كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_يوسف Sabri Yousef ..في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..- من السؤال – 121 – إلى السؤال 130..

كتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_يوسف Sabri Yousef ..

في حوار الذات مع الذات..ألف سؤال وسؤال.. – الجزء الثاني..

من السؤال – 121 – إلى السؤال 130..

  1. ما أهم ما تعلَّق في الذَّاكرة خلال فترة التَّعليم في مدرسة خربة عدنان؟

“اشتغلت في ابتدائيّة خربة عدنان قرابة شهرين، كنت أذهب من بيتي إلى القرية مشياً على الأقدام، لكنِّي حلّيتُ مشكلة الذِّهاب والإياب باستعارة درَّاجة أخي والرُّكوب عليها ذهاباً وإياباً!

شعرتُ أنَّ العمل في ابتدائيّات القرى أشبه ما يكون أشغالاً شاقّة، خاصَّة عندما يكون المعلِّم وحيداً في تدريس التَّلاميذ من الصَّف الأوَّل حتَّى الصَّف السَّادس. تعرّفتُ على الطُّلَّاب ووزَّعتهم إلى مجاميع؛ كل مجموعة تضمُّ صفّاً، قرابة (40) طالباً من كافّة الصُّفوف، أكثر مَن لفت انتباهي طالب من طلَّاب الصَّف الثَّالث الابتدائي، كان يسمى ميشيل سليمان، ابن السَّيد “سلي”، حيث كان والده معروفاً بشجاعته ونحافة جسمه وقصره، وجرأته النّادرة، وكان ميشيل يتذرّع كلَّما أسمِّعه الدَّرس قائلاً لي: أستاذ، والله العظيم لمبتنا انكسرت امبارحة باللَّيل، ما قدرت أعمل دروسي.

طيب ليش ما عملت وقرأت دروسك بالنّهار؟

يا أستاذ أبوي هلكني هلكان، ما يخلِّيني أرتاح لا باللِّيل ولا بالنّهار.

ليش هلكك، عم يضربك؟

لا، ما عم يضربني بس يا ريت يضربني ولا يعمل شي الّي عم يعلمو فيني.

شو يعمل فيك؟

امبارح مثلاً وقبل امبارح أخذني على الوروز، حقول الجبش والبطيخ، وقال لي: بدّك تقطف الجبش وما تخلّي جبشة في الورز، تعا ولحّق يا أستاذ.

شو رأيك أستاذ لو أجيبلك معي بكرا جبشة أو بطيخة على المدرسة؟

خلّينا من جبشتك ومن بطِّيختك، وركّز على دروسك وبعدين اِحكيلي على الجبش والبطّيخ والشّمَّام والتَّرعوز.

بدّي أركّز يا أستاذ بس يفكّ أبوي منّي وما يورّطني في الورز مرّة تانية!

طيّب ميشيل، سلملي على أبوك وقلّو خلّي يخفِّف عليك موضوع لملمة الجبش والبطيخ والفنجكات من الوروز!

معليش أستاذ تسلَّم عليو وأخبّره على وصيّتك.

خطَّطتُ أن أنتقل من خربة عدنان، قبل حلول الشّتاء؛ لأنّه يستحيل أن أتمكَّن من الذِّهاب والإياب على الدّراجة خلال الشِّتاء، وليس من المعقول أن أذهب إلى القرية على ظهر البغال، مع أنَّ فكرة ركوب بغلة مثل بغلتنا البيضاء كانت تراودني، ولكنّنا ما كنّا نملك بغالاً في حينها! ولهذا وضعت كلّ تركيزي للانتقال من القرية إلى ديريك، وبعد جهود جهيدة، تمكّنتمن أن أنتقل إلى إعداديّة يوسف العظمة موجّهاً لطلّاب الصَّف السِّابع والثَّامن، وهكذا تخلّصتُ من همِّ الذِّهاب والإياب إلى مدرسة خربة عدنان؛ لأنَّ برودة الشِّتاء كانت على الأبواب!”.

  1. راودكَ همٌّ كبيرٌ أن تستمرَّ في مدرسة خربة عدنان خلال الشّتاء، ولكن قبل حلوله تمَّ تعيينك موجِّها في إعدادية يوسف العظمة، مدرسة ناظم الطَّبقجلي سابقاً، تحدَّث عن فترة عملك موجّهاً؟

حاولتُ أن أنتقل إلى إعداديّة يوسف العظمة موجّهاً؛ لأنَّ نقلي معلّماً إلى إحدى المدارس الابتدائيّة  الشَّاغرة كان مستحيلاً، لأنَّ التَّنقلات كانت تتمُّ بحسب القِدم، ولا بدَّ أن يخدم المعلّم على الأقل سنة في الرِّيف، ثمَّ ينتقل إلى المدينة، ولكن موضوع تعيين المعلّم وندبه موجِّهاً في إعداديّة وثانويّة أيّة مدرسة كان يتمُّ من دون النَّظر إلى فترة خدماته؛ لأنّه كان يُعيَّن تعييناً وليس نقلاً بحسب القِدم، وهكذا “بعد حوالي شهرين من التَّعليم في مدرسة خربة عدنان وقبل حلول الشِّتاء، تمَّ تعييني وندبي موجّهاً في إعداديّة يوسف العظمة، والّتي كانت سابقاً مدرسة ناظم الطَّبقجلي الَّتي درست فيها الابتدائيّة حتّى الفصل الأوَّل من الصَّف الرَّابع، وقد عمَّروا للمدرسة الابتدائيّة ملحقاً يتضمّن عدّة غرف للشُعَبِ الإضافيّة، وكان يعمل معي في حينها في التَّوجيه الأستاذ أفرام رفو المعروف باسم أفرام كورية جلو والَّذي أصبح لاحقاً قسيساً لكنيسة ماردودو في ديريك، وكان الأستاذ جرجس بهنان في حينها مديراً للإعداديّة”.

