبرت ملاحظتها رائعة جدّاً؛ لأنّها خلقت فكاهة في النّقاش.
قالت: يا صبري أثناء الشّرح طوال الوقت كنتَ مبتسماً، وتقريباً كنتَ تضحك مع الطّالبات.
عندكِ فقط هذه الملاحظة؟.
بس هذه الملاحظة!
دافعتُ عن نفسي مبرّراً ابتساماتي في الدَّرس التَّدريبي قائلاً: طيّب هل تريدين منِّي أنْ أتجهّم في وجه التّلاميذ، أو تريدينني أن أبكي بدلاً من أن أكون مبتسماً وودوداً مع التّلاميذ؟!
فضحك كلّ الزُّملاء والزَّميلات بما فيهم منى نفسها والمدرّس المشرف على التّدريب، ثمَّ قالت منى: أفحمتني!
أجبتها: أنتِ يا عيني جبتِ القدُّوم لرأسك! فضحكَ الزُّملاء والزَّميلات من جديد.
نظر إليّ المدرّس المشرف على التّقييم، وقال: تعرف أستاذ، ..
نعم، تفضّل، أسمعك.
أخشى أن أقدّم لك ملاحظة ما، فتردُّ عليَّ كما ردِّيت على منى، فأفضل شيء أن أقول لك درسك كان رائعاً حتَّى ولو تخلَّله ابتسامات في منتهى الوداد مع التَّلاميذ!
فضحك الزُّملاء والزُّميلات مرة أخرى وضحكتُ من أعماقي، وقلت للمدرِّس: تعرف أستاذ.
فقال: نعم.
الآن أنتَ كبستني وأخذت حيف منى!
ضحكوا من جديد وقال: والله يا أستاذ ما نتخّلص منّك، نصفكَ ما نخلّص وننقدكَ ما نخلّص، ردودك قويّة وفكاهيّة وجاهزة!
أليس أفضل من أن يكون نقاشنا جافّاً ومتجهّماً!
صدّق معك حق، نعم، للبسمة ولا للتجهُّم!
تمرُّ الأيّام والشُّهور والسُّنون، وتبقى هذه الذّكريات غافية بين مرافئ الذّاكرة المحلّقة فوق هلالات الغمام، وتتراقص على رحابِ مويجات الذَّاكرة ..”.

حوار مع الذّات.. ألف سؤال وسؤال..الجزء الأول – السؤال من 76 – إلى 100 – للأديب و التشكيلي السوري#صبري_ يوسف Sabri YOUSEF ..

حوار مع الذّات.. ألف سؤال وسؤال..الجزء الأول – السؤال من 76 – إلى 100

للأديب و التشكيلي السوري#صبري_ يوسف Sabri YOUSEF ..

 

  1. أنهيتَ المرحلة الابتدائيّة والإعداديّة والثَّانويّة دون أن يكون لديك كرسيٌّ وطاولة خشبيّة، أين وكيف كنتَ تحضِّر وظائفك ودروسك المدرسيّة؟

حقيقةً أنهيتُ دراستي الإعداديّة والثّانويّة دون أن يكون لدي كرسيّ وطاولة خشبيّة، ليس بسبب الفقر؛ بل لأنّ التَّقاليد الفلّاحيّة آنذاك ما كانت تفكّر ولا تخطِّط لأن يكون للطالب غرفة مستقلّة، وبالتّالي ما كان متاحاً أبداً أن نخصِّص ركناً من أركان الغرفة الّتي كنّا نعيش فيها لطاولةٍ وكرسي؛ لأنّنا كنّا نتناول الطَّعام على الأرض، نفترش الأرض فوق المروش/ البساط، والّتي كنّا نستعيضها عن البطانيّات، وهكذا تمَّ إلغاء فكرة أن يكون لدي طاولة خشبيّة وكرسيّ في الغرفة والمطبخ الصَّغير الّذي كنّا نطلق عليه: “بْخيري”، وما كنتُ أشعر أنّه ينقصني طاولة وكرسي؛ كي أقرأ وأكتب دروسي على الطَّاولة؛ لأنّني كنتُ أقرأ على دوشكاية صغيرة وأتّكئ بظهري على الحائط وأنا بجانب مدفأة الحطب، وأقرأ دروسي، وعندما كنت أكتب وظائفي كنت أستلقي على بطني، وأضع وسادة تحت صدري، وأفرش دفاتري وأقلامي وكتبي حول متناول يدي، كنتُ آخذ جانباً من المدفأة وأثناء المساء، كنتُ أنزِّل مصباح الكاز نحو أسفل الجدار بارتفاع حوالي متر من الأرض، وأظلُّ مسترخياً على صدري، وأغطِّي نفسي باللّحاف، ووسادتي تحت صدري، وأدرس دروسي على أصوات شخير بعض الأهل وهم نيام، وكان والدي يستيقظ حوالي منتصف اللّيل؛ كي يضع علفاً للبقرات والبغال، وكان يراني مستيقظاً أعمل دروسي وأقرأ وظائفي بهدوء عميق، فيندهش على صبري ومواظبتي رغم الكثافة السّكانيّة، فقد كنّا: أربعة إخوة، وأختَين، وأمّي، وأبي، نعيش في غرفة كبيرة نوعاً ما، مع مطبخ صغير، وقد كان لدينا دكّة/ مصطبة بناها والدي وصمَّمها لجلوس الضِّيوف عليها في صدر الغرفة بارتفاع (65) سم، وعمق (65) سم، وطول أربعة أمتار تقريباً، وحولها وسائد من كلّ الأطراف، وأحياناً كنتُ أنام عليها أثناء النّهار؛ كي آخذ قسطاً من الرّاحة، وحالما كان يستقبلنا الرَّبيع، أخرج بعد الدَّوام من المنزل وأقرأ في الهواء الطَّلق، أشقُّ طريقي من ديريك موجّهاً أنظاري نحو ربوع كرزرك على الطَّريق التُّرابيّة، ثمّ أتابع طريقي وأنا أحضّر دروسي بأكثر من مادّة، حيث كنت أضع كتاباً تحت حزامي، وأقلب عليه قميصي، متّجهاً نحو قرية قضاء رجب/ قزرجب، وهناك كانت أختي المتزوّجة نعيمة تستقبلني ببشاشة وتسألني عن أمّي وأبي وإخوتي، ثمَّ تقدِّم لي العسل الشَّهي مع خبز التَّنّور، وآكل العسل بشهده بشهيّة عميقة، فقد كان لصهري ووالده منحلة كبيرة ينتجون كلّ موسم العديد من تنكات العسل!

وبعد أن آخذ قيلولتي واستراحتي، كنتُ أشرب الماء، وأوجّه أنظاري نحو قرية باب الهوى/ كاني نعْمِي، ثمَّ من هناك أعود إلى المنزل بعد أن أكون قد قرأت قرابة ثلاث ساعات، وراجعت مادّتين من موادّي الحفظيّة، وغالباً ما كنتُ أدرس دروس التّاريخ، والجغرافية، والفلسفة، واللُّغة الإنكليزيّة، وغيرها من المواد. كم كنتُ أفرح وأنا أقرأ في الهواء الطَّلق، وأحياناً كثيرة كنت أقرأ في ممرّات المدارس خلال أيّام الشِّتاء؛ لو جاءنا ضيوف أو زوّار يشوّشون عليّ في المنزل. وهكذا تجاوزت كلَّ المراحل الدِّراسيّة، أدرس في الهواء الطّلق، وفي ممرَّات المدارس، وفوق دوشاكيتي الصَّغيرة على بطني، وكنتُ من الأوائل على أقراني في مادّة الفلسفة واللُّغة الإنكليزيّة والعربيّة. والطّريف بالأمر أنّني حتّى تاريخه، عندما أقرأ في السَّرير ويخطر على بالي فكرة قصصيّة أو شعريّة، سرعان ما أضع وسادتي تحت صدري وأفرش أقلامي وأوراقي أمامي، ثمَّ أكتب وأكتب برغبةٍ عميقة، وكأنّي أكتب على طاولة من الرّخام وكرسي مطرّز بمساند ووسائد من الحرير، تتدفَّق أفكاري بانسيابيّة عجيبّة ولا أشعر بالزّمن حتّى السّاعات الأولى من الصّباح، وإذ بي أكتب قرابة ثلاثين صفحة من الحجم الكبير، علماً أنّني منذ حوالي عشرين عاماً أكتب نصوصي وأشعاري وحواراتي وكتاباتي على الحاسوب مباشرةً، ونادراً ما أكتب على الورق أو في السَّرير، لكن عندما تنبلج فكرة ما في السَّرير، لا أستطيع مقاومة هذه الحالة الاسترخائيّة على صدري، ولهذا أبتسمُ متمتماً في سرّي، كان معي الحقّ كلَّ الحقّ أن أكتب وظائفي بشغفٍ أيّام زمان على بطني ووسادتي تحت صدري على دفء مدفأة الحطب، وإلّا كيف حقَّقتُ كلّ تلك النَّجاحات دون أن أتأخَّر عاماً واحداً خلال كافّة مراحل دراساتي؟!

  1. انصبّتْ اهتماماتكَ على مادّة اللُّغة الإنكليزيّة واللُّغة العربيّة والمواد الاجتماعيّة، لماذا برأيك؟

انصبّت اهتماماتي على مادّة اللُّغة الإنكليزيّة والعربيّة والمواد الاجتماعيّة والفسلفيّة؛ لأنَّ ميولي كانت أدبيّة فكريّة إبداعيّة، فأحببتُ اللُّغات والأدب منذ المرحلة الابتدائيّة مروراً بالإعداديّة والثّانويّة؛ وربّما لأنّه ما كان هناك من يعلِّمني ويساعدني في حلِّ المسائل العلميّة كالحساب في المرحلة الابتدائيّة والرِّياضيات والفيزياء والكيمياء في المراحل اللَّاحقة، ولهذا كان مستواي في المواد العلميّة وسطاً، وما كنت أميل للأرقام والمعادلات الرّياضيّة، بينما بقيّة المواد النّظريّة كانت تحتاج فقط إلى جهودٍ خاصّة منّي، فكنت بجهودي الشَّخصيّة أحلُّ وظائفي من خلال قراءتها وحفظها، بينما في المواد العلميّة وجدتها غير قريبة من اهتماماتي وكنت أنجح فيها من دون أن أكون متفوّقاً، بينما في المواد النّظريّة وخاصةً اللُّغات كان تفوُّقي قائماً على مدى تحضيري لها واستيعابي العميق؛ لأنّني كنتُ أدرسها برغبة عميقة، وما كنت أستمتع بقراءة المواد العلميّة، وكنت أشعر وكأنّ حفظها ومراجعتها بمثابة عقوبة، لهذا اخترت الفرع الأدبي، وتفوّقتُ على أقراني بمادّة اللُّغة الإنكليزيّة، وكنتُ شغوفاً ومتفوّقاً بمادّة الفلسفة واللُّغة العربيّة، وما كنتُ أحبُّ مادّة التّاريخ والجغرافية؛ لأنّني كنتُ أراها مواد لا تتعلّق بالفكر والإبداع بقدر ما تتعلّق بالحفظ والاستيعاب، وأحببتُ مادّة المجتمع والتَّعبير والإعراب والعروض والقصائد وشرحها وأحببتُ الأدب بشكل عام!

  1. كيف كنتَ تحضِّر اللُّغة الإنكليزيّة، فأصبحتَ متفوِّقاً على أقرانكَ في المرحلة الإعداديّة والثَّانويّة؟

لهذه المرحلة الدِّراسيّة منعطفات وذكريات طيّبة مبهجة للقلب وتحلِّق في مرافئ الذَّاكرة البعيدة، بعد أن سرتُ في برِّ الأمان وأصبحت في شعبة الإنكليزي، غمرني فرحٌ عميق وبدأتُ أخطّطُ لتحضير هذه المادّة قبل أن يبدأ المدرّس بتدريسها لنا، فاشتريتُ نسخةً من منهاج الصَّف السَّابع، كما اشتريتُ دفاتر لكلِّ مادّة على حدة للوظائف البيتيّة، ودفترين لمادّة اللُّغة الإنكليزيّة، ودفتراً صغيراً خاصَّاً للكلمات الجديدة، وبدأت أقرأ الدَّرس في البيت قبل أن يشرحه لنا المدرّس، وأتدرّب على كتابة الحروف وحفظ الكلمات الجديدة وكتابة الملاحظات والقواعد لكلِّ شاردة وواردة، بحيث لا يفوتني أيّة فكرة خلال الشَّرح في الصَّف، كأنّني أخوضُ دورة لغة إنكليزيّة خاصّة، وهكذا بدأتُ أطرح نفسي من أوّل يوم أنّني قادر على فهم هذه المادّة، وأتذكَّر بعد أن شرح الأستاذ الدَّرس الأوّل سألنا مَن يستطيع قراءة الدَّرس، رفعت يدي مباشرة وقرأتُ الدَّرس، وكانت هذه الخطوة الأولى، ثمَّ تلتها خطوات، كنتُ مشاركاً في الإجابة عن أسئلة المدرِّس، وأحفظُ الكلمات الجديدة إملائيّاً وقواعديّاً، مثلاً كيف تتمُّ كتابة الكلمة الاسم في حالة المفرد والجمع، وكيف نلفظ الكلمة، وركّزتُ على الحروف الصّوتيّة وتغيّراتها أثناء كتابتها بالمفرد والجمع، وكتبتُ المفردات الَّتي لها المعنى نفسه، وقسّمت اللُّغة إلى أقسام الكلام: ضمائر، أسماء إشارة، أسماء موصولة، أفعال، أسماء، حروف جر، الظُّروف بأنواعها، ثمَّ ركّزت على الأزمنة والتَّصاريف الخاصّة بالأفعال، وكلّ هذا قمت به مرحلة مرحلة، وخلال الصَّف السّابع وأخذت فكرة على المنهاج بكلِّ هذه التَّفاصيل، علماً أنّني ما كنتُ قد تعلَّمت كلّ هذه التَّفاصيل في المدرسة، لكنّي كنتُ قد اشتريت لي منهاج الصَّف الثَّامن وأقرَؤُه بنفسي وأحفظ مفرداته وشروحاته وتفاصيله بدفتر خاص غير دفتري المدرسي الخاص بالصَّف السَّابع، وهكذا دائماً كنت أدرس منهاجين دفعة واحدة، كي أكون متقدِّماً على أقراني، وبعد أن انتهيتُ من الصَّف السّابع اشتريتُ لي قاموس إنكليزي عربي، صغير الحجم، بحيث يكفيني للمرحلة الإعداديّة، وبدأت أقرأ فيه وأستخرج الكلمات الصَّعبة، وخلال دراستي في المرحلة الإعداديّة ركَّزتُ على حفظ الكلمات الجديدة والمصطلحات والأزمنة، وكنت دائماً آخذ العلامة التّامة في الإملاء والتَّصاريف وتركيب الجمل والعكوس والقراءة واللّفظ السّليم؛ لأنَّ في اللُّغة الإنكليزيّة هناك بعض الحروف يتمُّ لفظها بشكل مختلف عن لفظها الطّبيعي، فيتمُّ دمج حرفين ويشكِّلان لفظاً جديداً، كما لا يتم لفظ بعض الحروف عندما تأتي في سياق معيّن في الكلمة، واتبعت طريقة حفظ الكلمة لفظيّاً وإملائيَّاً، وكنت أتبع طريقة التّرديد لفظاً وكتابةً في الوقت نفسه، مثلاً لو صادفت كلمة معيّنة طويلة وصعبة اللَّفظ والإملاء، أُقسِّمها إلى مقاطع، وأركّز على كلّ مقطع صوتي وكيفية كتابته ولفظه وأدمج هذه المقاطع مقطعاً مقطعاً، ثمَّ أتدرّب على كتابة الكلمة ولفظها، واتبعت قراءة دروسي بصوت مسموع؛ كي ألفظ الكلمة كما هي، وهكذا أصبح لدي شغف كبير بحفظ أكبر عدد ممكن من الكلمات والمفردات؛ بحيث أتمكَّن من حفظها لفظاً وإملاءً، كما حفظت الأفعال الشَّاذة غيباً، وكنت أعيدها عشرات المرّات، ولو أخطأ المدرّس بتصريف بعض الأفعال، كنت أصحِّحها له، وهذا حصل معي في الصَّف التَّاسع وما فوق، ولاحظت أنَّ المفردة الإنكليزيّة أحياناً كثيرة يتغيَّر معناها عندما تتصل مع حرف جر؛ فتعطي معنى جديداً مغايراً للمعنى الأصلي، وهكذا حفظتُ الكلمة من دون حرف جر ومع حروف الجر الخاصّة بها، وأحياناً كانت تأخذ الكلمة أكثر من حرف جر، وكنت أحفظ الكلمة كمعنى ومع حروف الجر الّتي تأخذها، وأضع الكلمات في جملٍ مفيدة لتوضيح وترسيخ معناها، وكنت أتبع طريقة حفظها وكتابتها في دفتر خاص، ظلّ معي منذ الصَّف السَّابع والثَّامن والتَّاسع، وكانت الملاحظات والقواعد كمرجع لي، أعيد قراءتها بين الحين والآخر، إلى أن وجدت نفسي في الصَّف الثَّامن أنّني قادر على المحادثة مع المدرِّس ببعض المحادثة البسيطة، وكنت أصيغ الرّد والجواب بشكل صحيح، مستخدماً الضَّمير والفعل ثمَّ بقيّة الجملة وفي صيغته الزَّمنيّة الصَّحيحة، وفي الصَّف التَّاسع بدأت أراجع ما قرأته في الصَّف السَّابع والثَّامن خلال العطلة الصَّيفيّة، كما أنّني كنتُ أحضِّر كالعادة الدَّرس قبل المدرِّس، واشتريت لي قاموساً أكبر من قاموسي، لحفظ أكبر قدر ممكن من الكلمات الجديدة، وركَّزت على كل كلمة وجملة وسطر في المنهاج، وحفظت التّمارين واشتريت لي الحلول الخاصّة بالتَّمارين، لكنّي كنتُ أحلُّ التَّمارين قبل أن أنقلها بشكل حرفي ومباشر مقارِناً إجاباتي بإجابات الحلول الجاهزة الَّتي اشتريتها من المكتبة، وأحياناً كنت أشكِّك بحلول الإجابات الجاهزة وأراها غير دقيقة، وتبيّن لي أنّني أكتشف بعض الأخطاء المطبعيّة والقواعديّة في كتاب الحلول، وهكذا لم يكُنْ هذا الكتاب بالنّسبة إليَّ جواباً نهائيّاً، بل كان مجرد التّأكّد من دقّة إجاباتي من جهة، وكان الموقف يخلق لي حالة تحدّي للمرجع الخاص بالحلول، وكان أغلب الطُّلَّاب يشترون هذه الحلول الجاهزة ويكتبونها من دون أن يفهموا معناها ومضمونها، ولماذا تمَّ الجواب بهذا الشّكل وليس ذاك؟ وهكذا اجتزت الصَّف التّاسع، المرحلة الإعداديّة بتفوُّق في مادّة اللُّغة الإنكليزيّة، وجهّزت نفسي للمرحلة الثّانويّة، وراجعت منهاج السّابع والثَّامن والتَّاسع في العطلة الصَّيفيّة قبل أن أقرأ منهاج الصَّف العاشر، وأصبحت قادراً على أن أحاور المدرّس في أيّة قضية نقاشيّة في الصّف باللُّغة الإنكليزيّة، كما أنّني كنت أستوعب القصص الَّتي أقرَؤُها بالإنكليزيّة، ودوَّنت كلّ المفردات الجديدة والقواعد الجديدة ولو لم يحضّر مدرّس المادّة في الصّف العاشر والحادي عشر والبكالوريا الدَّرس قبل أن يشرحه لنا، كنت أكتشف له أخطاءً لو وقع فيها، وقد استقبلنا في الصَّف الحادي عشر أدبي المدرّس عدنان ديوانة، وكان مُسرَّحاً حديثاً من الخدمة، وتمَّ تعيينه في ثانويتنا مدرّساً للغة الإنكليزيّة، وبدا لي أنّه لا يحضِّر المنهاج بشكل جيّد؛ لأنّني كنتُ أكتشف له بعض الأخطاء الإملائيّة أثناء كتابته على السَّبورة، إلى درجة أنّه قال لي: هل أنت طالب عندي أم زميل، هل أنت طالب في الصَّف الحادي عشر أدبي؟ كنت أجيبه: أيوه أستاذ، ألا ترى لباسي الموحّد مع زملائي، وإشارة الصَّف الحادي عشر على كتفي؟ كان يقول: نعم أرى هذا لكنّك تستطيع أن تشرح الدّرس تقريباً مثلي! وفعلاً في تلك المرحلة بالذَّات لو كلَّفتني إدارة المدرسة بتدريس المنهاج لزملائي كنت قادراً على تدريسهم لو حضَّرت الدَّرس في البيت جيّداً، فما كان ينقصني أي شيء لتدريس المنهاج! ثمَّ قال لي: يا صبري تعال معي إلى الإدارة! خرجتُ معه إلى غرفة المدرِّسين وإذ به يقول لي: أنت يا عزيزي تسبِّب لي إحراجاً في الصَّف؛ لأنّك تنبّهني أحياناً إلي كتابة بعض الكلمات الخاطئة على السّبورة، وأحياناً تحاججني على إجابات خاطئة في القواعد أو الإملاء، وهذا يسبِّب لي إحراجاً أمام الطُّلاب، فقلت له: وما المطلوب منِّي يا أستاذ؟ صدّقني أنا أحبّك كثيراً لأنّك أستاذي، فأجابني: وأنا أحبُّك كثيراً يا صبري. إذاً ماذا تطلب منِّي طالما تحبُّني وأحبُّك؟ فقال لي أن لا تحرجني أمام الطُّلاب والطَّالبات! فقلت له: ولكن يا أستاذ في هذه الحالة ستعطي أحياناً بعض المعلومات الخاطئة لزملائي وزميلاتي، فهل تقبل أن تقدِّم معلومات خاطئة للطلّاب والطَّالبات؟ فشعر أنّني أفحمته مع أنّني ما كنت أريد إفحامه وكنت أصلاً شخصيّة خجولة، وعندي حياء كبير، لكنّي كنتُ واثقاً من نفسي رغم حيائي وخجلي، فقال: والحل يا أستاذ! أطلق علي صفة أستاذ! فقلت له: عفواً أستاذ لماذا تقول لي أستاذ وأنا طالبك؟ فقال: صدّقني أنت أستاذ ونص! طالما تكتشف لي أخطاء وأنا خريج أكاديمي وأنت مجرّد طالب في الصَّف الحادي عشر أدبي، فقلت له: أنت تسألني عن الحلّ، الحلُّ يا أستاذ موجود وهو أن تحضّر الدّرس يوميّاً قبل حضورك الدّوام؛ لأنّك على ما يبدو نسيتَ بعض معلوماتك خلال فترة خدمة العلم، وأنت تعرف يا أستاذ أنّنا لا نتحدَّث باللُّغة الإنكليزيّة، ونتعلَّمها تعلُّماً؛ ولهذا سرعان ما ننساها، ولذا أنت تحتاج إلى أن تحضِّرها، وكأنّك لأوِّل مرّة تدرِّسها بهذا الحالة ستجنِّب نفسك من الإحراجات الّتي تقع فيها، وتقدِّم لنا معلومات دقيقة وصحيحة! نظر إلي مبتسماً وقال لي: يا صبري أنت إنسان رائع وطالب رائع وأفتخر أنّك طالب من طلّابي، وثق تماماً أنّني سآخذ باقتراحك وسأحضِّر الدَّرس تفادياً من إحراجي أمام الطُّلَّاب، ومعك الحقّ تماماً أنّني نسيتُ قسماً من معلوماتي خلال انقطاعي عن التَّدريس، وهكذا منذ ذلك اللِّقاء بدأ المدرِّس يحضِّر دروسه، لكنّه بين الحين والآخر كان يقع في أخطاء خفيفة، وفيما كان يمرُّ بجانبي ويسألني كيف اللُّغة معك، فأهمس له على أساس لدي سؤال جانبي وأقول له: هذه المفردة أستاذ تكتب هكذا، فيهمس لي ويقول:يبدو أنَّ تحضيري غير مركّز، فأبتسم له وبعد لحظات يحاول تصحيح ما وقع فيه، وفي إحدى المرات في امتحان شفهي طلب منِّي أن أقرأ مقطعاً من القصّة، وبدأ يسألني أسئلة عن أفكار وردت في القصّة الّتي يدرّسها في المنهاج، وكنت أجيب عنه بالإنكليزيّة، فقال لي: تفضَّل ضع لك العلامة الَّتي تريد! فقلت له: عفواً أستاذ أنت أستاذي. وأنت تقدِّر علامتي، فقال لي: طوال أنا مدرسِّك سأضع لك العلامة التّامة؛ لأنّك تستطيع أن تدرس المنهاج لزملائك مثلما يدرّسه أي مدرّس. وهكذا تمرُّ الأيام، وتبقى هذه الذُّكريات محفورة في ظلال الذَّاكرة، وكأنِّي عشتها منذ أيّام، حنين عميق يشدّني إلى ذلك الزّمن البهيج، وإلى الأستاذ عدنان ديوانة، وإلى الزَّميلات الرَّائعات أميرة عبدالكريم، وكلستان المرعي، وسميرة موسى، وجانيت شمعون، وسميرة سليمان، وسامي رشكو، وجورج وارطو، وبولص وارطان، وآخرين … تطفح دمعتي وأنا أكتب من قطب الشِّمال توهُّجات خيوط الحنين، غائصٌ في أعماق غربتي، تنساب هذه الذّكريات كأنّها بلسمٌ شافٍ لغربتنا في الحياة، فتنفرش ديريك أمامي بكلِّ بهائها وطلَّابها وطالباتها ومدرِّسيها ومدرسّاتها والأحبة كلّ الأحبة، مندهشاً من كلِّ هذا الحنين المعشّش في أعماقي، عابراً البحار منذ ربع قرن من الزّمان؛ بحثاً عن أبجديات جديدة للإبداع، والسُّؤال الأهم، كيف سأجد توازناً بين توهُّجات الإبداع ووهج الحنين الَّذي لم يفارق غربتي على امتدادِ كلّ هذه السّنين؟!

  1. عودة إلى دور اللُّغة العربيّة أو الإنكليزيّة أو أيّة لغة أخرى، ماذا تعني لك اللُّغة في عالمِ اليوم؟

اللّغة، أيّة لغة عالم قائم بذاته، وكما أسلفتُ في جواب سابق أنَّ كلَّ الحضارة البشريَّة قائمة ومرتكزة على اللُّغة، ولولا اللُّغة لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من حضارة إنسانيّة في شتّى أنواع التَّخصُّصات؛ لأنّها الحاضن الأبقى لكلِّ أنواع الثّقافات والإبداعات والعلوم والفنون بمختلف أصنافها وتفرُّعاتها، وكلّ مجتمع لا يركّز على اللُّغة وما تحمله من إرث ثقافي وحضاري وأدبي وفنّي وإبداعي وعلمي، مجتمع مصاب بالتّقهقر والتَّراجع والانهيار، لهذا علينا أن نركّز على اللُّغات؛ لأنّها السَّبيل الأمثل للتواصل مع المجتمع البشري في كلِّ مكان، فعبر اللُّغة نستطيع أن نطوِّر البلاد ونتواصل مع بلاد الكون، لهذا أرى من الضُّروري معرفة أكثر من لغة؛ كي نتمكّن من التَّواصل مع مجتمعات أخرى، ونستفيد من خبرات وعلوم وتقدُّم ما وصلت إليه المجتمعات المتقدّمة، وكلّما تواصل مجتمع ما مع بلدان أخرى، واطلع على خبرات غيره، وخاصّة لو كانت البلدان الأخرى متقدِّمة عليه؛ سيستفيد جدّاً من خبرات الآخرين، وسيلحق بالرّكب الحضاري والثّقافي والمعرفي رويداً رويداً؛ وبالتَّالي، سيصبح من عداد الدُّول النّاهضة، على عكس الدُّول الّتي تبقى منغلقة على نفسها وتعتمد على خبراتها الضَّئيلة ومعارفها البسيطة، ولا تتقدَّم إلّا بشكل بطيء جدّاً، كأنّها من فصائل السّلاحف، لهذا نراها تتراجع أمام هذا التَّقدُّم الكوني السَّريع في سائر تقنيات وإمكانيَّات وتكنولوجيا العصر المذهلة؛ لأنَّ ما هو متاح لدى الكثير من دول العالم، غير متاح لتلك الدُّول المنغلقة على نفسها، كما هو الأمر عند أغلب البلاد العربيّة بنسبٍ متفاوتة، والغريب بالأمر أنَّ دول العالم المتقدّم قد وصلت إلى مرحلة التَّفكير بغزو الفضاء ويفكِّرون في حال لو تعرّض الكون والكرة الأرضية إلى ظروف يصعب العيش على الأرض، يفكِّرون بحلول أشبه ما تكون خرافيّة، إذ يفكِّرون بنقل البشر إلى كواكب أخرى ممكن العيش فيها، هذه مجرّد أفكار وتخمينات، كما يفكِّرون بتأثير ثقب الأوزون وكيفية إيجاد الحلول؛ كي يجنَّبوا الكون كوارث يمكن أن تقع على الأرض، في الوقت الَّذي تتساءل بعض برلمانات العالم العربي، هل قيادة المرأة للسيارة حلال أم حرام؟! لهذا نرى كيف تنشب الحروب المميتة في الكثير من دول العالم العربي، ويناضل المواطن من أجل تحقيق حقوقه القوميّة والمذهبيّة والدِّينيّة، ويطالب بالحرّيّة والعدالة والمساواة، مع أنّه من البديهي أن تكون هذه الطّلبات محقَّقة للمواطن من خلال دساتير تكفل تحقيقها دون اللّجوء إلى المطالبة بها؛ لأنَّ الحقوق القوميّة والدِّينيّة والمذهبيّة والعدالة والمساواة والحرّيّة، حقوق بديهيّة، ولا بدَّ من تحقيقها للمواطن، وكلّ دولة ﻻ تكفل هذه الحقوق لمواطنيها عبر دساتيرها وقوانينها وتوجُّهاتها موازينها، تعدُّ دولة خارجة عن القانون وعن الزَّمن وعن التَّاريخ الإنساني والحضاري؛ لأنَّه في الوقت الرّاهن أصبح كلّ شيء واضحاً وضوح الشَّمس، ولا يمكن للعقل المهزوم والمنغلق على ذاته أن يحقِّق أي نجاح، ولا يمكن لرؤية أفكار الدُّول الَّتي تلغي الحقوق القوميّة والوطنيّة والدِّينيّة والمذهبيّة والسِّياسيّة أن تنطلي على أحد؛ لأنَّ حقوق مجانين ومعاقي الدُّول المتقدّمة مصانة ومكفولة ومحقَّقة، فكيف بحقوق العقلاء منهم؟! .. وهكذا فإنَّ اللُّغة في هذا السِّياق هي مفتاح الوصول إلى أوجِ الحضارات!

  1. ضاعت بطاقة اكتتاب امتحان الإعداديّة الخاصّة بك، كيف تقدّمتَ للامتحان وأنتَ في غايةِ القلق؟

لن أنسى القلق الَّذي انتابني ما حييت لحظة اكتشفتُ أنّني ضيَّعت بطاقة اكتتاب امتحان الإعداديّة، وبعد يومين متتاليين من القلق، نصحني أحدهم أن أذهب إلى بيت الأستاذ جرجس بهنان، مدير الثَّانويّة والإعداديّة، وتعيّن رئيساً لمركز الامتحان. واستقبلنا برحابة صدر وهزّ رأسه قائلاً: هل عندك هويّة، فقلت له: أيوه أستاذ عندي هوية وبنفس صورة البطاقة، فأجابني: جيّد، احضر هويتك وتقدّم بهويتك بدلاً من بطاقة الاكتتاب، وكم منحني ردّه راحة نفسيّة وجعلني أسترجع معنوياتي، وقال لي: تفضّل يا عيني، روح حضّر موادك؛ كي تتقدَّم للامتحان وتنجح. عدتُ أدراجي وكلِّي فرح وأمل وراحة واطمئنان، وتقدّمت للامتحان بهويّتي، وأخذ الأستاذمصطفى أحمد، أمين سرّ الامتحان التفقُّد، وسألني: أين بطاقتك؟ فقلت له: لقد ضاعت منِّي، لكنِّي مررْتُ على الأستاذ جورج مدير المدرسة ورئيس المركز وسمح لي أن أتقدّم بهويَّتي بدلاً من بطاقة الاكتتاب الّتي ضاعت منِّي. أجابني والبسمة على وجهه: ما في مشكلة، خاصّة أنَّ صورة الهويّة هي نفس صورة بطاقة الاكتتاب الأخرى المثبّتة على المقعد من قبل إدارة مركز الامتحان!

تقدّمت للامتحان بهويّتي الشَّخصيّة، ودخَّلت هدفي على الَّذي أخفى عنِّي بطاقتي؛ كي يشوّش علي امتحاني وأكون من الرّاسبين، لكم هيهات! فقد تقدّمت بكلِّ ثقة وأعصاب هادئة للامتحان ونجحت، بينما هو وغيره من الغيورين كانوا من الرّاسبين على مدى سنوات! .. وبعد أكثر من أربعين سنة على مرور هذه التَّجربة، توصّلت إلى قناعة مَنْ هو الشَّخص الّذي أخفى بطاقة الاكتتاب؛ لأنّني راجعت وقائع فقدان بطاقتي منذ سنوات وأنا أفكِّر بهذا الأمر، لأنّني كنتُ أودُّ أن أشير إلى هذا الموقف في سياق أحداث إحدى رواياتي، وعندما دقّقت وحلَّلت ما حصل معي، عثرت ببساطة على الشَّخص الَّذي اقتنص بطاقتي من أحد كتبي؛ لأنّه الوحيد الّذي كان يعرف أنَّ بطاقتي هي بين طيَّات كتابي، وأتذكَّر عندما سألته في ذلك الحين فيما إذا شاهد بطاقتي؟ أظهرَ نفسه متفاجئاً وقال لي: أيّة بطاقة؟ وتصرَّف على أساس أنّه تفاجأ بالخبر، وقال: لا يكون ضيَّعت بطاقتك، فقلت له: أيوه لقد ضاعت بطاقتي منِّي، وتصوَّرت أن تكون قد وقعت منّي في بيتكم أو عثرتَ عليها، لأنّك كنتَ معي خلال فترة استلامي البطاقة، فقال لي: يا ريت لو شاهدتها لأعطيتها لك حالاً. في حينها كنتُ يافعاً عفويَّاً بسيطاً، صدّقته لصفاء قلبي، ولكن بعد عقود من الزَّمن، تأكَّدت من خلال إحساسي وتحليلي، أنّه هو ما غيره؛ لأنّه الوحيد الَّذي كان يعرف مكان وجود بطاقتي، مع هذا فقد سامحته منذ أن أحسسْتُ أنّه هو الشّخص، ولو كان بريئاً، فهو بريء ولا غضاضة عليه، ولو لم يكُنْ بريئاً فالمسامح كريم كما يقول جورج قرداحي في برنامجه الرّائع المسامح كريم!

  1. ما هي الأعمال الَّتي قمتَ بها بعد أن تقدَّمت إلى امتحان الإعداديّة؟!