سررتُ جدَّاً بنقلي إلى ديريك موجِّهاً، كنتُ قد استلمت أربع شعب للصف السّابع، والأستاذ أفرام كان لديه أربع شعب من الصّف الثّامن. كان فوق باب الصَّف الَّذي كان يقع في نهاية الصّفوف من الجهة الشَّرقيّة للمدرسة، حكمة مكتوبة منذ أن كنتُ أدرس فيها عندما كانت مدرسة ابتدائيّة، بخطٍّ عريض: “الصّحّة تاجٌ فوق رؤوس الأصحّاء”، امتازت هذه المدرسة بباحة كبيرة، وقد كان لديّ شعبتان في البناء الأساسي وشعبتان في الملحق، وكان مكتبي الخاص بالتَّوجيه في الملحق أيضاً.

كنتُ حازماً ومرناً في الوقت نفسه، وجادَّاً وملتزماً بالدَّوام، فجأةً وجدتُ نفسي موجّهاً والكثير من زملائي كانوا في صفِّ البكالوريا أو الحادي عشر، حيث رسبَ بعضهم في الصَّف التّاسع وفي البكالوريا، وقد سألني مدير الإعداديّة فيما إذا أريد الانتقال إلى القسم الثَّانوي على أساس أنّها قريبة من بيتي، لكنّي رفضتُ رفضاً قاطعاً، قائلاً للمدير: يا أستاذ نصف طلّاب الصّف الحادي عشر والبكالوريا هم زملائي، فضحك وقال: فعلاً هذا يسبِّب لك إحراجاً كبيراً عندما يتأخّر أحد زملائك وتقول له: ليش متأخّر على الدَّوام؟! وقد داوم آنذاك القسم الثّانوي خلال الفصل الأوَّل في إعداديتنا ولهذا كنّا في الفصل الأوَّل دوامَين ثمّ انتقل طلَّاب الشُّعب الثَّانوي إلى ثانوية يوسف العظمة.

كان الموجّه أفرام رفو ناجحاً جدّاً في عمله، واستفدتُ منه الكثير من المعلومات المتعلّقة بالتَّوجيه، مركّزاً على ضرورة أن لا يأخذ الطُّلّاب الّذين أعرفهم معرفة قريبة وجهاً عليَّ؛ لئلّا تفلت وشائج الاحترام والطّاعة فيما بيننا، مشدِّداً على ضرورة أن أكون حازماً نوعاً ما، بحيث أن تكون العلاقة قائمة على الاحترام المتبادل وضبطِ الطّلاب بهيبة سلسة لتطبيق قوانين المدرسة دون أيّة صدامات أو إشكالات، وفي حال وقوع مشكلة فيما بين الطُّلاب؛ ضرورة حلّها بحكمة وبحسب القوانين الواردة في النّظام الدَّاخلي للمدارس!

كانت سنة ولا أحلى، حضرتُ حفل زفاف زميلي أفرام، وحضر هو حفل زفاف أخي الكبير، وكلَّلَ مارينا ابنة أخي في سودرتالية، حيث يقيم القسيس في السُّويد مع الخورية ماري الَّتي كانت زميلتي في الصَّف الخاص!

  1. ما هي أبرز المواقف الطّريفة الَّتي حصلت معك خلال فترة اشتغالكَ موجّهاً في الإعداديَّة؟

.. “إنَّ أطرف ما يتلألأ في مروج الذَّاكرة، بعض القصص الطَّريفة الّتي حصلت مع الأستاذ نوري خلف مدرّس مادّة العلوم، خلال فترة اشتغالي موجّهاً في إعدايّة يوسف العظمة.

ما كان يستطيع الأستاذ نوري خلف أن يقضي فصلاً كاملاً من فصول السَّنة في أيَّة مدرسة يتعيّن فيها، وسرعان ما كانت الشَّكاوي تتقدّم من قبل الطُّلاب والمدرِّسين والمدير ضدّه، فيضطرُّ مدير التَّربية أن ينقله من مدرسة إلى أخرى، وقد كان مدرِّساً مكلّفاً من مدينة القامشلي.

عرف مدير الإعداديّة الأستاذ جرجس بهنان بموضوع تنقُّلات الأستاذ نوري خلف من مدرسة إلى أخرى، فأراد أن يفاجئَ مديريّة التَّربية بأنّه قادر مع الهيئة الإداريّة والمدرّسين والطُّلَّاب، على أن يستوعب هذا المدرّس على مدى فصلين متتاليين، وفعلاً نجح المدير البارع في إبقاء المدرّس على صفوفه وشعبه على مدى فصلَين متتاليَين للصفِّين الأوَّل والثَّاني الإعدادي!

لم أرَ في حياتي الأستاذ جرجس بهنان يضحك، لكنّه ضحك مراراً من خلال القصص الطَّريفة الَّتي كان يسمعها عن الأستاذ نوري خلف، فقلت للمدير: تعرف أستاذ جورج أنتَ إنسان ذكي جدَّاً.