قمت بعدِّة أعمال، منها: عشيفة القطن على مدى أسابيع، كنّا نستيقظُ باكراً، نحملُ معنا طموحنا وأحلامنا، وأنا أنتظر نتائج امتحاني، وساعدت أهلي في حصاد العدس، كنت ماهراً في جمع ملُّوات العدس، والملُّوة عبارة عن مجموعة باقات العدس المحصود، نجمع الملُّوات بكومة كبيرة نطلق عليه الكديس، وبعد أن ننتهي من حصاد العدس ونكوّمه كومةً كبيرة، نلمّ الشّوك ونلصقه حول الكديس؛ كي لا تتمكّن الأغنام والأبقار الشّاردة من أكل العدس، وأستغرب كيف كان أيام زمان أماناً ما بعده أمان؟! حيث كنّا نحصد غلالنا، ونتركها كومةً في العراء، فقد كان بكلِّ بساطة يسطو عليها قطّاع الطُّرق واللُّصوص، ويسرقونها بعربيّاتهم وتريلّاتهم، لكنّي لم أسمع ولم أشاهد يوماً فلّاحاً قال أنَّ محصوله تعرّض للسرقة، بينما في الوقت الرّاهن لا أظن أنَّ أمانَ أيَّام زمان متوفّر الآن، سواء هناك في الوطن الأم، أو هنا في ربوع أوروبا بلد الحرية والعدالة والدّيقراطيّة، فهل من المعقول أن يترك المرء محصوله وإنتاج سنة كاملة في العراء، واللَّيل طويل والنّهار أطول، كيف سيعود أمان ما كنّا نتنعّم به منذ عقود من الزَّمان، كيف؟ .. كما قمتُ بعشيفة الكرم، ولملمنا الحشائش من الكرم، وكانت أمِّي تلملم أوراق العنب؛ كي تعدَّ منها وجبة الأبرخ، كم هي لذيذة وجبة الأبرخ. وعند المساء، وبعد أن آخذ دوشاً وأتعشّى، كنتُ أخرج مع الأحبّة ونتمشَّى أحلى المشاوير ليلاً، وبعد مشوارٍ قصير كنّا نعرّج على مرطَّبات أديب الشَّهيرة، نشتري منه الضّونضرمة الشَّهيّة، ثمَّ نسير في الشّارع ونتناولها بشهيّة عميقة، أحياناً كنّا نعود ونشتري كلاسة، وهي ضونضرمة مغلّفة بالشُّوكلاد اللّذيذ، كم يشمخ أمامي شارع المشوار، وكم كان له حضور وجاذبيّة ونحن نعبر أعماقه والصَّبايا الجميلات تعبق في عوالمه الفسيحة، كم من المشاوير الجميلة قمنا بها في ذلك الشّارع البهيج الّذي كان يتميّز بشبابه وشابّاته أيام العزّ. حنين عميق يجرفني إلى تلك الأيَّام وما بعد تلك الأيام، كنّا سعداء للغاية في شارع يؤمُّه الرّوَّاد، يتفرّع منه عدّة شوارع ونشقُّ طريقنا في هدوء اللَّيل، نتجاذب أطراف الحديث مع بعضنا بعضاً والصَّبايا تزيّن الشّارع وتمنحنا فرحاً وسعادة، نشعر وكأنّنا في شوارع باريس، أو شارع الحمراء في بيروت، أو في شارع القصّاع في دمشق. يا إلهي كم صبايا أيَّام زمان كنَّ جميلات، يبدو لي وكأنَّهنَّ كنَّ أجمل من صبايا هذا الزّمن أم أنّ كثافة الشَّارع في مساءات صيف ديريك كان يعطينا شعوراً مضاعفاً بالجمال والفرح والغبطة، حتّى أنّ الشّارع نفسه كان يصبح أكثر جمالاً بصباياه وشبّانه، وتمرُّ الأيّام والشُّهور والسُّنون ويبقى شارع المشوار معرَّشاً في رحاب الذّاكرة. تتراقص قامات الأصدقاء والأحبّة وأزقّة وشوارع ديريك ويبقى شارع المشوار المطلّ على ركن كنيسة السِّريان المعروفة بشموخ قبّتها نحو سموِّ السَّماء، وعلى الجانب الآخر تشمخ كنيسة الأرمن بأحجار جدرانها الزّرقاء الوديعة، ومن الجهة الشّرقيّة للشارع تضيء قبّة كنيسة الكلدان، تنتظر آل برخو وآل شكّري وآل عازو كي يرفعوا دعاء المحبّة فوق أسوار ديريك. آهٍ، نعبر البحار وتبقى ديريك شجرة وارفة في قلوبنا بكلِّ أحبّائها وبيوتها وأديرتها ومساجدها ومدارسها وأزقّتها الَّتي احتضنتنا سنينَطويلة، وماتزال عبر وداعةِ الأحلام!

  1. كيف استقبلتَ نجاحكَ في المرحلة الإعداديّة، وانتقالك إلى المرحلة الثَّانويّة؟

استقبلتُ نجاحي في المرحلة الإعداديّة بفرحٍ كبير، كنّا نلعب كرة القدم في السَّاحة الخارجيّة التّابعة لملحق الإعداديّة، هرع أحد الأصدقاء وبشّر أمِّي وأبي بنجاحي، فخرجت أمِّي إلى الحوش وبدأت تهلهل تهلهيلتها العذبة، كليليليليليلي، خلال دقائق اجتمع عشرات الرّجال والنِّساء والشَّباب والصَّبايا وأهالي الحي في حوشنا. جاؤوا يهنِّئُون أهلي بنجاحي، دخلت خالة أمينة أم فرمان وهلهلَت في حوشنا وسلّمتْ على أمِّي وباستها، ثمّ بدأت أمّي توزّع السّكاكر على أطفال الحي والضِّيوف وقدّمت الشّاي للنساء والرّجال.

كنتُ قد نويتُ شراء علبة راحة وعلبة بسكويت عندما أتلقّى خبر نجاحي، احتفالاً بهذه المناسبة، وفعلاً حالما سمعت خبر نجاحي، وجّهت أنظاري نحوَ محلّات سيروب، واشتريت منه علبة راحة من النّوع الفاخر، وعلبة بسكويت من الحجم الكبير، وذهبتُ إلى البيت بلهفة كبيرة، فاستقبلتني أمِّي وهي تهلهل على رأسي تهلهيلتها الرّائعة، فردّ عليها نساء الحارة ومعهم أختي كريمة بتهلهيلة جماعيّة موحّدة، أضْفتْ على الجوِّ فرحاً كبيراً. رشرشت أختي سكاكر على رؤوس الأطفال، وبدَؤُوا يلملمون السّاكر، عانقني أبّي وباسني، ثمَّ قبّلني إخوتي وأخواتي وعمِّي وأولاد عمي وأولاد وبنات خالي.

كان حوشنا يعجُّ بالزّوار، فقد جاء العديد من رجال وشباب ونساء وصبايا وأولاد الحارة، وفيما كنتُ أوزّع الرَّاحة والبسكويت على الأصدقاء والجيران والأهل الَّذين جاؤوا يهنِّئُوني، دخل أحمو علانة بمزماره وسعدو مطر بطبله، وبدأ يعزف أحمو علانة أغاني راقصة ورافقه بإيقاع طبله سعدو مطرب، فقامت الصّبايا والنّساء والشّبان والشّابات يمسكون الكوڤندة، دبكة الرّقص وقد عزف على إيقاع خانمان في ظهيرة يوم صيفي جميل، ثمّ بدأ أحمو علانة بقامته الطّويلة يعمل الشّاباش على رأسي، ثمّ انتقل إلى والدي يعمل الشّاباش على رأسه، فأخرج أخي خمس ليرات سورية وقدّمها له، وبعد أن قدَّم هو وعازف الطّبل سعدو مطرب وصلةً جميلة، دعاه والدي إلى المنزل، وقدّم له تنكة حنطة من أصفى مؤونة البيت، فرفع يده عالياً، يدعو لوالدي وإخوتي ولي بالتَّوفيق. شعرتُ ببهجة عميقة تغمرني وأنا محاط بهذا الجوّ الجميل، دخلت أختي نعيمة إلى الحوش وهلهلت على رأسي، واستجابت أمِّي لتهلهيلتها، وانتشرت التّهاليل بين النّساء الحاضرات، وقدّمت لي أختي نعيمة قطرميزاً من العسل الصّافي مع شهده، فرحتُ جدّاً بهديّتها اللَّذيذة، ثمّ تقدَّم صهري كورية أبو يعقوب مع والده وهنّآني والفرح يغمر قلوبنا جميعاً، وهكذا أعبر البحار وتبقى هذه الذّكريات والأحداث الدّافئة تغمر قلبي فرحاً وحبوراً، وأزداد شوقاً إلى بيتنا الفسيح في ديريك العتيقة، مسقط رأسي، ستبقين يا ديريك بكلِّ أهلها شجرةً خضراء وارفة في مرافئ قلوبنا إلى الأبد!

  1. ماذا كان يعني لكَ الصّف، اللَّوح، المقعد، الزّملاء والزَّميلات، المدرّسون والمدرِّسات؟

كان الصّف يعني لي مكاناً مقدّساً، دافئاً حميماً، يمنحني الأمل والنّجاح وبشرى الحياة، يعني لي الفرح وأجمل الذّكريات، قضيتُ قرابة ثلث قرن من الزّمن في الصُّفوف، منذ أن التحقت في بالمدرسة الابتدائيّة، فالإعدادية والثّانويّة والصَّف الخاص، وإعادة الثّانويّة الأدبيّة للمرة الثّانيّة والجامعيّة في قسم الآداب في جامعة حلب، ثمّ إعادة الثّانويّة الأدبيّة للمرة الثّالثة، ثمّ الجامعيّة من جديد في قسم الآداب في جامعة دمشق، ثمَّ أبدأ مرحلة التّدريس على مدى (13) عاماً، ثمّ عبور البحار، وفي السّويد عملت في تدريس العربيّة، ثمَّ تابعت دراساتي الجامعيّة بتفوّق في الفنون واللّغة السُّويديّة وغيرها من المواد؛ لهذا كلّه أصبح للصف مكانة مقدّسة في وجودي وكياني وحياتي، الصَّف صديقي وحبيب قلبي، منه وفيه تعلّمتُ أبجديّات الحرف، الّذي فتح أمامي آفاق المحبّة والكتابة والوئام الإنساني، واللُّوح فسحة متنامية بأزاهير الحياة، منه تعلّمت وهج الحنين إلى بوح القصائد، هو عناق مفتوح على أهازيج القلب، اللَّوح وأغاني الحصّادين توأمان، خاصّةً أيام دراساتي في الوطن الأم، والمقعد هذا الخشب المعتّق برحيق العطاء، كان لصيق جلدي، فوقه كتبتُ أسرارَ الطُّموح، ومنه انطلقت نحو آفاق مستقبلي، عانقني دون كللٍ، فجلستُ عليه بكلِّ دفءٍ سنينَ طويلة، وللزملاء والزَّميلات والطُّلاب والطَّالبات حضور بهيج في قلبي، لن أنساكم، أتذكَّركم واحداً واحداً، وللمدرِّسين والمدرّسات مكانة عالية في حياتي، كم أشعر بالشَّوق والحنين إلى مدارس ديريك، وإلى أجواء التّعليم خلال مراحل دراساتي، أقدِّم من هنا من ربوع غربتي خالص الأماني الطَّيبة لكلِّ الَّذين علّموني في مراحل عمري؛ لأنّني لولاهم لما حملتُ القلمَ، ولما كنتُ كاتباً شاعراً أديباً شغوفاً بالحوارِ مع الذَّاتِ، وما حواري مع الذَّاتِ إلَّا حواراً مع ذواتكم أنتم؛ لأنَّ ذاتي متناغمة ومتعانقة مع ذواتكم في الكثير الكثير من جوانب الحياة، فمَنْ منكم لا يرى ويشعر أنّني أتحدَّث عليكم واحداً واحداً عندما أحاور ذاتي؟ فماذا تختلفون عنّي في حنينكم وشوقكم وبكائكم واشتعالكم؟ لهذا حوار مع الذَّات هو حوار معكم جميعاً، حوارٌ مع القرّاء والقارئات أيضاً، هو حوار مع الحياة، مع القصيدة، مع قصص الحياة، حوارٌ مع أمّي وأبي وأخي وأختي وصديقي وصديقتي، حوارٌ مع كروم ديريك وسهول القمح، حوارٌ مع شارع الحرّيّة في محردة ومع شارع القصّاع في ربوع دمشق، حوارٌ مفتوح مع سورية، مع الشّرق، مع الغرب، مع أبجديّات الكون، حوارٌ عميق مع الحياة كلّ الحياة!

  1. كيفَ بدأتَ رحلة الدِّراسة في الحلقة الثَّانويّة منذ بداية الصّف العاشر، الأوَّل الثَّانوي؟

قبل أن التحقَ بالصَّف العاشر، راجعت خلال الصَّيف كلَّ المعلومات الَّتي بحوزتي حول مادّة اللُّغة الإنكليزيّة للمرحلة الإعداديّة، وكذلك راجعت كلّ ما يتعلّق باللُّغة العربيّة؛ لأنّني خطّطت أن أختار الفرع الأدبي، لهذا أحببْت التَّركيز على المواد الأدبيّة والنَّظريّة منذ البداية، وبعد أن التحقت بالصَّف العاشر، بدأت أحضّر دروسي يوماً بيوم، قرأنا في الصَّف العاشر موادَّ أدبيّة وعلميّة كثيرة، وكانت مرحلة ثقيلة علي؛ لكثرة المواد الّتي درسناها، وبرأيي هناك خطأ فادح تقع فيه وزارة التّربية بقراءة الصَّف العاشر المواد العلميّة والأدبيّة، ومن الأفضل أن يتمَّ اختيار الفرع الأدبي والعلمي منذ الصّف العاشر؛ كي يربح الطُّلَّاب قراءة سنة كاملة بنفس الفرع الّذي يختارونه؛ لأنَّ البدء بدراسة الفرع العلمي أو الأدبي من الصَّف العاشر أفضل بكثير من اختيار الفرع الأدبي أو العلمي في الصَّف الحادي عشر، وذلك تسهيلاً للطلّاب، وتعميقاً لمعلوماتهم منذ السَّنة الأولى من المرحلة الثّانويّة. سررتُ جدَّاً وأنا أنتهي من دراستي الصَّف العاشر، وبرغبة عميقة اخترت الفرع الأدبي، تاركاً خلفي الرّياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم؛ كي أتفرّغ للأدب والفلسفة والعلوم الاجتماعيّة، بعيداً عن المعادلات الرِّياضيّة والجبر والهندسة الّتي كانت ترهق كاهلي!

  1. لماذا اخترتَ دراسة الفرع الأدبي، ما الَّذي استهواكَ في هذا الفرع النّظري؟

اخترت الفرع الأدبي واستهواني الفرع النّظري؛ لأنَّ شخصيّتي مجنّحة منذ البداية نحو فضاءِ الأدب والفكر والرُّؤية النّقديّة التّحليليّة، وهذا الفرع يحقِّق لي طموحاتي على أكثر من صعيد، سواء المتعلّقة بالدِّراسة والتَّعليم، أو المتعلِّقة بالأدب والفكر والإبداع، وما كنتُ نهائيَّاً أتخيّل نفسي أن أدرس الفرع العلمي؛ لأنَّ المواد العلميّة ما كانت تستهويني، وكنت أعتبرها مواد ثابتة جامدة لا إبداع فيها، مع أنَّ أي تخصُّص من التَّخصُّصات العلميّة أو الأدبيّة فيه إبداع بلا شك، لكن هذا النّوع من الإبداع، المتعلّق بالرِّياضيات والهندسات والعلوم الفيزيائيّة والكيميائيّة، إبداعٌ بعيد كل البعد عن مزاجي وعالمي وفضائي في التّفكير، لهذا أميل جدّاً إلى الآداب والفنون والموسيقى والمسرح والسِّينما والرّسم؛ لأنَّ دراسة هذه الأنواع من الدِّراسات، تمنحني متعة عميقة وتحفِّزني على أن أعمل يوميِّاً في فلكها وفضائها ساعات وساعات دون أن أشعر بالملل نهائيّاً، وأغلب الظّن أنَّ عدم استساغتي وشغفي بالمواد العلميّة، ناجمٌ على الأرجح عن عدم تفوّقي في هذه المواد، وبالتّالي شعرتُ بضرورة أن أتفوّق في جانب آخر غير المواد العلميّة، فما كان عليّ إلَّا التَّركيز على المواد الأدبيّة؛ كي أحقِّقَ طموحاتٍ كامنة في داخلي؛ لأنَّني كنتُ أشعر منذ بداية دراستي أنَّ هناك في داخلي هاجس البحث، هاجس الإبداع، هاجس استنباط أفكار جديدة، هاجس التَّحليل والتَّفنيد، وهذه الهواجس بدأت تظهر جليَّاً خلال المرحلة الثَّانويّة عندما اخترت الفرع الأدبي، فقد كانت مادّة الفلسفة ملاذي في إرواء غليلي للإجابة عن الكثير من تساؤلاتي الفكريّة، كما كانت اللُّغات الطَّريق الَّذي قادني إلى واحات الأدب والكتابة، لهذا كانت هذه الآفاق الّتي تصبُّ في الإبداع والفكر من أهم تطلُّعاتي الَّتي راهنتُ عليها منذ ذلك الوقت، حيث رأيتُ أنَّ اللّغة ستكونُ محراب سفينتي الَّتي أبحر عبرها في غمار الحياة كي أصل بأمان إلى الشَّواطئ الدّافئة الّتي أبحث عنها، وكانت الفلسفة المنطلق الَّذي سأبني عليه رؤاي في مستقبل الأيّام، وكلُّ هذا جعلني أن أختار الفرع الأدبي؛ كي أحقِّق آفاق تطلُّعاتي الَّتي أسعى إلى تحقيقها بكلِّ هدوءٍ، منذ أن كنتُ طالباً في الصَّف الحادي عشر أدبي وحتّى الآن!

  1. لماذا كنتَ تحضِّر مادّة الإنكليزي والفلسفة قبل أن يشرح مدرّسا المادّتَين درسيهما في الصّف؟

كنتُ أحضِّر هاتين المادَّتين قبل أن يشرحها مدرسّا المادّتين؛ لأنّني كنت شغوفاً جدَّاً بهاتين المادّتين؛ ولأنّني كنت أرى أنَّ كلَّ مستقبلي القادم سيكون مرتكزاً عليهما وعلى اللُّغة العربيّة، لهذا كانت هذه المواد الثّلاث هي المواد الَّتي ركّزت عليها وكنت متفوّقاً بها، وقد استهوتني مادّة الفلسفة إلى أبعد الحدود، شعرت بانجذاب عميق لقراءة وتحضير الدَّرس قبل أن يشرحه المدرّس؛ كي أستطيع استيعابه أكثر؛ وكي أكون قادراً على مناقشة المدرِّس في بعض الأفكار الّتي ما كنتُ مقتنعاً بها، مخالفاً وجهات نظر بعض النَّظريات الفلسفيّة الَّتي جاءت في مقرّر المادّة، كنظرية الجبر الإلهي، وأفكار أخرى وردت بين دفّتي المنهاج، وبرأيي تعدُّ الفلسفة أمّ العلوم الفكريّة، ومن دون رؤية فلسفيّة تحليليّة عميقة، لا يمكن أن يتقدَّم المجتمع البشري والفكر البشري خطوة نحو الأمام؛ لأنّ جوهر الفكر الإنساني محوره هو الفلسفة بكلِّ أبعاده الفكريّة؛ لأنَّ الفكر الفلسفي يقوم على منطق تحليلي سببي وهو أشبه ما يكون بمعادلات رياضيّة ضمن سياقات فكريّة، والمنطق الفكري في الفلسفة هو الّذي ساهم في تقدّم وتطوير وتنوير أغلب مجتمعات الكون، وكل دولة تركّز على رؤية فلسفيّة وفكريّة وعلمانيّة تنويريّة عميقة، وتستوحي دساتيرها وقوانينها من هذه الأفكار، نراها من أوائل الدُّول المتقدِّمة، ونظراً لأهميّة مادّة الفلسفة ضمن المنهاج وفي سياقات الرُّؤية المستقبليّة، أحببت أن أحضّرها قبل المدرّس، لحبّي العميق لها؛ ولأنّني حسبت حسابي منذ البداية أنَّ ثلاث مواد تقرّر نجاحي المضمون بسهولة ويسر في المرحلة الثَّانويّة، وهي: الفلسفة، اللُّغة العربيّة، واللُّغة الإنكليزيّة؛ لأنَّ بقيّة المواد: التَّاريخ، الجغرافية، المجتمع والتّربية الدِّينيّة، كانت مواد سهلة لا تتطلَّب سوى مراجعتها وقراءتها بشكل عابر، فلو أمّنت نجاحي بتفوّق وبعلامات جيّدة في المواد الثَّلاثة الَّتي أركّز عليها، لا تقلقني المواد الأربعة الباقية؛ لأنّني أحتاج أن أنجح في مادَّتين أخريين فقط، ولو رسبت في مادّتين على أن يكون مجموع المادّتين ربع العلامة من أصل مجموع المادَّتين، سأكون من النّاجحين! لهذا جعلت نجاحي المضمون قائماً على المواد المحوريّة الثلاث الَّتي أحببتها حبّاً عميقاً، وكنت متفوِّقاً بها، ونجاحي في هذه الموادّ هو مؤكّد مهما كانت الأسئلة صعبة، حتّى ولو جاء بعضها من خارج المنهاج؛ لأنّني كنتُ قادراً على الإجابة عنها ولو بشكل عام، فكيف لو كانت الأسئلة من صلب المنهاج!

أمّا اللُّغة الإنكليزيّة فكانت مادّتي المفضّلة، وكنتُ أقرَؤُها وأحضِّرُها بشغفٍ منقطع النّظير؛ لأنّني كنت وما أزال أعدُّ اللُّغة الإنكليزيّة هي مفتاح العبور إلى ثقافات الكون! فهي لغة الأم العالميّة، وكنتُ قد أسَّستُ لغتي الإنكليزيّة في المرحلة الإعداديّة واستمرِّيت في تأسيسها وتعميقها في الصَّف العاشر، وشعرت أنّني لا أحتاج نهائيَّاً مدرِّساً يدرِّسني في الصَّف الحادي عشر والبكالوريا؛ لأنّني كنتُ أحضِّر المنهاج تقريباً كما يحضرّه المدرّس، وكان لدي معجم إنكليزي إنكليزي الخاص بالمفردات واللّفظ، وكنتُ قد اشتريتُ حلول التّمارين من المكتبة، لكنّي كنتُ أحلُّ التَّمارين من دون أن أنقلها مباشرة وأقارن إجاباتي بالحلول، ولو وجدْتُ حلَّاً غير صحيح عندي أحاول معرفة سبب خطَئِي، فكان يترسّخ في ذهني الحلّ الصَّحيح أكثر، وهكذا كنتُ أحضّر الدَّرس قبل المدرِّس، وكم كنتُ أشعرُ بمتعة وأنا متمكّن من ناصية اللُّغة والدَّرس، وأستوعب الشّرح بسلاسة من دون أيّة مشكلة، وكلُّ هذا ساعدني على أن أجتاز المرحلة الثَّانويّة بجدارة، وأتذكّر جيّداً كيف التقتني الزَّميلة سميرة موسى قبل امتحان مادّة الإنكليزي وقالت لي: اليوم “هولكتك هيِّي” أي اليوم يومك، فضحكتُ وقلتُ لها: فعلاً اليوم يومي، وأعجبني استخدامك عبارة “هولكتك”، فضحكت هي الأخرى وقالت: فعلاً “هولكتك هيِّي” يا صبري! ضحكنا ونحن نسير نحو قاعة الامتحان!

أيّام دراسيّة جميلة، وطموحات شاهقة، ستبقى معرّشة في مروج الذَّاكرة إلى أمدٍ بعيد!

  1. كيف تنامى لديك شغف عميق بمادّة الفلسفة وكنت تناقش بعمق مع أستاذ المادّة فوزي خرطبيل؟

كان لمادّة الفلسفة هيبة على بعض الطُّلَّاب؛ لأنّها تتضمَّنُ لغة فكريّة عالية المستوى وفيها الكثير من المفاهيم المجرّدة الجديدة على الطُّلَّاب والطَّالبات لأوِّل مرة، وتحتاج إلى ذهن يمتلك بُعداً فكريّاً ثقافيّاً منطقيّاً، وكان دارجاً عندما يتحدَّث شخص ما ويحلِّل ويناقش مع صديقٍ ما والآخر لا يعجبه محاججاته، يردُّ عليه قائلاً: لا تتفلسف، وكأنّ المحاججات والتَّفنيدات والتّحليلات لغة عائدة إلى الفلسفة، وقد يكون معه الحقّ الَّذي يردُّ على مَن يظنُّ أنّه يتفلسف؛ لأنَّ لغة الفلسفة قائمة على التَّحليل والتَّفنيد والعمق في الرُّؤية إلى درجة أنَّ الآخر غير قادر على الرَّدِّ عليه، ردّاً صائباً، لاعتماد الأوّل على تفنيدات سببيّة مقنعة، لهذا أعجبتني الفلسفة؛ لأنّها بدَتْ لي منذ البداية كأنّها أم العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، ومفسِّرة لكلِّ الفكر الإنساني؛ لأنَّ الرّؤية الفلسفيّة قائمة على استنهاض الفكر نحو أرقى المستويات، وهي في حالة تحليل وتقييم وتطوير دائم للفكر الإنساني، وتجعلنا نفهم الحياة ودقائق العلوم الإنسانيّة، وبدَتْ لي الفلسفة كأنّها مفسِّرة الحياة برمّتها، وتجيب على كافّة أسئلة الوجود الّتي راودَت وتراود البشر؛ لهذا وجدت نفسي هائماً وشغوفاً بها وبكلِّ ما يصدر عنها، وهذه المادّة تجعل المرء قادراً على التّشكك في أي فكر ما لم يثبت الفكر صوابه ودقّته؛ لأنّه علم قائم على المنطق وعلى السّببيّة، أي لكلِّ سبب مسبّب، بمعنى لا يخرج شيء من العدم، ولابدّ لكلِّ علّة معلول، ولكلِّ سبب مسبِّب، ومن هذا المنظور وجدتني منجذباً لمادّة الفلسفة، أحضّر الدَّرس قبل المدرّس وغالباً ما كنت أناقش مدرّس المادّة الأستاذ فوزي خرطبيل الَّذي كان يتميّز برحابة صدره في النّقاش، وأحياناً كان يندهش من طروحاتي في بعض القضايا الفلسفيّة كنظريّة الجبر الإلهي الواردة في بعض فصول المنهاج، حيث كنت أطرح طرحاً مغايراً لما ورد في النّظريّة؛ لعدم قناعتي بما جاء في تحليل المنهاج، وماأزال أرى أن منطق الجبر الإلهي لا يخضع لمنطق فلسفي وعقلي وفكري محض، بقدر ما يخضع إلى رؤية إيمانيّة دينيّة خالصة، ولا مجال للنقاش فيها، لأنّها رؤية ناجمة عن حكم إلهي كما هو الأمر في موضوع القضاء والقدر، ولهذا النّقاش في هذه المجالات لا يقودنا فلسفيّاً إلى منطق منطقي وفلسفي دقيق، بل يوصلنا إلى نظريّة الجبر الإلهي كُنْ فليكن: أو هكذا شاءت إرادة الإله سواء اقتنعنا أو لم نقتنعْ بما نقرَؤُه، وهي ليست رؤية فلسفيّة بل رؤية دينيّة.

إنَّ أهم ما في الفكر الفلسفي هو رصانة الرُّؤية الفلسفيّة وقوةّ ثباتها وصحّتها ودقّتها، وهي رؤية إنسانيّة تنويرية تقدُّميّة تفسيريّة لمنطق الفكر عبر المراحل التّاريخيّة، وإنَّ قوّة وأهمِّيّة الفكر الفلسفي تكمن في أن النّظريات الفلسفيّة ومنطق التَّحليل قائمان على رؤية متجدِّدة، حيث نجد عبر التّاريخ البشري كيف تطوّرت عبر كل مرحلة زمنيّة، وهي بالتّالي خاضعة بشكل مستمر لمنطق جديد متجدِّد بحسب قدرة الفيلسوف على تقديم رؤية خلّاقة منطقيّة جديدة، وهي بهذا السِّياق تختلف عن التَّفسير والتَّحاليل الدّينيّة، وبرأيي أن نقرأ النِّصوص الدِّينيّة من منظور فلسفي، لأنّ الفكر الإنساني يتطوّر، ولابدَّ في هذه الحالة من تفسير النُّصوص الدِّينيّة بشكل متطوّر، وبهذه الحالة يمكن أنَّ نقول: أن النُّصوص الدِّينيّة تتطوّر تفسيريّاً هي الأخرى!

  1. لماذا كنتَ تناقش مدرّس الفلسفة بموضوع الحرّيّة والجبر الإلهي، وما كان يقنعكَ موضوع القدر؟

لأنّني ما كنتُ أقتنع بنظرية الجبر الإلهي، وحتَّى تاريخه هذه النَّظريّة لا تقنعي؛ لأن ليس فيها منطق فلسفي أو طرح منطقي؛ لأنّها جبريّة! أي تقمع الآخر وتنفي مبدأ الحرّيّة، وهي غير عادلة من وجهة النّظر المنطقيّة، حتّى أنّها في بعض جوانبها تنفي الرُّؤية الدّينيّة؛ لأنّ الإنسان حرّ في التَّفكير، فأين هي حرّيته طالما هناك ما هو مقدّر عليه عبر نظريّة الجبر الإلهي وأهمّها موضوع القدر؟ فإذا كان كلّ شيء مقدّراً على الإنسان من قبل الله، فلماذا يحاسبه الله على أفعاله؟ لأنَّ أفعاله في مثل هذه الحالة القدريّة، ليست ناجمة عن فعل الإنسان بقدر ما هي تنفيذ لما قُدِّرَ عليه من قبل الله، وأنا أرى أن يكافئ الله الإنسان الَّذي نفّذَ ما قُدِّرَ عليه من قبل الله، لأنّه أطاع الله، ولو توغَّلنا عميقاً في تحليل ونقاش كهذا نرى أنَّ نظريّة الجبر الإلهي بهذا المنظور لا معنى لها؛ لأنّها تجرِّد الإنسان من الحرّيّة وبنفس الوقت تحاسبه على أفعال لم يختَرها بقدر ما كانت مقدَّرة عليه ونفّذها بحسب ما تقتضيه الإرادة الإلهيّة، ولهذا كنتُ منذ أكثر من (40) عاماً غير مقتنع من هذه الرُّؤية المتعلّقة بنظريّة الجبر الإلهي وحتّى تاريخه لا أقتنع بها؛ لأنَّ عقلي لا يقبلها؛ ولأنَّ هذه النَّظريّة تنفي حرّية الإنسان وفي الوقت نفسه تحاسبه على ما يرتكبه من أفعال، مع أنّ أفعاله بحسب نظرية الجبر الإلهي ــ القدر، ناجمة عن إرادة الله في تنفيذ ما كُتِبَ على جبينه أو ما قُدِّرَ عليه، وهكذا ندور عبر نظريّة الجبر الإلهي في حلقة فارغة خاوية لا تركن إلى أي منطق.

إنّ أي قارئ للفكر الفلسفي والمنطق والعدالة لا يقبل نظرية الجبر الإلهي، والمرتبطة بشكل مباشر بالقدر، أي ما هو مقدّر سلفاً على البشر بكلِّ تصرّفاتهم وأعمالهم وممارساتهم، ولو كان الأمر مقتصراً على معرفة الله لِمَا يقوم به البشر، لكان الأمر سهلاً ومقبولاً، وأمَّا أن يكون مقدّراً على البشر كل أفعالهم من قبل الله فهذا يتنافى مع مبدأ الحرّية ويتنافى مع مبدأ العدالة ومبدأ المحاسبة أيضاً؛ لأنَّ أفعال البشر في هذه الحالة ناجمة عن قدرٍ سماوي قدّره الله على البشر، ولهذا أتساءل أين المنطق فيما قُدّرَ على البشر أن يتحاسب عليه البشر؟! من هذا المنطلق لا أقتنع بهذه الرُّؤية القدريّة المسبقة على البشر، وهي تنفي موضوع التَّطوّر والتَّقدم للإنسان؛ لأنَّ تطوّر المجتمع البشري قائم على التَّفكير والتَّحليل؛ وقد حقَّق الإنسان تطوّرات خلّاقه منذ نشوئه على وجه الدُّنيا حتّى الآن، وأنا أميل إلى نظريّة الحرّيّة؛ أي أنّ الإنسان يقوم بما يراه مناسباً من دون أن يكون مقدَّراً عليه أن يفعل هذا الأمر أو ذاك ويتحاسب على فعله سواء عبر القانون الأرضي أو السَّماوي، وأمَّا أن يصرّ أصحاب نظريّة القدر الإلهي أن الله قدّر على البشر أن يفعلوا كذا وكذا وكذا، فإنَّ هذا يتنافى كلِّياً مع مبدأ التَّفكير الحرّ ويجعلنا نقول: أنَّ ما يقوم به المرء هو عبارة عن تطبيق ما يراه الله أو ما قُدِّرَ على الإنسان، وبالتَّالي كلّ ما يقوم به البشر من أفعال غير محاسَبين عليه؛ باعتبار أنّه تنفيذ لقدرٍ إلهي على البشر، وهذه الرُّؤية تتنافى مع سموِّ الله ومع أنّ الله إله خير ومحبّة وعدالة، فأين العدالة في أن يُقدَّر عليَّ أن أعمل عملاً مشيناً مثلاً وأُحاسَب عليه، أو أعمل عملاً فاضلاً وأُكافَأ عليه، على الوجهين عملي ناجم عن إرادة عليا، فلماذا أُحاسب أو أُكافأ عليه إذاً؟!

  1. ما رأيك بالحب، بالإخلاص، بالعطاء والتّعاون؟!

إنَّ أسمى كلمة ومفهوم ومضمون على وجه الدُّنيا هي المحبّة وما يتفرّع عنها من عطاءات، ومن دون الحبّ لا معنى للوجود والحياة، ولا يمكن للمرء أن يقدِّمَ عملاً راقياً وإنسانيَّاً وحضاريّاً من دون الحبّ، والحب يشمل الحياة برمّتها، فهناك حبّ المرأة، وحبّ الطَّبيعة، وحبّ الأبوين والأهل، وحبّ الله، وحبّ الإبداع والفنون والموسيقى، وحبّ العلوم، وحبّ مئات الهوايات والتَّخصُّصات، وكلّ هذه الأنواع من المحبّة ترتكز على العطاء والصّفاء والتّجلِّي في منح المحب أرقى ما لدينا من عطاء، ولهذا قيل: أنَّ الله محبّة؛ لما لهذه الكلمة من معنى عميق وشامل لا يضاهيها كلمة أخرى على وجه الدُّنيا!

والمحبّة من دون إخلاص لا قيمة للحبِّ والمحبّة؛ لأنَّ الإخلاص هو الرّكن الأساسي الَّذي يرتكن عليه الحبّ، وأي عمل نقوم به من دون إخلاص ينتهي بالفشل، وكلّما أخلص المرء للحبّ، ولأيِّ عمل يقوم فيه، حقَّق نجاحاً كبيراً؛ لأنَّ الإخلاص هو سلَّم رُقِيِّنا ونجاحنا وسموِّنا إلى أعلى الدَّرجات، لهذا على الإنسان أن يكون مخلصاً فيما يقوم به من أعمال فكريّة أدبيّة ثقافيّة عاطفيّة إنسانيّة؛ كي يكون معطاءً بشكلٍ يليق به كإنسان مخلص ومحب لكلِّ ما هو خيِّر للمجتمع الَّذي يعيش فيه، ويقدّم أرقى ما لديه للإنسانيّة من عطاءات راقية، وهنا يأتي دور العطاء المرتبط بالإخلاص والمحبّة؛ لأنَّ هذه المفاهيم الثَّلاثة متكاملة ومرتبطة مع بعضها أشدّ ارتباط، فلا حبّ من دون عطاء، فالعطاء هو نعمة من النِّعم الّتي يتميّز بها الإنسان، ومن خلال كلّ هذه المفاهيم الرَّاقية، نجد أنفسنا أمام حالة وئام وتناغم مع ذواتنا ومع تواصلنا مع الآخرين، ويتمُّ من خلال التَّعاون فيما بيننا، لهذا للتعاون الدَّور الأكبر في نشر وترجمة هذه المفاهيم على أرض الواقع، فكلَّما تعاونَّا مع بعضنا بعضاً، حقِّقنا نجاحاً وعطاءً وإخلاصاً راقياً، وهكذا فإنَّ المحبّة والإخلاص والعطاء والتّعاون مربّع متكامل الأضلاع في معيار سويّة الإنسان ضمن المجتمع الّذي يعيش فيه، وهو عبر تنفيذ هذه المفاهيم يحقَّق أرقى قيم إنسانيّة له ولغيره ممّن يتواصل معه!

  1. ما رأيك بالعلم والمنطق والحرّيّة والعدالة الاجتماعيّة؟

إنَّ العلم هو الرّكيزة الأساسيّة الّتي نبني عليها حضارة الإنسان منذ أن نشأ على وجه الأرض حتّى الآن، فلولا العلم لما عشنا في حضارة اليوم؛ ولما حقّقنا كلّ هذه المنجزات العلميّة والتّقنيّة والتّكنولوجيّة والفنّيّة والأدبيّة والإبداعيّة الّتي تخدم البشريّة في كافّة أنحاء العالم، وإنَّ العلم يرتكز على المنطق بالدّرجة الأولى؛ لأنّ علم المنطق هو العلم الّذي نُشيد عليه نظريات العلوم، وكلّما اعتمدنا على المنطق حقّقنا تقدُّماً كبيراً على كافّة الأصعدة الّتي نعمل عليها، إلّا أنّنا لا يمكن أن نحقِّق هذه النَّجاحات في مجال العلم والمنطق لو لم يتوفّر لدينا شرط الحرّيّة، فعبر فضاء الحرّيّة نستطيع أن نرفع من شأن العلوم بكلّ ما تقتضيه أسباب المنطق، وهكذا فإنّنا عبر العلم والمنطق والحرّيّة نحقِّق كلّ سبل الرّفاهية والسّعادة والتّقدم للمجتمع البشري ونحقِّق عبر هذه الأركان الثَّلاثة العدالة الاجتماعيّة في المجتمع، وكلّما صغنا قوانين ودساتير البلاد على أسسٍ علميّة، فيها جوهر المنطق هو السّائد عبر فضاء الحرّيّة، حقّقْنا العدالة الاجتماعيّة من أوسع رحابها ووصلنا إلى الأهداف المنشودة وعشنا في رفاهيّة وسعادة ما بعدها سعادة!

  1. كيف حضّرتَ مواد الثَّانوية العامّة، القسم الأدبي، هل كان لديك برنامج معيّن للتحضير للامتحان؟

لم يكُن لدي برنامجٌ محددٌ في تحضير المواد، كنتُ أحضّر المواد من خلال الدَّوام اليومي، فقد حضّرت جيّداً المواد الثّلاثة الّتي أحبّها بعمق: الإنكليزيّة والفلسفة، واللّغة العربيّة، وقد كان لدينا في مادّة اللُّغة العربيّة: الموضوع أو التّعبير كتابَين، التَّراجم والنّقد وكتاب الأدب، يأتي من كلِّ كتاب موضوع، ونختارموضوعاً من الموضوعَين، فأحببتُ أن أركّز على كتاب التَّراجم والنَّقد، وأقفز على كتاب الأدب، مع أنّني درسته خلال الدَّوام، لكنّي لم أحضّره قبل الامتحان؛ لأنّني قرّرت أن أختار الموضوع الخاص بالتَّراجم والنّقد، وقد تجاوزت قراءة الكتاب الخاص بالأدب، ولم أقرَأْهُ نهائيّاً، واكتفيت بقراءة التّراجم والنّقد، وكان يتضمّن بشارة الخوري، محمّد كرد علي وبعض المذاهب الأدبيّة، وقد جاء أحد المواضيع من قسم بشارة الخوري، وكنت قد حفظت قرابة (20) بيت شعر من الموضوع الّذي جاءنا بالامتحان، احترتُ بالشَّواهد الَّتي أكتبها، فاختصرتُ الشَّواهد إلى (12) بيتاً وكتبتُ موضوعاً مختزلاً أخذ صفحة من الحجم الكبير، وأمّا الجغرافية فقد ركّزت على بعض الأسئلة الَّتي ممكن أن تكون السُّؤال الرَّئيسي، وتوقّعت أن يكون السُّؤال الرئيسي أدرس “حوضة دمشق” وحدَّدتُ حتّى الدّرجات (9) درجات، وجاءنا هذا السُّؤال فعلاً، وكنت قد عمّمْتُ هذا السُّؤال قبل امتحان المادّة بيوم وقرَأَها عشرات بل مئات الطُّلّاب من القامشلي، كما ركّزت على قراءة الخرائط وبعض المتفرّقات من الأسئلة الفرعيّة، ولم أقرأ المنهاج بالكامل؛ نظراً للحشو الكبير الَّذي فيه، وقد كان لدينا كتاب عن جغرافية الوطن العربي، مقرّر كبير وسميك جدّاً نصف ما جاء فيه حشو ولا داعي لقراءته، وكتاب آخر: الدُّول العظمى، قرأته بشكل ملخّص، لخَّصت مضمونه بحدود (50) صفحة، وقرأت الملخَّص مع الأسئلة الهامّة والخرائط، وأمّا مادّة التّاريخ فما كانت تستهويني هذه المادّة، لهذا قرأتُ الجزء الأوّل، وحذفت كلِّيّاً الجزء الثّاني! واكتفيت بتصفُّح الجزء الثَّاني تصفُّحاً سريعاً وقراءة بعض الأسئلة، وأمّا مادّة المجتمع فكانت سهلةً، قرأتها بتركيز خلال الدّوام، وراجعتها قبل الامتحان، بينما قراءتي للفلسفة قبل الامتحان فقد كانت كتاب مشكلة العمل وكتاب المعرفة وكانا سهلَين علي؛ لأنّني حضّرتهما بعمق، وركّزت على الموضوع، وكان مهمَّاً جدّاً الموضوع؛ لأنّه يتطلَّب تحضير الفقرة الّتي نكتب عنها موضوعاً، وتوقّعت من جملة ما توقّعت قولاً للويس لاڤيل عن الحرّيّة، ولخّصت قوله بجملة حول الحرّيّة، ثمَّ كتبت ناقش ما يقصده لويس لافيل حول الحرية! وبالفعل توفّقت بهذا الموضوع أيضاً، حيث أتفاجأ أول سؤال رئيسي في الفلسفة يفتتح كما يلي: يقول لويس لافيل أنَّ الحرّية ……، ناقش الموضوع مع الأمثلة الّتي تدعم أقوالك!

وأمَّا اللُّغة الإنكليزية فلم أقرأ سوى القصائد، حيث كان يردنا سؤالٌ يأتي من القصائد الشّعريّة، ويتمّ اختيار مقطع من قصيدة، ويترك خمس فراغات في النّص، ونحن نملأ الفراغات من الذّهن دون أن تُدوَّن الكلمات  في أعلى الفراغات، لهذا كان يتطلّب هذا السُّؤال حفظ القصائد غيباً، ولهذا حفظت القصائد المطلوبة كلّهاغيباً! وأمّا القواعد والتَّرجمة والتّمارين فلم أقرَأْها قبيل الامتحان؛ لأنّني كنت قد قرأتها واستوعبتها بعمق خلال العام الدِّراسي، لكنّي اكتفيتُ بمراجعة الكلمات والمفردات الخاصّة بالحلقة الإعداديّة والثّانويّة ومفردات قاموسيّة استهواني حفظها وكانت تربو على عشرة آلاف كلمة من مختلف أقسام الكلام!

  1. تقدّمتَ لامتحان الثَّانوية العامّة في القامشلي، تحدّث عن كيفيّة خوض هذا الامتحان 1975م؟

إنَّ خوض هذا الامتحان كان غريب الأطوار، خطّطتُ قبل أسبوع من موعد الامتحان أن أسافر إلى القامشلي لتقديم امتحان البكالوريا، حيث ما كان في حينها متاحاً لافتتاح مركز امتحان في ديريك؛ لأنَّنا كنّا شعبة بكالوريا أدبي وشعبة علمي، لهذا تمّ ضمّ هاتين الشّعبتين إلى مركز امتحان الطّلائع في القامشلي!

جهّزت لي أمّي تنُّوراً من الكليچة كخطوة أولى قبل يوم من انطلاقي، وجهَّزت كتبي ودفاتري وملخَّصاتي، كما جهّزتُ لباسي الضّروري، ولكنّي كنت محتاجاً لمبلغ من المال، فعقدنا اجتماعاً أُسريَّاًطارئاً؛ وخرجنا بنتيجة مفادها أن نكلِّف زوجة أخي سليمان السَّيّدة فريدة حنّا بأن تستدين مائة ليرة سورية من أختها شوشان حنّا أم سنحريب، فذهبت تقصد أختها، وبعد قرابة ساعة عادت ومعها مائة ليرة، وعدتها أنّني سأردُّها إلى أختها حالما أنتهي من امتحاني، وأشتغل في حصاد البيقيا التَّابعة لمزارع الدَّولة آنذاك! ضحكت فريدة وقالت: يا عيني مو مشكلة، أنتَ دبّر حالك وقدّم امتحانك، وإيْمَتْ ما ترجّع الأمانة رجّعها!

قبضت مائة ليرة سورية آنذاك، وربّما الآن تعادل شراء بضع سجائر من الحمراء القصيرة، أو سندويشة فلافل، أو سندويشة كباب! حتّى أن هذا المبلغ ما كان يكفي آنذاك للنزول في أرخص فندق في القامشلي، حتّى ولو نمت على سطح الفندق، لهذا وجّهت أنظاري بعد أن ودَّعت الأهل وأخذت عنوان السَّيّدة وردة أم ميخائيل وهي ابنة عمّتي، حيث حصلت على عنوان بيتها من عمّتي بيكي الّتي كانت على تواصل معها، وكانت قد استأجرت غرفة ومطبخاً صغيراً، “بْخيري” في الحي الغربي من القامشلي!

حمل أخي حقيبتي إلى كراج التّكاسي، وحجزت راكباً في تاكسي السِّيرفيس بـ (5) ليرات سوريّة، وضعت حقيبتي الكبيرة في باكاج السِّيارة، وصعدتُ في المقعد الثَّاني بجانب الشّباك، وبعد لحظات طبّقت السّيّارة بالرّكّاب، وانطلقنا باتجاه القامشلي، شعرت برهبة ليس خوفاً من الامتحان؛ بل لأنّني انطلقت قبل يومين من بدء الامتحان، ولا أعرف شيئاً عن مكان مركز الامتحان، ولا مكان مركز النّوم، كم تمنّيتُ وأنا في السِّيارة لو كان الامتحان في ربوع ديريك أتقدّم لموادي بكلِّ حرِّيتي وأنام على مزاجي وأسهر على كامل راحتي، ولكن هذه الأماني ماذا تفيدني والسِّيارة قد قطعت أكثر من نصف الطَّريق، وبطاقة اكتتابي الثَّانية تنتظرني بعد يومين على مقعد من مقاعد مركز الطّلائع في قدور بك!

وفيما كنّا على مقربة من قبور البيض، وإذ ببقرة شاردة تقطع الطَّريق العام، فشاهدها السَّائق وخفَّف من السُّرعة بطريقة أقلقَ كلَّ الرّكاب، والبقرة قطعت طريقها بكلِّ اطمئنان، كأنّ الإشارة الخضراء تنتظرها مع أنّه ما كانت أيّة إشارة خضراء أو حمراء على كلّ طرقات سورية البرّيّة آنذاك، وتوقّفت السِّيّارة بضعة أمتار قبل أن تصطدم بالبقرة، فقلت للسائق: يا أخي خلّيتني أنسى ثلاثة أرباع ما قرأته على مدى سنة كاملة من المواد الّتي سأقدُّمها بعد يومين، فضحك كلَّ الرّكاب بما فيهم السَّائق، وأجابني: أن تنسى ثلاثة أرباع المعلومات الَّتي حفظتها أفضل من أن تنساها كلّها ونصطدم بالبقرة، ونذهب في ستِّين داهية، فضحك الرّكاب ثانيةً وتعالت قهقهاتي، معلّقاً على تعليقه الطّريف:الله يعطيك العافية يا أخي على تفاديك هذا الحادث المحتّم، لكنّك على ما يبدو سائق ماهر وتعرف كيف تتجّنب البقرات والأغنام الشَّاردة، ولا يهمّك يا أخي، حفظنا الدَّرس جيّداً مثلما تحفظ موادّك. أنت عندك امتحان مرَّة في السّنة، بينما نحن عندنا كلّ يوم امتحان! الله يكون في عونكم، وخلال نصف ساعة من بعد تفادينا الاصطدام بالبقرة كنَّا على مشارف القامشلي، دخلنا الكراج وقال السّائق لنا: الحمدلله على سلامتكم يا جماعة، الله يسلّمك، ردَّينا عليه.

أخذتُ حقيبتي ووجّهت أنظاري نحو الحيِّ الغربي، وبعد حوالي ربع ساعة كنتُ على الباب الخارجي، من دون أيِّ موعدٍ سابق مع أصحاب البيت! دقَّيتُ الباب الخارجي فخرجت صبيّة من الحوش، وقالت: خير شو بدّك، فقلت لها: هل هنا بيت العم جورج لبناني؟ قالت: أيوه، مين حضرتك؟ حضرتي من ديريك وضيف لبيت ابنة عمّتي وردة، فنادت الصّبية أم ميخائيل: تفضّلي عندك ضيف، ابن خالك من ديريك!

جاءت أم ميخائيل، واستقبلتني ببشاشة وقبَّلتني، قائلة: أهلاً ابن خالي العزيز، تفضّل! حملتُ حقيبتي ودخلتُ الحوش، ثمَّ عبرنا المنزل، غرفة من غرف القامشلي الَّتي يؤجّرونها للمحتاجين أمثال ابنة عمّتي!

سلّم عليّ صهرنا أبو ميخائيل، وابنته مريم وإيڤونة، وأمّا يعقوب واسكندر فقد كانا يعملان في أحد الأفران. وأمّا ولي العهد الابن الكبير ميخائيل فأغلب الظَّن كان في حينها يؤدّي الخدمة الإلزاميّة، أو كان في بيروت. بدّي أعملك غداء يا صبري، لا عمّة، كنت أناديها عمّة مع أنّها كانت ابنة عمّتي؛ لأنّها كانت بعمر أختي الكبيرة وربّما أكبر بقليل! وقلت لها: ممكن نشرب كأس شاي، وفيما كنّا نشرب الشَّاي، قلت لأم ميخائيل: عمّة الأهل بديريك بخير ويسلّمون عليك، وأنا جئت إليكم؛ لأن عندي امتحان بكالوريا، فهل ممكن أن تستقبلوني خلال أيّام الامتحان بحدود (15)يوم؟ فقالت وهي تبتسم: أشلون مو نستقبلك يا ابن خالي؟ أصلاً ما صدَّقت اجيت لعندنا! الله يبارك فيكِ عمّتي ويخلّيكِ ويخلّي الأولاد والبنات. أجاب أبو ميخائيل: أهلاً وسهلاً بك وإن شاء الله تقدّم امتحانك وتكون من النّاجحين، أجابت أم ميخائيل: آمين يا رب!

فتحتُ حقيبتي وقدّمت الكليچة لعمّتي، فقالت: خلّي الكليچة الك عيني، فقلت لها: لا عمّة سنأكلها جميعنا مع الشّاي، ووضعتُ كتبي في ركن من أركان الغرفة، أمسكتُ كتاب التَّاريخ وأحببتُ أن أبدأ بتحضير المادّة، كان الحوش يعجُّ بالأطفال والصّبيان والصّبايا، ضجيج من العيار الثَّقيل، لا يمكن أن يركّز الطَّالب نهائيّاً في أجواءٍ كهذه، وضعتْ لي عمّتي طاولة صغيرة في المطبخ وكرسياً صغيراً؛ كي أدرس هناك كمكتب لي، وبدأت أدرس فعلاً ولكن كل ربع ساعة، نصف ساعة كانوا يحتاجون غرضاً ما من المطبخ وكان بحدود (2.5 × 3.5)م ويحوي الكثير من الأغراض، والمؤونة ومساحة متر بمتر مخصَّص للحمّام الدُّوش، يفصلنا عن الغرفة ستارة! وبعد حوالي ساعتين جاء يعقوب واسكندر وقالت لهما: صبري ابن خالي جاء من ديريك، وعنده امتحان بكالوريا، لكنّه يدرس الآن في المطبخ، خرجتُ وسلّمتُ عليهما وبدأنا ندردش قليلاً، ثمَّ أعدّوا الغداء عصراً وتناولنا طعاماً شهيَّاً، وسألتُ الشَّباب عن عنوان مدرسة الطَّلائع، فقالوا: إنّها قريبة من قدور بك، غداً يجب أن أعرف مكان المركز؛ لأنّ امتحاني هو بعد الغد!

حاولت أن أقرأ لكنّي كنتُ مشوَّشاً وغير قادر على التَّركيز، عند المساء، فرشت لي الفراش في الحوش، وحاولت أن أقرأ على ضوء المصباح الَّذي يضيء مدخل الغرفة، وأنا مسترخٍ على دوشك كبير ومريح، وهم ناموا في المنزل، فرشة مريحة ولحاف سميك من الصُّوف، استسلمت للنوم ونمتُ نوماً عميقاً. توجّهت في صباح اليوم التَّالي إلى مركز الامتحان ومعي مقرّري، فيما كنتُ أسير على رصيف الطَّريق فتحت كتابي وبدأت أقرأ بعض الفقرات استغلالاً للوقت، كم شعرتُ بأهمِّيّة الوقت والهدوء والتّركيز، وصلتُ إلى المركز، ثمَّ عدْتُ إلى المنزل، وفكّرت أن أخترع طريقة؛ كي أقرأ وأحضِّر موادي بعيداً عن عالم الغرفة؛ لأنّني شعرتُ وكأنّي في طريقي إلى نسيان أبسط معلوماتي، استقبلتني عمّتي عند الباب بابتسامة!

دردشنا قليلاً، كنتُ أنا وعمّة ومريم وإيڤونة، كانت إيڤونةطفلة جميلة مثل الملاك، عمّة أنا أريد أن أدرس موادّي بشكل مركّز، وأحتاج إلى مكان للدراسة، فكّرتُ بهذا الأمر منذ يوم أمس، وخطر على بالي أن أدرس في المشتل وأصلاً أنا في ديريك كنتُ أدرس أيّام الصَّيف في الطّبيعة والبرّيّة، وقد لفتَ انتباهي مشتل القامشلي بعد أن سألتُ بعض الطّلاب عن مكان للدراسة في الطَّبيعة، فقالوا عندك المشتل أنسب مكان للدراسة بعيداً عن الضَّجيج، في هذه الحالة يا عمّة سأدرس نهاراً في المشتل وأخصِّص البيت فقط للنوم، وآمل أن لا تفكِّري أنّني متضايق، فأنتم لا تقصِّرون أبداً لكن ظروف البيت والحوش لا تناسب للقراءة هنا، فأنا أعدُّ نفسي لامتحان البكالوريا وهذه الامتحانات صعبة، وتحتاج إلى تركيز واستغلال الوقت!

ادرس عيني في المشتل طالما هذا يريّحك! أنا مرتاح جدّاً لو أدرس نهاراً في المشتل. تناولنا الغداء وشربنا الشَّاي، ثمَّ استأذنت منهم وأخذت معي كتاب التّاريخ الجزء الأول، وكليچتَين، ووجَّهت أنظاري نحو المشتل، يا إلهي كم كان المشتل مناسباً لي، كأنّه مصمَّم لدراسة موادّي! قرأتُ من السّاعة الواحدة حتّى إغلاق المشتل من قبل البوّاب، كان المشتل كبيراً مكثّفاً بالأشجار، وكنت أقرأ وأسير حول المشتل مرّات ومرّات، عدتُ إلى البيت، استقبلتني عمّتي وهي مرتاحة؛ لأنّني قضيت وقتاً في قراءة مادّتي، وسألتني هل درست جيّداً، أيوه درستُ جيَّداً والمشتل يناسب جدَّاً مراجعة موادي فيه نهاراً! العشاء جاهز، تفضّل تعشّى، جهزّت العشاء وتناولنا سويةً، كانت مريم تقوم بحركة في رضفة ركبتها وتطقطقها، اندهشتُ كيف تتحكّم بطقطقة ركبتها، وقلتُ لها: لا تقومي بهذه الحركة يا مريم لئلا تتعطّل حركة صابونة ركبتك! ضحك الجميع بما فيهم مريم! بعد العشاء بقليل قلت لعمّتي: فكّرت يا عمّتي لو استغل قراءة موادّي على أضواء مصابيح الشَّارع، على راحتك ياعيني، أخرجتُ طاولة صغيرة وكرسياً صغيراً، وجلست على كرسيّ، وبدأت أقرأ ما تبقَّى من المادّة، كان بعض الضّجيج في الحارة، الأولاد يلعبون على أضواء المصابيح، تركتهم على راحتهم، وبحدود السَّاعة التَّاسعة ذهبوا إلى بيوتهم، ووقفت أدرس في الشَّارع على أضواء مصابيح الشَّارع، وأردِّد التَّعدادات غيباً، وبحدود الساعة (12) ليلاً انتهيتُ من الجزء الأوّل من التّاريخ، ولم أتمكّن من مراجعة الجزء الثَّاني وحدّدت (20) سؤالاً من الكتاب الثّاني، وقلت لعمّتي أن توقظني في الصّباح الباكر بحدود السّاعة السّادسّة؛ كي أراجع هذه الأسئلة، وأتوجّه بعد ذلكَ للامتحان!

راجعت صباحاً بعض هذه الأسئلة، لم يكن الجوُّ في الصَّباح مناسباً للقراءة، والمشتل كان مقفلاً، فقرأت الأسئلة بطريقة مشوّشة، جلستُ على مقعدي في قاعة الامتحان، وزّعوا الأوراق الخاصّة بالإجابات والمسوّدات، ثمّ وزّعوا الأسئلة، قرأتُها بهدوء وأعصابي هادئة، كنت أعرف الإجابة على نصف الأسئلة، (15) درجة من أصل (30) وعليّ من أصل (15)درجة أن أحصل على (12) درجة؛ كي أنجح في المادّة كحدٍّ أدنى! شعرت بخيبة أمل، وما كنت أحبّ هذه المادّة أصلاً! أجبت عمَّا أعرفه، وعرفت من خلال إجاباتي أنّني من الصّعب أن أنجح في هذه المادّة، وهمست في سرّي: ولتكُنْ مادّة من المواد الّتي أرسب فيها، وعندي مجال أرسب في مادّة أخرى وأنجح في بقيّة المواد؛ كي أكون من النّاجحين! خرجت من القاعة، استقبلتني عمّتي، فابتسمتُ لها وهي تدعو لي:  يارب تنجح يا ابن خالي، إن شاء الله يا عمّتي!

فيما كنتُ عائداً من المشتل بعد أن حضّرتُ مادة الجغرافية، وعندي فراغ في اليوم الثَّاني، وإذ بعمَّتي تستقبلني ببشاشة وقالت لي: عندي لكَ بشرى سارّة، فقلت: ماذا تخبِّريني يا عمة؟ فقالت: يوجد طالب في الحارة يدرس بكالوريا أدبي وقلت له: عندي ابن خالي من ديريك كمان عنده امتحان بكالوريا، فهل ممكن أن يدرس معك أثناء اللَّيل في غرفتك؛ كي تدرسا مع بعضكما وتناقشا بعض الأسئلة؟ فسألني هل هو شاطر؟ فقلت له: أيوه ابن خالي شاطر! فقلت لها: كيف عرفت عمّة أنّني شاطر؟ قالت لي لأنّك تحاول المستحيل أن تقرأ حتَّى ولو في المشتل؛ لهذا عرفت أنّك شاطر؟وتحبُّ الدِّراسة والقراءة، وقلت لها:حقيقة عمة أنا شاطر، وضحكنا ونحن نسير نحو بيت الطّالب، سلّمت عليه، ودخلنا إلى غرفته وبدأنا نتعرّف، وبعد قليل دخلت أخته وقدّمت لنا فنجانين شاي!  فقلت له: ما رأيك نأكل كليچة مع الشّاي؟ عندك كليچة؟ أيوه عندي في بيت عمّتي، غداً نأكل الكليچة، سألني عن تحضيري لمادة الجغرافية، فقلت له: عندنا وقت اليوم وغداً وليلة الغد كي نحضّر المادة، وعندي برنامج لهذه المادّة أؤمّن لك النّجاح فيها! نظر إلي وقال: أراك واثقاً من نفسك، طبعا واثق من نفسي، عن أذنك سأذهب بيت عمّتي؛ كي أجلب معي ملخَّصاتي وكل ما يتعلّق بالمادّة؛ كي نسهر ونحضّر المادّة! أوكي تفضّل، استقبلتني عمّتي وقالت: شو رأيك بسمير؟ قلت لها: رائع، سآخذ بعض الكتب والملخّصات؛ كي أسهر عنده والباب الخارجي مفتوح سأعود في وقت متأخّر من اللّيل. تعشَّى قبل ما تروح، تعشَّينا وأخذت معي (4)كليچات، مساء الخير، أهلاً وسهلاً، تفضّل كليچة من كليچات أمّي، راح نأكلها مع القهوة كي نسهر طويلاً، جيّد فكرة صائبة، فرشتُ أوراقي على الطَّاولة، عندي من كتاب الوطن العربي قرابة (30)سؤالاً، (5)أسئلة للسؤال الرَّئيسي و (25) سؤالاً فرعيَّاً بما في ذلك الخارطة! اللَّيلة سنقرأ كلّ هذه الأسئلة، وغداً سنقرأ ملخّص الدُّول العظمى، قال لي: هل ممكن أن أصوّر هذه الأوراق؟ بكلِّ تأكيد، ذهبنا نحو أقرب مكتبة كنَّا في بداية السَّهرة وصوَّر كلّ الأوراق، أوَّل سؤال رئيسي: أدرس حوضة دمشق (9)درجات! ضحكَ سمير وهو يقرأ (9)درجات، فقلت له: لماذا تضحك؟ فقال:لأنّك تحدّد الدّرجات؛ لأن السُّؤال الرَّئيسي غالباً هو (9)درجات، درسنا المنهاج إلى وقت متأخّر من اللّيل وفي، اليوم الثّاني درسنا الدّول العظمى، ثمَّ راجعنا الأسئلة المتوقّعة، لا تنسى أن توزّع السُّؤال الرَّئيسي على كلِّ أصدقائك مع الخارطة، والأسئلة الفرعيّة! بكلّ تأكيد سأوزّعها على رفاقي!

خذ أقصى الحائط، بالوسط خلّيك على استقامة واحدة. وزّع رئيس القاعة الأسئلة، قلبت الأسئلة على قفاها بعد دقيقة أمسكتها وبدأت أقرَؤُها، 1. أدرس حوضة دمشق (9) درجات! يا إله الفرح، همست في سرّي! قرأت الأسئلة كلّها وإذ أغلب الأسئلة من الأسئلة الّتي قرأناها معاً، النّجاح مؤمّن مئة بالمئة في هذه المادّة!

كان مركز امتحانه أقرب إلى المنزل، سبقني وذهب إلى بيت عمّتي ينتظرني هناك، يا هلا أنت هنا، أشكرك كلّ الشُّكر؛ لأنّك قرأت معي الجغرافية، سأنجح بكلِّ تأكيد بجهودك وتوقُّعاتك! رائع سؤالك أدرس حوضة دمشق (9) درجات يا نبي! والخارطة وأسئلة أخرى. استفدت منك أكثر من قراءتي على مدى سنة.

فرحت عمّتي أم ميخائيل وقالت لسمير: ابن خالي شاطر، فقال لها أحلى ابن خال عندك في الدُّنيا! تفضَّل تفضَّل أنت معزوم عندنا على الغداء واستأذنتُ من العمّة. لا تحرجني. يالله يالله تفضّل البيت بيتك!

استقبلتنا والدته ووالده وأخته، في غرفة الصَّالون، جاءت أمّه وقالت: سمير مبسوط جدّاً لأنّك درستَ معه الجغرافية، ويا ريت لو درست معه التَّاريخ! لا تذكِّريني بالتّاريخ أرجوكِ! خلَّينا، بالجغرافية وبالمواد القادمة!

الغداء كان لذيذاً، ابتسمت أخت سمير وقالت: سمير يحبّك كثيراً؛ لأنّك أمّنتَ بتوقّعاتك علامة النّجاح له خلال يومين! اندهشتُ عندما قرأتُ الأسئلة وقارنتها بتوقّعاتكَ، قلت له: الله أرسل صبري إليكَ يا أخي!

اجتزنا الامتحان مادة تلو الأخرى! في المجتمع، حصرت ثلاثة أرباع الأسئلة الَّتي جاءت بالامتحان، في الفلسفة السُّؤال الرَّئيسي الموضوع (20) درجة من أصل أربعين و(14) درجة من (20)من الأسئلة الفرعيّة! جنَّ جنونه عندما لخّصت له السُّؤال الرَّئيسي لمادّة الفلسفة وجاء بحذافيره، وحضَّرت فقط (3) مواضيع  فكان أوّل موضوع، خرج من امتحان الفلسفة، متوجِّهاً إلى بيت عمّتي قائلاً لها: أنتِ أحلى عمّة؛ لأنّك أرسلتِ ابن خالك عندي كي يدرس معي، أخذني بالقوّة وهو يقول لأمّه:ِ نجاحي سيكون على يد هذا الإنسان يا أمّي! تخيَّلي يا ماما أستاذ الفلسفة حدّد لنا (10) مواضيع ولم يأتِ منها ولا سؤال، بينما صبري حدّد (3) مواضيع فكان أوَّل موضوع (20) علامة، وحفظته كما سلّمني إيّاه. ولكن يا أخي صبري عندي أصعب مادّة عليّ هي الإنكليزي، اشلونك بالإنكليزي؟ ممتاز، المنهاج عندي سهل واستوعبه كمدرّس المادّة! معقول، يعني تقدر تحل تمارين القواعد! قُل المنهاج كلّه، تمارين، التّرجمة، القصّة، الشّعر، تركيب الجُمل، سؤال العواميد آ ب، حروف الجرّ، الفراغات ..! لا يفوتني أي سؤال يخطر على بالك! لا تمزح، لا يا عزيزي لا أمزح نهائيّاً، نجاحي مؤكّد من جهتي مئة بالمئة، ولو تعطيني انتباهك سأحقِّق لكَ النَّجاح! دقيقة خلّيك بالانتظار، ذهبتُ إلى البيت جلبت كلّ ما يتعلق بمادّة الإنكليزي، لا يلزمني مراجعة أي شيء من المادّة سوى مراجعة الشِّعر والكلمات، سأقرأ تصفُّحاً كلمات الحلقة الإعداديّة والثَّانويّة، ولكن أي سؤال يخطر على بالك اسألني سأجيب لك عنه! شرحت له كيفية الإجابة عن الأسئلة، درسنا يومين متتاليين وشرحت ما يحتاجه وحدَّدْتُ (3) قصائد، وحدَّدت مقاطع من القصائد، وجاءت فعلاً القصيدة المحدّدة.

اجتزت امتحان الإنكليزي بنجاح باهر، كانت الأسئلة معه، ولم يكن واثقاً من إجاباته، فقلتُ له سأصحّح لك إجاباتك! جلست أخته بعد أن قدَّمت فنجان القهوة، وفيما كنت أصحِّح له إجاباته، قاطعتني: عفواً صبري هل أنت أستاذ إنكليزي؟ لا عيني، أنا طالب بكالوريا، لكنَّكَ تشرح وتحلُّ إجابات سمير وكأنّك أستاذ إنكليزي، فقال سمير: فعلاً أنا نفسي شعرت بهذا! ضحكتُ وقلت: خلَّونا بتصحيح الورقة! جمعت علاماته فقلت له: علامتك بين (20 ــ 22) درجة من أربعين والنَّجاح هو (16) درجة نحذف منها (4) درجات ممكن أن يكون عندك أخطاء إملائيّة أو في القواعد، يعني أقل من (18) درجة مستحيل تكون علامتك، حملني ثمَّ قال لي: أنت هديّة من السَّماء الله جابك عندي! بقي امتحان العربي، حدَّدت (6) مواضيع من التَّراجم والنَّقد وقلت له: أنت حرّ لو تدرس كتاب الأدب أنا لن أدرسه، كانت المواضيع عندي ملخّصة، صوَّرها، وشرحْتُ له العروض والإعراب والصُّور البيانيّة وشرْح الشّعر ..، تقدَّمنا للامتحان وإذ بموضوع محدّد وملخّص عن بشارة الخوري، جنّ جنونه وهو يقرأ الموضوع، اندهشتُ أنا الآخر، أجبتُ عن الأسئلة، وقبل نهاية الامتحان، وإذ بصديق لي يسحب مسودتي من أمامي ويعطيني مسودته، فشاهدنا رئيس القاعة، في الجرم المشهود، خفتُ خوفاً شديداً، لكنّني اضطرَرْتُ أن أستخدم أقصى ما لدي من اقتحام المعارك، فجاء إليّ وقبل أن يحكي كلمة؛ً لأنّه كان بصدد أن يطردنا كلينا من قاعة الامتحان بسبب محاولة الغش، ولديه إثبات؛ لأنَّ اسمي كان مكتوباً على المسودة، وكذلك اسم صديقي على مسودته، وما كنت متَّفقاً معه لكنّه تصرَّف بتهوّر، التفتَ للخلف وبدّل المسودّتين، وعندما جاء رئيس القاعة همستُ في أذنه لحظة أستاذ إيّاك ثمَّ إيَّاك أن تقترب على هذا الطّالب، فقال لماذا؟ قلت له إنّه عنصر من أمن الدَّولة ولو تعيد مسودتي منه أو تؤشِّر على أوراقنا سيخرِّب بيتكَ تماماً، فإيّاك أن تخرّب بيتك بيدك، تصرّف وكأنَّ شيئا لم يكُنْ، وتصرّف صديقي كرجل أمن وبدأ يزوّره، ففهم منه أنّه خط أحمر، وهكذا انطلى عليه أنّه أحد عناصر أمن الدَّولة، ولم يكُنْ لدي حلٌ أقوى من حل كهذا، ثمَّ تركنا في حال سبيلنا، وبدأنا نكتب وصديقي بدأ ينقل خلال نصف السَّاعة الأخيرة الموضوع والإعراب والعروض والصُّور البيانيّة وقليلاً من شرح القصيدة، جاء رئيس المركز وهو يهمس إليّ إن شاء الله ما أزعجناكم، لا ما في مشكلة حصل خير، يلزمكم شي، لا ما يلزمنا، تركنا نأخذ راحتنا ونتابع الإجابة عن بقيّة الأسئلة، كنت قد نقلت الموضوع أوَّلاً وقسماً كبيراً من إجاباتي، وما لم أتمكَّن من نقله كنت أعرف الجواب، فكتبته على المبيضة مباشرة!

خرجنا من الامتحان، وجاء زميلي وعانقني وقال لي: أريد أن أفهم ماذا قلت لرئيس القاعة بعد أن ضبطنا بالجرم المشهود؟ توقّعتُ أن يحرمنا من الامتحان، فقلت له: وضعت المخطّطات الاحتياط ونجحتُ، فضحك وقال: أي مخطّط تقصد؟ فقلت له: ما كان أمامي سوى ثوان كي أنقذ الموقف، وقرَّرتُ خلال ثوانٍ أن أغامر وأتصرّف، وشو تصرّفت؟ فقلت له: ألم تلاحظ أنّني كنت أتحدَّث معه بهمس وبطريقة مخابراتيّة؟ قال: بلى لاحظت أنّك توشوشه في أذنه، أجل تلك الوشوشات هي الَّتي أنقذتنا، ماذا قلت له؟ قلت له: أنّكَ عنصر من عناصر أمن الدَّولة ولو تسحب أوراقنا أو تحرمنا من الامتحان ستذهب في ستِّين داهية! تفضّل خلِّيك عند اللُّوح بدون أن تخرِّب بيتك بنفسك! فقال: تفضّل أكتب، لا من شاف ولا من دري.

قهقه صديقي وهو يقول يا رجل عليك قلب فيل، عبقريّة مدهشة منك أن تتصرَّف بهذا الشّكل، وإلّا يا عزيزي كنّا قد ذهبنا نحنُ في ستِّين داهية، مع أنّني كنت منتهياً من إجاباتي، كنتَ ستحطِّمني يا صديقي وأنتَ أصلاً كنتَ من دون شيء محطّماً! ضحكنا ثمّ قال: وأنا بدوري شعرتُ أنّك قلتَ له كلاماً خطيراً لهذا نظرتُ إليه وزوّرته، فجاءت تزويرتك تأكيداً لما وشوشته.

كان سمير في الانتظار مع أبيه وأمّه وأخته، عند باب بيت عمّتي! لأنّ عمّتي كانت في السُّوق، عانقني، وسلَّم والده عليّ وباستني أمّه وسلّمت أخته بحرارة وبسمة مشرقة! ثمّ دعوني إلى حفلة الانتهاء من الامتحان، وإذ بالبيتِ كان عامراً بالأهل، وقدَّمني إليهم أنَّ نجاحه سيكون على يدي!

جاءت عمّتي، ولم تجدني، ثمَّ جاءت إلى بيت سمير لتطمئنَّ على مادّة العربي، فشاهدتنا نحتفل بوليمة غداء “مطنطنة” ونحن في أوج فرحنا، ففرحت هي الأخرى بهذه اللَّمَّة، شكرها سمير على اقتراحها بالدِّراسة سويةً، وطلب منها أن تجلس بجانبه، بعد أن تناولنا بكلِّ فرح طعام الغداء، ودّعتهم، وعدنا إلى المنزل، انتظرت إلى أن جاء يعقوب واسكندر، وأبو ميخائيل، ودّعتهم جميعاً واحداً واحداً، وشكرتهم على ضيافتهم الطّيّبة، مؤكّداً لهم أنَّ نجاحي مضمون مئة بالمئة، وقالت عمّتي لي: سلّم على خالي و “مَرْط”/ زوجة خالي وأولاد خالي والأهل وخالة بيكي. رافقني يعقوب إلى الكراج وحمل حقيبتي، وفيما كانت السّيارة تعبر الطّريق نحو ربوع ديريك، تخيَّلت مشهد تبديل صديقي مسوداتنا، واندهشتُ كيف نجحتُ بهذه المغامرة بعد كلِّ هذه الجهود الَّتي بذلتها، وتفاديت كارثةً محتومة، وهمستُ في سرّي بارك الله فيكم أيُّها المخابرات؛ فلكم الكثير من الفوائد ولا ندري! مرّت أمامي ساعات وأيّام الامتحان، كيف انطلقتُ من المطبخ وانتهت معركة العبور بوليمة طيّبة في بيت سمير وقلوبنا غامرة بالسُّرور، استقبلني الأهل في ديريك بفرح كبير، جاء الأهل وسلَّموا عليّ، ثمَّ خطّطْتُ أن التحقَ بورشة حصاد البيقيا، اشتغلت أسبوعين، كل يوم بثماني ليرات سورية،  قبضت (112) ليرة، سدّدت مباشرة ديني لأم سنحريب (100) ليرة بالتمام، وعزمت أصدقائي على بوظة، وضربت يدي بمالي على المليان، كنّا نأكل البوظة بشهيّة مفتوحة وأنا أستعرض لهم مقتطفات ممّا حصل معي بالامتحان، وكم بدَت لي مراحل خوضي للامتحان كأنّها مستوحاة من قصص ألف ليلة وليلة!