وكيف عرفت هذا؟

لأنّه لو تعيَّن الأستاذ نوري خلف موظِّفاً في مديريّة التَّربية؛ سوف ينتقل مدير التّربية بعد شهور إلى الرَّقّة أو ديرالزّور هرباً من مشاكله وغرائبيّته.

ضحك المدير وقال: أريد فعلاً أن أتحدّى مديريّة التَّربية على أنّه ممكن أن نتحمّل مدرّساً كهذا على علَّاته، وإلّا لماذا نحن مدراء ندير المدارس؟!

ونظراً لأنَّ بعض ساعات الأستاذ نوري كانت ضمن صفوف شعبي المسندة إليَّ كموجّه ومشرف على الطُّلاب الَّذين يدرّسهم؛ لهذا عندما كنتُ أجد لديَّ وقت فراغ، كنتُ أطلب منه أن أحضر درساً عنده على أساس أنَّ حضوري هو جزء من عملي كموجّه؛ ولضبط الصَّف من جهة أخرى؛ كي يسير الدَّرس بشكل هادئ بدون مشاكل مع الطّلاب!

حضرت درساً من دروسه، وجلستُ في الصُّفوف الخلفيّة؛ كي أستطيع مراقبة الطُّلاب المشاكسين؛ وكي أرى كيفية شرح المدرِّس دروسه للطلّاب!

دخلت قبله إلى الصَّف، ولهذا عندما دخل تفاجأ بانضباط الطُّلاب وهدوء تام خيّم على الصَّف، سجَّل أسماء الغياب. ثمَّ بدأ يشرح الدَّرس، وكأنّه يستعرض عملاً مسرحيَّاً، على أساس أنَّ شخصيّته قويّة، ثمَّ بدأ بشرح الدَّرس قائلاً: هناك حيوان “سغير سغير”، يعيش في البحار “والمحيتات”، وفي الأنهار “السَّغيرة”، اسمه اسمه…. ثمَّ ينظر إلى السَّقف ولا يتذكّر اسم عنوان الدَّرس!!!

يعود ويبدأ من جديد، قائلاً: درسنا اليوم هو على حيوان “سغير سغير”، يعيش في البحار “والمحيتات”، والأنهار “السَّغيرة”، هذا الحيوان يتغذَّى على الأسماك وبعض الكائنات “السَّغيرة” الّتي تعيش في الأنهار والبحار، يدعى يدعى، ثمَّ ينظر ثانيةً إلى السّقف ويركَّز لاستحضار اسمه، لكنه لا يتذكَّره، فتتغيّر ملامح وجه، ويعود قائلاً: درسنا اليوم هام جدَّاً، ويدور حول حيوان “سغير سغير” يعيش في البحار والأنهار “السّغيرة” اسمه اسمه، ولا يتذكَّره؛ فيتعصّب من نسيان الاِسم ويقول: اسمه باللُّغة الكرديّة “الكيفشال”!

أنا متأكّد، لولا وجودي في الصَّف لقام الصَّف فوقاني تحتاني، لكنَّ طلَّاب الصّف ظلّوا منضبطين ولم أجد أيّة فوضى فيه، وإلّا سيتعرّض المشاغب إلى عقوبة، مع انَّني كنت على وشك أن أنفجر من الضّحك عندما قال: اسمه باللُّغة الكرديّة “الكيفشال”!

رفع أحد الطُّلاب بكلِّ جدّيّة يده وقال عفواً أستاذ عندي سؤال!

تفضَّل ابني تفضَّل.

هذا الحيوان الصَّغير الّذي تتحدّث عنه يسمّى بالكرديّة “الكيفشال” وماذا يسمَّى بالعربيّة؟!

نظر المدرِّس إلى الطَّالب بجدِّيّة أكبر، ثمَّ تمتم لنفسه: “نْها وخْتي تبُوْ”! أي هلَّا وقتكْ كانْ، تسألني هذا السَّؤال، وقال للطالب برافو يا شاطر. ثمَّ فتح الكتاب وقال، افتحوا الكتاب على الصَّفحة كذا.

فتحوا الطُّلاب الكتب على الصَّفحة المطلوبة، وقال لهم اسم هذا الحيوان هو: سرطان الماء العذب! ثمَّ همس لنفسه متمتماً: “نافي وي كَلكْ دريشا، اشْوِلي مشْبيركرْ نافي وي”. أي اسمه طويل جدّاً، لهذا نسيتُ اسمه!

أجاب الطَّالب: لكنِّي يا أستاذ كنتُ أستطيع أيضاً أن أفتح الكتاب وأقرأ اسمه.

ابتسم للطالب وحاول أن يلفلفَ الموضوع من خلال طرحه السُّؤال التَّالي:

طيّب، أيّهما أحلى وأسهل أن نقول: سرطان الماء العذب أم “الكيفشال”؟!

أجاب جميع الطُّلاب وبصوتٍ إيقاعي، “الكيفشال”!

أيّهما أحلى وأسهل؟ ردَّ الجميع ثانيةً بما فيهم أنا بالذَّات: “الكيفشال”.

كان مدير المدرسة يسير بجانب الصّف فيما كان الطُّلاب يردِّدون عبارة “الكيفشال”، وسمع جميع الطُّلاب بإيقاع واحد يردِّدون “الكيفشال”، فاستغرب على هذا الصَّوت متصوِّراً وجود فوضى في الصَّف في حصّة الأستاذ نوري خلف، فدخل الصَّف، وإذ الدَّرس يسير على خير ما يرام، والهدوء يخيِّم على الصَّف، فتساءل المدير، أظنُّ أنَّ الطُّلاب ردَّدوا مرَّتين “الكيفشال”!

ضحك الأستاذ نوري وقال بكلِّ ثقة: فعلاً هذا ما حصل؛ لأنَّ درسنا اليوم أستاذ هو على “الكيفشال”!

وقفتُ وأنا ابتسم للمدير، والبسمة مرتسمة على وجوه الطُّلاب أيضاً، وأسعفتُ المدرّس، قائلاً للمدير: فعلاً أستاذ جورج الأستاذ نوري أجادَ في شرح درس اليوم، والَّذي حمل عنوان: “الكيفشال”، وقد خيّر الطُّلاب وسألهم مرَّتين: أيّهما أحلى وأسهل: اسم سرطان الماء العذب أم “الكيفشال”؟ فأجاب الطُّلاب بالإجماع: “الكيفشال”.

سألني المدير، هل حضرت الدَّرس من بدايته؟

طبعاً، حضرته من بدايته.

إذاً مرّ على الإدارة في نهاية الدَّرس؛ لنناقش بعض الأمور الإداريّة.

بكلِّ سرور.

انتهت الحصّة الدَّرسيّة، شكرتُ المدرّس على الجهود الَّتي بذلها في شرح الدَّرس، خرج المدرّس وخرجت بدوري متوجِّهاً نحو الإدارة، وخرج الطُّلاب وهم يردِّدون “الكيفشال”، والضُّحك يغمر قلوبهم!

نظرتُ إلى المدرّس مؤكِّداً له أنَّ نسبة كبيرة من الطُّلاب لا تتذكّر عنوان الدَّرس؛ نظراً لطوله وصعوبة حفظه، بينما جميع الطُّلاب حفظ بكلِّ سهولة اسمه القصير بالكرديّة “الكيفشال”.

ضحكَ المدرِّس قائلاً: أنا نفسي نسيتُ اِسمه فكيف لا ينسونه الطُّلاب؟!

ضحكتُ بدوري، ثمَّ توجّهت نحو غرفة المدرِّسين ودخلت غرفة الإدارة!

حالما نظرتُ إلى المدير، ابتسم لي وقال: “الكيفشال”! ضحكنا ثمَّ جلستُ أشرح للمدير كيفيّة سير الدَّرس. كانت قهقهاتنا ترتفع عالياً، ثمَّ قال المدير: حقيقةً ستكون خطَّة جبّارة لو استمرَّ الأستاذ نوري حتَّى نهاية الفصل الثَّاني، عاماً كاملاً يدرِّس في إعداديّتنا، ستكون أوَّل مرّة في تاريخ محافظة الحسكة، أن يستمرَّ فصلين متتالين؛ لأنّه هو نفسه لا يستطيع الاستمرار بأيّة مدرسة أكثر من فصل واحد، فهو يطلب نقله؛ لأنّه لا يتحمّل مشاكل الطُّلاب، ويريد أن يدرّس طلاباً جدداً في مدارس جديدة!

وهذا ما أشتغل عليه يا أستاذ جورج؛ لأنّني أحاول أن أحلَّ كلّ مشاكله، وأحضر بشكل مفاجئ لدروسه، وأجد انضباطاً في دروسه؛ لأنَّ الطُّلَّاب يتوقّعون حضوري في أيَّةِ لحظة”.

  1. كيف كان ردّ فعل مفتّش العلوم الأستاذ ميخائيل لولي عندما أجبته: الأستاذ نوري خلف ممتاز؟

تموجُ هذه المشاهد والذّكريات بحنان كبير أمامي، وأتذكّر “فيما كنتُ في أحد الصُّفوف، كيف بلّغني أحد المدرِّسين، أن مفتّش مادّة العلوم الأستاذ ميخائيل لولي يريد أن يلتقي بي، وكان في الإدارة بانتظاري.

مرحباً أستاذ.

أهلاً وسهلاً، أنا مفتش العلوم، أسألكَ كونكَ موجّه طلاب الصَّف السَّابع وقسم من الصَّف الثَّامن، كيف هو الأستاذ نوري مع الطُّلاب؟

قلت له، ممتاز!

نظر إليَّ مندهشاً، كيف موجّه صف يقول عن الأستاذ نوري خلف: ممتاز؛ لأنَّ كلّ موجّهي المحافظة كانوا يعانون منه ومن مشاكله مع طلَّابه، مع أنّه كان يدرِّس طلاب الصَّف الأوَّل والثَّاني الإعدادي فقط!

من أيّة ناحية هو ممتاز؟

من أغلب النَّواحي!

معقول؟!

لِمَ لا؟

يا أستاذ أنا جاد معك!

ولو أستاذ، هل وجدتني أمزح معك؟

مرَّ المدير على مقربة منَّا، فاستوقفته، عفواً أستاذ جورج، ممكن دقيقة.

نعم خير أستاذ.

حضرة الأستاذ المفتّش يسألني عن الأستاذ نوري، أجبته عن السُّؤال لكنِّي أحوِّل السّؤال لك أيضاً؟!

الأستاذ نوري مدرِّس جيّد، يحضر دروسه بانتظام ولا يغيب عن الدَّوام إلّا إذا كان مريضاً وإلّا فهو أوَّل من يحضر وآخر من ينصرف من الصَّف.

هل داوم الفصل الأوّل كلّه في إعداديّتكم؟

طبعاً، أجاب المدير.