  1. بعد أن تقدّمت لامتحان الثَّانوية العامّة، القسم الأدبي، عدْتَ تعمل في حصاد البيقيا مع مزارع الدَّولة، وكان زميلك عادل فقَّة معلاناً: مشرفاً على الحصاد، تحدّث عن ذكريات حصاد البيقيا؟

بعد أيّام من خوضنا امتحان الثَّانوية العامّة، التحقتُ بإحدى ورشات حصاد البيقيا، وإذ بزميلي “عادل فقّه” يُعَيَّن معلاناً؛ أي مشرفاً على العمَّال، وهكذا أصبح زميلي بليلةٍ وضحاها مشرفاً مباشراً عليّ، متوعّداً إيّاي بدعابة بديعة، لا لا ما راح تقولّي شو معنى “غوست” بالإنكليزي، أي شبح أو خيال! إذا ما أصير عليك مثل الشّبح راح تشوف، تقدَّم نحوي الصَّديق كريم متّو الَّذي التحق مؤخّراً بالمدرسة الصّناعيّة في الحسكة، يقول لي: يا شيخ صديقك “عادل فقّه” أصبح معلاناً علينا، شو رأيك لو مرّات نفركها من حصاد البيقيا ونذهب إلى شاطئ نهر الدّجلة، وهناك نجلس بجانب الشَّاطئ تحت الأشجار، ونسمع إلى أغاني الصَّبايا اللَّواتي يحصدْنَ من الجهة الأخرى من النّهر؟ لا داعي أن نقول له، نستطيع أن نُيمّم نحو النَّهر على أساس أنّنا سنقضي حاجة طبيعيّة، ثمَّ نوجّه أنظارنا إلى موجات النّهر وهي تنساب بسرعة فائقة، وهناك نستطيع أن نسمع إلى أصوات الصَّبايا، كم كان صوتهنَّ جميلاً وهنَّ يُغنّيْن على إيقاع مناجلهنَّ، ويردِّدنَ على بعضهنَّ كأنّهنّ في عرض كونسيرت جميل في الهواء الطَّلق، نحضره عن بُعد وعن حبٍّ عميق!

عدنا بعد غياب ساعة تقريباً، وحالما رآنا صديقنا المعلان “عادل فقّه” قال لي: لقد غبتما حوالي ساعة كاملة، وسأحسم من يوميّتكما ليرة على الأقل، ضحكت وأنا أقول له: احسمْ ما تشاء؛ لأنَّ استماعنا إلى أغاني الصَّبايا كان يساوي حق يوم كامل من حصاد البيقيا، وبما أنَّ “عادل فقّه” كان مطرباً من العيار الجميل، أجاب، بحسب كلامك: راحت عليّ، وأضاف المشكلة لو ذهبت معكما من سيبقى مشرفاً على العمّال؟ فقلت له هذه مشكلتك كي تتأدّب مرّة أخرى، وتصبح معلاناً، وتفوّت عليكَ هكذا فرصة، ربّما تتعلّم منهنَّ لحناً جديداً أو أغنية جديدة غير منتشرة في ديريك، وتكون السَّبّاق في تقديمها عندنا، وتطغى على “عبدو علانة” وتصبح لك إضافة جديدة في الغناء، هكذا فُرص لا تتوفّر دائماً يا صديقي.

همس لي كريم متّو: ماذا قال لك عادل، هل عرف أنّنا غبنا طويلاً؟ فقلت له: أيوه عرف وقلت له: راحت عليك أحلى وصلة غناء، فقال لي المشكلة لو شمّعتُ الخيط مثلكما من سيشرف على العمّال؟! ضحك كريم وقال: قُلْ له خلّي في المرّة القادمة يروح معك وأنا سأبقى معلاناً، أخاف لو عيّنك معلاناً يا صديقي وفركها معي تضعه غياباً وتحسم من يوميّته، ضحك كريم وقال مو بعيد أعملها طالما سأكون معلاناً ومن صلاحيّاتي! خبّرت عادل عن اقتراح كريم بترفيع مرتبته إلى معلان، ضحك عادل وقال صدّقني فكرة رائعة، لكنّي سرعان ما قلت لعادل: فكرة رائعة نعم، ولكن كريم شديد جدّاً عندما يكون في موقع المسؤوليّة، ولو وكّلتَ إليه هكذا مهمّة، ليس من المستبعد أن يضعك غائباً ويحسم من يوميّتك، ضحك عادل، ثمَّ ضحكوا الصَّبايا عندما رأونا نضحك، وتقدَّم كريم نحونا وهو يضحك أيضاً، ماذا قلت له كي تضحكان بهذا الشّكل، فقد تحوّل حصاد البيقيا إلى موجات من الضّحك المتواصل، عندما شرحت لكريم عن أسباب ضحكنا، عاد وضحك من جديد. تقدّمت نحوي “قَدُوْ” بنت الملَّا ومعها سليمة وقالت لي قَدُو: الله يخلّيك صبري قل للمعلان عادل خلِّي في الاستراحة يغنِّي لنا قليلاً كي نرقص طالما هو خفيف الظّل ويحبُّ المرح والضُّحك وصوته جميل جدّاً، فقد حضرت له عدّة حفلات! ولا يهمّك سأبلّغه اقتراحكِ، لكن بحيث لمَّا نرقص تمسكي بيدي، أوعدك سأرقص بيدك. تقدّم عادل نحوي، وقبل أن يبادرني السُّؤال، قلت له يا صديقي بعد نصف ساعة سيبدأ وقت الغذاء والاستراحة، بالحقيقة الصّبايا وعلى رأسهم “قدُوْ” يطلبنَ منك برجاء كبير أن تغنِّي لنا وصلة غنائيّة ويرافقك على الإيقاع كريم متّو وقد طلبوا منِّي هذا الطّلب، عندما وجدوا فيك روح البشاشة ومعلاناً مرحاً تحبُّ الفرح والمرح والضُّحك مع العمّال، ويعرفون أنَّ صوتك جميل جدّاً في الغناء، وتأملُ “قَدُو” وصديقاتها ونحن معها أن لا تخيِّب أملهم وطلبهم!

والله هايي ناقصنا، شو مفكّرنا في حفلة؟ وليش لحتّى ما نكون في حفلة أو سيرانة، أيوجد أجمل من هواء طيّب كهذا وطبيعة خلّابة، نطلُّ على نهر الدّجلة، تعرف البنات يحبُّونك كثيراً، ولكن كيف سأغنِّي في العمل، أفرض لو جاء فجأة رئيس العمل والعمَّال عمّو عيدو؟ أش يجيب عمّو عيدو في هذا الظَّهر؟

جاء كريم وقال شو في، شرحت له الفكرة فقال أنا جاهز كضابط إيقاع، نستطيع أن نبدأ بأغاني خانمان؛ كي يرقصوا عليها حول الكديس كأنّه منصّة المسرح، ضحك عادل وقال: والله “تَحَلَّاندْ”! أي أبدعتَ في الرّد! جاءت “قَدُوْ” وهمستْ لي، هل قلتَ له؟ أيوه قلتُ له وتقريباً راح يقتنع. رائع صبري، برافو عليك! ثم قلت لقَدُو: تعالي عندي فكرة قويّة. ما هي؟ شو رأيك لو نحمِّي رأس المعلان وتغنّوا على رأسه أغنية:

“چالا بيِّيُو هاي چالا بي آو كيَّا زافا”! ثمَّ تردّ بعض الصَّبايا: “عادلا زافا” .. بهذه الطَّريقة سنضعه في حالة حماس، ونمهّد له الجو كي يغنيِّ، وربّما تضرب في رأسه ويغنِّي، وقد بقي للاستراحة دقائق، جاء كريم متّو ويقول: لوين وصلتم؟ وصلنا إلى فكرة أن تبدأ الصَّبايا بأغنية “چالا بيّيُو” على رأس “عادل فقّه”، وحالما تبدأ الصَّبايا بالغناء، حضرتك تقوم وتحمل عادل فوق كتفك، ضحك كريم وقال: تريدوا أحمله من الآن؟ طوّل بالك، بعدَ أن يبدأنَ الصَّبايا. اجتمعن الصّبايا حولي وأعطيتهم إشارة البدء، وبدَؤُوا يغنّون بصوتٍ واحد، “چالا بيّيُو هاي چالا بي آو كيّا زافا”، فتردُّ مجموعة الكورس: “عاااادلا زااااافا”! ثمَّ يقوم كريم بحمل عادل خلال ثوانٍ ويصفّق الشَّبان والشَّابات وهلهلنَ بعض الصّبايا على رأس عادل ثمَّ ردَّد الجميع عاااادل عاااادل عاااادل! وأنزل كريم عادل من على كتفه وقال له: الآن جاءت الفرصة والوقت المناسب كي تغنِّي بصوتك الرّائع، وحمَّسته أنا الآخر تفضّل يا صديقي لا تخجّل الصَّبايا الحلوات والشَّباب، لا تنسَ عندنا الآن استراحة الغداء ساعة كاملة من حقِّنا أن نرقص ونغنِّي ونأكل خلالها! أنت المعلان ورئيس العمَّال والمسؤول عن كلّ شيء! ابتسم عادل وقال فعلاً ليش لحتّى ما نفرح ونغنِّي طالما نحن في حالة استراحة؟ وبدأ عادل يقول: أحم أحم ويصفّي صوته، ثمَّ جلب كريم سطلاً من البلاستك كدربكة، وبدأ عادل يغنِّي ويرافقه كريم على إيقاع الأغاني كأنّها دربكة خالص، وبدأنا نرقص وأمسكت في رأس الكوڤندة، فأمسكت “قَدوْ” بيدي وسليمة بيدها وأخوها محمود، ثمَّ كبرت الكوڤندة، وبدأنا نرقص وعادل يغنّي ونحن نردُّ عليه ككورس. هلهلنَ بعض الصَّبايا وأصبح الكديس/ كومة البيقيا الكبيرة في وسط دائرة الرّقص، وعادل يغنِّي بحماسٍ، وكريم يأخذ مجده على الإيقاع، وفجأةً يأخذه الحماس ويعطي الإيقاع لإحدى الصَّبايا، ويرقص في رأس الكوڤندة، ويشتدُّ الحماس والزَّغاريد تقوم ركباً، وفيما نحن في قمّة فرحنا وجدنا عمّو عيدو أمام المطرب المعلان عادل فقّة وجهاً لوجه! مردّداً: يا ماشاء الله، ماشاء الله على هيك معلان! مشرف على العمَّال يغنِّي ويحوِّل العمل إلى ساحة رقص حول الكديس، فقال له: صدّقني عمو عيدو الفكرة هي فكرة صبري، فقال له: يا معلان يا مشرف على العمّال، حتّى ولو كانت الفكرة فكرة صبري، فهو مجرّد عامل عندك، كيف يقنعك بأن تغنِّي وترقصوا بكلِّ هذا الحماس كأنّكم في حفلة حقيقيّة وصوت غنائكم وتهاليلكم يصل إلى آخر الدّنيا؟ يا ريت لو كان عندكم هكذا حماس لحصاد البيقيا! دخلتُ على الخطّ بس عمّو عيدو الآن عندنا استراحة ومن حقِّنا نقضي استراحتنا كما يحلو لنا! شي حلو، عندكم استراحة ما هيك، أنت بالذَّات يا صبري تسكت، بدّي أحسم منك (3) ليرات؛ لأنّك تحرِّض العاملات والعمال والمعلان على الرّقص والغناء، طوِّل بالك عمّو عيدو من المفروض تعطيني مكافأة مو تحسم من يوميّتي؛ لأنّني أحرّك الجو وأعمل لك نشاطاً للعمال، لا تنسَ أنَّ العمَّال بعد هكذا استراحات، يتنشّطون ويحصدون البيقيا بهمّة كبيرة، خاصّة لو استمروا يحصدون ويغنّون على إيقاع المناجل كما تحصد الصَّبايا من خلف النَّهر. ومن قال لك أنَّ الصَّبايا من خلف النّهر يغنُّون وهم يحصدون؟ كنّا نسمع أصواتهم من هنا، فانحسدنا منهم وقلنا لِمَ لا نقوم بالغناء مثلهم طالما معلاننا يغنِّي أحلى الأغاني؟ أوعدك عمّو عيدو أنّنا سنحصد بهمّة بعد أن تنتهي استراحتنا، ثمّ غمزتُ الصَّبايا وقلتُ لهنَّ واحد اثنين بصوت واحد على رأس عمّو عيدو، “دوس دوس إيمان ربّي زين زين مكحول العين واللّي يعادينا الله عليه”!!! ثمَّ بدأتُ أردِّد عمّو عيدو عمُّو عيدو وبدَؤُوا يردِّدون معي إلى أن ضحك عمّو عيدو وقال لي: والله معه حق عادل يقول صبري ورّطني أن أغنّي لأنّك في هذه الحالة مو بعيد تخلّيني أنا بالذَّات أغنِّي، بس المشكلة ما بعرف أغنِّي! ثمَّ ضحكنا بما فينا عمّو عيدو وقلت له بربّك عمّو مو لازم ترفّع يوميتي من (8) ليرات إلى (10) ليرات! نظر إليَّ وقال لي ادعِ لربّك ما أحسم يوميّتك، نظرت إلى ساعتي وإذ بوقت الاستراحة على وشك الانتهاء، فطلبت من عادل أن يطلب البدء من بالعمل، فقلت بدوري: يالله يا صبايا يالله يا شباب على الحصاد، نغنّي ونحصد على إيقاع مناجلنا، بدأنا نحصد بكلِّ رغبة وحماس خاصّة، لأنَّ عمّو عيدو موجود، ولأنّنا كنّا في قمّة فرحنا ونشاطنا، نغنّي ونحصد وفريق من الكورس يردّ على المجموعة الأولى، كان عمُّو عيدو ينظر إلى ملّواتنا/ إلى باقات البيقيا الَّتي نحصدها بحماسٍ منقطع النّظير، وهو يبستم وفي أوج فرحه؛ لما نقدِّمه من إنتاج على إيقاع الأغاني، واقتنع تماماً بفكرتي أنَّ الغناء والرّقص يرفعان من همّة العمَّال خاصَّة لو كانت في أوقاتِ الاستراحات. اقترب عمّو عيدو نحوي وقال: تعرف يا صبري، فكرتك ناجحة جدّاً في إدخال الرّقص والغناء في الاستراحات والغناء أثناء الحصاد؛ لأنّكم فعلاً تحصدون وكأنّكم في سيرانة، واعتباراً من يوم الغد سأعيّنك معلاناً، مشرفاً على العمّال مع عادل، خاصّة أن عدد العمَّال يزداد ويزداد، وهذا يساعدنا في إنجاح  الاستراحات والحصاد على حدٍّ سواء!

  1. بماذا كنتَ تفكّر، بعد يومٍ كامل من حصاد البيقيا وسط عمّالٍ ما بين (15 ــ 60) سنة وما فوق، بعد أن تقدّمتَ إلى البكالوريا الأدبيّة بجدارة وفي مخيّلتك تعجُّ آلاف المفردات الإنكليزيّة؟!

أفكِّرُ بهذا الحصار الجائر على هفهفاتِ بهاءِ الرّوح، أفكِّر بالمستقبل الغائر في أعماق السّراب، أفكِّرُ بالجراحِ المتفاقمة فوقَ رحابِ الأحلام، أفكِّر بفقراء هذا العالم وهم يتضوّرون جوعاً، وأطنان من أشهى المأكولات للكثير من أغنياء العالم تُرمى يوميَّاً في براميل النّفايات، أفكِّر بتصدُّعات مستقبل الكثير من البشر، أفكّر بالغباء المستشري في جماجم الكثير من دنيا الشَّرق، أفكّر كيفأن نسبة ضئيلة من البشر تمتلك ميزانيات خارقة في الكون وملايين ملايين البشر تتضوَّر جوعاً؟ أفكِّر كيف ينامُ الكثير من مليارديري هذا العالم دون أن يرمشَ لهم جفن وهناك ملايين البشر تنام في العراء؟ أفكّر باعوجاج سياسات آخر زمن في الكثير من بلاد العالم؟ أفكِّر كيف يعيشُ الكثيرَ من صنّاعِ القرارِ بعيداً عن أبجدياتِ أبسط حقوق الإنسان في الحياة؟ أفكِّر بحسرةٍ حارقة كيف يقودُ الكثير من مهابيل هذا الزّمان أكبر بلدان هذا العالم، وكبار عباقرة الكون يعيشون على هامشِ الحياة أو تتهدّل رقابهم في أعماقٍ كهوفٍ مكوَّرة بالزَّنازين؟ أفكِّر بطريقةٍ تخترقُ فضاءات البحار؛ بحثاً عن وسادةٍ مريحة لما يموج من أسىً في تكويرة الرَّأس؟ أفكّر أن أنامَ نوماً عميقاً بعد سهرةٍ طويلة مع الأحبّة، ولا أنهض من نومي حتّى انتصاف الظَّهيرة، أفكِّر أن أعانقَ أنثى من نكهةِ المطرِ والنُّجومُ ترنو إلينا، كأنّها تبتسم لكركراتِ ضحكنا ونحن نناجي تلألؤات السَّماء، أفكِّرُ أن أرسمَ خفقةَ القلبِ فوقَ خدودِ صديقةٍ من لونِ النّدى، أفكِّرُ أن أكفكفَ أحزان نساء العالم، وأهدهدَ أرواحهنَّ المخضّبة بالجراح، أفكّرُ أن أزرعَ فوقَ جبينِ الحبيبة أهازيجَ بوحِ القصيدة، أفكّرُ بكلِّ هذا الأنين الطّافح فوقَ قلوبِ مبدعي هذا العالم، أفكِّر بكتابةِ قصيدةٍ منبعثةٍ من حفاوةِ خدودِ الأطفال، أفكّرُ أن أموسقَ عشقي فوقَ أركانِ الحياة، أفكّر أن أضحكَ ملء شدقي على سياسات هذا الزّمان، أفكّر كيف تتصارعُ بعض الأديان على قضايا لا ترقى إلى مستوى إنسانيّة الإنسان؟ أفكِّر باندهاشٍ كيف لا يفهمُ صنّاع الحروبِ على مرِّ الأزمان أنّهم لا يفهمون؟ أفكّر بالكثير من جلافات الحياة الّتي تطوّقني من كلِّ الجهات، أفكِّر بكلِّ هذا الارتصاص الجاثم فوقَ كاهلي على مدى تشظّيات السّنين، أفكّر أن أنامَ يوماً دون أن أفكّرَ بغدٍ ملظّى بآهاتِ الأنين، أفكِّر لماذا كلّ هذه الطُّموحات الشَّاهقة المعلّقة في أذيال الغيوم، وأنا أزدادُ غوصاً في لهيبِ الاشتعال؟! أفكّر أين سترسو آلاف الكلمات الإنكليزيّة الَّتي تموجُ في واحات الذّاكرة بعد أن حفظتها حرفاً حرفاً على مدى سنين؟! أفكّر لماذا أراني مُحاطاً بأبوابٍ مهشّمة بشفير الانكسار؟! أفكِّر كيف سأتابع دراساتي الأكاديميّة ولا أملك سوى قلماً يعبِّرُ عن تشظّيات طموحي المعلّق على متاهاتِ الانشطار؟! أفكِّرُ بهذا القلب المبرعم بين سهول القمح، إلى متى سيتحمَّل تفاقمَ سماكاتِ الغبار؟ أفكِّر بطريقةٍ رهيفة تقودُ حرفي إلى انبعاثِ أصفى تجلِّيات الاخضرار، أفكِّر في كلِّ يومٍ قضيته في سماء ديريك؛ كي أتوّج رؤوس الأحبّة بإشراقةِ أزاهيرِ الصَّباح فوق رحابِ الدِّيار! أفكِّرُ أن أخبِّئ ديريك بينَ مروج القلب وأهازيج الرُّوح وهي تنسابُ نضوحاً من أقدسِ قداساتِ زيتِ المزار!

  1. ماذا حملْتَ بين جناحيك من طموحاتٍ، عبر طفولةٍ ويفاعةٍ وشبابٍ متشابكة بمطاحنات الحياة؟

كنتُ وما أزال أحمل طموحاً تضيق اللُّغة عن التَّعبير عمَّا يراودني من تجلِّيات بوح الرَّد عن هذا السُّؤال! عشتُ طفولةً ويفاعةً وشباباً معرّشاً بطموحاتٍ شاهقة غير قابلة للتحقيق في زمنٍ موغلٍ في تصدُّعاتِ الآمال، الطُّموحات مشاعر مفتوحة على مسارات زرقة السَّماء، رؤى متهاطلة من أغوارٍ عميقةٍ غير قابلة أن نحيطَ بها عبر دندناتِ القلمِ أو حبرِ اللُّغاتِ، اللُّغة أصغر ممّا يموج في الذّاكرة والخيال من طموحٍ، لا تستطيع اللُّغةُ أن تحبكَ تجلِّيات بوحِ الُّروحِ عبر آفاقِ ما تحمله طموحاتنا من مشاعر خلّاقة، دائماً أراني محاصراً في تلافيف بوتقةِ اللُّغة؛ لأنَّ اللُّغة أيّة لغة على وجه الدُّنيا غير قادرة على ترجمة المشاعر الفيّاضة، حيث خلال ثوانٍ معدودات تتدفَّق مشاعرنا وتجلّيات خيالنا، بحيث تعجزُ كلّ لغات الأرض عن الإحاطة بجزء يسير ممَّا يعترينا، لهذا أرى أنَّ الطُّموحات الَّتي تحلِّق فوق أجنحة المبدع لا يمكن أن يسبر غورها ويحقِّقها عبر اللُّغة على أرض الواقع مهما كانت الظُّروف مواتية وميسورة، فكيف لو كانت مهشّمة وغائرة في شفير الانشطار، ضمن متاهات دنيا الشَّرق المغلّفة بينَ أجيجِ نيرانٍ لا تخطر على بال، وحشيّةٌ كاسرةٌ تخلخلُ بسمةَ الأطفالِ، تمحق بهاء اليفاعة، تطحن أجنحة الشَّباب في وَضَحِ النّهار، وحدَه حرفي أنقذ بعضاً من طموحاتي من شفيرِ الغرقِ، تاهت الذَّاكرة في خضمِّ الأحلام؛ بحثاً عن ضياءِ شمعةٍ معلّقة في حنايا حلمٍ هاربٍ قبل أن يتأجّجَ نفيرَ الصَّولجان، عجباً أرى صولجانات من كلِّ الجهات، كيف ستنمو طموحاتُ طفلٍ، صبيٍّ، شابٍّ وسطَ عواصف هوجاء، متطايرة من رشيشِ البراكين، كيف سأرسمُ طموحي وأنا معلَّقٌ بين ألف نارٍ ونار؟ نحتاجُ ألفَ مشرّعٍومشرّعاً؛ كي ينقذَ الطُّفولة واليفاعة والشَّباب من هجومِ براكين الوباء، ما هذا الوباء المستشري فقو أرض الحضارات؟ ما هذا النُّكوص المبرقع فوقّ ألقِ الاخضرار؟ من يستطيع أنْ ينقذَ الشَّرقَ ومروج الشِّمال من شراهةِ أجيجِ النّار؟ لغتي قاصرة عن ترجمة شلَّالات انبعاث بوحي، لغتي مترجرجة أمام فيضان شوقي إلى طفولة ممراحة وطموحات مترصرصة بمطاحناتِ الحياة، كيف سألملمُ ضراوةَ الانكسار عبر حرفٍ مُدمى فوقَ طينِ الانحدار؟ طموحي يشبهُ دغدغاتِ النَّسيم المنساب فوقَ وجنةِ الغابات، طموحي إشراقةُ حبٍّ مجنّحٍ نحوَ انبعاثِ اخضرارِ المروج، طموحي وميضُ قوس قزح في قبّةِ السَّماء، طموحي حنينُ عاشقٍ إلى ابتهالاتِ غيمةٍ عطشى إلى شموخِ الجبال، من يستطيع أن يحيطَ بهذا النَّسيم المتدفّق فوقَ آفاقِ ذاكرة مشتعلة بأريجِ الأغاني؟ مراراً حملتُ بين جناحي طموحاتٍ منبعثة من تهاطلِ صفوةِ المطر، لا أرى طموحاً يتحقَّقُ عبر ضراوةِ الاشتعال، تزدادُ طموحاتي تشظّياً، تئنُّ فوقَ قارعةِ الذَّاكرة الهاربة من نصالِ هذا الزّمان، أنا حالةُ عشقٍ متهاطلٍ فوقَ خدودِ الدُّنيا، رسالةُ فرحٍ محبوكةٍ من إشراقةِ الشَّمسِ رغمِ تفاقمِ أبجديّات الانشطار، ورغمَ شراهاتِ أزيزِ الغدرِ، أنا حالةُ طموحٍ معجونةٍ باخضرارِ السّنابل، حالةٌ مخضّلةٌ بيراعِ القصيدة، أتدفّقُ من توهُّجاتِ أعماقِ الذّاكرة البعيدة، حيثُ بسمةُ أمِّي تبهج صباحاتي كرفرفاتِ أجنحةِ اليمام، وحنينُ والدي يبلِّلُ حرفي برحيقِ الحياة وينعشُ ليلي الطّويل بهلالاتِ المحبّة وضياءِ حبورِ السَّلام!

  1. ما رأيكَ بكيفية ترعرع ونموّ الطّفل، المراهق والشّاب في دنيا الشَّرق؟!

من خلال التَّربية الَّتي يتلقَّاها المرء عبر مرحلة الطُّفولة واليفاعة والشَّباب في عالم الشَّرق، أرى أنَّ طريقة التَّربية سواء في الأسرة أو المدرسة أو الشّارع، لا تؤدّي إلى بناء شخصيّة متكاملة وناضجة ومعتمدة على نفسها إلّا ما ندر؛ لأنَّ العقل الجمعي على كافّة الأصعدة مهيمن ومسيطر إلى حدٍّ كبير على شخصيّة الفرد، حيث نجد الأغلبيّة السَّاحقة من الأطفال واليافعين والشّباب لديهم شبه تفكير موحّد أو متقارب لبعضهم بعضاً؛ لأنّ المجتمع والأسرة والمدرسة تلقّنهم مفاهيم تتقاطع مع بعضها في الكثير من المعاني والمضامين وتطبعهم بطابع واحد، كأنّهم نسخ كربونيّة متكرّرة، ولهذا أرى أنَّ هناك ثغرات عديدة في بناء شخصيّة الفرد؛ لأنّه غالباً ما تكون تربية الجميع بالطريقة نفسها حيث لا تتمُّ التّنشئة على تعميق الرّؤية الفردانيّة، فتغلب تقريباً على أكثريّة أفراد المجتمع روح التَّفكير الجمعي والعقل الجمعي، الَّذي يعني العقل القطيعي بمفهوم علم الاجتماع، ولهذا أرىأنَّ من الضّروري الوقوف عند هذه النّقطة الخطيرة الّتي تؤدّي إلى خلخلة شخصيّة الفرد وإذابتها في الرُّؤية الجمعيّة للفرد ــ المواطن، لهذا يستحسن أن تتمَّ تربية الفرد بطريقة تعمّق شخصيّته عبر مراحل عمره، بحيث ينمو نموّاً طبيعيَّاً، وتسهم تربيّته في تعميق شخصيّته وبناء كينونته كياناً مستقلَّاً عن العقل الجمعي؛ كي يشقَّ طريقه لبناء شخصيّته بشكل منعزل عن الرُّؤية الجمعيّة القطيعية، ونادراً ما نجد الفرد في عالم الشرق متحرِّراً من سلطة الأبوين، وسلطة الرُّؤية المجتمعيّة أو سلطة الأنا الأعلى في المجتمع، وغير متحرِّر من سلطة العائلة، وأحياناً من سلطة العشيرة والطَّائفة، ومن سلطة الدِّين أحياناً أخرى، وبالتّالي نراه أسير جملة من القيود والثّقافات المتخلِّفة الّتي تؤدّي إلى كبح شخصيّته في الكثير من الوجوه، وتبقى رؤاه النّقديّة والتَّحليليّة والإبداعيّة والفردانيّة يطغى عليها طابع هذه القيود الَّتي ترعرع عليها، ويحتاج إلى سنين وعقودٍ من الزّمن؛ كي يتمكّن من التَّحرُّر من هذه الثَّقافات القامعة لشخصيّته في الكثير من جوانبها، ومن هذا المنظور أرى أنَّ من الضُّروري إعادة النَّظر في تنشئة الفرد في الشَّرق، ابتداءً من مرحلة الطُّفولة أو قبل الطُّفولة، ابتداءً من لحظة أن تحبل الأم بالجنين بحيث أن يتمَّ الاهتمام بصحّة الأم وحقوق الجنين القادم على أن يتمّ إعطاؤه الحقّ في أن يعيش ضمن جو ديمقراطي، وتربيّته تربية سويّة طبيعيّة بعيداً عن هذه القيود الّتي أشرنا إليها فيما يخصُّ تشكيل عقل جمعي، وبالتّالي يتوجّب تغيير كلّ المناهج الدّراسيّة، ابتداءً من المرحلة الابتدائيّة، مروراً بالمرحة الإعداديّة والثّانويّة، وانتهاءً بالمرحلة الجامعيّة والدِّراسات العليا بطريقة تسهم المناهج التّحليليّة في خلق كيان مستقل، يتمُّ التَّركيز على فردانيّته، بحيث أن يتحرّر من قيود السّلطات بمختلف أنواعها، مع الأخذ بعين الاعتبار احترام هذه التّكتلات والمؤسّسات؛ مؤسّسة الأسرة والمجتمع والمذاهب والأديان والقوميات، لكن سؤالي وحواري وتفنيدي يرتكز على الجانب التَّعليمي والتّربوي القويم؛ لأنَّ معظم تعليمنا المدرسي والجامعي والأُسري والمجتمعي هو تعليم إقصائي وقمعي وكبحي وتلقيني، فنخرج بنسخ متكرِّرة ومتشابهة، وهذه التَّنشئة غير قائمة على بناء شخصيّة مستقلّة لها خصوصيّتها بقدر ما يتمُّ بناء شخصيّة مقموعة ومكبوحة ومكبوتة في الكثير من قضايا الحياة، ويصبح الفرد بالتَّالي شخصيّة سلبيّة تابعة للأنا الأعلى الّذي هو: جملة من العادات والتّقاليد والأفكار الأُسريّة والمدرسيّة والمؤسّساتيّة والدِّينيّة والمذهبيّة، وغيرها من المؤسّسات الّتي تبني الفرد ضمن سياق بعيد كلّ البعيد عن بناء شخصيّة مستقلّة عاقلة، تفكِّر وتبدع وتصبح فعّالة في المجتمع كما ترى الشَّخصيّة ذاتها، لا كما تريد السُّلطة الأُسريّة والمجتمعيّة والدِّينيّة والمذهبيّة، ولا أريد نهائيّاً أن يفهم منّي وكأنّي ضدّ هذه السُّلطات بالمطلق، بل أريد التَّأكيد على ضرورة أن يُعاد النَّظر في أساليب ومنهاج وتوجُّهات هذه السُّلطات، بحيث نسهم في رفع مستوى الأسرة والمدرسة والمؤسّسات الّتي يترعرع فيها المرء، بحيث تسهم في بناء شخصيّة خلّاقة ومستقلّة وبعيدة عن العقل القطيعي التَّابع السّلبي، والّتي لا يمكن أن تسهم شخصيّة كهذه في تنوير المجتمع الّذي يعيش فيه؛ لأنّ فرداً كهذا هو مجرّد من روح النّقد والتَّقويم والتَّفكير المستقل، وبرأيي أنّ أهم سبب في تخلّف المجتمع الشَّرقي هو هذا التَّحيّز للرؤية الأُسريّة العشائريّة الدِّينيّة المذهبيّة؛ بدليل أن نسبة كبيرة من خلافاتنا وحروبنا ومشاحناتنا وتصارعاتنا قائمة على الأسباب نفسها الّتي يتشبَّث بها هؤلاء المتعصّبون وهذا يدلُّ على أنَّ الشَّخصيّة القطيعيّة عبر العقل الجمعي هي شخصيّة منفعلة وليست شخصيّة فاعلة؛ لأنّ رؤيتها قائمة من منظور ما يراه الآخر: الأسرة المجتمع المؤسّسات المتخلِّفة الّتي تحشو فكره برؤية متخلّفة بعقليّة جمعيّة، وكأنّهم نسخة واحدة مستولدة؛ ولهذا نرى أنَّ الغرب الأوروبي والكثير من دول العالم المتحضِّر استدرك هذه الخطورة في تربية الأجيال، بحيث يعطون لكلّ مرحلة من مراحل الفرد من خلال لحظة الحمل والطُّفولة واليفاعة والشَّباب حقّها من خلال مناهج تدرِّس كلّ عمر بدقّة ومنهجيّة، من خلال مئات البحوث والدّراسات الّتي يقومون بها، وعلى ضوء البحوث والدِّراسات يتمُّ سنّ القوانين المدرسيّة والمجتمعيّة والأُسريّة والجامعيّة والدِّراسات العليّا والقوانين المدنيّة، وقد فصلوا الأديان عن القوانين المدنيّة؛ كي يتركوا المجالمفتوحاً للاجتهاد والإبداع والفردانيّة الخلّاقة!

ولهذا صرّحت في سياق نقاشاتي مع بعض الأصدقاء والصَّديقات أكثر من مرّة، انّني حملت في جعبتي الكثير من العقد ممَّا تشرَّبتها من دنيا الشَّرق، مع العلم أنّني طرحت نفسي منذ أن كنت في الوطن الأم إنساناً مجنِّحاً نحو الانفتاح والتَّحضُّر والتَّمدين والتَّحرُّر لخلق رؤية خلّاقة، ومع هذا فقد كان لسطوة المجتمع والأسرة والعادات والتَّقاليد والمدارس والجامعات والثّقافات الّتي تشرّبناها دور أن نكون متخلّفين في بعض قضايا الحياة، مقارنةّ مع المجتمعات المتقدِّمة، ولا يعني أنّ كلّ ما تعلَّمناه في دنيا الشّرق هو جملة من التّخلف والتَّحجُّر والتَّعنُّت! لا أبداً؛ لأنَّ هناك من ثقافات وعادات الشَّرق وتعليم الشَّرق ما هو جيّد ومفيد، ولكن التَّنشئة بمفهومها العام والشَّامل غير مدروسة عبر مراحل الدِّراسات على مختلف مستوياتها، ناهيك أنَّ هناك تعتيماً خالصاً بين الجنسين، فينمو ويترعرع الشّاب والشّابة ولا يعرفان شيئاً عن بعضهما في الكثير من قضايا الحياة، وخاصّة ما يتعلّق بهما كأنثى وذكر، ناهيكم عن هذا الخطّ الأحمر الغامق والجدار الفاصل بينهما الّذي يضعه المجتمع والدِّراسات والأسرة؛ ويؤدّي إلى حالة انفصام مريرة ما بين المرأة والرّجل، ولهذا أستطيع القول: أنّ طريقة تعليم وتربية الأطفال والمراهقين من كلا الجنسين تربية خاطئة في الكثير من جوانبها، بدليل أن نسبة كبيرة من الأطفال المراهقين واليافعين من كلا الجنسين يكذبون على أسرهم ومجتمعهم فيما يفكِّرون به ويذهبون إليه، فهذا الانفصام والجدار الفاصل بين الشّباب والشّابات من جهة وبين الفكر السَّائد من جهة ثانية، يجعل حياتهما جحيماً ضمن سلسلة لانهائيّة من الممنوعات، إلى درجة وكأنّ هناك قوانين مسنونة لغير صالحهما، وكأنّها مسنونة لتعقيدهما وجعلهما كتلة من العقد والتّخلف والتّحجّر والتّعصُّب، وبالتّالي يسهل عليهما الانجراف إلى متاهات وانحرافات وسياسات، وتبنّي رؤى ليست خاطئة فحسب بل هي مريرة أيضاً، كما هو الأمر لما نراه في دنيا الشّرق من نتائج، لهذا لو دقّقنا فيما يقوم به الكثير من أصحاب الرُّؤية الشَّبابيّة، فيما يخص الرّؤية المتعلّقة مثلاً بما يسمى “الرَّبيع العربي” هي رؤية قطيعيّة أكثر ما تكون رؤية الشّاب والشَّابة؛ بدليل لو نسأل هؤلاء وأولئك الشَّبان والشّابات عن سبب اندفاعهم وانخراطهم في هذه الحركات والتّجمُّعات، غالباً لا يستطيعون الإجابة بدقّة وإقناع عمّا قرَّروه وعمّا قاموا به؛ بدليل أنّ رؤيتهم قائمة على رؤية المؤسّسة الفلانيّة والتّيار الفلاني والأسرة والمذاهب والأديان والأقوام وما شابهذلك ممّا هم غير مقتنعين بالكثير ممّا قاموا ويقومون به، وبلا شك لهم تبريراتهم لما يقومون به، إلّا أنّنا لو دقَّقا فيما يقومون به بطريقة منطقيّة، نجدهم على خطأ؛ لأنّهم خرجوا عن معايير التَّغيير والتّطوير نحو تحقيق الأهداف المنشودة الخلّاقة، وإلّا ما معنى أن يدمِّروا ويقتلوا ويهدِّموا أوطاناً بكاملها بهدف التَّغيير والثَّورة وما شابه ذلكمن أفكار؟ برأيي هدّامة جدّاً، خاصّة أنّهم لا يعرفون لماذا قاموا بما قاموا به من دمار؛ لأنّ التَّغيير والثّورة الحقيقيّة يجب أن تكون ضمن سياق برنامج سياسي اجتماعي فكري تنويري مدروس، ويكون هناك قادة لهم برنامجهم، وليس مجرّد اقتتال وحروب طاحنة؛ والنَّتيجة هي دمار لكلّ الأطراف، وهذا يدلُّ على أن تنشئتهم كانت هدّامة وسهلة الانقياد؛ لأنّهم يملكون فكراً قطيعيَّاً جمعيّاً، وهم بعيدون كلّ البعد عن الفكر الفرداني المستقلّ والخلّاق، إلّا بنسبة قليلة نجد مَن يمتلك رؤية فردانيّة مستقلة خلّاقة، وهؤلاء لا يشكِّلون أي تأثير عمَّا آلت إليه الأوضاع!

ولهذا أرى أنّ من الضُّروري إعادة النَّظر في كلِّ قوانين ودساتير الشَّرق والعالم العربي وما يجاوره، للبدء ببناء وتنشئة جيل جديد يحمل رؤية جديدة، يعتمد على أحدث الأفكار التَّنويريّة والحضاريّة والتَّقدميّة والإنسانيّة، بعيداً عن التّعصُّبات الدِّينيّة والقوميّة والمذهبيّة، منطلقين من الإنسان الفرد كمواطن له خصوصيّته الفردانيّة الإبداعيّة الفكريّة المستقلّة؛ كي يبني الجميع -كلّ بحسب موقعه- المجتمع ومؤسّسات الدَّولة بكلّ مرافقها، أسوةً ببقيّة دول العالم المتقدِّمة، وإلّا سيبقى المجتمع والعالم العربي غائصاً في متاهات صراعات وحروب قوميّة ومذهبيّة ودينيّة وفكريّة متناقضة ومتناحرة إلى ما لا نهاية، والمفلق بالأمر أنّهم لا يستفيدون من أخطاء غيرهم، ولا من أخطائهم، ويشقّون طريقهم في متاهات أفكار عقيمة، وكأنّهم خارج الزّمن، وخارج حركة التّاريخ، فإلى متى سيبقى العالم العربي تائهاً عن تبنِّي الفكر الخلّاق والتّنوير والحرِّيّة والدّيمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة، بعيداً عن التّعصُّبات والصِّراعات والحروب المذهبيّة والطَّائفيّة والدِّينيّة والقوميّة الّتي أودَت بالبلاد فوقَ رؤوسِ العباد في الكثير من جوانبها إلى أسفل السّافلين؟!

  1. ما رأيك بالمناهج الدِّراسيّة الَّتي يقرَؤُها الطَّالب في الحلقة الابتدائيّة والإعداديّة والثَّانويّة؟

لا يعجبني الكثير ممّا جاء في المناهج الدِّراسيّة في الحلقة الابتدائيّة والإعداديّة والثّانويّة في بلداننا، ويستحسن أن يتمَّ تغيير الكثير الكثير ممّا جاء في المناهج الدّراسيّة، بحيث تصبح تعليميّة تنويريّة راقية وليس فقط تلقينيّة، فالمناهج الدّراسيّة المدرسيّة لا تعجبني لسببين، أولاًلأنّها لا تواكب حداثة العصر، وثانياً لأنّها تلقينيّة حفظيّة جامدة، كما أنَّ أساليب التَّدريس هي تقليديّة قديمة لا تناسب هذا الزّمن، وهناك إهمال وتجاهل كبير للمواد الإبداعيّة الخلّاقة: كالموسيقى، والرّسم، والمسرح، والغناء، والرّقص، والرّياضة، والتّقنيات، المتسارعة سرعة البرق، والتَّركيز على بناء وتنشئة الطَّالب على الرُّؤية التّحليليّة والفكريّة، وإنشاء مراكز البحوث، وفتح المجال لكلِّ ما يقود الطَّالب إلى الإبداع الخلّاق بمختلف جوانب الحياة.

إنَّ أغلب الأساليب المتّبعة هناك هي حفظيّة سمعيّة، ولا تحرّض على التّفكير والتّحليل، ولا تساهم على التّنوير بقدر ما هي حشو معلومات، ولا يتمُّ تقديمها للطالب بشكل سلس؛ فلا يفهمها بعمق، بل يحفظها عن ظهر قلب، فلا يستخدم الفهم والفكر والخيال في بناء ثقافته وتعليمه المدرسي. من هذا المنطلق أرى أنَّ المناهج الدِّراسيّة بكلِّ المراحل المدرسيّة وبمختلف مستوياتها وفروعها تحتاج إلى تعديل وتغيير، بحيث تصبح مواكبة لحداثة وتطوُّرات العصر، في أغلب بلدان الشَّرق، أسوةً بما حصل ويحصل في بلدان العالم المتمدين، وإلّا ستبقى بلدان الشَّرق خارجة عن حركة التَّاريخ والتَّطوُّر البشري، ولا تسهم في حضارة العالم الجديد؛ لأنَّ تقنيّات العصر تسير بسرعة البرق، ونحن في دنيا الشّرق مانزال نسابق العالم والغرب كأنّنا نسير على ظهر سلحفاة، فكيف سنلحق بهم؟!  لهذا يجب التَّركيز على بناء فكر خلّاق تنويري حضاري إنساني، من خلال سنّ وتطبيق مناهج جديدة تناسب ما نحن بحاجة إليه من تطويرٍ وتنويرٍ راقيَين؛ كي يتمكّن الفرد المرء المواطن الإنسان من أنْ يحلَّ مشاكله وهمومه بطريقة تحليليّة فكريّة حضاريّة إنسانيّة تناسب حضارة العصر، لا أن يتصارع بأفكاره المتحجّرة إلى درجة المناطحات؛ لأنّ الفكر وُجِد من أجل حلِّ مشاكل الحياة والمجتمعات، وليس من أجل الصِّراعات والحروب الخلّبيّة العقيمة!

  1. ما رأيك بالمناهج الجامعيّة والدِّراسات العليا ودور كلّ من الرّجل والمرأة في بناء المجتمع؟

لا يتمُّ تحديث وتطوير المناهج الدِّراسيّة للمعاهد والجامعات في الشّرق بشكل عام، غالباً ما يدرس الطّلاب والطَّالبات المناهج نفسها، المقرّرة منذ عشرات السّنين، مع العلم أنَّ العلوم والأفكار والنّظريات الفكريّة تتطوّر يوماً بعد يوم، ولهذا يجب أن يتمّ تغيير وتطوير المناهج الجامعيّة والمعاهد بما يتناسب التّطوّرات الجارية في العالم، كما أنَّ أسلوب التَّعليم مايزال يعتمد على أسلوب الحفظ والتّلقين، خاصّة في المواد النّظريّة والأدبيّة، ويفتقر إلى الكثير من البحوث الرَّصينة؛ لأنّه يتوجّب على مناهج الجامعات أن تتَّبع طريقة التّحليل والبحوث المعاصرة، وإعداد الكثير من مختبرات البحث العلمي، وافتتاح معاهد خاصَّة بهذه البحوث الخاصّة بتطوير المناهج، ورصد مبالغ كبيرة للبحث العلمي والفكر التَّنويري والعلوم الإنسانيّة، للحاق بتقنيَّات وعلوم العصر عبر كافّة المراحل الدّراسيّة، وخاصّة المعاهد والجامعات والدّراسات العليا؛ كي يتمكّن الطّلّاب والطَّالبات من اللّحاق بعجلة التَّطوّر المتسارعة في كلّ ساعة ويوم، فلا مكان للدول الّتي تعتمد على المناهج القديمة البالية، فنحن في عصر التَّقدُّم الكوني السَّريع، فأين نحن من الدُّول المتقدّمة الَّتي تقدّم بحوثاً عن جيولوجيّة القمر والعالم العربي لا يستطيع أن يقدّمَ بحوثاً عن جيولوجيّة الأرض؟!

كما يجب التَّركيز على دور المرأة في المجتمع؛ لأنّها تشكّل العصب الحسّاس في بناء المجتمع، جنباً إلى جنب مع الرّجل، ولهذا يجب فسح المجال للمرأة؛ كي تأخذ دورها في المجتمع، وسنّ قوانين تؤمّن حقوقها في كلّ ما يتعلَّق بالتّعليم والحرّيّة والعمل على كافّة الأصعدة، بحيث تكون العضو الفعّال في المجتمع، شأنها شأن الرّجل؛ كي تسهم مع الرّجل في بناء عجلة التّطوّر الاقتصادي والاجتماعي والفكري، وتساعد في كلِّ ما يمكن تقديمه للنهوض بالبلاد نحو الأفضل!

  1. تحدَّت عمّا راودك قبل أن تتلقَّى خبر نجاحكَ في الثَّانويّة العامّة، وأين كنتَ لحظة إصدار النّتائج؟

… “لم يقلقني يوماً ما شظف العيش الّذي مرَرْتُ به، بل شعرتُ أنّه يطهّرني من تخبُّطات وانحدارات هذا الزّمان، عانقتني طويلاً سنابل القمح، وأعادت إليَّ رحيق بهجة الحياة، كم كنتُ أفرح وأشعر بمتعة لذيذة عندما أتناول حبيبات الفريكة الخضراء من باقات سنابل والدي، الّتي كان يزرعها بفرحٍ  عميق، وبعد أن أتناول الفريكة الخضراء، أشقُّ طريقي نحو حقول الحمّص الأخضر، ألملم باقات الحمّص، آكل حبّات الحمّص بشهيّة مفتوحة، كأنّها مفتاح العبور إلى أبراجِ القصور، مع أنّني لم أحلم يوماً بالقصور، حتّى أنّها ما كانت تلفت انتباهي، شاقَّاً طريقي نحو كرمنا الواقع إلى الشِّرق من مار يعقوب، آكل أشهى “الأرنوب والحرصم” وآكل عناقيد العنب عندما تنضج بلذّة غامرة، كنت أشعر في حينها أنّني من أغنى أغنياء الكون، وما كان شظف العيش يحبطني إطلاقاً، بل كان يعيد إليَّ نكهة الطُّموح، ولذّة البحث عن الأجمل والأبهى في الحياة.

حلمتُ في ليلة قمراء، أنّني أطير، أحلّق عالياً، فرحٌ عميق غمرني في أعماق الحلم، في اليوم التّالي، وجدت نفسي بين جبلاتِ الطِّين، برفقة شكري ابن عمي، نشتغل مع عمّي يوسف شلو في بناء بيت كورية المشروبات، أبو بول المعروف بخفّة ظلّه. كنتُ نحيفاً للغاية، جسمي غير مقطوع شغل كما يُقال لعمل كهذا، لا يطيقه سوى العمَّال ذوو البنية القويّة، ولكن ظروف الحياة دفعتني للعمل، راغباً أن أحصل على بعض المصاريف الخفيفة لمتابعة دراساتي بعد نجاحي من الثَّانوية الّتي تقدّمت إليها منذ أكثر من شهر، وفيما كنّا نعمل في إعداد البلوك وعدّة البناء، كنت أحضّر جبلة الطِّين، أخلط الماء بالإسمنت، وأحرّكه قبل أن يجفّ، سمعت صوتاً لأحد الطُّلَّاب في مكبّرات الصَّوت يقول: أيّها الأحبّة الكرام، نلفت عنايتكم إلى أنّنا سنقرأ على مسامعكم نتائج امتحانات البكالوريا الأدبيّة، نرغب إليكم الاستماع إلينا؛ لأنّ نتائج الامتحانات قد صدرت وسوف نقرَؤُها عليكم بعد قليل.

فرحتُ عندما سمعتُ هذا النِّداء، وهذا التَّنويه، فقلت لعمّي يوسف: بعد قليل سيقرؤون أسماء النّاجحين والنَّاجحات، وحبذا لو توقّفنا عن العمل ونستمع إلى النّتائج؛ لأسمع نتيجتي النِّهائيّة في الامتحان، ثمَّ نتابع عملنا؛ كي يصبح للعمل نكهة من نوعٍ آخر!

نأخذ استراحة، أجاب عمِّي.

حالما سمعَتْ لميس ابنة كوريّة صوتي فيما كنت أقول لعمّي: حبذا لو نسمع إلى النّتائج بعد قليل لأسمع نتيجتي النّهائيّة، تقدّمتْ نحوي وسألتني.

هل فعلاً تقدّمْتَ إلى امتحانات البكالوريا الأدبيّة هذه السّنة وتنتظر نتائج الامتحان؟

أي نعم، تقدّمتُ لامتحان البكالوريا هذا العام.

هل عندك أمل في النّجاح؟

لا تقولي هل عندك أمل في النّجاح، بل قلي كم سيكون معدّلك؟ لأنَّ النَّجاح مضمون مئة بالمئة! لأنّني لا أؤمن في هذه الأحوال بالاعتماد على الأمل، بقدر ما أؤمن بما زرعته، وبما سأحصده بعد قليل.

ماذا تقصد؟

أقصد أنّ نتيجتي النّهائيّة يا لميس هي النَّجاح وبدون أي شك، ولا أعتمد على الأمل في النّجاح؛ لأنَّ ما كتبته يعني لي النَّجاح لا غير!

يا سلام، واثق من نفسك كتير.

نعم واثق من نفسي كثيراً، مثلما واثق من أنَّ جبلةَ الطِّين الّتي أمامي هي جبلة طين من صنع يدي، هكذا أرى نجاحي أمامي، واضحاً وضوح جبلة الطِّين!

ضحكت لميس عندما وجدتني أشبّه ضمان نجاحي ووضوحه بوضوح جبلة الطّين الَّتي أمامي!

لحظات وسيقرأ أحد الطُّلاب النّتائج، ستسمعين بأذنيك اِسمي مردَّداً بين أسماء النَّاجحين، وبعلامات محصورة ما بين كذا وكذا! سأرمي بنفسي بين جبلة الطِّين لو لم أكُنْ من النّاجحين وبتفوّق!

أحسدك على ثقتك العمياء بنفسك، أراك واثقاً جدَّاً من النّجاح، وتحدّد علاماتك أيضاً، سنسمع بعد قليل هل ستتحقَّق تكهُّناتكَ القاطعة؟

ولو يا لميس نحن لا نفهم فقط بإعداد جبلات الطِّين للبناء، ونقدِّم البلوك والحجر لعمّي، نفهم في الكثير من الأمور الأخرى أيضاً.

معقولة تنجح يا صبري.

ليش مو معقولة، وليش أنتِ مستغربة لو أنجح، ومستكترة عليّ النّجاح؟!

معقولة واحد مقدّم بكالوريا، وينتظر نتائجه وهو غائص في الطِّين في يوم صدور النّتائج، وهو يحضّر جبلة الطِّين للإعمار؟

أصلاً هذا الشّخص وشخص كهذا هو الَّذي ينجح وسينجح، أين الغلط، وأين العائق لطريق النّجاح؟ بالعكس أنا أشْتمُّ نجاحي من خلال جبلة الطّين، والعمل عندي هو مقدّس، يعطيني إحساساً أنّني موجود وأنتج شيئاً ما!

شو قصّتك مركّز على جبلة الطّين، كأنّها طريقكَ إلى النّجاح، خلّينا بالنّتائج!

قلتُ لك يا عزيزتي نجاحي أراه ماثلاً أمامي مثل وضوح جبلة الطّين!

تعرفي لو تناقشي معي بعناد، سأخرِّب جبلة الطِّين، سأقول لعمي: عمّر حائط بيت أبو لميس معوج!

ضحكت لميس وقالت: إذا عمّره عمّك معوجاً، بابا ما راح يعطي لكم حق الإعمار؛ لأنّه معوج!

قصدك سيعتبرنا راسبين في الإعمار؟!

بالضبط.

لحظة، سمعت صوت أحد الطُّلاب عبر مكبّر الصَّوت من ثانوية يوسف العظمة يقول: نقرأ الآن على مسامعكم أسماء الطّلاب والطّالبات النَّاجحين والنّاجحات في الثَّانوية العامّة، القسم الأدبي.

انتبهي لميس، اسمي الكامل صبري صاموئيل يوسف! ركّزي ستسمعينه بأذنيك بعد قليل وعلامتي ما بين كذا وكذا!

ضحكت لميس وقالت: قتلني هذا بتحديد علاماته، لك أنا بدّي أسمع اسمكَ ناجحاً، ما أريد أعرف العلامات الآن!

بدأ أحد الطُّلاب يقرأ أسماء النَّاجحين والنَّاجحات بكلِّ هدوء وبصوتٍ عالٍ، مردِّداً الاسم مرّتين، مع ذكر العلامة، وإذا به يقول: الطّالب صبري يوسف، العلامة …..، من النّاجحين بتفوّق! وإذ بلميس تتوجّه نحوي وتقول: لَكْ صبري نجحت، نجحت بتفوّق، ثمّ فتحت يديها وعانقتني وأنا في كامل طيني، فقلت لها: لَكْ يخرب بيتك صرْتِ كلياتِك طين.

لكْ خلّي أصير طين المهم نجحت يا صبري!

فرَحَتْ لميس وكأنّها هي الّتي نجحت، ثمَّ ركضَتْ نحو البيت وخبّرتْ والدها وأمّها بلهفة، بابا بابا تخيّل هذا العامل صبري اِلّي يشتغل مع عمّو يوسف نجح بالبكالوريا.

ليش هادا كان طالب بكالوريا؟ الله وكيلك فكَّرتو عامل بناء!

اِيه بابا هوَّة هلّا عامل يشتغل مع عمّو يوسف، بس كان مقدّم بكالوريا ونجح بعلامات جيّدة. تخيّل يا بابا قبل ما يقرأ أحد الطُّلاب النّتائج بدقائق غير على جبلة الطِّين ما كان يحكي، تعرف هلكني من كتر ما حكى على جبلة الطِّين، توقّعت أنّه في البداية يمزح على أنّه تقدّم لامتحانات البكالوريا الأدبيّة عندما سمعته يقول لعمِّه: لازم نسمع نتائج الامتحان وأعرف كم هي علامتي.

تعرف بابا أشقد واثق هذا الإنسان من نفسه، أكثر من مرّة يعيد الكلام ويقول لي: نعم أنا من النَّاجحين مثلما ترين جبلة الطِّين الَّتي أعدَدْتُها، هكذا أرى نجاحي.

لمّا قرؤوا اسمه توجّهت نحوه وهنّأته بكلِّ فرح، قال لي: يخرب بيتك عبِّيتِ حالك طين، فقلتُ له: خلّي أتعبّى طين، المهم نجحت يا صبري.

وليش سلّمتِ عليه بهذه الطّريقة؟

بابا شي عجيب كان واثقاً من نجاحه، حبّيت كتير ثقته بنفسه وبتفوّقه! وفعلاً عندما قرأ اِسمه أشار الَّذي يتلو النّتائج، نجح بتفوّق، ففرحت جدَّاً كأنّني أنا الّتي نجحتُ!

لا يكون يا بنت … ؟

شوباك يا بابا أنتَ التَّاني رايح لبعيد!

ضحك وقال: والله يا بنتي بحسب ما أسع كلامك عنه، مفروض أروح لكتير بعيد.

ضحكت هي الأخرى وقالت: شو ممكن نضيّفهم بمناسبة النّجاح.

طولي بالك أحسن ما أروح كمان لبعيد!

فرحَ عمّي كثيراً وهنّأني، وكذلك هنّأني ابن عمي شكري، وجاء أبو لميس وأم لميس وقدّما التَّهاني لي ولعمِّي، واشترَتْ أم لميس علبة سكاكر ووزّعتها على أطفال الحيّ وبعض العابرين، والمهنِّئين، ثمَّ قال أبو بول وهو نفسه أبو لميس، عندكم استراحة أبو أفرام بمناسبة نجاح صبري أفندي ودعوة على أكلة جبس مع جبن وخبز حار على مزاجكم.

قدّم لنا جبسة “كورطبان” كبيرة وطويلة، ثمَّ بدأ يكسرها، ويقسّمها حزوز حزوز، وقطّعتْها لميس في صحون ووزّعتها علينا، وفيما كانت لميس تقترب منّي وتقدِّم لي صحن الجبس، كان أبو بول يغمزني ويشير إليها، وكأنّه يحرِّضني على الاقتراب منها أكثر، فشعرتُ أنّه أب مختلف عن الكثير من آباء ديريك في ذلك الزّمان، وأعجبني موقفه، صحيح كان يقوم بهذهالإيماءات بنوع من الدُّعابة، ولكنّه كان جدِّيّاً فيما إذا تقدَّمتُ نحو ما يدور في خلده! بينما أقصى ما كان يدور في خلدي، أن أنطلق من جبلة الطّين، متوجِّهاً نحو جبلات طينيّة أرحب، جبلات من نوعٍ آخر، نحو آفاقٍ الثَّقافة والعلم وكلّيّة الآداب، حيث كان حلمي أن ألتحق بدراسة الأدب الإنكليزي؛ لأنّني حصلت على المعدّل الأوَّل على دفعتي بهذه المادّة، وبعد مشاورات أُسريّة طينيّة مريرة، قرَّرْتُ مضطرَّاً أن ألتحقَ بالصَّف الخاص كأقرب طريق للقمة الخبز؛ لأخطِّط بعدها بكلِّ هدوء لمشوار العبور في ضفاف المستقبل لتحقيق طموحاتي الدِّراسيّة من أبوابها العريضة!” …

  1. يصادف اليوم عيد الحب، كيف تعيش الحبّ، ماذا يعني لك الحب، كيف تترجم رؤاك في الحب؟!

الحبُّ لغةٌ غير مرئيّة، منبعثة من أجنحةِ القلب ومن هلالاتِ بوحِ الرُّوح، وهجٌ يضيءُ رحابَ الأحلام، أعيش الحبُّ من خلال كينونتي المبرعمة فوق أزاهير الدُّنيا، من خلال تجلِّيات بوح القصيدة، من خلال وهج العشق المتناثر فوق خدود حبيبة محبوكة من نكهة المطر، من خلال مناجاتها وعناقها على إيقاع دندنات الغمام، من خلال ابتهالات بوح الرُّوح، وانتعاش مروج القلب، وهي في أوج حنينها إلى تجلِّيات بهجة الاشتعال! يا أميرةَ حرفي، يا لبَّ القصائد، كوني سمائي الصَّافية صفاءَ بوح القصائد، في عينيكِ تنمو شهقات حنين الرّوح، بلِّلي روحي بقبلات من نكهةِ الفرح، كوني فرحي الدَّائم فوقَ حبرِ القصائد، رسمتُ فوقَ مآقيكِ قبلاتي المبرعمة من إشراقةِ الصَّباح وبهاءِ اللَّيل، تغفو تلالُ العشقِ فوق مروجِ القلبِ، تشبهينَ هفهفات نسيم الصَّباح. كلّما هطلْتِ فوقَ دنياي انتعشَ لوني وكَوني، تنسابين دفئاً رهيفاً فوق منارةِ الرُّوح، فأحلِّقُ عالياً من وهجِ الابتهال!

صباحُكِ يا صديقة الرّوح، يا حبيبة الحلم الآتي، يا حبقاً منبعثاً من أزاهير الرُّمان، يا إشراقة ليلي ويا أشهى ما في حبرِ القصيدة، خدّاك يهدهدان تيجانَ حرفي كإشراقةِ الخيرِ، أناغي خدّيك بتهاطلاتِ أسرارِ الحنين، فتنضحُ مقلتاك ألقاً، ما هذا البهاء المبرعم في بريقِ عينيكِ؟ وجنتاك مدبَّقتان بالعسل البرّي، تعالي أوشّحْ خدّيكِ بأريج الحياةِ، أزرعْ جبينَكِ قُبَلاً فيزدادُ شموخاً كأزهار اللّوتس، قبلةٌ معبَّقة بالنّارنج تنسابُ فوقَ خدودِ الحنين، شوقُكِ يشبهُ تدفُّقات الماء الزّلال من أعالي الجبال، قبلةٌ مكتنزةٌ بمذاقِ التُّوتِ أموسقُها فوقَ هلالاتِ دنياكِ، حيرةٌ مبهجة تغلِّفُ محيّاكِ الحميم، فيومضُ قلبي إشراقاً كأنّكِ شجرة مخضوضرة بثمارِ بوحِ العناقِ، أوشوشُ ضفائر الرُّوح فتشرقُ عيناكِ ألقاً، أزرع قبلةً رهيفةً فوق بسمةِ عينيكِ، تبتهلُ روحي انتعاشاً من توهُّجات دفءِ العناقِ، تطيرينَ فرحاً كأنّك نسمةٌ منبعثةٌ من شهقةِ القمرِ، وميضُ عينيكِ ينعشُ بوحَ العشقِ، كلّما رأيتُكِ، تهاطلت روحي قُبَلاً فوق تجلِّيات كينونتِك المبرعمة فوقَ مروجِ الحياةِ، كأنَّكِ في حالةِ ابتهالٍ بهيجٍ على مدى حبور انبعاثِ الحلمِ، حلمكِ معبّقٌ من يراعِ شهقاتِ الحنين، حلمكِ مكتنزٌ بقبلاتٍ نديّة كأنّها مسربلة بنداوة نسيم الصّباح، تشبهين زهرة عبّاد الشّمس، تستميلين إلى إشراقاتِ الشَّمسِ وإشراقات العناقِ كلّما ازدادَتِ الرّوحُ ابتهالاً، في قلبِك وردةٌ متفتِّحةٌ، تضمَّختْ روحُك فرحاً، كلّما قرَأتِ اسمي وسمعتِ بوحي، تناهى إلى شواطئ القلبِ حبورُ الانتعاشِ. تشبهينَ ربيعي الأبهى، كأنّكِ محبوكة من رحيقِ السَّوسنِ البرِّي، تشبهينَ حنيني الأشهى، كأنَّكِ سرُّ انبعاثِ بوح القصيدة، كأنَّكِ تحملين بين أجنحتكِ أسرارَ جموحِ العناقِ، تشبهين أشهى قبلة على وجهِ الدُّنيا، تشبهينَ مسارات جموح الرُّوح، تشبهينَ روحي عندما ترقص فرحاً، تشبهين ليلي وأنا في أوجِ التَّجلِّي، كلّما أشتقتُ إليكِ، زرعتُ فوقَ خدَّيكِ هدهداتِ هديلِ اليمام. تشبهين جموحات روحي وهي في أوجِ ابتهالاتها، هل كنتِ يوماً روحي ولا أدري؟!

شعلْتُ لك شمعةً كلّما حنَّ قلبُك إلى دنياي،شعلْتُ لك شمعة كلَّما جرفَكِ الشُّوقُ إلى مروجِ العناقِ، شعلتُ لك شمعةً كلّما نامَ اللَّيلُ؛ كي يضيءَ قلبُكِ ألقاً وحبَّاً وبهاءً، لعلَّكِ ترسمي فوقَ منارةِ روحي أسرارَ بوح الحنين.سأشعلُ اللَّيلةَ لكِ شمعةً؛ كي تنامي نوماً مسربلاً بشهقةِ العشقِ العميقِ؛ كي تنقشي اسمي فوقَ خميلةِ الرُّوحِ، تعالي أرسمْ خدَّيكِ وردتا عشقٍ فوقَ تيجانِ القصائد!

يا تفَّاحةَ روحي المعرّشة في مآقي القصيدة، يا لونَ النّدى المنساب فوقَ خدودِ وردةِ الصَّباح، يا حنيني المستنير على خفقةِ ضياءِ الهلالِ، يا حرفاً يموجُ فوقَ حدائقِ السّلام، تعالي أهدهدْ روحَكِ كلّما يغفو اللَّيل على أهدابِ أميرةِ حرفٍ قبل أن تنبلجَ من شهوةِ الغسقِ، تعالي أرسمْكِ قبلةً شهيّةً فوقَ أسرارِ اللَّيلِ، تعالي ألملمْ ذبذبات الرّوح فوقَ هلالاتِ خيوطِ الصَّباحِ، تعالي نرسمْ معاً أغاني الحنين المتدفِّقة من أثداءِ السَّماء، تعالي نرقصْ فرحاً على شهقاتِ أنغامِ المطر، تعالي نبحرْ في لجينِ القصائد، نبحث عن طينِ المحبّة، لعلّنا نحصدُ حفاوةَ الشَّوقِ المنبعث من حنايا اللِّقاء، تعالي أوشِّحْ روحكِ بهلالاتِ نضوحِ الزَّيتِ المقدّس؛ كي نسمو عالياً فوقَ أجنحةِ نجيماتِ الصَّباح، تشبهينَ أحلامَ الطُّفولة وهي تنشدُ أغاني الفرح المتطاير من مآقي الشَّفقِ قبلَ أنْ تتهاطلَ رذاذاتُ الفرحِ من خدودِ غيومِ الصّباحِ، تعالي قبلَ انبلاجِ الفجرِ؛ كي أرسمَ فوقَ خدّيكِ أهازيجَ بوحِ إشراقاتِ العناقِ، تعالي أهمسْ لشواطئ قلبِكِ عن أسرارِ دفءِ الحياةِ، قبلَ أن تنشدَ السَّماءُ أسرارَ تجلّياتِ بوحِ الحرفِ. كلّما نضحَ قلبُكِ شوقاً إلى مروج الرّوحِ؛ رسمْتُ ألَقي فوقَ منائرِ انبعاثِ الحنين. كم مرّة غفيتِ فوقِ مساراتِ خيوطِ الرُّوحِ وأنتِ منسابة بينَ ضفائر حلمٍ مجنّحٍ نحوَ أشهى ابتهالاتِ الخيال، كم مرّةٍ نضحَتْ مقلتاكِ؛ شوقاً إلى رحابِ الذّاكرة البعيدة؛ بحثاً عن مذاقِ الخبزِ المقمّر، كم مرّة هلهلهَتْ أشجارُ الرُّوحِ؛ شوقاً إلى زنابقِ الحوشِ العتيقِ، كم مرّة نمْتِ بين مرافئ الرُّوحِ؛ بحثاً عن أسرارِ بهجةِ الاشتعالِ، كم مرّة أبحرْتِ عميقاً نحوَ مرافئ العشقِ؛ بحثاً عن أشهى تلاوينِ العناقِ، كم مرّة غفيتِ فوقَ مصاطبَ مزنّرة بأزاهيرَ محبوكة بيخضورِ ألقِ الابتهال، كم مرّة عبرْتِ لجينَ القصيدة، وأنتِ مقمّطة بأهازيجَ متماهية من وميضِ الرّوح،ِ وهي تزدادُ شوقاً إلى أبهى ما في حبورِ الانبهار. كلَّما هدهدْتُ خدَّيكِ، انبلجَتْ زهرةٌ في مرافئ الرُّوحِ، كلّما زرعْتُ حنيني فوقَ ربوع نهديك، نسيتِ أحزانَ الكونِ، واخضرّتْ خدّاكِ من بهجةِ تجلّياتِ العناقِ، كلّما دنوتُ من مقلتيكِ، تلألأَ خدَّاك ألقاً من وهجِ الاشتياقِ، كلّما خفقَ قلبُكِ إلى مرامي روحي، رقصَ حرفي ابتهالاً، فهرعْتُ بكلِّ انتعاشٍ نحوَ ندى الأعشابِ، مرتمياً بكلِّ حبورٍ تحت ظلالِ أريجِ التِّين، تعالي أبُحْ لكِ بروعة عبيرِ البيلسان عندما يهدهدُ حياءَ خدَّيكِ، كلّما حنَنْتُ إليكِ، خفقَ قلبي شوقاً إلى تلألؤاتِ عينيكِ، فلا أجدُ أبهى من عبقِ الثَّغرِ؛ كي أمهرَ فوقَه أسرارَ بسمةِ الرُّوحِ وهي في أوجِ ابتهالِ أزاهيرِ العناقِ، تطهَّرَتْ روحي كلّما ناغيتُ وميضَ عينيكِ، وحلَّقْتُ عالياً بين أهدابِ السَّماءِ، كم من الشَّوقِ حتَّى تبرعمَ حرفي فوق وجنتيكِ، كم من العناقِ حتَّى اخضوضرتْ أزاهيرُ الخميلة بأشهى حبورِ البهاءِ، كم من الدِّفءِ حتّى أشرقَت الشِّمس عشقاً شهيَّاً فوقَ ظلالِ الرّوحِ!

***

أترجم مرامي عشقي للحب عبر توهُّجات عناقي لبهاءِ الكونِ، عبر كل هذا العطاءِ المتهاطلِ علينا من أخاديدِ السّماءِ، أتلألأ في خميلةِ دنياكِ عبرَ أريجِ خدّيكِ المسترخييّن فوقَ شغفِ الرُّوحِ، أنسابُ بوحاً شهيَّاً وأنا في كامل قيافتي وابتهالي عبرَ دندناتِ روحِكِ وهي تناجي قلبي منذُ فجرِ التَّكوينِ. رقصَ قلبي من وهجِ الانتعاشِ كلَّما عانقَ خصوبةَ قلبِكِ المتهاطلِ ألقاً على امتدادِ شهقاتِ الاشتعالِ، كم مرّة عانقتُ وجنتيكِ وأنتِ في أوجِ تجلِّياتِ الابتهال، كم مرّة زرعْتُ شهقاتِ الشَّوقِ في منارةِ الرُّوحِ، وأنتِ تزدادينَ إبحاراً في أوجِ انبلاجِ الخيالِ، كم مرّة حلَّقْتِ عالياً على إيقاعِ انبعاثِ الحنينِ، وأنتِ في طريقِكِ لاحتضانِ عرين عشقٍ من طينِ المُحالِ، أقبِّلكُ ألفَ قبلةٍ وقبلةً، لعلّكِ تضيئينِ روحي مثلَ ضياءِ الهلال.

مراراً زرعْتُ في تخومِ الرُّوحِ بوحَ العناقِ، مراراً قطفنا من حدائقِ العشقِ عشقاً، مراراً سَبَحنا في خضمِّ الدِّفءِ، حتَّى حلَّقنا عالياً كأنّنا في جنانِ النّعيمِ، أريدُ أنْ أمهرَ شهقتي الأولى فوقَ حبورِ نهديكِ؛ كي أتوِّجَ مذاقَ خدّيكِ في سِفْرِ العاشقين، تعالي كلَّما نضحَتْ عيناكِ شوقاً؛ كي أفهرسَ رضابَ العشقِ في أشهى تجلّياتِ الخالدين، تعالي في هدوءِ اللٍّيلِ؛ كي أنثرَ همسي فوقَ أبهى تلالِ الحنين، كوني حنونتي المبرعمة في قلبي على امتدادِ السّنين، كوني رسولةَ عشقٍ ممهورةٍ بإشراقةِ انبعاثِ بسماتِ البنين.

أريد أن أهدهدَ ليلكِ الحنون على انسيابِ بوحِ الرّوحِ؛ حتَّى تطفح عيناكِ فرحاً، تعالي أمسِّدْ أحلامَكِ المتناثرة فوقَ عتمِ اللَّيل، لعلِّي أزيل ما ينتابكِ من جمرِ المسافاتِ، تعالي نرسمْ معاً بكلِّ شموخٍ رفرفاتِ أجنحتنا المحلِّقة فوقَ أمواجِ البحار، تعالي نعبرْ جنانَ العشقِ على أنغامِ هديلِ اليمام، كوني يمامتي المتألِّقة فوقَ اخضرارِ الغاباتِ، كوني فرحي المحلِّق فوق خدودِ الجبال، كوني منارةَ عشقي المعرَّش بأشجارِ المحبّة حتّى اختراقِ أقاصي الخيال، أيّتها المبرعمة في مزاميرِ ليلي، يا جنّةَ بوحي وروحي، يا غزالةَ العشقِ يا روضةَ الحبّ، يا أريجَ عشقي المتوَّج بأشهى شهقاتِ الاشتعالِ، أراكِ تزدادينَ ألقاً مفتوناً بانتعاشِ القلبِ، وهو يرقصُ في أرقى الأماسي، تحلِّقينَ شوقاً كأنّك غزالة جامحة كجموحِ أجنحةِ الرِّيحِ، يتهادى شَعرُكِ معَ تمايلاتِ نسيمِ الصَّباحِ، كأنّكِ في رحلةِ فرحٍ نحوَ براري السّماءِ، تنمو فوقَ وجنتيكِ أهازيجُ حلمٍ مفتوحٍ على فراديسِ النّعيم، كلّما ناغيتُ مذاقَ شفتيكِ، ابتهلَتْ روحي لأغصانِ السَّماءِ. تشبهينَ شجرةً وارفةً بأشهى ما في اخضرارِ الحياةِ، تزهرُ عيناكِ شوقاً إلى ظلالِ البيتِ العتيقِ، في شموخِ دنياكِ يسطعُ جموحُ حرفي، تشبهين شهوةَ الفجرِ وهي في أوجِ تجلِّي أجنحةِ الصّباحِ، أريدُ أن أبلسمَ رهافةَ نهديكِ بماءِ الوردِ؛ كي تشمخَ قبلتي فوقَ طراوةِ الدِّفءِ كأريجِ النّارنج، كلّما قبَّلْتُ روحَكِ، ابتهلَتْ عيناي شوقاً إلى مآقي هلالاتِ زرقةِ السّماءِ، أغطِسُ حبري في أشجارِ الحنين؛ كي أكحِّلَ خدَّيكِ برحيقِ ما تماهى معَ ماءِ الحياةِ، أموجُ فوقَ تلالِ الدِّفءِ؛ كي أهدي إليكِ تاجاً مزنّراً بصفاءِ عذوبةِ الماءِ، أنقشُ فوقَ نهديكِ أسرارَ دفءِ الشَّمسِ، كوني شمسي المزنّرة بأشهى ينابيعِ العطاءِ، تنمو فوقَ تيجانِ الشّوقِ مهاميزُ الرّوحِ، أرسمُكِ خميلةَ وردٍ معبّقةٍ بأهازيجِ الجنّة، كوني جنَّتي المخضوضرة بانبعاثِ أزاهيرِ النّعيمِ، تتراقصُ روحُكِ جذلى من عذوبةِ مذاقِ التّينِ، تعالي كي أزرعَ بصمةَ بوحي وروحي فوقَ أبهى تيجانِ الحنين!

 نهاية الجزء الأوَّل… … … يتبع الجزء الثّاني!