عجيب!!! قال المفتش.

أين العجب؟ قال المدير.

العجب يا أستاذ، أنَّنا دائماً نتلقّى شكاوى عن الأستاذ نوري، ولو لم نتلقَّ شكاوى من إدارة المدرسة أو الطُّلاب أو أوليائهم، هو نفسه يطلب منّي شخصيَّاً أن أنقله إلى مدرسة جديدة بحيث لا يعرفه الطُّلاب!

فيما كنَّا نتحدَّث عن الأستاذ نوري، مرَّ من جانبنا بعد أن انتهى من إحدى حصصه الدَّرسيّة!

حلو، ها قد حضر الأستاذ، عفواً أستاذ نوري ممكن دقيقة!

حالما شاهد الأستاذ نوري المفتّش، تقدَّم نحوه ببشاشة مرحِّباً به، وهو في قمّة بشاشته وحفاوته ولياقته.

أستاذ نوري هل أنتَ مرتاح في هذه الإعداديَّة؟ سأله المفتّش.

جدَّاً يا أستاذ، مبسوط جدَّاً من المدير ومن الموجّه صبري بشكلٍ خاص!

والطُّلَّاب، هل أنتَ مبسوط مع طلَّابك ومرتاح بدروسك؟!

مرتاح يا أستاذ، مرتاح كتير.

بالمناسبة كونكمفتّش مادّة العلوم، هل ترغب أن تحضرَ درساً عند الأستاذ نوري؟ تستطيع أن تختار الصَّف السَّابع أو الثَّامن!

هل أنتَ جاهز أستاذ نوري؛ كي أحضر أحد دروسك؟

بكلِّ سرور يا أستاذ، بكلِّ سرور.

الحصّة الثّالثة، الصَّف السَّابع!

هل تودّ أن أحضر معكم الدَّرس؟ سألتُ المفتِّش.

لا مانع لو وافق المدرّس!

المدرّس يوافق طالما أنتَ موافق.

تفضَّلوا على الإدارة عندنا فرصة، لنشرب قليلاً من الشَّاي أو القهوة.

كم كان سعيداً الأستاذ المفتِّش، فرح جدَّاً عندما وجد هذه التَّطوُّرات مع مدرّس، دائماً يصادف مشاكل في المدارس الَّتي يتعيّن فيها، وإذ به يجده بشوشاً، مرتاحاً مع طلّابه، مع الإدارة ومع المدرِّسين!

بهذه الخطوة استطاع مدير المدرسة بإصراره على عدم تغيير المدرّس، وعلى زرع الثِّقة في نفسه، رغم كلَّ النّقص والتَّقصير الَّذي كان يراه منه لكنّه صبر عليه، وأعطاه فرصة تلو الأخرى، إلى أن أصبح مدرِّساً جادَّاً وملتزماً بدوامه. يحضِّر الدُّروس أوَّلاً بأوَّل، وشيئاً فشيئاً اِنسجم مع الجوّ العام في المدرسة، صحيح كنَّا بين الحين والآخر نصادف بعض المشاكل مع بعض الطّلَّاب، لكنّه مقارنة بالمدارس الأخرى، كان في قمّة السَّعادة والاِرتياح والعطاء.

حضر المفتّش الدَّرس، وكذلك أنا، هدوء تام خيّم على الدَّرس، سار الدَّرس بشكلٍ منظَّم وناجح، كنتُ قد أعطيت للمدرّس خطوات شرح الدَّرس منذ أن أصرَّ المدير أن يحوّل الأستاذ نوري إلى مدرِّس ناجح، وتعاونّا معه إلى أن تجاوز الكثير من مشاكله مع الطُّلاب!

اندهش المفتِّش، عندما شاهد وظائف الطُّلاب، واستجاباتهم للشرح ومشاركتهم في الإجابة عن أسئلة المدرّس! وهكذا خرج من الحصّة مرتاحاً هو الآخر، وقال: حقّاً أنا أمام إدارة ناجحة من الطّراز الرَّفيع! مؤكّداً أنّه لمجرِّد استمراريّة المدرّس وهو مرتاح في المدرسة مع المدير والموجّه والطُّلاب والمدرِّسين، هذا كافٍ أن أعدَّ الإدارة ناجحة نجاحاً باهراً!

في نهاية الفصل الثَّاني، وجّه مدير التَّربية بالحسكة ثناءً لإدارة المدرسة على حسن إدارتها وتفاديها لمشاكل المدرِّسين والطّلاب، قاصداً بذلك بكلِّ تأكيد نجاح استمراريّة الإدارة مع المدرِّس نوري خلف.

  1. ما هي المفاجأة الّتي غيَّرت حياة أخيكَ نعيم عندما زاركَ في المدرسة بعد تسريحه من الجيش؟

شكّلت زيارة أخي نعيم إلى إعداديّة يوسف العظمة، عندما كنتُ أعمل موجّهاً فيها، منعطفاً مهمّاً في حياته، وقد التقى آنذاك مع العم العزيز بهنان سارة الّذي كان يعمل في الإعداديّة، والمعروف عن هذه الشَّخصيّة النّادرة وسط مدينة صغيرة مثل ديريك، أنَّ حضوره كان مهيباً، وقصصه فكاهيّة مفعمة بالقهقهات، حيث كان روائيَّاً شفهيّاً موغلاً في خلق النّكتة والفرح والمرح إلى درجة أنَّ المستمع إليه يقهقه عالياً وهو يسمع قصصه الرّائعة؛ لما فيها من حبكات طريفة؛ ولما يمتلك من طاقات تمثيليّة مدهشة في رشاقة السَّرد. لم أجد في حياتي قدرةً لساردٍ يسردُ قصصاً كوميديّة وفكاهيّة مثلما للعم الرّاحل بهنان سارة من قدرات، وأقوى ما كان يعزّز سرده لقصصه الفكاهيّة إمكانيَّاته العالية في التَّمثيل، تمثيل الحركة واللُّعب على إيقاع وطبقات الصَّوت، والطَّريف في الأمر أنّ قصصه الفكاهيّة كانت واقعيّة، وأغلب مقالبه كانت فكاهيّة بريئة مع صديقه الرَّائع العم بهنان كلعو، وكان يربطني بالعم الرَّاحل بهنان كلعو أيضاً علاقة طيّبة، كم كان يعجبني أبو سمعان الرِّوائي الشَّفهي في بساطته وعفويّته وشخصيّته الرّصينة الجانحة نحو المَحبّة والسّلام وتقديم الكلمة الطّيبة لما فيه الخير لأي طرف يكون فيه حَكَماً، وكلّ هذا عمّق علاقتي به إلى درجة أنّه أصبح بمكانة صديق رغم فارق السّن الكبير؛ حيث يكبرني ابنه الكبير بسنوات، وتربطني به صداقة واحترام عميق؛ لما امتاز بطيبِ المعشر، وقد سرّه جدّاً اللِّقاء بأخي وأُعجبَ به، وبعد أن ودّعني أخي بقليل سألني العم العزيز أبو سمعان عن وضع أخي، فقلت له: صدّق وضعه جيّد، الحمد لله تسرّح منذ أيام من الجيش، ولم أدخل معه في تفاصيل أخرى، وقال: حقيقةً يا أستاذ صبري، أعجبني حضور أخيك ومنطقه ووسامته، فقلت له: الله يبارك فيك، ويخلّي أولادك ويباركهم يارب! أعجبني طرحٌ طرحه عليّ بكلِّ وضوح وثقة، طرحٌ يختلف عن منطق رجال ذلك الزّمان، ونظراً لأنّني بصدد مشروع كبير، حوار مع الذَّات، يتضمّن ألف سؤال وسؤال؛ لهذا فإنّ طبيعة الحوار تقتضي أن أتطرّق إلى مئات الأسئلة الَّتي تحوي بين رحابها الكثير من المصداقيّة والصَّراحة والخصوصيّة، واضعاً ذاتي الَّتي أُحاورها بكلِّ رحابتها على المحكِّ إلى أقصى ما تكون المكاشفة من صفاءٍ ووضوحٍ؛ كي أوثّقَ الكثير ممَّا في جعبتي من رؤى ووجهات نظر ومواقف وقرائن وآراء حصلت معي في الحياة أو أراها في هذا السِّياق أو ذاك؛ لأقدِّمها للقارئ العزيز على طبقٍ من الصّراحة والحياد؛ لعلِّي أحقِّق الهدف المنشود من هذا الحوار الّذي أعدُّهُ مشروعي الأدبي الأعمق في تجربتي الأدبيّة منذ أن حملت القلم، لهذا آمل من الأصدقاء والصَّديقات والمتابعين والمتابعات أن يأخذوا صراحتي ومكاشفتي بعين الاعتبار للكثير من الخصوصيّات الَّتي أراها ضروريّة للغاية؛ كي يأتي حواري بمقام الهدف الّذي أتوخّاه، بعيداً عن الإساءة لأحد، وخطَّطتُ أن لا تكون تساؤلاتي تقليديّةولا تكون إجاباتي عابرة، بل تصب إجاباتي في فضاءاتِنصوص أدبيّة وسرديّة وشعريّة، ومتدفِّقة في بعض جوانبها، وهي تتقاطع في الكثير من منعطفات الحوار مع السِّيرة الذَّاتيّة والسِّيرة الغيريّة، أي المتعلّقة بسِيَر غيري في بعض الأحيان وخاصَّة عندما تكون سيرة الغير محبوكة في بعض جوانبها مع وقائع حصلت على مساحات الذَّاكرة، وهكذا فيما كنّا ندردش أنا وأبو سمعان بعد أن ودّعني أخي نعيم، نظر إليّ نظرةً تحمل معنىً كبيراً كأنّه يخفي وراء نظرته سرّاً أو كلاماً مهمَّاً، ثمّ قال، إنِّي أرى فيك الشّهامة والرُّجولة والذّكاء، والحديث معك يا أستاذ شيّق جدّاً، ونظراً لأنّني أثق بك مثلما أثق بأولادي؛ لهذا سأصارحكَ مصارحةً ربّما تندهشُ لمصارحتي، ولكن أريد أن أعرضَ رأياً عليك؛ لعلَّ وعسى نصل معاً إلى نتيجة تفيدنا وتفيد من لهم علاقة بالفكرة الَّتي سأطرحها!

تفضّل أبو سمعان، كلّي آذان صاغية، وسأكون عند حسن ظنّك، وتخيّلتُ أن يطلب منّي خدمةً ما؛ طلباً ما يتعلّق بأخي أو بأولاد عمّي أو عمِّي يوسف شلو؛ لأنّه معمارجي، لكنِّي إطلاقاً لم أتصوِّر أن يطرحَ علي ما طرحه، ولا يطرح ما طرحه إلَّا رجلٍ عظيم وله آفاق عميقة في الحياة ويفهم ماذا يريد من الحياة، بعيداً عمَّا هو سائد في بعض التَّقاليد الشَّرقيّة، فقلت له: أسمعكَ.