حوار مع الذّات.. ألف سؤال وسؤال..الجزء الأول – السؤال من 51 – إلى 75 – للأديب و التشكيلي السوري#صبري_ يوسف Sabri YOUSEF ..

حوار مع الذّات.. ألف سؤال وسؤال..الجزء الأول – السؤال من 51 – إلى 75

للأديب و التشكيلي السوري#صبري_ يوسف Sabri YOUSEF ..

 

  1. من أقصى الغرب من ديريك نحو أقصى الشَّرق وأنت غضُّ العود التحقت بابتدائيّة ناظم الطَّبقجلي، تحدّث عمَّا كنت تعانيه وأنت تجابه أكوام الطَّين أيّام الشِّتاء متوجّهاً نحو قاعة الصّف؟

إنَّ كل ما كنت أعانيه آنذاك تحوَّل إلى ذكريات غارقة في خيوط الحنين، تمنحني تلك الذّكريات فرحاً رغم سماكات الطِّين الَّتي كانت تعانق أقدامي وأنا أعبر أزقَّتي متوجِّهاً نحو مدرستي؛ كي أنقش حروفي الأولى على دفاتري الطَّافحة بدموع لا تخطر على بال!

.. “مراراً صدَّني شارع “كلُّوش” المتاخم لبيت العزيز عزيز كوركيس پولو من متابعة المسير، حيثُ أكوام الطِّين كانت تضاهي قامتي الصَّغيرة، وهدير السَّاقية الهائجة كان يهدِّد حقيبتي المدرسيّة، فكنتُ أتراجع مركِّزاً سيري على محاذاة بيت الأحبّة عزيز وهاني، ثمَّ أعبر من الجهة الخلفيّة إلى أن أصل إلى بيت إسحق مرادي المقابل لبيت القس أفريم الرّاحل في سماوات الغربة، وهناك كنتُ أنظرُ حولي متمتماً، إنَّ المخطّط الأسلم للوصول إلى الشَّارع الإسفلتي هو قطع الشَّارع المؤدّي إلى إعداديّة يوسف العظمة، الملاصقة أسوارها عبر الأشرطة الشَّائكة لحوش القسّ أفريم، عابراً باحة المدرسة من خلال فتحة صغيرة في الشَّريط الشَّائك، أسير من خلف المدرسة؛ كي أخرج من الباب الرئيسي، عندها أصبح في برّ الأمان!

أي أمان هذا الَّذي كنت فيه وأنا أقطع الأزقّة المرصرصة بأكوام الطِّين والبيوت وباحات المدارس مبتعداً عن مدرستي أكثر من الاقتراب نحوها، ولكن مع كلِّ هذا شعور بالفرح كان ينتابني لمجرّد أنّني على شارع إسفلتي سيؤدِّي بي إلى باحةِ مدرستي مستسلماً لقدري المكتنف بالطِّين والمطر وأحزان الشِّمال. حكّمت يدي على حقيبتي المدرسيّة، والَّتي كانت عبارة عن كيسٍ من النَّايلون السَّميك الَّذي خاطته لي أمِّي بدقّة شديدة؛ كي تمنع عبور البلَل إلى دفاتري وكتبي المدرسيّة.

وصلت إلى مدرستي، ناظم الطَّبقجلي، الَّتي كانت في أقصى شرقي المدينة، وأنا كنتُ أسكن في ديريك العتيقة في أقصى الشِّمال الغربي من ديريك، وكم كنتُ أتمنَّى لو باع والدي بيتنا العتيق واشترى لنا بيتاً بالقرب من مدرستي، ولكنَّه كان مصرَّاً أن يظلَّ بيتنا بالقرب من البيادر؛ لأنَّ مخطّطاته مع بقيّة الفلّاحين كانت مركَّزة على قربهم من البيادر وللبيادر والنَّوارج، ذكريات تأخذ كتابتها معي فصولاً مسترخية على ينابيع هضاب الرُّوح! آهٍ يا روح وألف آهٍ يا بيادر!

وصلت المدرسة والتَّلاميذ مصفوفين على مساحة كبيرة من باحة المدرسة، عبرتُ من تحت الشَّريط الشَّائك بعيداً عن أنظار الأستاذ المناوب عند مدخل المدرسة، أخذتُ ركناً قصيَّاً من جدار المدرسة، وبدأت أغسل جزمتي الطَّويلة بسرعة بماء المرزيب المتدفّق من بوري كبير، ثمَّ دخلت خلسةً من الجهة الخلفيّة مع الطُّلَّاب المتدفِّقين مثنى مثنى إلى صفوفهم، شعرت بفرح كبير عندما جلست على مقعدي، وكأنَّني وصلتُ إلى قمّة جبال هيمالايا!” ..

  1. هل تلقَّيتَ إشرافاً ما من أسرتك خلال مرحلة التحاقك بالمدرسة الابتدائيّة أو الإعداديّة؟

كان والدي الَّذي لا يفكُّ الحرف، يستهويه أن يشرف عليَّ بطريقته الفلّاحيّة، وكان يمتلكُ روح الدُّعابة والفكاهة، حيث إنّه  بعد عودته من الفلاحة، يستحمُّ ثمَّ نتناول العشاء، وبعد أن نأخذَ قيلولةً، يطلب منّي أن أعمل دروسي أمامه، كان ينظر إلى خطّي وأنا أكتب درس القراءة كوظيفة كتابيّة، قائلاً لي: أكتبْ خطّكَ “شدَّامْدَة”، أيوه “هيك شدّامْدة” أي بشكل مستقيم ومساوٍ وعلى أفقٍ واحد، لا تتركه فوق أو تحت الخطِّ الرّفيع الَّذي تكتب عليه، أكتبه بشكل جيِّد مثلما تخطُّ سكّتي خطوط الفدّان بشكلٍ مستقيم.

كنتُ أضحك وأقول له: وما علاقة خطوط فدَّانك يا بابا بخطوط دروسي وكتابتي؟!

يضحك هو الآخر، متوعِّداً والده الّذي لم يضعه في المدارس كي يتعلّم القراءة والكتابة، مع أنَّ جدّي في حينها كان متوفِّياً منذ أكثر من ثلاثةِ عقودٍ من الزّمن، فقد توفَّاه الأجل في مقتبل العمر، فأصبح والدي يرعى أسرته، وكأنّه ربّ الأسرة، وهو في الرّابعة عشرة من عمره تقريباً، ثمَّ تزوّج في مقتبل العمر، عندما كان ينظر إلى خطّي، بدعاباته المعهودة كان يقول: “خطّك ينقّط منه سمّ”، قاصداً أنّه جميل ولا مثيل له. هذه كانت كلّ رعاية أسرتي بي، فقط جملة واحدة قصيرة من والدي: خلّي خطّك “شدّامْدَة”!

كم لهذه الكلمة من وقعٍ على تفوّقي، على خطّي، حقيقة الأمر كان خطّي من أجمل خطوط التّلاميذ في مرحلتي، حتَّى أنَّ بعض المعلِّمين اتَّهموني مراراً أنَّ وظائفي الكتابيّة لا أكتبها أنا، بل إخوتي الكبار، فكنتُ أدافع عن نفسي، مؤكّداً للأساتذة على أنَّ إخوتي لم يتابعوا دراساتهم، وخطِّي هو أحلى من خطّهم، وأنا في الصَّف الثَّاني، وعندما كنتُ أشرح للمدرسين عن إشراف والدي عليّ، وكيفية تركيزه على جماليّة استقامة الخطّ، وضرورة أن يكون خطّي “شدّامدة” مثل خطوط فدّانه المستقيمة وهو يشقُّ الأرض في سكّته، سرعان ما كانوا يضحكون، ويبتسمون لي قائلين: لهذا خطّك “شدّامدة” وأجمل من خطوط أقرانك!

كنتُ أجيبهم بدروي: ولهذا أيضاً خطوط فدّان والدي أكثر استقامة من خطوط أصدقائه الفلّاحين!فيردُّ عليّ الأستاذ: طبعاً وإلَّا كيف سترثُ جمال الخطّ واستقامته البديعة، لو لم تَكُن خطوط فدّان والدك متفوّقة على خطوط فدّان أصدقائه؟!

أضحكُ ويضحكُ الأستاذ ويضحكُ من حولي أصدقائي التّلاميذ!

  1. عندما نجحتَ في الصَّف الأول الابتدائي، أمسكتَ جلاءَكَ، وركضتَ من المدرسة بكلِّ فرح وأنتَ تردّد:”ولا سنة ما رسبتُ ولا سنة ما رسبتُ” إلى أن وصلت إلى البيت، ما تفسيرك لهذا الفرح الطُّفولي؟

.. “كنتُ خجولاً في المدرسة وغير معتاد على هكذا أجواء، هادئاً لا أحبُّ المشاغبات، استهواني التَّعليم، وفكّ الحروف وكتابتها بدقّة، وسرّني أن أتعلّم كتابة الحرف في بداية الكلمة وفي منتصف الكلمة وفي نهايتها، كنت أندهش كيف نربط هذه الحروف مع بعضها ونشكّل كلمةً ويكون لها معنى، ابتكار اللّغة حالة عبقريّة، وجذبني عالمها منذ اليوم الأوّل.

اللُّغة المحكيّة الَّتي يتعلّمها المرء ليست اللّغة الّتي يتعلّمها في المدرسة، نحن نتعلّم اللُّغة اصطلاحاً وجُملةً وفكرةً؛ لهذا لا نفهم في البداية كيف تتشكّل الكلمة، نسمعها ونردِّدها ونحفظها على السّليقة ومن كثرة ترديدها وسماعها ومن خلال استخدامها في جملة نتعلّمها، وعندما نتعلّم اللُّغة شفهيّاً نتعلّمها بطريقة جمليّة وليس كلمة كلمة لهذا أحياناً لو نفكّك الكلمات الَّتي نتعلّمها شفهيّاً حتّى في لغة الأم وفي أيّة لغة أخرى نتعلّمها شفهيّاً منذ الصّغر أحياناً كثيرة نجد بعض ألفاظ الجملة لا معنى لها أو لا نعرف معناها منفصلةً عن الجملة، فنعرف معناها في سياق الجملة؛ لأن معنى الجملة هو الَّذي تعلَّمناه في البداية وليس كلمة كلمة، بينما في التَّعليم نتعلّم الحرف، ثمَّ كيفيّة ربط الحرف بالحرف ثمَّ الكلمة ونعرف معناها من خلال ربط الكلمة في صورة ما، وحقيقة الأمر عندما نتعلّم اللّغة في البداية لا نتعلّمها ككلمة مجرّدة، بل نتعلّمها من خلال ربطها بصورة مدلول الكلمة، ثمَّ نحفظها ككلمة بعد أن عرفنا معناها، وعندما نقرَؤُها نكون قد عرفنا معناها مسبقاً من خلال الصُّورة الّتي في ذهننا أنّها تعني كذا وكذا وكذا، لهذا نحن نتعلّم الكلمات كصُور وقوّة التَّمييز الذّهنيّة الخارقة والعميقة في المخ تجعلنا أن نفهم ونترجم هذه الصُّور إلى كلمات ومعاني، والذّهن له طاقات عجيبة في هذا السِّياق وهو فعلاً أشبه ما يكون بكومبيوتر للكائن الحي، ويبدو لي وكأنَّ الّذي اخترع الكومبيوتر اعتمد على طريقة المخ والذّهن والتّفكير، وهو أي الكومبيوتر يشبه مخ إنسان عبقري لأبعد الحدود، وأصلاً مخترع الكومبيوتر هو سلسلة طويلة من العوالم العبقريّة للإنسان، بدأها بالحرف، وتطوَّر مع مرور الزّمن إلى ما نحن عليه من علوم تكنولوجيّة مدهشة، ولهذا أرى أنّنا عندما نتعلّم الألفباء نؤسّس لمرحلة عميقة في الذّهن والمخ، ونخزّن المعلومات كما يخزّن الكومبيوتر المعلومات، مع فارق بسيط أو كبير هو أنّنا في الكومبيوتر نحرّك ما في مخِّ الكومبيوتر من معلومات ونسترجعها وإلخ، بينما في حالتنا نسترجع معلوماتنا مباشرة من ذهننا، وأحياناً لا نفلح في استرجاع ما نريد بسبب النّسيان وأعدُّ النّسيان أشبه ما يكون ببعض الخلل الّذي يصاب جهاز الكومبيوتر في بعض الأحيان ويتطلّب التّصليح، ولهذا حتّى مخّ الإنسان يحتاج إلى صفاء ذهني وتنظيفه من الكثير من الغبار العالق فيه من تشويشات الحياة، ولو دقّقنا في اللُّغة وبداية حفظ الكلمات أحياناً نجد صعوبة في فهم معنى الكلمات الّتي لا صور لها، وهي مفاهيم مجرّدة، لها مدلولات معيّنة ولا يفهمها التّلميذ في البداية، لهذا يتعلّمها فيما بعد عندما يصبح لديه ذخيرة معلومات مثلاً: كلمة العدالة، والحرّية، والمساواة، والدِّيمقراطية، والعلم .. وهناك مصطلحات وأدوات وحروف جر والكثير من التَّفاصيل المتعلّقة باللُّغة المجرّدة نتعلّمها خطوة خطوة، وتبقى أحياناً بعض المفردات لا يفهم الطَّالب معناها بدقّة،حتّى ولو درسها عشرات المرَّات، وحتّى لو أصبح جامعيّاً؛ لأنّه فهمها من سياق الجملة، ولم يفهمها بعمق ولا يستخدمها إلّا نادراً، ولهذا عندما يسأله شخص ما عن معناها لا يستطيع شرحها بدقّة، وهكذا فإنّ اللُّغة هي وعاء المعرفة الإنسانيّة.

وضعت خطوتي الأولى في المدرسة الابتدائية، أعمل وظائفي المدرسيّة يوماً بيوم، ما كنتُ متفوّقاً جدّاً، كنت مجتهداً بشكلٍ جيّد، ولكني ما كنت ممتازاً ومتقدّماً على زملائي، ولا كسولاً في مادّة ما، وكانت المواد سهلة نوعاً ما في الصَّف الأوّل، نتعلَّم القراءة، والكتابة، والحساب، والرِّياضة، والأشغال اليدويّة، أو الرّسم، والسّلوك، ومواد خفيفة أخرى، وأطرف موقف حصل معي في نهاية العام الدّراسي، وفيما كان المدير يوزّع الجلاءات للصف الأوَّل، نجحتُ بترتيبٍ جيِّد، وإذ بي أمسكُ جلائي؛ أي شهادة الصَّف الأوَّل بكلِّ فرح، ثمَّ أركضُ بها من المدرسة متوجّهاً نحو البيتِ دون أي توقّف، مردِّداً طوال الطّريق: ولا سنة ما رسبتُ ولا سنة ما رسبتُ! مع أنّني نجحتُ من الصَّف الأوَّل إلى الصَّف الثَّاني، وأتساءل، لماذا كنتُ أردّدُ “ولا سنة مارسبت” إذا كانت كلّ سنوات دراستي هي سنة واحدة وصفاً واحداً؟ أظنُّ وكأنّ هذه الرّدّة فعل كانت نوعاً من الطّموح بأنْ لا أرسب أبداً خلال دراساتي القادمة، وفعلاً لم أرسب في حياتي في أيّة مرحلة من مراحل دراستي، سررتُ جدَّاً عندما قطعت العتبة الأولى بنجاح، واندهشَ المارَّة من فرحتي، فرحٌ ينمو في القلب وأنا طفل وظلَّ ينمو وينمو هذا الفرح كلّما أنجح في مجالٍ ما، وأقدِّم عطاءً رهيفاً في تجلِّياتي الإبداعيَّة!” ..

  1. ماذا كانت ردّة فعل الوالدين وأنت تنجح إلى الصَّف الثَّاني، وأنت في قمّة فرحك؟!

.. “استقبلني أهلي بفرح عميق، باسوني، وجدتُ في وجه أبي علامات الفرح وصفّق لي، وأمِّي هلهلَتْ زغرودتها الرَّائعة “كليليليليلي”، أكثر من مرّة، فجاء الجيران وهم يفرحون لفرحي ونجاحي، قرأتُ الدَّهشة المرسومة على وجوه النِّساء والرِّجال والشُّبّان والأطفال الَّذين زارونا وقدِّموا لنا التَّهاني، شربوا الشَّاي وهم يباركون لوالدي ووالدتي بنجاحي، كانت نساء الحارة يبتسمون لي ثمَّ يبوسوني ويهلهلون مع تهاليل أمّي. ترتسم أمامي هذه المشاهد كأنّها حدثت البارحة؛ لما فيها من فرحٍ غامر، ظلَّ محفوراً في حنايا القلب، أدهشني سلوكي الطّفولي لاحقاً، وعندما دقَّقتُ في حالتي من بعض جوانبها، رأيتُ أنّ شخصيّتي فرحيّة تفاؤليّة طموحيّة منذ البداية، وإلّا ما هذه المشاعر الّتي انتابتني وعبَّرتُ عنها من خلال نجاحي من الصَّف الأوَّل إلى الصّف الثّاني، ما لم يَكُنْ هناك طموحات وطاقات معشّشة في داخلي وعبِّرتُ عنها بطريقةٍ نادراً ما يعبّر عنها الأطفال، إلَّا مَنْ يشبهونني في بعض طموحاتهم ومشاعرهم الفرحيّة؟

الآن، أدقِّق في مراحل طفولتي وعفويّتي، أدهشني حقَّاً هذا السُّلوك الطُّفولي الجميل، سلوك يتقاطع مع روحانيّة شاعر وشغف إنسان حسّاس يتلمّس بحساسيّة كبيرة لأي نجاح يحقّقه، وينمّ عن أنَّ سلوكي يشبه خيال روائي من حيث الفرح الغامر الّذي غمرني وترجمته على أرض الواقع، كأنّ الطّفل الّذي كنته يكتبُ سرده منذ طفولته من خلال سلوكه الطُّفولي العفوي البريء. عشتُ طفلاً حالماً، غارقاً في الطُّموحِ، وظلَّ هذا الطُّموح الممتدّ على أحلامٍ مفتوحة، جزءاً من شخصيّتي وتطلُّعاتي حتّى الآن!” ..

  1. أراك شديد الحساسيّة في تذوِّق الإيقاع، اللَّحن، الموسيقى، الكلمة، ما مردّ هذه الرَّهافة الجامحة؟

أعتقد أن مرّد هذه الحساسيّة في الكثير من قضايا الحياة والرّهافة الجامحة في تذوِّق الإيقاع واللّحن والموسيقى والكلمة، هو على الأرجح وراثي، ورثتها من والدي ووالدتي، ومن عمِّي، وسلالتي معروفة في الصَّبر واستمراريّة العمل دون كلل أو ملل، فأبي كان معروفاً في دقّته وشغفه في العمل كفلّاح يعمل ساعات طوال في حراثة الأرض، يحرثها بدّقة كبيرة، ويلملم الحجارة الصَّغيرة والكبيرة منها، ودقيق جدَّاً في الحصاد فلا يترك شاقاً من العدس يفلت منه أثناء الحصاد، ولا سنبلة من الحنطة، ودقيق للغاية في دراسة الحنطة والشَّعير والعدس بالنّورج على مدى أيّام وأسابيع وشهور، وكم كان مرهفاً في التّذرية، يذرِّي الحنطة في مساءات صيف ديريك عندما يهبُّ النّسيم من جهة الغرب، وبعد أن ينتهي من التّذرية بمساعدة إخوتي الكبار، يعود ويذرِّي مرّة أخرى التّبن الخشن المختلط مع الحنطة، ثمّ يأتي دور أمِّي في غربلة الحنطة على مدى ساعات وأيام، ونقل الحنطة إلى المنزل، وإعداد قسم من الحنطة للبذار وقسم لمؤونة الشِّتاء وبقيّة الفصول، حيث كانت أمِّي تغسل الحنطة، ثمَّ تجفِّفها وتنقِّيها على السّفرة حبّة حبّة، كذلك كانت تعمل مع العدس بعدغسله وتنقيّه من البحصات الصّغيرة والبربور وبعض حبّات الأعشاب البرّيّة، كلّ هذه الدّقّة أشبه ما تكون كتابة قصيدة شعر، أو كتابة قصّة قصيرة وغيرها من الحساسيّة الإبداعيّة، وأكثر ما تشرّبته من أمّي هو العمل بهدوء واستمراريّة وبحبٍّ كبير، وتمّيزت أمِّي بصوتٍ رخيم وطبقات عالية يصدر من الرَّأس كما كان يُقال في حينها، حيث كانت تنشد بشكل ارتجالي في التّعازي أثناء الوفيات الّتي لها طابع الفجائعيّة، وكان الجمهور الَّذي يسمع صوتها وأداءَها يبكي على إيقاعات صوتها، ويموج الجموع في حالة بكاء، وقد حضرت عشرات الحالات وأنا طفل ويافع وشاب، كانت تدهشني بقدراتها العالية في صياغة الأداء بشكلٍ ارتجالي، والغريب بالأمر كانت تنشد الرثائيّات باللُّغة الكرديّة، وعندما سألتها أكثر من مرّة، أجابتني: هكذا جرت العادة أن نقدّم هذه الرّثائيّات بالكرديّة يا ابني؛ لأنّها كانت تتمكّن من صياغة هذه الرثائيّات بسهولة، وعندما درستُ السَّبب لاحقاً تبيّن لي أنّها معها الحقّ؛ لأنّها لم تسمع في حياتها مَن كان ينشد قبلها وهي طفلة ومراهقة بتقديم هذه الرّثائيّات بالعربيّة الماردلّية أو الأزخينيّة، ولاحظت أنَّ أغلب النِّساء كنَّ يقدِّمن هذه الرّثائيّات بالكرديّة إلّا بعض النِّساء السّريانيّات كنَّ يقدِّمنها بالسّريانيّة؛ لأنهّن كنَّ يتقنَّ السِّريانيّة، وتعلمْنَ هذه الرّثائيّات من نساء أخريات، وهكذا تعلّمتُ الإيقاع والموسيقى من أمّي ومن المرحوم خالي يعقوب الرّديف، فقد كان عازف طنبورة ومغنِّياً، كما تعلّمتُ من ابن خالي جورج ومن استماعي من حفلات الزّفاف الّتي حضرتها في ديريك من موسيقى كرديّة وماردلِّيّة وسريانيّة، كلّ هذا عمّق تذوّقي للشعر والغناء والموسيقى، وجعلني شغوفاً في هذه الفضاءات، وخلق في عوالم خيالي جموحاً نحو هذه الفضاءات الشَّفيفة، وتنامت اهتماماتي من خلال خبرتي ومطالعاتي الغزيرة  في الحياة إلى أن وصلت إلى حالة انغماس في الكتابة والرّسم والموسيقى، وأصبحت هذه الفضاءات تنعش روحي وكياني وتبهج خيالي، وغدت جزءاً لا يتجزَّأ من حياتي وأهدافي وطموحاتي العميقة في الحياة!

  1. ماذا يراودك ممّا كنتَ تتميّز به عندما كنتَ طفلاً، ويافعاً وشاباً وظل مرافقاً بكَ حتَّى الآن؟

هناك عادّة ظلّت مرافقة لي منذ أن كنتُ طفلاً في الحلقة الابتدائيّة، واستمرّت في المرحلة الإعداديّة والثّانوية والصَّف الخاص والمرحلة الجامعيّة، وخلال مطالعاتي وقراءاتي للأدب العربي والكثير من الأدب العالمي، وهي عادة كشف الأخطاء المطبعيّة الإملائيّة والنّحويّة، خاصّة الَّتي أتمكّن من معرفتها وتصحيحها وتصويبها، فكلّما أقرأ كتاباً، تضرب عيني في الكلمة الَّتي تتمّ طباعتها خطأ مطبعيّاً، مثلاً عندما يتقدَّم حرف على حرف أو كتابة التَّاء بدلاً عن الثَّاء، أو النُّون بدلاً عن التّاء، والظَّاء بدلاً عن الطّاء وهكذا، فاكتشاف الخطأ المطبعي أصبح إحدى عاداتي، حتّى أنّ هذه العادة سحبت معي في اللُّغة الإنكليزيّة والسُّويديّة، خاصَّة عندما أكون واثقاً من المفردة تماماً، فيتمُّ كشف الخطأ معي بسهولة وكأنّني في حالة تدقيق النّص وأنا أطالع النّص الرِّوائي والقصصي والشّعري والأدبي والمقال والمسرحيَّات .. إلخ.

وأكثر ما كان يميِّزني أيضاً هو أنّني ما كنت أستطيع أن أخرج من المنزل من دون أن يكون معي كتابٌ معينٌ، خاصّة بعد المرحلة الابتدائيّة والإعداديّة، وتنامَتْ لدي عادة القراءة وشغفي في القراءة خلال المرحلة الجامعيّة، وبعد المرحلة الجامعيّة أصبح حمل الكتاب ومرافقة الكتاب معي في الباص والقطار والرّحلات وفي الطّائرة وفي الباخرة وفي أي مكان أكون فيه، طقساً من طقوسي، وكأنّه حبيبة وعاشقة وصديقة الصَّديقات، وكلّ هذا الشَّغف جعلني أغوص عميقاً في عوالم وفضاءات الأدب والفن والإبداع؛ لأنّ كلّ هذا الاهتمام بالمطالعة شكّل عندي ذخيرة معرفيّة وثقافيّة وأدبيّة وفكريّة وانسيابيّة، وعمّق من شغفي في الكتابة، وولّد عنّدي حالة تدفُّق وغزارة في كتابة أغلب الأجناس الأدبيّة، حيث كتبتُ مثلاً في العام 2015م خلال ستة شهور ثلاث روايات، وديوان شعر، وكتاب ديريك معراج حنين الرُّوح! وراجعت هذه الكتب الخمسة مراراً، ولا أزعم أنَّ نصوصي وكتاباتي خالية من الأخطاء، لكنِّي أحاول جهدي مراجعتها وتدقيقها، ولكن بكلِّ تأكيد الفقيه اللّغوي بدوره يكتشف بعض الهنّات اللُّغويّة عندي؛ لأنَّ اللُّغة هي بحر ولا يحتاج الكاتب أن يكونَ فقيهاً لغويَّاً؛ لأنَّ المدقِّق اللُّغوي الفقيه في اللُّغة موضوع آخر وتخصُّص آخر، لكنِّي أقصد هنا في سياق ردِّي على تساؤلي هذا أنَّ ما أكتشفه من أخطاء في الكتب هو ما أنا متأكِّد من صوابه تماماً، وقد ظلّت هذه العادة مرافقة لي وتدفعني لمراجعة كتاباتي عشرات عشرات المرّات، فمثلاً أجيب عن حوار مع الذَّات مباشرة على الحاسوب، وأعيد مراجعة إجاباتي وتدقيقها عشرات المرّات إلى أن تصل إجاباتي إلى صيغتها النّهائيّة، وأعيد قراءتها بعد نشرها وأصوِّب ما تقع عيناي عليه!

  1. أنت من أسرة فلّاحيّة وأصغر إخوتكَ، ما سبب تركيزك على العلم والدِّراسة منذ باكورة العمر؟

سؤال وجيه جدّاً، هناك الكثير من الأسباب الّتي دفعتني لأن أركّز على متابعة تعليمي ودراساتي بشغف كبير؛ لأنّني قارنتُ نفسي مع إخوتي الأكبر منّي، الّذين لم يتابعوا دراساتهم، فأصبتُ بالرّعب تماماً لواقع الحال حالهم، حيث كنتُ أراهم يحملون تنكات الإسمنت ويصعدون بها على سلِّمٍ خشبي، وينقلون كمائن الرّمل ويملؤونها بالرّفش، ويشتغلون بصبِّ البلوك وإعداد جبلات الطِّين/ الإسمنت مع الرّمل، كلُّ هذه الأعمال وغيرها من الأعمال المرهقة تحت الشَّمس الحارقة أو في برودة الشّتاء القارسة، جعلتني أن أركّز جلّ اهتمامي للتخلّص من هكذا مصير مخيف، خاصّة أن جسمي النّحيف ما كان يساعدني نهائيّاً علي حمل تنكات الإسمنت وصبّ البلوك ورفع الحجارة والبلوك واللّبن/الكربيج للمعارجي .. وغيرها من الأعمال المرهقة ممّا جعلني أركّز قصارى جهدي على متابعة دراساتي، وأكون متفوِّقاً في دراستي على أقراني؛ وأحقِّق ما لم يحقِّقونه إخوتي؛ لأنَّني كنت أشعر بالأسى والخيبة لو فشلتُ في المدرسة، متسائلاً، كيف سأحمل الحجارة الكبيرة، والكربيج/ اللّبن المجفّف الثَّقيل، وأكياس الإسمنت وتنكات الرّمل والطّين، كيف سأعمل في مواسم الحصاد، أحصد بالمنجل طوال فترة الصّيف الحارق؟!

كان يرعبني العمل كعامل عند أبو كربيس، إملاء كميون كبير من الرّمل بالرَّفش من الجبل، وصبّ البلوك بعد حمل البلوك الطَّريّة مع القالب، والعمل كعامل مع معمارجي، وحصاد الحنطة بالمنجل، كنتُ مُرعَباً عن حقِّ وحقيقة من العمل الجسدي؛ لأنّني اشتغلت مع عمّي كعامل أقدّم له البلوك والكربيج/ اللّبن والطِّين وأعدُّ له جبلات الطِّين، وشعرت أنَّ العمل كعامل هو أشغال شاقة عن حقِّ وحقيقة! وأتذكّر جيّداً عندما كنتُ أعمل عاملاً مع عمّي أو مع غيره في فترات العطلة الصَّيفيّة، كنتُ أفكّر طوال الوقت متى سينتهي العمل وتغيب الشَّمس وأتخلّص من الكارثة والورطة الَّتي أنا فيها؟ وكان ينتابني نفس الشُّعور عندما كنّا نحصد الحنطة والعدس بالمنجل، أفكّر باليوم كأنّه بلوة عليّ، متمنِّياً أن يمرَّ النَّهار بسرعة البرق ويصبح مَغيْباً؛ كي أعود إلى المنزل وآخذ دوشاً وأخرج مع أصدقائي نتمشَّى في شارع المشوار، كلّ هذه الصُّعوبات في الأعمال المرهقة جعلتني أركّز بهمّة عالية على تحصيلي الدِّراسي، تفادياً من أن أصبح عاملاً مثل إخوتي وأصدقائهم الّذين لم يتابعوا دراساتهم، إضافة إلى أنّني كنت أعشق الحرف والعلم والدّراسة واللّغات، وهكذا أسهمت الظّروف كلّها في أن أحقِّقَ نجاحاً على صعيد كافّة المراحل الدِّراسيّة، واشتغلتُ بعد حصولي على الصّف الخاصّ معلِّماً، ثمّ موجّهاً في إعدادية يوسف العظمة، وكان راتبي أعلى من راتب أخي الّذي كان يكبرني بسبع سنوات، وكان في حينها يعمل عاملاً في شركة رميلان النّفطيّة، وهكذا وجدت نفسي منخرطاً بشغفٍ كبير في عوالم القراءة والدّراسة والتّحصيل العلمي، متابعاً دراساتي الجامعيّة في جامعة دمشق، قسم الدِّراسات الفلسفيّة والاجتماعيّة شعبة علم الاجتماع، بعد حصولي على الصّف الخاص، كما تابعت دراساتي الجامعيّة في ستوكهولم، قسم الفنون، الخاص بالتّدريس، ودرست اللُّغة السُّويديّة أيضاً، وتخرَّجت في الجامعة بعد قرابة (25) عاماً من تخرّجي فيجامعة دمشق!

  1. هل لاهتمامك بالموسيقى والغناء والرّقص دور في حبّك للشعر والكتابة عندما شبَبْتَ عن الطَّوق؟

جائز؛ لأنَّ فضاءات الموسيقى والغناء والرّقص تصبُّ في وهج انبعاث الشِّعر، فكلُّ الأغاني مستمدّة من قصائد شعريّة، فهذه الفنون تصبُّ في فضاء الشّعر والكتابة بلا أدنى شكّ، كما أنَّ للطبيعة الَّتي ترعرعتَ فيها خلال مرحلة الطُّفولة واليفاعة والشَّباب، دوراً كبيراً في تنامي حبّي للشعر والكتابة بكلِّ أجناسها؛ لأنَّ هذه العوالم تسهم في استلهام القصائد والنُّصوص؛ لما فيها من فسحات رحبة لتجلّيات الحرف وابتهالات اللّون، فلو لم أعِشْ في بيئة وطبيعة جميلة خلَّابة كهذه، كان من الممكن أن تتوجّه اهتماماتي لقضايا أخرى، وأكثر ميولي وماتزال هي الأفكار الفلسفيّة، خاصّة أنَّني تخصَّصتُ فيها، واخترت علم الاجتماع في السّنة الثّانية؛ لأنَّ عبر هذا التَّخصُّص ندرس بناء المجتمع وفلسفة الحضارة والبحوث الاجتماعيّة وعلم الجمال والمواد الّتي تفسّر المذاهب الفكريّة والتِّيَّارات الاجتماعيّة والايديولوجيّة، ويستهويني جدّاً الغوص عميقاً في القضايا الفلسفيّة؛ لأنّها أمّ العلوم في شرح أدق الأفكار ونظريَّات التّطور البشري عبر التّاريخ الكوني برمّته، ولهذا أراني أحمل فكراً في كتاباتي وقصصي وأشعاري ونصوصي ومقالاتي؛ لأنَّ شخصيَّتي الأدبيّة في العمق تصبُّ في رؤية فكريّة أكثر من مجرّد كتابة قصص وقصائد وروايات ونصوص، وأميل جدّاً إلى الرُّؤية التَّنويريّة، والفكر الخلّاق الَّذي يسهم في تطوير الشُّعوب والبلدان، ومجنَّح إلى فضاءات السَّلام والحبّ والفرح؛ لأنّني أرى أنَّ الحياة خاوية ولا أهمّيّة لها ما لم يركّز المرء بحسب موقعه على قضايا التَّنوير والتَّطوير والحرِّيّة والعدالة والمساواة وتحقيق الأهداف الَّتي تخدم البشريّة، ولدي موقف لا مهادنة فيه ضدّ كلّ أنواع الحروب والصِّراعات البشريّة الّتي تقود بعض البلدان إلى صراعات وحروب مدمّرة لكلَّ الأطراف، كما هو الآن في دنيا الشَّرق، وأعدُّ كلَّ الحروب الّتي تمّت عبر كلّ مراحل الجنس البشري هي ضرب من الجنون والقباحات الَّتي دمَّرت البشر، والحروب كلّها مجرّد مصالح سخيفة عقيمة وغير أخلاقيّة ورؤية قميئة في تطلُّعات بعض البشر، وأعدُّ صنّاع الحروب مجموعة مجانين لا أكثر، ومندهش كيف ممكن أن يفكِّر المرء بالحروب أمام كلّ هذا التّطور البشري دقيقة واحدة؛ لأنّه من الضّروري أن يفكِّر سياسيو هذا العالم في رفع لواء السَّلام والتَّطور والعدالة والدِّيمقراطيّة والحرِّيّة والعيش الكريم، بعيداً عن لغة الحروب الَّتي تقود إلى الدَّمار والخراب، خاصّة أنّه لا بدَّ بعد أيِّ حرب مهما طالت إلّا أن يجلس كافّة الأطراف المتصارعة، والتّحدث بلغة الهدنات والمصالحات والسّلام، فلماذا إذاً يتحاربون منذ البداية؟ يتحاربون من أجل مصالح سياسيّة واقتصاديّة وقوميّة ودينيّة وقضايا عديدة أخرى، ومهما تَكُن الأسباب يجب على كلِّ الأطراف معالجة خلافاتهم عبر الحوار؛ بما يحقِّق العدالة والمساواة لكافّة الأطراف، وهكذا فإنَّ الكتابة عندي تهدف إلى تجسيد حالة وئاميّة بين البشر، وتقديم كل ما فيه خير ورفاهيّة البشر أينما كانوا، وكلّ أدب وفن وفكر وثقافة لا يخدم الإنسان والبشر هو إبداع فاشل وعابر وغير خلَّاق، لهذا علينا أن نركّز على كلّ ما من شأنه أن يمنح السَّعادة والفرح والسَّلام والرّفاهيّة للإنسان؛ كي تصبح الحياة أجمل ضمن فسحة الحياة القصيرة الّتي نعيشها!

  1. ما هي أبرز ما حقَّقته في المرحلة الابتدائية، وتعتزُّ به غير قراءة دروسك المدرسيّة؟

إن أجمل وأبرز ما حقَّقته خلال هذه المرحلة غير دروسي المدرسيّة هي الألعاب الَّتي لعبتها مع أقراني في المدرسة وخارج المدرسة والمشاوير الَّتي كنّا نقضيها في الطَّبيعة، خاصَّةً عندما كنّا نتوه في البراري الفسيحة أيّام الرّبيع، نلمّ باقات الحمّص الأخضر ونأكله بلذّة عميقة، ونعبر في أعماق حقول البطِّيخ والجبس والقتّي والعجّور/ الفنجكات، كم كان لذيذاً البطّيخ الأحمر الحلو والبطّيخ الأخضر الحامض قليلاً، والقتّي بأنواعه والعجّور نأكلها من الشّاق مباشرة، خيرات لا تحصى وكروم العنب كانت تغدق علينا أشهى أنواع العنب والزّبيب والحليلة والباستيق، هذه المرحلة من العمر هي ينبوع عميق من الفرح ولا يمكن نسيان تلك الأيَّام؛ لأنّها محفورة في أعماق الرُّوح وسهول القلب.