أجابني: بعد أن التقيتُ بأخيك نعيم، وبعد أن قلت لك انطباعي عليه ورأيي فيه وفي منطقه وشخصيّته وحضوره ووسامته، أودُّ أن أقول لك يا أستاذ، لديّ بنت وحيدة جميلة رصينة ربيّتها تربية صالحة، درسَتْ فترة من الزّمن وتجيد القراءة والكتابة بشكل جيّد، لكنّها لم تتابع دراستها، وتفرّغت لمساعدة أمّها في أعمال البيت، وتعلّمت مهنة الخياطة ببراعة، وتعمل وتنتج ربما أكثر ممَّا تنتج معلّمة في هذا الزّمان، وهي مناسبة لأخيك نعيم تماماً من حيث العمر والطَّبقة الاجتماعيّة والأهليّة، فما رأيك باقتراحي يا أستاذ؟!

امتقعَ وجهي حالما سمعتُ اقتراحه، وتغيّر لوني، صدمني تماماً طرحه ورأيه فيما قاله، ولم أتمكّن أن أجيب عنه؛ لأنّني كنتُ بحاجة للترويّ؛ كي لا أفاجِئه بدوري كما فاجأني، فقال: هل أزعجَكَ طرحي ورأيي؟ لا أبو سمعان بالعكس، طرحك رائع وحضاري وراقٍ، وينمُّ عن أنّك أب رائع. ولكنّك يا أستاذ لم تتقبّل طرحي. لا تغلط في حكمك عليّ يا أبا سمعان، أشكرُكَ وأتقبّلُ جدّاً هكذا رأي وطرح حضاري، قاطعني وقال: لكن ملامح وجهك تقول غير هذا، دعْكَ من ملامح وجهي الآن، ثمَّ خبّأت ملامح وجهي بيدي، وكنت على وشك أن أبكي من شدّة إحراجي وانفعالي؛ تقديراً لمشاعر العم أبو سمعان، فقال: هل ترفض فكرتي ورأيي، بالعكس تماماً، رأيك رائع وموافق جدّاً عليه، طيّب لماذا أراك غير طبيعي وكأنَّ سطلاً من الماء اندلق عليك؟ قلتُ له: أكثر من سطل ماء، قُل جرّة ماء، هل تقصد أنَّ أخاك ممكن أن لا يوافق على فكرتي ورأيي؟ لا يا أبا سمعان لا أظنُّ أن يكونَ ضدَّ فكرتك ولا ضدّ رأيك، بالعكس سيكون موافقاً بحسب ما قلته عن كريمتك، فهي تناسبه تماماً. إذاً لماذا اصطدمتَ وتفاجأتَ وتغيّر لونك ما دام أنت موافقاً على رأيي وفكرتي وتقول: أنّ أخاك بكلِّ تأكيد سيوافق على طرحي، أين المشكلة إذاً كي تتغيَّر بهذا الشَّكل؟!

سأخبّرك فيما بعد ليس الآن، لا يا أستاذ ستخبِّرني الآن، يبدو أنَّ هناك مشكلة ولا تريد مصارحتي بها، مع أنّني أعرفك صريحاً وصادقاً بكلِّ ما تقول. أرجوك اعفِني من الرّد الآن، والله، ستقول لي الآن؛ لأنَّ مشكلتك أو مشكلة أخيك هي مشكلتي، ولو لم أحب أخيك وأراه مناسباً لابنتي؛ لما طرحتُ هذه الفكرة عليك!

أوكي، سأقول لك، وأعدك وعد شرف أنّني سأحاول قصارى جهدي أن أحلَّ كلَّ العوائق والألغاز، بحيث نصل إلى نتيجة تناسب رأيك وفكرتك! أيّة عوائقة وأيّة الغاز تقصد؟! احكِ لي الصَّراحة، أعرفك صريحاً ومباشراً. نعم أنا صريح جدَّاً ولكن أحياناً ينعقد لساننا عن الكلام المباشر. عجيب أمرك حيّرتني! معك حق أبو سمعان أن تحتار؛ لأنّي أنا نفسي حائر، نعم حائر حائر! ولماذا أنتَ حائر إذا كلّ ما سمعته منك حول رأيك وتصوُّرك عن رأي أخيك كان إيجابيّاً؟ حائر؛ لأنَّ أخي يا أبا سمعان هو خاطب بنت من محردة؛ لهذا انعقد لساني ولم أستطِع أن أفاجئك على طرحِكَ الحضاري الرّاقي مباشرةً، ولكن كما قلتُ لك أعدك وعد شرف أنْ أعالجَ كلَّ العوائق، وأحقِّق فكرتكَ ورأيكَ! عندما وجدني متأثّراً للغاية، تأثّر هو الآخر، وحضنني قائلاً: كم أنتَ رائع يا أستاذ، ما كنتَ تريدُ أن تصدمني مباشرةً، لهذا وجدتكَ قلقاً ومحتاراً في الرّد، وتغيّرتْ ملامح وجهك، أيوجد أكثر من هكذا سبب؛ كي تكون حائراً، لكنِّي كما قلتُ لكَ سأعالج الموضوع؛ فلا تقلق، وسأحقِّق اقتراحك وفكرتك بعون الله! كيف ستحقّق فكرتي وأنت تقول إنَّأخاك خاطب بنتاً من محردة؟ هنا اللُّغز وهنا العائق الَّذي لا بدّ من حلّه! ماذا تقصد يا أستاذ؟ أقصد بأنّني سأقنع أخي في حال لو وافقَ على كريمتكم بعد اللِّقاء بها، أن يفسخَ خطوبته من خطيبته، وبعد فترة يتقدَّم لخطوبة ابنتكم بشكل رسمي؛ وهكذا أكون قد حقّقت طلبك بكلِّ سلاسةٍ وبشكلٍ قانوني، لكنّي سأكون قد أخطأتُ بحقِّ خطيبته، خاصَّةً لو كانت على حبِّ كبير، فلا أجد هنا إلَّا أن أقدّمَ عميق اعتذاري للعزيزة أليسار خطيبة أخي، وتأكّدي تماماً أنَّ قراري وقرار أخي وكل قرارات الحبّ في العالم، تتحكّم فيها عوامل خفيّة أو مرئيّة، لا نعرفها، لكنَّي أعترف أنِّي سأكون السّبب المباشر في فسخ خطوبتك من أخي فآمل أن تقبلي اعتذاري!