وكم ساهم هذا الينبوع الفسيح من الذّكريات في بناء فضائي الإبداعي على أكثر من صعيد، وقد استلهمت من وحي هذه المرحلة فضاءً روائيَّاً فسيحاً بعوالم الطّفولة، وكم أشعر بالسّعادة؛ لأنَّني تمكّنت من أن أمسك خيوط هذا العمل الرِّوائي الّذي تمحور حول أبهى ما في عوالم الطُّفولة من أفراح وألعاب وذكريات في غاية الدِّفء والحميميّة والبهاء، كما استوحيت العشرات من القصائد والقصص والنّصوص، وعشرات بل مئات اللّوحات من وحي بهاء الطَّبيعة الّتي أنعشت روحي وذاكرتي، كما بنيتُ صداقات رائعة ومورقة اخضرارها حتّى الآن، وتبعثر الأصدقاء في الكثير من بلاد العالم، وها نحن الآن نتواصل عبر الشّبكة العنكبوتيّة وفضاءات التَّواصل الاجتماعي، يقرَؤُون كتاباتي وأقرأ كتاباتهم ومنشوراتهم وأتابع أخبارهم الطَّيّبة. وأشعر في الكثير من الأحيان أنّني غير قادر على ترجمة خيوط الحنين  بكلِّ ما يعتريني من أشواق حميميّة إلى تلك الأيَّام، حيثُ تتزاحم الذّكريات الجميلة مثل الغمام في معالم المخيّلة فأحتار كيف أصيغ رونقها فوق شاشة الحاسوب ضمن كلمات وجمل ومحطّات معيّنة ممّا كان له أجمل الأثر في حياتي، فلا أجد قلمي قادراً على الإحاطة بذكريات الماضي البعيد، لما لهذه المحطَّات من أثرٍ عميق في حياتي، ويبدو أنّني سأنبش بين حين وآخر من عذوبة هذه الينابيع؛ لأستلهم من فضاءاتها قصصاً وأشعاراً ونصوصاً جديدة؛ كي أهدهدها فوقَ أغصانِ الحياة لتبقى مرجعاً حميميّاً لنا وللأجيال القادمة!

  1. تحدَّث عن شغفكَ ببيع العنب، وبيع التّشكيلة، وحضور الأفلام الهنديّة في سينما قريبك هتِّي؟

عندما أصبحت في حدود العاشرة والحادية عشرة من عمري، بدأت أبيع عنبنا بنفسي وأعفيت أمّي من البيع، فاستغربتْ وقالت: يا ابني، أنتَ ما تزال صغيراً، كيف ستبيع وحدك هذه السِّلال من العنب؟ فقلت لها، خلَّيك معي، كم يوم فقط كمشرفة على كيفية بيعي، وحالما تقتنعين من قدراتي في إدارة بيع العنب، عندها اتركيني أقوم بالمهمّة وحدي، وفعلاً ظلّت معي حوالي أسبوع وأنا أبيع العنب، أناقش سعرها مع الزّبائن وأزن لهم العنب في ميزان صنعته أمّي من القشِّ، من سيقان الحنطة على شكل طبق صغير ومرتبط بثلاثة قنّبات بعود، وفي وسط العود من الأعلى قنّب قوي لرفع الميزان.

كنتُ أبيع العنب بمهارة، وأستلم قيمته من الزّبائن، وأعيد لهم الباقي، وأضع ثمن العنب في جيبي بطريقةٍ دقيقة، حيث كان لي جيب فيه سحَّاب، أضع فيه نقودي؛ كي لا تقع من جيبي؛ أو ينتشلها منِّي أحدهم وأنا منهمك مع الزّبائن! وحالما وجدَتْ أمّي، أنّني قادر على بيع العنب وحدي، باستني وقالت: صدّق عم تبيع أحسن منّي يا ابني، وهكذا أصبحت منتجاً وأنا في العاشرة والحادية عشرة من عمري!

عقل اقتصادي متفتّح لطفل، حيث إنَّني خصّصت دفتراً لبيع المحصول أولاً بأوّل، منذ أوَّل يوم بعت فيه العنب وحدي، واتّفقت مع أمّي أن أخصِّص لي ربع ليرة يوميّاً لقاء جهدي كي أذهب إلى سينما اشبيننا هتّي، أبو جاك، مع شكري ابن عمّي، فكنّا نحضر كل فيلم جديد، وباقي الغلّة كنتُ أسلّمها لأمِّي، وأسجِّل ما استلمَتْهُ أمِّي منّي، وما استلمْتُهُ أنا، ونادراً ما كنتُ أصرف مخصّصاتي، إلَّا في السِّينما، أو شراء “مزعار، أو كلل”، أو تخصيصها لشراء دفاتر وأقلام وأدوات مدرسيّة، أو لشراء لباس و”كلاش” جديد، وهكذا ترعرعتُ منذ باكورة عمري ضمن ظروفٍ فيها مسؤوليّة وحسابات دقيقة من جانبي، فعرفت قيمة الفرنك الَّذي أربحه بعرق جبيني، وانطلاقاً من واقع الحال، جنحتُ نحو التَّقشّف والاقتصاد منذ أن كنتُ طفلاً، لا أصرف فرنكاً من فرنكاتي إلّا لما هو ضروري، وضروري جدّاً.

حالما أصبح رصيدي خمس ليرات سوريّة، خطر على بالي أن أبدأ بمشروع خاص، وهو شراء تشكيلة من المصَّاصات والبسكويت والرَّاحة والعلكة والنّعناع والكاكاو، وغيرها من أنواع السّكاكر، وبيعها بعد الغداء أمام بيتنا في الشَّارع، فوافق والدي ووالدتي، وبدأت أشتري علبة من كلِّ نوع، وعندما كنتُ أبيع قليلاً من تشكيلتي، كنت أشتري ما ينقصني من السَّكاكر الّتي يحبّها الأطفال، إلى أن أصبح عندي تقريباً عشرة أنواع من أفخر أنواع التّشكيلة الخاصّة بالأطفال، أربح أسبوعيّاً قرابة خمس ليرات سوريّة في حينها، ولكن والحق يقال كان شكري ابن عمّي، أكثر تفوّقاً منّي بكثير في بيع التّشكيلة؛ لأنّه كان ذكيّاً جدَّاً في تطوير تشكيلته، فقد اشترى لعبة السَّهم، وكان الأطفال والمراهقون يلعبون معه بالسّهم، ويشترون منه بما يربحون، وفي أغلب الأحيان كان يربحهم بلعبة السّهم؛ لأنّه كان يتدرّب في رمي السّهم ويحقِّق نتائج رائعة، واللُّعبة تتضمَّن ثلاث رميات، ونجمع الرَّميات الثّلاث، والّذي يحقِّق رقماً أكبر يربح!

تطفح من عيني دموع الحنين، الحنين إلى طفولة من لون المطر، طفولة منسابة مثل مياه دجلة في أوج اهتياجها وعبورها في أخاديد الوديان الّتي احتضنتها منذ أمدٍ بعيد، آه الذَّاكرة البعيدة بعيدة للغاية، كأنَّها حلم من أحلام الرُّوح الشَّهيّة، كأنّها ذكريات لزمن آخر غير زمننا هذا، زمنٌ معفَّرٌ بالغدر، زمنٌ مهووس بالاحتيال والحروب والصِّراعات وجنون لا يخطر على بال.

أين نحن الآن من أطفال أيّام زمان؟! يساعدون آباءَهم في الكثير من الأعمال، حنان عميق كان يربطهم مع بعضهم بعضاً، كم نحتاج إلى حنان الأسرة وتعاونها، وحنان الأوطان إلى أبنائهم ومواطنيهم؛ كي نعيشَ جميعاً في حالةِ عطاءٍ ومحبّة ووئامٍ ما بعده وئام!

  1. ما هي المواد الَّتي كنتَ تحبُّها في المرحلة الابتدائيّة، وبأيّة مواد كنت متفوِّقاً وأبرز ما قمت به؟

كنتُ متفوِّقاً بالقراءة والكتابة والمواد الاجتماعيّة، درستُ في ابتدائيّة ناظم الطَّبقجلي حتّى الفصل الأوّل من الصَّف الرّابع، ثمَّ انتقلتُ إلى مدرسة المأمون الرّيفيّة، وأبرز ما قمتُ به أنّني خضتُ امتحان مادّة الاجتماعيات في الصَّف السّادس مع مدرسة بنات “سُكينة بنت الحسين” بنجاح كبير، وحالما خبَّرنا الأستاذ مصطفى أحمد عن موعد امتحان المسابقة، حضَّرتُ مادّة الامتحان بشكلٍ مكثّف، ولخّصت كلّ ما هو مطلوب من المواد الثلاث، وقرأتها ليلة الامتحان، وراجعتها في صباح يوم الامتحان أيضاً.

أتذكّر جيّداً أنَّ القاعة كانتالقاعة نفسها الَّتي أصبحت فيما بعد مستودعاً للكتب المدرسيّة. جلسَتْ بجانبي وعلى المقعد نفسه الطَّالبة مارتا قرياقس، عينان سوداوان جميلتان، ممشوقة القوام، كنتُ قد حضَّرت الامتحان بشكل جيّد، لكن رهبة كبيرة سيطرت علينا لمجرَّد أنَّنا سنخوض الامتحان مع البنات كنوع من المنافسة!

أجبتُ عن الأسئلة بكلِّ هدوء ودقّة وراجعت إجاباتي، وبقي حوالي (20) دقيقة من الوقت، همست للطالبة الَّتي بجانبي فيما إذا تريد مساعدة ما؟ فزّوَّرتني، واعتبرَتْ نفسها أعلى من أن أساعدها، وأعلى من أن تطلب منّي مساعدة ما، حتّى ولو كانت بحاجة لذلك! .. راقبنا الأستاذ مصطفى أحمد ومعلّمة البنات، كانت المراقبة شديدة وأسماؤنا مغلقة على أوراق الإجابة وكأنّنا نخوض امتحانات للثانويّة العامّة. كان معنا آنذاك الطَّالب جتّو أحمد، عمر رمضان، عمر الخالد، طاهر عبدالرحمن، كابي نعمان، نعيم كبرو، خليل إبراهيم، بحدود (40) طالباً في الصَّف السَّادس.

قبل أن أسلِّم ورقتي قلت للطالبة الّتي بجانبي: لو عندك سؤال ما لا تتذكَّرين تعداداته سأذكِّركِ به، فقالت وهي تزوِّرني سلِّم ورقتك، مين مسكك!

سلّمت ورقتي، وانتظرتُ رفاقي. كنتُ من أوائل الَّذين سلّم ورقته، خرج الطُّلاب رويداً رويداً، انتهى الامتحان، دخلنا إلى الصَّف، بعد أن استلم مدرّس الصَّف والمعلّمة أوراق الطّلَّاب والطّالبات.

قال الأستاذ مصطفى: بعد أسبوعين من الآن، سنعلن عن أسماء النّاجحين والنَّاجحات، والطُّلاب والطَّالبات الثَّلاثة الأوائل سينالون شهادات تقديريّة، مرحى من إدارة المدرسة!

بعد ثلاثة أسابيع حضر أستاذ المادّة ومعه ظرف كبير فيه الإجابات، مصحّحة باللَّون الأحمر، كل طالب ينتظر نتيجته. بعد مقدّمة قصيرة قال: سأوزّع الآن أوراق الإجابات، وهي مدوّنة عندي في دفتر العلامات، وكلّ طالب لديه ملاحظة معيّنة ويشعر أنّه مظلوم، أو هناك خطأ ما في جمع العلامات، ممكن أن يرفع يده ويطالب بحقّه! كانت العلامة من ستّين، كل مادّة (20) درجة، بدأ يقرأ العلامات، تجاوزت علامة جتُّو أحمد فوق الخمسين بقليل، وأغلب الطُّلاب تفاوتت علاماتهم بين الثَّلاثين والأربعين، وقسم منهم بين الأربعين والخمسين، وثلاثة طلاب بما فيهم جتو أحمد قفزوا عن الخمسين، فظّلت الورقة الأخيرة، شعرت برهبة وقلق ونوع من الخوف، وإذ به يقول صفّقوا لصبري صاموئيل يوسف، حصل على العلامة التَّامّة (60 من 60).

نطّيتُ فرحاً ونظرتُ إلى زملائي وهم يصفِّقون لي، شعرتُ أنّني أطير من الفرح، كنتُ أتمنّى لو كان والدي بعقاله وكوفيّته وشرواله موجوداً، ويرى كيف زملائي يصفِّقون لي، ثمَّ صفَّقوا لجتُّو أحمد بعد أن أعلن عن ترتيبه الثَّاني، والدَّرجة الثَّالثة كانت من نصيب إحدى الطَّالبات!

تمت دعوة إدارة سكينة بنت الحسين مع إدارة المأمون الرِّيفيّة لحضور احتفال يوزِّعون فيه الشَّهادات التَّقديريّة من إدارة المدرسة للمتفوِّقين الثَّلاثة الأوائل!

بعد مقدّمة من مدير المدرسة الأستاذ “جدعون رميحان”، ومديرة سكينة بنت الحسين، تحدّث الأستاذ مصطفى ومعلِّمة البنات، ثمَّ قرأ مدير المدرسة أسماء الأوائل مع درجاتهم:

حصل على العلامة الأولى والتامّة الطَّالب صبري صاموئيل يوسف.

ثمّ قرأ المدير التَّرتيب الثَّاني لجتُّو أحمد، وقرأ اسم الطالبة الَّتي حصلت على التَّرتيب الثَّالث.

صفّق الطُّلاب والطَّالبات لنا وذهبتُ إلى المنصّة لأستلم شهادة التَّقدير، وسلّمت على المدير والمديرة وأستاذ المادّة ومعلِّمة المادّة. وعدت وقلبي يدقُّ من الفرح والبهجة، ثمَّ تبعني جتّو فالطّالبة الثَّالثة.

سمعتُ الطَّالبة مارتا تقول لرفيقتها: لَكْ شوفي شوفي هذا الطَّالب الَّذي حصل على العلامة التَّامّة، كان قاعد جنبي وسألني أكثر من مرّة فيما إذا أحتاج مساعدة ما، لكنِّي رفضتُ أن يساعدني!

جاءت وسلّمتْ عليّ، أنتَ كنت قاعد على نفس مقعدي بالامتحان.

ابتسمتُ لها بفرح، نعم كنتِ قاعدة جنبي، وحاولتُ عدَّة مرات أن أساعدكِ، لكّنكِ رفضتِ ذلك.

ما عرفت أنّك هيك شاطر.

وهلَّا عرفتِ.

ضحكتْ وقالت:أنتَ فرحان؟

نعم أنا فرحان، فرحان كتير كتير.

شو يشتغل أبوك صبري؟

والدي فلّاح، يشتغل بالفلاحة.

برافو، الله يوفّقك، تعرف صبري هلّا أنا عم أحسدك!

إن شاء الله أنتِ كمان تنجحي في مواد أخرى وتكوني من الأوائل!

الله يسمع منك يا رب.

تعرفي، أنتِ كتير حلوة.

شكراً، هاد من ذوقك.

ودّعتني بابتسامة، وظللتُ أتذكَّرها إلى أن أصبحت معلِّمة، لكنِّي لا أظن أنَّ مارتا قرياقس تتذكّر كلّ هذه التَّفاصيل المنقوشة على واحات الذَّاكرة البعيدة، وهكذا نكبر وتبقى قامات الأصدقاء والصَّديقات والأهل، وأزقّتي الَّتي احتضنتني طويلاً، شامخةً فوق شواطئ الذَّاكرة المسربلة بالحنين!

  1. ما دور اللّغة، مفردات واصطلاحات اللُّغة الّتي توغّلت في أعماقك منذ الطُّفولة في الكتابة؟

لمفردات واصطلاحات اللُّغة دورٌ كبير في الكتابة، كما لمصطلحات ومفردات اللّهجة المحلّيّة دور كبير أيضاً في تعميق الكتابة، وقد كان لدي عادة بديعة منذ الطُّفولة وهي حفظ الكلمات الجديدة والمفردات والمصطلحات الجديدة، وهذا ساعدني في تقوية زادي اللُّغوي وقاموسي الإبداعي لاحقاً، وكأنِّي لا شعوريّاً كنت أخطِّطُ أن أكون كاتباً في مستقبل الأيَّام، حيث كنتُ أكتبُ المفردات الجديدة والكلمات الّتي تعجبني في دفتر خاص، وأحفظ كيفية استخدامها في الجمل؛ وإذ بي أجدني وأنا في بداية المرحلة الإعداديّة وبعد أن اجتزت المرحلة الابتدائيّة قادراً على التّعبير عمّا يراودني، وأصبح لدي شغف في كتابة مواضيع الإنشاء؛ كي استخدم المفردات والمصطلحات والتّعابير الّتي حفظتها، وفعلاً كنتُ من الطلّاب المتفوّقين في مادّة التَّعبير والإنشاء، كما كنتُ متفوّقاً في المواد النّظريّة الّتي تتطلّب الشّرح والتّعبير عن الأفكار الّتي حفظناها، وأحياناً ما كنتُ أحضّر بعض المواد ويسمّعني المدرّس فقرة معيّنة، ومع أنَّ تحضيري للفقرة كان سريعاً وأحاول أن استرجع ما شرحه أثناء الدّرس فلا أتوقّف مكتوف الأيدي بل سرعان ما أجيب عن سؤاله بسلاسة وأشرح الفقرة بطريقة وكأنّني حضَّرت الدَّرس والفقرة بشكل جيّد، فيقول: جيّد صبري تفضَّل لكن حاول أن تركّز على مضمون الفقرة ولا داعي الدُّخول في التّفاصيل من خارج ما جاء في الفقرة، وهكذا كان يظنُّ أنّني حضّرت الدّرس، لكن دخلت في تفاصيل خارجة عن الفقرة الأساسيّة، وحقيقة الأمر كنت أشرح الفقرة من خيالي دون تلكّؤ على أساس أنّني قرأتها وحضّرتها بأحسن ما يكون التَّحضير. وهذا يؤكِّد على أهمّية اللُّغة الَّتي تشكّلت عندي للتعبير عن فكرة ما ويؤكّد أنَّ هناك زاداً لغوياً تشكّلَ لدي أستطيع من خلاله التّحدُّث شفهيّاً عن بعض المواضيع المناسبة لعمري آنذاك، واستمرّت عندي عادة التّركيز وحفظ المفردات الجديدة والهامّة والمصطلحات حتّى المرحلة الثّانويّة، وبعد أن كتبت قصصاً وأشعاراً ركّزتُ على قاموسي الشِّعري والقصصي، وبدأت أخزِّن في ذاكرتي آلاف الكلمات والمفردات والمصطلحات، وأحياناً أدوِّن بعض المفردات العامِّية من اللّهجات السُّوريّة أو المحلِّية الجزراويّة؛ لأنَّ هذه المفردات ممكن أن أستفيد منها خلال كتابة القصص والنّصوص والقصائد، وتطوّر معي المخزون اللُّغوي، وأشتغل على مدى مراحل الكتابة الَّتي بدأتها في منتصف السّبعينيات كهواية، ومنذ قدومي إلى السُّويد خطَّطتُ أن أطرح نفسي كاتباً محترفاً من حيث التَّركيز على كتاباتي وتبويبها ونشرها، ولا أزال أخطِّط في كلِّ يوم على تطوير لغتي وأسلوبي وفضائي وعالمي الإبداعي من خلال بناء جملة جديدة وصياغة فنَّية جديدة، فالبناء الفنّي للنص مهم جدّاً عندي، وخلق صور فنِّيّة جديدة مهم للغاية؛ لعدم تكرار نفسي ولتقديم نصٍ جديدٍ وصورٍ جديدة في كل عمل أدبي جديد، إلى أن وصلت إلى أسلوبٍ يخصّني، فكلُّ مَنْ يقرَؤُني ولديه اطِّلاع على تجربتي الأدبيّة، يستنتج أنَّ الكاتب هو صبري يوسف، وهكذا أظلُّ ذلك الطّفل الّذي كان ومايزال هاجسه البحث عن فضاءات جديدة، وبناء فنّي جديد، مثلما كنت أبحث عن مفردات وكلمات جديدة، أدوِّنها في دفتري، إلى أن وصلتُ بعد نصف قرن من المماحكة مع الكلمة إلى ما أنا عليه الآن!

  1. ما رأيك بالاختلاط وهل راودك أو تمنّيتَ لو كانت المدرسة الابتدائيّة مختلطة بين البنين والبنات؟

أنا مع الاختلاط، مع الدِّراسة المختلطة، وبكلِّ تأكيد كنتُ أتمنّى لو درست في مدرسة مختلطة، لكن واقع حال الدِّراسة في الشَّرق والعالم العربي ضمن الأفكار والرُّؤية السّائدة لا يمكن بالأمر السَّهل أن تكون مختلطة؛ لأنّ التّلاميذ والتَّلميذات ينحدرون من ثقافات ومشارب ومستويات متعدّدة، وهناك من الآباء مَنْ يرفض أن تدرس بناته في مدارس مختلطة، مع بعض الاستثناءات في بعض المدارس الخاصّة وبعض البلدان الَّتي تحمل رؤية انفتاحيّة، وترى ضرورة افتتاح مدارس مختلطة عبر كافّة المراحل الدِّراسيّة.

من جهتي كرأي شخصي أنا مع الاختلاط قلباً وقالباً في كافَّة المراحل الدّراسيّة، ابتداءً من الابتدائيّة والإعداديّة والثَّانوية والجامعيّة! لأنَّ نموّ الطّفل يكون طبيعيّاً، ويخفّف على الجنسين الكثير من الكبح والعنف والكبت والجمود الّذي يلازم التَّلميذ الَّذي يدرس في مدرسة بنين، كذلك التّلميذة تشعر أنَّ هناك مللاً وجموداً وكبحاً وكبتاً وجموداً خلال دراستها في المدرسة الابتدائيّة والإعداديّة والثَّانويّة في مدرسة بنات؛ لأنَّ التَّجارب في المجتمع الغربي أكّدتْ نجاح المدارس المختلطة، إلَّا أنَّ الرُّؤية والفكر الغربي التّنويري والحرِّيّة المتاحة للجنسين، البنين والبنات، والقوانين السَّائدة في البلاد تساعد على نجاح هكذا تجارب في الاختلاط، وحول هذا الموضوع ممكن الإجابة بعشرات الصَّفحات، وكتابة بحوث وكتب عن هذا الأمر، لكنّي سأختصر جوابي بالإشارة إلى ضرورة أن يغيّر المجتمع العربي تفكيره في هذا السِّياق، ويخطِّط في تنشئة طفل بشكل سوي وطبيعي، وضرورة أن يدرس آلاف البحاثة وعلماء النّفس ما يحتاجه الجنين وهو في رحم أمّه، ثمّ تأمين احتياجات هذا الجنين قبل أن يرى النّور، وتوفير كل وسائل العيش من مأكل ومشرب وملبس، لكلا الجنسين على حدٍّ سواء، وتأمين حاجياتهما في الرّعاية، ثمَ توفير مدارس مختلطة بعد تهيئتهما عبر تربية، وضمن دراسات وبحوث وقوانين تساهم على تنشئتهما تنشئة صحيحة بموجب قوانين يتمّ سنّها بحسب دراسات وعلى ضوء هذه الدِّراسات والقوانين تتم رعاية وتعليم وتربية الأطفال، على أن يتمَّ نشر هذه الثّقافة في المجتمع، بحيث يطّلع عليها الآباء والأمّهات، وإقناعهم بأهمية الدِّراسة المختلطة، وهكذا جيلاً بعد جيل سيتمُّ تحقيق النّجاح والأهداف المأمولة من الاختلاط كما حقّقه الغرب، ولا بأس من الاطّلاع على أحدث النّظريات والبحوث والدِّراسات العالميّة الّتي تمَّت في هذا السِّياق؛ وبالتَّالي الاستفادة منها أثناء وضع القوانين وسنّها في دنيا الشّرق، مع الأخذ بعين الاعتبار الكثير من الأفكار الشَّرقيّة ومراعاتها ومعالجتها وإيجاد تفنيد وحلول لها ضمن منظومة مناسبة. ومن الخطأ أن يترعرع التَّلاميذ والتَّلميذات ويكبر المراهقون والمراهقات ويصلوا إلى سنِّ البلوغ وهم لا يعرفون إلّا القليل القليل من الفروقات بين الجنسين، لهذا أرى ضرورة إيجاد مادّة لتعليم التّلاميذ والطُّلَّاب كل ما يحتاجه من معلومات بشكل علمي، بحيث أن يصبح الطَّالب ملمّاً بالثّقافة الجنسيّة والعاطفيّة، ويعرف كيف يتصرّف مع زميلته، وتعرف زميلته كيف تتصرّف معه بحكمة، وكلّما كانا مطَّلعين على هذه الثّقافة، تصرَّفا بشكل أصوب وأدق، وكلّما كانا جاهلَين بهذه الثّقافة، وقعا في مواقف ومطبّات غير مأمولة! ونظراً لأنّهما أوَّلاً وأخيراً سيدرسان في الجامعة سويَّة، فلماذا لا نؤهَّلهما في المراحل الأولى؛ كي يستعدّا في المرحلة الجامعيّة للقاء بدون أيّة ارتباكات ويكونان على قدر كبير من المعلومات المتعلّقة بين الجنسين ويكونان على ثقافة جنسيّة وعاطفية تؤهِّلهما من المعرفة العميقة للتعامل مع بعضهما وبالتَّالي يكونا مسؤولَيْن عن تصرُّفاتهما ويعرفان كيف يتعاملان مع بعضهما ضمن ما هو متاح لهما من القوانين والأعراف الَّتي تنظِّم المجتمع والأسرة، وكلّما تحقَّقت هذه الظُّروف للجنسين، خفَّفت جرائم الاغتصاب والانحراف، وأصبحت العلاقات سويّة أكثر حتّى ولو تخلَّل بعض المواقف الخاطئة والاستثناءات بين الطَّرفين؛ لأنَّ أخطاء كهذه ممكن أن تحصل في كلِّ مجتمعات الكون، لكن الأهم أن ينمو البنون والبنات بشكل طبيعي، ويعيشان ضمن ظروف سلسة للتواصل والدّراسة، وحتّى لو وقعَ حب معيّن بينهما يتمُّ عن دراية وعن وعي، ولهذا يستطيعان أن يقرِّرا كيف يتصرَّفان، بينما عندما يكونا جاهلَين، فإنّه من الممكن أن يقعا في بعضِ الأخطاء؛ ولهذا يمكن تجنُّب المجتمع الكثير من المشاكل لو تمّ افتتاح مدارس مختلطة منذ المرحلة الابتدائيّة وحتَّى آخر مرحلة دراسيّة يدرس فيها الطَّرفان!

  1. ماذا تعني لك الموسيقى، زقزقات العصافير، تغريد البلابل، هدير الرّيح، حفيف الأشجار؟

الموسيقى، زقزقات العصافير، تغريد البلابل، هدير الرِّيح، حفيف الأشجار، أنغامٌ تناجي القلب، لغةٌ رحبة تنقلنا إلى منارةٍ شامخة، كأنّها محبوكة من دندناتِ ترتيلة بهجة الرُّوح. الموسيقى أنغامٌ منبعثة من أحلام دقّات القلب، قبل أن تناغي أزاهير الصّباح. عناقٌ الكائنات لأحضان الطّبيعة في هدوء اللَّيل.

تبدو لي الموسيقى كأنّها شهقة نيزكٍ منبعث من حنايا السّماء على إيقاع زخّات المطر، أحلامٌ مجدولة من سديمِ اللَّيل، على تجلّيات قبلة عاشقٍ في أوجِ الاشتياقِ إلى أحضان عاشقة مزدانة بلونِ الشّفقِ الصّباحي، الموسيقى لغةُ ابتهالِ القلب على مدى العصور، منذُ أن عانقت البحار اليابسة حتّى حلّقَت المراكب أجواء السّماء وحطَّتْ فوق تخوم القمر. بسمة الرّوح وهي تناجي ضياء السّماء في ليلةٍ ممهورةٍ بأجراسِ الحنين.

الموسيقى ذبذبات مرنّمة من إيقاع بوح الرّوح، وهي في أوج تجلِّياتها وحنينها إلى بسمة الأطفال وأغاني الأمّهات وهنَّ تُهدهدْنَ الأطفال في مهودهم؛ كي يَغفَو على هدهداتهنَّ بين رحاب أحلامٍ ورديّة. الموسيقى صوتُ السّماء وهي تهطل مطراً متناغماً معَ حبورِ الابتهال، صوتٌ منسابٌ معَ أنغامِ هديرِ الرِّيحِ وهي تعانقُ اهتياجَ موجات البحار، الموسيقى شوق الطّبيعة إلى تلألؤاتِ نجيماتِ الصّباح الغافية بينَ جفونِ السَّماء. سؤالٌ مفتوح على هلالاتِ بوحِ القصائد، حيثُ إشراقة الرّوح تزادُ سطوعاً فوقَ شواطئِ القلب!

مراراً تساءلتُ، هل استلهم الملحّنون أنغام الأغاني من تغريدِ البلابل وهدهدات اللّيل وحفيف الأشجار على إيقاعِ خيوط حنين القصائد وهم ينشدون أحلام الطّفولة على هبوب نسائمِ الرَّبيع في صباحٍ مبلَّلٍ بندى معبّق بأريجِ الياسمين، هل استنبطَ الملحّنون الأغاني من زقزقات العصافير وهي تناجي إشراقة خيوطِ الشَّمس المتناثرة بكلِّ انتعاشٍ فوقَ أغصانِ الحياة؟!

  1. ماذا تعني لكَ لحظة إشراقة الشَّمس، هبوب نسيم الصَّباح، تفتّح الورود والأزاهير؟

لحظة إشراقة الشّمس، تعني لي الولادة، الفرح، الحب، العطاء، البهاء، الحياة، تراودني قصيدة القصائد لحظات بزوغ الشَّمس، أشعر وكأنّي في حالة تجلٍّ مبهجة للروح، يغمرني حنين إلى والدي؛ لأنّه كان ينهض قبل إشراقة الشِّمس متوجِّهاً نحو حقله؛ ليحرث أرضه العطشى لعناق سكّته، وشوقٌ لا يضاهى إلى أمّي وهي تنهض مع أبي متوجّهَين إلى كرمنا قبل بزوغ الفجر، وهناك تقطف سلال العنب. كم كنتُ أفرح وأنا أنظر إلى بزوغ هلالات الفجر، كأنَّ الشَّمس تنعم دفئها على العالم، الشّمس صديقة الكائنات كلّ الكائنات، صديقتي الأزليّة، تبهجُ روحي وقلبي وهي تسطع علينا في كلِّ يوم، ماذا سيحلُّ بنا لو غابت عنّا الشَّمس على مدى سنين؟

كيف خطر على بالي أن أسأل ذاتي هذا السُّؤال، هل هناك تخاطر بيني وبين ضياء الشَّمس، أم أنَّ الشَّمس بركة السّماء للأرض، الشَّمس عاشقة لا تنام؟ حلمٌ مفتوح على بوّابات النَّعيم، حرفٌ مندّى بأسرارِ دفء الحياة، الشّمس شهيقُ الأرضِ على مدى الزّمان.

هبوب نسيم الصّباح يعانقُ حنيني إلى انبعاثِ بهاءِ الحرف، يشبه خدود الأطفال وهو يلفّح وجنة الغابات بعذوبة النّدى، يشرح صدري، يمنحني بهجةً وأنا أتجوَّل في أعماق المروج، هديّةٌ من نعيمِ السّماءِ، كيف يعيش المرء بعيداً عن هبوب النَّسيم، كيف تعيش الكائنات بعيدةً عن نداوةِ النّسيم؟ هبوب نسيم الصَّباح بلسمٌ شافٍ لأوجاع الكائنات؛ لأنّه يمنحُ الكائنات شهيق الحياة!

يذكِّرني تفتُّح الورد والأزاهير بالطُّفولة المبرعمة فوق خدودِ اللَّيل، بعذوبةِ الماء الزّلال، بتفتُّح أغصان الحبّ وتوهُّجات ألق الشَّباب، بأناشيدِ العيدِ، بقبلة الحبيبة وهي تموجُ فوق أعشاب الحنين، يشبه تفتُّح الورد  والأزاهير خصوبة الحرف وهو في أوج انبعاثه ليرسم دندنات بوح القلب فوقَ خميلة الحياة!

  1. ما قصّة العواصم العربيّة والعالميَّة وحفظها والتّباري بها في المدرسة وخارج المدرسة؟

قصّة حفظ العواصم العربيّة والعالميّة قصّة طريفة ومعبّرة وتنمّ عن طموحات طفل في الصّف الخامس الابتدائي، يحبُّ أن يحفظ العواصم، ويحقّق حضوراً وتفوّقاً على أقرانه، فقد حصلت على مفكّرة تتضمّن العواصم العربيّة والعالميّة، وإذ بي أحفظها خلال أيام قلائل، ويسمع بي مدرّس الجغرافية، ويقوم بمباريات مع طلّاب الصَّف فأتفوَّق على زملائي، وينتشر الخبر إلى بقيّة الصُّفوف داخل وخارج المدرسة، وإذ بي أجدني في حالة تساؤل من قبل المدرّسين والأصدقاء والطُّلَّاب عن عواصم العالم، تردني في المدرسة والبيت والشَّارع، وأصبحت خلال أيام أتبارى مع طلّاب الصّف السّابع والثَّامن، ثمّ طلّاب في المرحلة الثّانويّة، وأتفوّق عليهم، ودفعني هذا التَّباري إلى مراجعة العواصم يوميّاً وحفظها غيباً دون أيِّ تلكّؤ، وكان تفوّقي يحقِّقُ لي متعةً وثقةً واعتباراً، ويبدو أنَّ نشوةَ الفرادة والتّفوُّق تشبه إلى حدٍّ بعيد نشوةَ الإبداع.

كانت أيَّاماًجميلة وأنا أقف أمام طلّاب من المرحلة الإعداديّة والثَّانويّة وأتفوّق عليهم، حيث كنّا نتبارى بأن يسأل كلّ واحد منّا الآخر عن عاصمة ما، فكنتُ أحدّد عواصم لم يسمع بها من الدُّول الّتي لا ترد في كتب الجغرافية ومن خارج المنهاج المدرسي، فلا يحزر سؤالي فأتفوّق عليه، وهذا السُّلوك الطُّفولي ينمُّ عن طموحٍ ونزوعٍ نحو التّمايز وروح التَّفوِّق دون أن أدري، وظلَّت هذه الرّؤية الطّموحيّة تعشِّشُ في أعماقي، وتراودني فيما يتعلّق بفضاء آفاق الكتابة والإبداع، حيث أراني دائماً في حالة نزوع نحوَ كتابةِ قصصٍ ونصوصٍ وأشعارٍ جديدة وحديثة في بنائها وفضائها وموضوعات تجلِّياتها الخلّاقة!

  1. كيف اشتغلتْ أختك كريمة بالمغزل والخيط محرام كبير لسرير مزدوج(2 × 2)م على مدى شهور؟

أتذكّر جيّداً هذا العمل الَّذي قامت به أختي كريمة، وهي فنّانة مدهشة في الغزل بالمغزل المعدني الرّفيع، والنّقش بالإبرة على القماش الخام، واندهشتُ جدَّاً على تبنِّيها صفقة غزل محرام بلون طحيني فاتح، بعد أن قدّم لها صاحب الفكرة لغزل المحرام، نموذجاً يتألّف من صليب على شاكلة وردة بحيث تغزل المحرام بقياس الصَّليب/ الوردة نفسها وبخيطان خاصّة أشبه ما تكون خيطان السّاتان، لكنَّ الخيطان كانت أرفع من خيط السّاتان العادي، وهكذا اتفقا على الصّفقة، حيث أعطت أختى مهلة العمل ما بين (5 ــ 6)شهور، وبعدها يستلم المحرام جاهزاً، وفي حال لم تغزل المحرام بحسب الطّلب، تفقد الصّفقة شرطها، وتدفع أختي له كلفة الخيطان، ثمّ ودَّعنا بعد أن اتّفق مع أختي على مبلغ (400) ليرة سورية في حال لو كان العمل مستوفياً شروط الاتِّفاق الَّذي تمَّ منذ قرابة أربعين عاماً!

قلت لأختي في حينها: كيف تتَّفقين معه على مبلغ قليل كهذا، ستعملين ستة شهور متواصلة مقابل مبلغ زهيد من المال!

ضحكت وقالت: يا أخي أنا أعمل بالمغزل كتسلية، وأنْ أعمل هذا المحرام، أفضل من أن أجلس في المنزل بدون عمل، وهذا المبلغ البسيط سنقضي به حاجة ما من حاجاتنا الضّروريّة!

أقنعتني في طرحها وأدهشتني في قناعتها وثقتها بنفسها، ابتسمتُ لها قائلاً: على راحتك يا أختي. قدَّم صاحب المحرام لأختي كمّيات كثيرة من الخيطان، وبدأت تعمل في غزل المحرام، تألَّف المحرام من (20)صفّاً، كل صف فيه (20) صليباً، يشبه وردة في تداخلاته وتفرّعاته، وهو مربّع الشّكل (20×20) يساوي (400) صليب. أذهلني خيالها وصبرها ورجاحة عقلها، وقدرتها البديعة في العمل المتواصل على غزل الصّلبان وحبكها مع بعضها بعضاً بدقّة منقطعة النّظير، حيث كانت تَعدُّ كلّ خط رفيع وكلّ تفرّع من تفرّعات الوردة بدّقة متناهية، مع أنَّها كانت أمّية لا تفكُّ الحرف، لكنّها كانت تفكُّ أعقد مشكلة في الغزل، حقيقة شعرت أنّني جاهل أمام إمكانيَّاتها العالية في الغزل ومهاراتها في ربط الورود/الصّلبان بدقّة مدهشة، كأنّ الصُّلبان مصنوعة بآلة صناعيّة لها القياسات نفسها وتغزلهاعلى الملم! ومنذ ذلك الوقت وحتَّى الآن أعدُّ أختي ليست أمّيّة، ولا أظن أنّ الأمِّيّة تُقاس فقط بالكتابة والقراءة؛ لأنّ قدراتها تفوق معلّمة ومدرّسة في الجغرافية أو التّاريخ أو الحساب. الأمّيّة الحقيقيّة هي أن يكون المرء جاهلاً ومتخلِّفاً حتّى في مجالات عمله وتخصّصه، فكم من الأمِّيِّين والأمِّيات في العالم من المتعلِّمين والمتعلِّمات!

أنجزت العمل بعد أربعة شهور ونصف، ولم يكُنْ لديها وسيلة اتصال معه، وكان من أهل الدّاخل السُّوري، من المدن الصَّغيرة التَّابعة لحمص، وبعد ستّة شهور جاءنا إلى المنزل، وفرحت أختي بقدومه، وبعد أن استقبلناه جلبت له المحرام وفرشته على سرير أخي الكبير وهو تقريباً (2 × 2)م، وعندما نظر إليه فغرَ فاه مشدوهاً للدقّة والرّوعة المحبوكة، فأخرج من جيبه خمس مئة ليرة سورية، وقدّمها لأختي وقال لها: أنتِ تستحقِّين مئة ليرة مكافأة منّي؛ لأنّني لم أجد مَنْ تقوم بغزل هذا المحرام بهذه المواصفات الرّائعة إلَّاكِ.

قالت أختي له: ولكنَّنا اتَّفقنا على (400) ليرة، أجابها قبل أن تتمم حديثها والمئة ليرة هي مكافأة كما يحصل أي عامل أو عاملة ماهرة في إنجاز عملها، ثمّ قال لها: أنتِ فنّانة مرهفة في عملكِ يا كريمة!

فرحتْ أختي لثنائه وإعجابه بالمحرام، ثمَّ ودَّعنا حاملاً محرامه كأنّه هديّة الهدايا سيأخذه إلى زوجته!

يراودني أنَّ عملاً فنّيَّاً كهذا بالأعمال اليدويّة وبهذه الدّقة والحجم لو كان في متحف من متاحف أوروبا لقدّر مدير المتحف قيمة العمل الفنِّي اليدوي ربَّما بما لا يقل عن مئة ألف دولار.

مَن يصدِّق أن أختي المرتبطة بالأرض قدّ وجّهت أنظارها من ربوعِ القامشلي نحو سماء بيروت مع ابنها وابنتها وحفيدتها وزوجها، تنتظرُ مع أسرتها طلب الهجرة إلى سماء استراليا، تاركةً خلفها الكثير الكثير من المحارم الفنّيّة الّتي غزلتها، وأعدَّت عشرات عشرات بل مئات الألحفة والوسائد الَّتي صمّمتها واشتغلتها على مدى أكثر من نصف قرن من الزّمن، تقف الآن بجانب النّافذة والدُّموع طافحة من عينيها، متسائلةً كيف سأعبر البحار مثلما عبر أخي وابني من قبلي، وأترك خلف ظهري ذكريات عقود من الزَّمان، قاصدةً مع أسرتي وحفيدتي الصَّغيرة ما وراء البحار وفي ذهني يتراقصُ بحنينٍ عميق ألف سؤال وسؤال؟!

  1. ماذا كان ينتابك وأنتَ تنظر إلى والدك وهو يركب على بغلته ويجرّ الأخرى وعليها عدّة الفدّان/ الخشب والنّير والبرمولكات واللّابوسة/ المسّاس والسّكّة وغيرها من العدّة الخاصّة بالفدّان؟!

سؤال لا يخطر على بال، حقيقةً أبهجني هذا السُّؤال؛ لما يحمل بين طيّاته من ذكريات حميميّة بديعة؛ لأنّه يذكّرني بوالدي وأصدقاء والدي، حيث أراهم كأنّهم مجبولون من طين الأساطير، لمجرّد أن أتخيّل والدي بهذا المشهد، يركب على بغلته، ويحمّل بغلته الثّانية بعدّة الفلاحة بطريقة دقيقة وموزونة؛ كي لا تقع من على ظهر البغلة، خاصّة أن تلك البغلة المحمّلة كانت شمّوسة، أي غير أليفة وتجفل فجأة بسبب أو بدون سبب، وترفس ولا تهدأ بسهولة، يحمّل والدي عليها خشبه/ الَّذي يشكّل الجزء الأكبر من الفدّان، مع النّير الّذي يتموضع فوق رقاب البغلتين، ويضع حول رقبتيهما البرمولكات؛ كي تساعد على حماية رقبَتي البغلتين، والسّكة والمسّاس، وغيرها من أدوات وعدّة الفلّاحة. تبدو لي هذه العدّة أنّها تحتاج إلى “بيكآب”؛ كي يتمَّ تحميلها فيه، ومع هذا كان يحمّلها على ظهر بغلته، ثمّ يوجِّه أنظاره نحو حقول القمح، وهناك بعد وصوله ينزّل عدّته، ويبدأ بربط الفدّان من خلال العدّة الكاملة، وفي مثل هذه الحالات كان يحتاج إلى مساعدة أختي كريمة، فكانت ترافقه سيراً على الأقدام دون أن تركب، ويسيران إلى أرض الفلاحة، وتساعده أثناء ربط عدّة الفلاحة وتركيب النّير والبرمولكات فوق رقاب البغلتين، ثمَّ يشقُّ طريقه ويحرث الأرض طوال اليوم، يتخلَّل حراثة الأرض استراحات الغذاء والعصر ويترك البغلتين تسترتيحان من دون أن يفكّهما من عدّة الفلاحة، وبعد أن يتناول زوّادته يعود للفلاحة. أتذكّره الآن وكأنّه ماثل أمامي بقامته القصيرة وكوفيّته وعقاله وشرواله وچاروخه، والچاروخ حذاءٌ يُصنع باليد من جلد البقر؛ كي لا يلتصق به التّراب المبلَّل فيسقط بسهولة كلّما تلملم حول الچاروخ؛ لأنّه لا يساعد الچاروخ على التصاقه؛ لأنّه أملس ولا كعب له، لهذا كان يرتاح بچاروخه أثناء الفلاحة، وبرأيي أنَّ الجهد الّذي كان يبذله والدي خلال يوم واحد يعادل الجهد الّذي أبذله في كتابة عمل روائي؛ لأنَّني لا أستطيع أن أتخيّل أن رجلاً في عمر السّتين وما فوق، ممكن أن يحرث الأرض على مدى ساعات النّهار قرابة (10 ــ 12) ساعة، يحرث الأرض بفدّانه ويسير خلف بغلتيه ويديه مضغوطَتين فوق قبضة الفدّان لمدّة ساعات وساعات، يا إلهي كيف كان يتحمّل والدي وفلّاحي ذلك الزَّمان كلّ ذلك الجهد لو لم يكُنْ لديهم طاقة أسطوريّة وصبرٌ لا يضاهيه صبرٌ آخر؟ ومع كلّ هذا ما كانت البسمة والبشاشة تفارق وجوههم، وكم كان والدي يحبُّ القصص الفكاهيّة والحديث الَّذي يحمل طابع الطّرافة والفكاهة والضّحك، يأكلُ قليلاً من الزّاد، ويحرث أرضه بكلِّ همّةٍ ونشاطٍ، وكأنّه في رحلة في الهواء الطّلق. كم أشعر بالأسى أنّنا ما كنّا في ذلك الوقت نمتلك كاميرات من أي نوع كان، كي أصوّره وهو يحرث أرضه ويحصد حنطته مع إخوتي وأخواتي وأمِّي، يا إلهي كم أشعر بالحنين إلى تلك الأيّام كأنّها عصرٌ أسطوري ومن وحي الخيال، لا أستطيع أن أصدّق أنّني عشت تلك المرحلة البديعة من حياة أسرتي، وخاصَّة جهود والدي ووالدتي، إلّا أنّني أشعر بسعادة غامرة؛ لأنّي حالما تخرّجتُ من الصّف الخاص وبدأت أشتغل معلِّماً، ثمَّ موجّهاً في إعدادية يوسف العظمة، أحَلْتَه على التَّقاعد، وناقشت معه طويلاً إلى أن أقنعته بضرورة أن أحيله على التَّقاعد، فقال كيف سأعيش؟ فقلت له أنتَ ربَّيتني إلى أن أصبحتُ معلِّماً، الآن جاء دوري كي أعيلكَ إلى آخر دقيقة أنتَ حي وعلى وجه الدُّنيا، ولابأس أن نعطي أراضينا لمزارع كي يقوم بحراثة الأرض بالجرّار/ التراكتور، ويحصد الحنطة بالحصّادة، ويأخذ ثلث الإنتاج ونحن نحصل على ثلثي الإنتاج، وهكذا أعفيتُ والدي من حراثة الأرض، لكنّه لم يبقَ بعيداً عن عوالمها فكان يزورها ويحرسها من دخول الأبقار والحيوانات الشّاردة، ويحرس مع حنطتنا كافّة الحقول المجاورة مجّاناً، والجميل في الأمر أنّنا كنّا نحصل على منتوج أكثر خلال مرحلة الاعتماد على مزارع، ونقبض آلاف اللّيرات السُّوريّة، وكانت تعادل أضعاف راتبي السَّنوي، وإذ بي أجدني أنَّ والدي كان يربّيني من إنتاج أراضيه أكثر ممَّا كنت أنفق عليه من راتبي، ولم يقبض في حياته ليرة واحدة من الموسم، حيث خوَّلني أن أقبض حصّتنا من الإنتاج، وتركَ الغلّة تحت تصرُّفي وتصرُّف الوالدة، مركّزاً على المرح والفرح والفكاهات إلى أن ودّع الحياة وهو في أوج ابتهاله وانصهاره مع الأرض، وحبّه العميق للبنين والبنات والأحفاد!

  1. ماذا تعني لكَ عشيفة الأعشاب من القطن وأنت تشتغل مع أختك وبقيّة الصَّبايا في أوائل الرّبيع؟

تعني لي الكثير، تعني لي الجمال، تعني لي العطاء، تعني لي المساواة بين الرَّجل والمرأة، تعني لي التَّعاون العميق بين أفراد الأسرة، تعني لي بناء الوطن؛ لأنّه لو عشف أو عزق واقتلع كلّ طفل وشاب وشابّة الأعشاب والحشائش من حقول القطن والخضار وبساتين الفواكه، سيرتفع محصول إنتاج القطن والخضار والفواكه، وسيدرُّ على الوطن المزيد من الخيرات.

كنّا ننهضُ في الصَّباح الباكر، نأخذ زوَّاداتنا معنا، يستلم كل عامل قدّومه في الصَّباح ونسلّمها في نهاية اليوم، أحياناً كانت بعض الصّبايا يغنّين بكلِّ عذوبة وفرحٍ، كم كنتُ أستمتع بفترات الاستراحة ونحن نتناول الجبن وخبز التنّور والخيار والبندورة، والبيض والبطاطا المسلوقة، كأنّنا كنّا نأكل أشهى طعام، للأكل نكهة ألذّ عندما نتناوله في الطَّبيعة بعد جوعٍ وعملٍ مجهد، وللاستراحة نكهتها وبهائها خاصّة أنّنا كنّا نعمل صبياناً وبنات! كانت يوميّة أختي أكثر منّي، فقد كنتُ أتقاضى (4) ليرات سوريّة بينما أختي تتقاضى (6) ليرات سوريّة؛ لأنّها كانت أكبر منّي بحدود عشرة(عشر) سنوات، وأنا كنت مراهقاً بحدود الرابعة عشرة من العمر، وكانت تعشف أفضل منّي بكثير، كم كان لتلك اللَّيرات أهمّيّة، وكم كنّا نفرح ونحن نقبض ليراتنا في نهاية كلِّ أسبوع! يخيّل إليّ أن شبّان وشابّات هذا الزّمان لو قبضوا آلاف اللَّيرات ومئات الدُّولارات أسبوعيّاً، لا أظنُّ سيفرحون بما يقبضون مثلما كنّا نفرح أيَّام زمان بليراتنا القليلة!

ماذا تغيّر كي تتقلّص البسمة ويتوارى الفرح من قلوب أجيال هذا الزّمان؟ انّي أرى أحياناً كثيرة، وكأنَّ البشر يمرّون في حالة تطوُّر انزلاقي نحو الخلف، نحو أسفل السَّافلين في بعض الأحيان، وإلّا ما معنى كلّ هذه التّخبّصات والصّراعات والحروب القميئة الَّتي تتفاقم فوق جبين وصدغ البلاد في دنيا الشَّرق، والكثير من بلدان العالم، في الوقت الَّذي كنّا أيام زمان نعشف الأعشاب من حقول القطن، ونتابع في الوقت نفسه دراساتنا، والبسمة مرتسمة على وجوهنا ووجوه آبائنا وأمّهاتنا وإخوتنا وأخواتنا وأصدقائنا، نتعاون صغاراً وكباراً في بناء أُسرنا وأوطاننا، حتّى ولو كنّا في ظروف قاسية، مع كلِّ هذا كنّا نفرح ونغنّي ونذلِّل الصُّعوبات الّتي تعترضنا ونحدّد الأهداف، ونصل إلى مرامينا بعيداً عن هدرِ الدِّماء الّذي نراه الآن؟!

  1. ماذا تتذكَّر من رفس الكرم، والكسيحة/ تقليم الأغصان، وإزالة القشرة من جذوع أشجار الكرمة؟

أتذكَّر أجمل الأيام، نذهبُ في أوائل الرَّبيع إلى كرمنا المطلِّ على دير مار يعقوب، بعد شتاءٍ طويل كي نرفس الكرم بالمرِّ، وهو كالرفش، ذو نصْلٍ مستوٍ بحدود (30) سم طولاً و (20) سم عرضاً، وفوقه قطعة خشبيّة، وله زند طويل يصل إلى الصّدر، نضغط على الخشبة الصَّغيرة بباطن قدمنا اليمنى أو اليسرى، بحسب استخدام القدم بأعمال كهذه، فيدخل النّصل عميقاً في التّربة الرّخوة، ونقلب ما نحفره، فيستقبل التّراب المقلوب أشعة الشَّمس الدّافئة، أشعر وكأنَّ التُّراب النَّدي يفرح وهو ينقلب فوق وجه الأرض، ويتنفّس ببهجة عميقة، أشمُّ رائحة التُّربة المباركة كأنّها عبق الحياة، تخرج منها بعض الحشرات الصَّغيرة، وتتشمَّس بمرح، وتسير فوق التُّراب النّدي وأشعّة الشّمس تداعبها. تستقبل هذه الكائنات الصَّغيرة إشراقة الشَّمس ودفئها بكلِّ فرحٍ، كم هو مريح المشي على التُّراب النّدي، وتخرج السَّحالي والحشرات الصّغيرة وتمرح بين التُّراب وهي تسير مزهوّةً تحتَ دفء الشَّمس، حتَّى الكائنات الصَّغيرة تمرح وتفرح لإشراقة الشَّمس عليها، نرفس الأرض على محاذاة بعضنا، وأحياناً نرفس زوجين زوجين، أي نضرب ضربة مزدوجة، ونقلب دفعة واحدة التُّراب الَّذي نرفسه، خلال أيّام قليلة ننتهي من رفس الكرم، ونلمُّ الأعشاب والحشائش والأحجار، وتصبح التّربة ناعمة وطيبّة، وتساعد في تغذية الدَّاليات؛ كي تثمرَ عنباً شهيَّاً من كلِّ الأنواع.

يقلّم أخي الكبير الكرم من الأغصان الطَّويلة، ويترك هذه الأغصان الرّفيعة الطَّويلة في الكرم إلى أن تجفّ، ثمَّ ننقلها في “الكارات” على ظهر حمارتنا “حيصة” إلى المنزل؛ كي نستخدمها حطباً للتنّور، كما كنّا نستخدم قسماً منها لبناء أرضيّة عرزيلتنا خلال الصَّيف، يكسح أخي الأغصان؛ كي تصبح الدَّاليات جاهزة لنموّ أغصان خضراء جديدة من خلال نمو براعم جديدة، وكم كنّا نفرح عندما نشاهد تشكُّل براعم جديدة، وكأنّنا نشاهدة حالة ولادة جديدة، ولِمَ لا؟ إنّها ولادة البراعم، أجل كلّ ولادة تبدأ كبرعم، حتّى الأطفال يولدون كبراعم ثمَّ ينمو الطّفل ويتفتّح كبرعم إلى أن يصبح شجرة وارفة مخضوضرة بأشهى أنواع العطاء.

بعد أن يتمَّ تقليم الدَّاليات، تبدو جميلة وكأنّها حليقة الرَّأس، يطلب منّي والدي ومن أختي أن نزيل قشور السَّاق، ونبدأ بإزالة القشور اليابسة من جذع الدَّالية المتفرّع إلى فروعها العديدة، فتبدو بعد تقشير قشرتها كأنّها لبست حُلَلها الجميلة، نلملم القشور اليابسة في أكياسٍ كبيرة، ثمَّ نرميها في العراء في ساحة قريبة من الكرم ونحرقها، بدَتْ لي هذه الحالة الاشتعاليّة وكأنّ لكلِّ شيء ولكلِّ كائن حي دوراً في الحياة، ثمَّ ينتهي سواء بالاشتعال، أو بأيّة طريقة فنائيّة أخرى! وبعد أن نبذل جهوداً طيّبة في الكرم، نتناول الطّعام في الهواء الطّلق، نفرش زوّادتنا، ونبدأ بتناول الطَّعام بشهيّة مفتوحة، كنتُ أحبُّ الحلاوة، والتَّمر، والأجبان بمختلف أنواعها والخضار وخبز التَّنّور، نأكل بلذّة عميقة، ونشرب الماء البارد من الجرّة المغطّاة تحت تراب الدّالية النّدي، ننظرُ بكلِّ فرحٍ إلى الدَّاليات وكأنّها صبايا جميلات تشمخ بهاءً، وفي انتظارِ نموِّ اخضرارها الجميل وعطاءِ ثمارها اللّذيذة بعد شهور! ..

  1. ماذا يعني لك صديق الطُّفولة وأنت تسمع صوته عبر الهاتف أو تتلقَّى منه رسالةً أو سلاماً؟

صديق الطّفولة هو جناح الحنين إلى مرابع الذّاكرة البعيدة في أبهى حُلَلِها، هو بسمةُ فرحٍ في دنيا الاغتراب، هو إشراقةُ بوح القصيدة وهي تنسابُ مثلَ عذوبةِ الماءِ الزّلال فوقَ خميلةِ انبعاثِ الخيال، شوقاً إلى أزقّةِ البيوتِ العتيقة، حيثُ ظلالُ الرّوح تغفو بين مرافئ القلب هناك بين أزقّتنا الّتي ترعرعنا فيها.

أفرح عندما أتلقَّى اتّصالاً من صديقٍ أو صديقة، تستنهض ذكريات الطُّفولة والشَّباب وأشعر بفرح يبهج القلب، تطفحُ دموع الحنين، وكأنّي طفل شاهد ألعابه البهيجة فجأةً، لو علمَ أصدقاء الطُّفولة إلى أيِّ مدى يتظلّلون بين مرافئ القلب، لوجّهوا أنظارهم نحو محراب هذه الشَّواطئ قبل انبلاجِ الفجر. الحياةُ  حلمٌ مسروجٌ بخيوطِ متشابكة مع شفير الانكسار، رحلةٌ عابرة فوقَ أجنحةِ الرِّيح، أشواقٌ مبلَّلة بلهيبِ الذّكرياتِ، لغةٌ محبوكةٌ بآهاتِ بوحِ السُّؤال، طفولةٌ مبرعمة بين مساراتِ أحلامنا الهاربة نحوَ الذَّاكرة البعيدة، حيثُ قهقهاتنا تغفو فوقَ أسوارِ أحواشِنا السّاطعة فوقَ هلالاتِ حروفٍ متدفِّقة من حبورِ الشَّوقِ.

نحن البشر لا نعلم أهمّيّة الصَّداقاتِ، ولا ندري إلى أيِّ مدى للطفولة أثرٌ في تشكيلِ بسمةٍ وارفةٍ فوقَ عذوبةِ ينابيعِ الرُّوحِ. نغوصُ في خضمِّ الحياةِ، نتوهُ في انشغالاتِ العمرِ، ننسى بسمةَ الماضي الجميل، نضيعُ في روتينِ الصّباحاتِ، ونتآكلُ رويداً رويداً بينَ أنيابِ الزّمنِ الغادر، يطحنُنا هذا الزّمان بجواريشَ غربةِ الرُّوحِ، يدمي خيوطَ الحنين، زمنٌ مشحونٌ بالانشطارِ، تائهٌ خلفَ أحلامٍ من سراب، ضاعَتْ أحلامنا بين طموحاتٍ سرابيّة؛ لأنّنا ابتعدنا عن وهجِ الطّفولةِ، عن عفويّةِ الحياةِ، عن براءتنا المبرعمة فينا منذُ أن عبرنا اخضرارَ الحياةِ هناك عند بيوتنا العتيقة، زمنٌ لا يرحمُ أصحابَ القلوبِ الرَّهيفةِ، زمنٌ معتّقٌ بالآهاتِ، ملبّدٌ بضجيجِ القهرِ، لا ينجو من أجيجِ النّارِ، وحدَها الطُّفولةُ تستعيدُ عافيتنا، تزرعُ فوقَ شفاهنا بسمةَ الحياةِ؛ لهذا يبهجني صوتُ الأصدقاءِ الآتي من خدودِ الطُّفولةِ، حيثُ هدهداتُ القصيدة تنسابُ فوقَ ملاعبِ الصِّبا، تحتَ ظلالِ الدَّالياتِ، الممتدّة فوقَ أغصانِ اللّوزِ، حيثُ أشجارُ التّوتِ تشمخُ شوقاً إلى أفواهِ الأطفالِ وهم يلملمون حبيباتِ التّوتِ، كم أحنُّ إلى ربوع طفولتي، إلى أصدقاءٍ تعفّرتْ خدودهم مراراً بمذاقِ التِّينِ، عندما تتناهى أصواتُ أصدقاءِ الطُّفولة إلي مسامعي من خلفِ البحارِ، تدغدغ بيادرَ الذّكريات، وتزرعُ عبيرَ الأملِ في سماءِ ليلي، وتبلسمُ قلبي بأشهىأهازيجِ بوحِ الرُّوحِ!

  1. أوَّل موسيقى سمعتها في حياتك وأنت طفل، كانت الطّبل والمزمار، ثمّ الكمچاية/ الرَّبّابة، الَّذين كانوا يعزفون عليها الغجر الأكراد، ثمَّ الجمبش والطَّمبورة، ما دور هذه الموسيقى في فضاءات الكتابة؟

للموسيقى دورٌ كبير في تجلِّيات بوحي في فضاء الكتابة، كما أنّها تنعش خيالي وتهدِّئ من صخبي ومن ضجري، وتمنحني صفاءً روحيَّاً وذهنيّاً، وتبلسم كياني كلّما أسمع إلى موسيقى رهيفة، وقد فتحتُ عينيّ وأنا أسمع الموسيقى الكرديّة، وكان لها دورٌ كبير في تنمية حبِّي وشغفي بالموسيقى والغناء، إضافة إلى أنّ الموسيقى ساعدتني كثيراً في فتح مساحات شاهقة للكتابة، حيث إنّني سمعت مراراً كل أنواع الموسيقى المحلِّيّة من: ماردلِّيّة، وسريانيّة وآشوريّة، وكرديّة، وعربيّة، وتركيّة، وتوقّفت عند موسيقى الرّحابنة، وأدهشتني أغاني فيروز وموسيقى أغانيها واستلهمت من فضاءات أغاني فيروز ديواناً شعريّاً يحمل تجلّيات مستمدّة من وهج أغانيها الرّاقية؛ لما تحمل بين فضاءاتها روحانيّة راقية، وألحاناً تمنحني فرحاً وألقاً، وتفتح خيالي على رحاب التَّدفُّقات الإبداعيّة الشّاهقة، وقد حمل عنوان: “فيروز صديقة براري الرُّوح”، أحد أجزاء أنشودة الحياة، كما أعجبني أسلوب الفنّانة المبدعة جاهدة وهبة، واستلهمت من وحي استماعي لأغانيها الأصيلة الرّاقية نصّاً سرديّاً شاعريَّاً حلّقتُ فيه في فضاء فرحي، أبهجَ حرفي وخيالي، وسأعود في ملف الحوار الخاص بالموسيقى والغناء إلى فضاءات فيروز وجاهدة وهبة ونصير شمة وايرين پاپاز وكونسيرتات يينّي، وغيرهم من الفنّانين والفنّانات، لأكتب عن عوالم وفضاء كل مبدع ومبدعة منهم على حدة بما يخصُّ تجلّيات حرفي، مستشهداً بمقاطع شعريّة وسرديّة وأدبيّة عمّا كتبتُ عن هؤلاء المبدعين والمبدعات، مؤكِّداً على دور الموسيقى الكبير في تفعيل واستنهاض خصوبة نصِّي في فضاء الإبداع، وهكذا تنامى عندي الحسّ الموسيقي وشغف عميق بالموسيقى، وبدأتُ أسمع الموسيقى الهنديّة، والفارسيّة، الصُّوفيّة، والموسيقى الأصيلة لوديع الصّافي، وصباح فخري، وأم كلثوم، كما أستمع إلى موسيقى الأخوين جميل ومنير بشير وعمر بشر، وموسيقى نصير شمّة وغيرها من أنواع الموسيقى والغناء الأصيل، كما أسمع الموسيقى العالميّة، وخاصّة الّتي تحمل بين مساحات أنغامها تجلّيات عالميّة أصيلة وراقية، كموسيقى كونسيرتات الموسيقار اليوناني يينّي، وأغاني الفنّانة الإيطاليّة ايرين پاپاز، وهكذا تنامى شغفي بالموسيقى إلى درجة أنّني عندما أستمع إلى موسيقى تستهويني، أستلهم أحياناً من فضاءاتها نصوصاً شعريّة وسرديّة وأدبيّة راقية، تليق بالموسيقى المستوحى منها حرفي.

  1. ماذا بقي في الذّاكرة من مناسبات الأفراح والأتراح على مدى مرحلة الطُّفولة واليفاعة والشَّباب؟

بقي الكثير الكثير من هذه المناسبات في مروج الذّاكرة، وستبقى هذه المناسبات بكلِّ تفرّعاتها وبساطاتها وأفراحها وأتراحها معيناً لا ينضب للكتابة على امتداد كافّة مراحل العمر الّذي قضيته هناك، واستلهمتُ الكثير من كتاباتي من معالمها الرّحبة، فقد كتبتُ قصصاً وأشعاراً ونصوصاً من وحي بهائها وحفاوة أحداثها، وتشكَّلت انبعاثات حرفي من ينابيعها الثَّرّة؛ لما فيها من خصوبة يانعة تناسب يراعي وبوحي وحنيني، فكم أشعر بالانتعاش وأنا أحلّق عبر فضاءات الذَّاكرة في ربوع هذه المراحل والمنعطفات المجبولة بأشهى تجلّيات العطاء، كأنّي أحصل على نعمة النّعم، فهي زادي الّذي لا بديل عنه، حيث أراه يتجدَّد في مسارات إبداعيّة عديدة، فلا يمكن أن تخبو جذوة الحنين والشَّوق لهذه المناسبات المبرعمة في ذاكرتي إلى أجلٍ مفتوح على مساحات بوح الخيال، ولا أشعر بالارتواء من استلهام رؤى وأفكار جديدة من فضاءاتها، وهي تشبه شلّالاً متدفِّقاً من رحيق الإبداع، تبلسم يراعي بأشهى ما في طين الحياة من عطاء، منطلقاً من تجاربي وخبراتي وأحداث وقائع عمري الّذي قضيته هناك، واستكملته هنا وأنا بأشدِّ الشَّوق والحنين إلى هناك، وهكذا أراني معجوناً ومجبولاً من أزقّتي الطّينيّة ومنعرجات يفاعتي وأحلام الصِّبا والشّباب، مسخّراً كلّ هذه الحفاوة وابتهالات حنين بوح الرّوح لمدادي المنبعث من تجارب عقودٍ من الزّمان!

  1. كيف تشكَّلت اهتماماتك بالموادّ النّظريّة في المراحل الدّراسيّة الأولى وما تأثيراتها في الأدب؟

تشكَّلت اهتماماتي بالمواد النَّظريّة واللُّغة العربيّة منذ المرحلة الابتدائيّة، وأصبح لديّ شغف عميق باللُّغة الإنكليزيّة منذ أوَّل خطوة خطوتها في المرحلة الإعداديّة، مروراً بالمرحلة الثّانويّة وما بعدها من مراحل دراسيّة أكاديميّة، وقد انعكس اهتمامي بالمواد النَّظريّة الاجتماعيّة والفلسفيّة واللّغات، على الإبداع الأدبي، ومهّدت هذه الاهتمامات لظهور رغبة عميقة لديّ في الكتابة والأدب والإبداع، وبدأتْ هذه الرّغبات والاهتمامات تزدادُ شغفاً يوماً بعد يوم ومرحلةً بعد أخرى، وقد بدأتُ بالكتابة في البداية كنوع من الهواية والشَّغف لترجمة مشاعري وتطلُّعاتي وبعض آفاقي في الحياة عبر القصص القصيرة والقصائد الشِّعريّة، وسرعان ما تطوّرت هذه الاهتمامات إلى أن غدت محور حياتي، وبدأتُ بعد اغترابي أركّزُ على هذا الجانب من اهتماماتي، إلى أن وصلتُ إلى مرحلة التفرّغ للكتابة معظم وقتي، وشيئاً فشيئاً أصبحتُ أسيرَ الكتابة، وأصبحتْ جزءاً لا يتجزّأ من شخصيّتي وحياتي، وطغت على كلّ ما عداها من اهتمامات، وبدأت أضمُّ كتاباتي وأؤرشفها بدقّةٍ وحرفيّة، وأصدرت عام (1997) م مجموعتي القصصيّة الأولى، ثمّ أسّست  (دار نشر صبري يوسف) عام 1998م، وأصدرت مجموعتي الشِّعرية الأولى عبر دار نشري، “روحي شراعٌ مسافر”، مقاطع شعريّة باللُّغة العربيّة والسُّويديّة معاً، ترجمتي وتأليفي، وتوالت إصداراتي بغزارةٍ أدهشتْ مَن يتابعني، فقد أصدرت حتّى الآن (2016) قرابة (60) كتاباً ما بين: شعر، وقصص قصيرة، وروايات، ودراسات، وحوارات، ونصوص أدبية، ومقالات، وأسّست في بداية 2013 مجلّة السَّلام الدّوليّة، وأصدرتُ أربعة أعداد تباعاً؛ والمجلّة هي أدبيّة فكريّة ثقافيّة فنّيّة سنويّة مستقلّة، وهكذا أصبحت الكتابة أولى أولويات إبداعي في الحياة!

  1. كيف استقبلتَ الحلقة الإعداديّة، هل ثمة ما بقي محفوراً في الذّاكرة وتعتزُّ به من هذه المرحلة؟

نعم، هناك ما ظلَّ محفوراً في الذَّاكرة حتّى الآن، “عندما انتهيتُ من دراسة المرحلة الابتدائيّة التحقت بإعداديّة يوسف العظمة، وقد حصل معي موقف طريف وبديع للغاية، يدور هذا الموقف حول موضوع سحب القرعة لفرز الطُّلاب إلى شعبة اللُّغة الإنكليزيّة وشعبة اللُّغة الفرنسيّة، وكان هاجسي الأكبر أن أكون من عدادِ الطُّلاب الَّذين سيدرسون مادة اللُّغة الإنكليزيّة كمادّة أجنبيّة جديدة، ففكَّرتُ بطريقةٍ ناجحة أجتاز عبرها هذه المحنة الَّتي راودتني منذ أنْ اِنتهيتُ من المرحلة الابتدائيّة. ذهبتُ وحدي إلى إدارة الإعداديّة، وألقيت نظرة من بعيد لبعيد، لآخذ فكرة عن كيفيّة سحب القرعة، وجدت أن أغلب القرعة الَّتي سُحبت كانت فرنسية، فاقتربت شيئاً فشيئاً من الطُّلاب وهم يسحبون قرعتهم، وراقبت الجوَّ العام بدقّة، ودقَّقتُ بالخطِّ وقصاصة الورقة الخاصَّة بالقرعة، ثمَّ خرجتُ من الإدارة دون أن ينتبه إليّ أحد الموجِّهين.

كان الأستاذ الرَّاحل حبيب كوركيس هو الَّذي يشرف على سحب القرعة، دخلتُ أمانة السِّر، وطلبتُ ورقة بيضاء؛ على أساس أنّها للموجِّه، أخذت الورقة وخرجتُ بعيداً عن أسوار المدرسة،لتطبيق مخطَّطي في خوض أوَّل تجربة في خلخلة القوانين الخنفشاريّة السَّائدة آنذاك في فرز اللُّغات، حيث لم يكُنْ لي دعماً ولا سنداً، وتبيَّن لي أنَّ أغلب القصاصات الورقيّة هي فرنسيّة، إلّا ما قلَّ وندر إنكليزيّة، وتبيَّن لي أيضاً أنَّهم حسبوا حسابهم؛ كي تكون أغلب نتائج القرعة فرنسيّة؛ كي يحوّلوا عدداً كبيراً منهم فيما بعد إلى الإنكليزيّة من خلال الوساطات، وهكذا أحببتُ أن أخوض مغامرة فريدة من نوعها بالنسبة لطفل، وبهدوء تام، وبعيداً عن الوساطات.

أمسكتُ الورقة وقسَّمتها إلى قصاصات ورقيّة بالحجم نفسه لورقة القرعة الَّتي دقَّقت في حجمها وكيفيّة طيِّها، وبدأتُ أقلّد خطّ الموجِّه؛ لأنَّني دقَّقتُ جيّداً كيف كان يكتب إنكليزي، فرنسي، ورحتُ استخدم قلماً ناشفاً”بيغ”، أكتب إنكليزي عدّة مرَّات، مُقلِّداً خطَّ الموجّه، ثمَّ اخترتُ أكثر كلمة قريبة من خطِّه وطويتها ووضعتها بين السّبابة والوسطى، ورميتُ ما تبقَّى من القصاصات، ثمَّ دخلتُ غرفة الإدارة أنتظر دوري في القرعة، وعندما جاء دوري وضعتُ يدي في الكيس؛ لأسحب قرعتي، وهناك أخرجت الورقة الَّتي كتبتها، وقلت: يارب تطلع قرعتي إنكليزي، يا رب تطلع إنكليزي، ثمَّ أعطيتها للموجه، فنظرَ إليّ وهو يبتسم لي: هل تريد أن تكون قرعتك إنكليزي؟ فقلتُ له: نعم أستاذ، لكن أخاف أن تكون فرنسي، فقال لي أنتَ وحظّك.

أظهرت له أنَّني في غاية القلق تفادياً لأيِّ شك، فتح الورقة، ثمَّ قال: عجيب! فقلتُ: ما هو العجيب يا أستاذ؟، فقال: طلعت إنكليزي، صرختُ بفرح وقلت: أبوس الله؛ طلعت قُرعتي إنكليزي، شكراً أستاذ شكراً.

سجَّل اسمي في شعبة الإنكليزي، وهو يتمتمُ: حظّك يشقّ الحجر، فقلت له: لماذا أستاذ؟ فقال: لأنَّ أوراق القُرعة الخاصَّة بالإنكليزي أقل بكثير من الفرنسي ومع هذا كانت قرعتك الَّتي اِخترتها إنكليزي؛ لهذا فأنتَ محظوظ، همستُ في قلبي لِمَ لا أكون محظوظاً وقد أدخلتُ “كولي” عليكم دون اللُّجوء إلى واسطة فلان أو علَّان؟! وهل ثمّة مَن يهتمُّ بفقراء ذلك الزَّمان؟!

تابعت دراستي وحصلت على الإعداديَّة، متقدِّماً على أقراني باللُّغة الإنكليزيّة، وحصلت على التَّرتيب الأوّل على دفعتي في المرحلة الثَّانويّة باللُّغة الإنكليزيّة، وهكذا كان لتلك الحركة الطُّفوليّة منعطفٌ رائعٌومهمٌ في حياتي الدِّراسيّة!

كان هاجسي وشغفي الوحيد أن أتابع دراساتي في قسم اللُّغة الإنكليزيّة، ولكن الظُّروف الاقتصاديّة المريرة الَّتي كنَّا نعاني منها، أحالت دون تحقيق رغبتي، فالتحقت بالصَّفِّ الخاص، آخر دورة من نظام السَّنة الواحدة،  اِختزالاً للفقر، ووصولاً إلى لقمة العيش بأقصر الطُّرق، وبعدها ممكن أن أخطِّط بكلِّ هدوء للوصولِ إلى الأهدافِ البعيدة!” …