  1. بماذا فكَّرتَ بعدما قال لك ما قاله أبو سمعان، وبعد كل ما حصل بينكما من مصارحات؟

كم أعجبني طرحه ورأيه، وكم شعرتُ أنَّ الكثيرَ من مفاهيم الشَّرق ممكن أن تتغيّر وتتطوَّر؛ عندما نجدُ ونصادفُ مَن يطرحها ويروّجها ويطبّقها، وتساءلت نفسي مراراً قبل أن يطرحَ أبو سمعان الاقتراح علي بخصوص كريمته: لماذا دائماً الشّاب هو الّذي يبدأ بمبادرةِ الحبِّ والمفاتحة والإعجاب والخطوبة، لماذا لا يكون الموقف مفتوحاً للطرفين، ويحقُّ للمرأة أيضاً أن يكون رأيها وطرحها بأن تعبِّرَ عن رأيهاومشاعرها وعواطفها، وإذ بي اليوم أصادف رجلاً في هذا العمر ولديه أربعة أولاد وبنت، يفكّر نيابةً عن ابنته؛ لأنّها تربيّته ويعرفُ مذاقها ومزاجها ورأيها في الحياة، ويطرح طرحاً مغايراً للسائد، وكأنّه يطبّق وجهات نظري الّتي أطرحها بضرورة أن يكون للمرأة أيضاً طرحها والتَّعبير عمَّا يختلج في ذهنها، مع فارقٍ بسيط أو جديد؛ هو أنَّ الطَّرح في قضيّة الإعجاب جاء من طرف الأب مباشرةً، وليس من طرف البنت، ولكن النَّتيجة عندي ذاتها؛ وهي أن الأطراف المتعلِّقة بالبنت هم المبادرون، وهكذا شعرتُ بفرحٍ كبير أن تكون أفكاري الّتي أروِّجها وأناقشها في الأوساط الشَّبابيّة مع الزُّملاء والزَّميلات والأصدقاء والصَّديقات، تمَّ طرحها على أرضِ الواقع، وفعلاً تساءلتُ مراراً: لماذا لا يحقُّ للمرأة والفتاة ما يحقُّ للرجل والشَّاب من إبداء الإعجاب؟ وهكذا شدّني هذا الطَّرح وكأنّه جزء ممتد من أفكاري وبدأتُ أشتغل على تحقيقه، خاصّةً أنّه لصالح أخي بكلِّ تأكيد، وسررتُ جدّاً أن يصبح العم أبا سمعان عم أخي، وبالتَّالي نصبح نسائب، خاصَّة أنَّ ابنته، وحيدته المدلَّلة الَّتي ربَّاها أحلى تربية، ستكون من نصيب أخي لو سارت الأمور كما يراها والدها وأراها أنا أيضاً، وهكذا بدأت أخطِّط لهذا المشروع العاطفي البديع!

لم أذهب إلى البيت مباشرةً، بل ذهبتُ إلى مكتبة المركز الثّقافي؛ كي آخذ قسطاً من التَّأمُّل، وأفكِّر بكلّ هدوءٍ في الخطوات الّتي سأقدم عليها، أمسكتُ ورقةً وقلماً وبدأتُ أكتبُ ملاحظاتي، كيف سأعالجُ هذا الموقف العويص، هل ممكن أن أقنعَ أخي بموضوع فسخ خطوبته من خطيبته أليسار، ماذا سيكون موقفي لو كان متشبّثاً بخطيبته وعلى علاقة حب عميقة معها ويُصعب فسخها؟ أسئلة كثيرة راودتني، لكنَّ الَّذي رجّح عندي كفّة إقناعه، هو وضعه غير المهيّأ لترتيبات الزّواج، فيما إذا أصرَّ على الاستمرار بحبِّ خطيبته، سأعرض عليه مغريات تجعله يغيّر رأيه، ويقتنع بفسخ خطوبته في حال لو كانت علاقته معها مجرّد خطوبة، وحل مشكلة الزّواج كزواج، وبحسب تقديري وتقييمي لطلبات أخي، شعرتُ أنّه من المرجّح أن يوافق على اقتراحي عندما أبيّن له أنَّ وجود خطيبة لك في ديريك ومن هذه الطِّينة والمستوى الرَّاقي، وهي منتجة كخيّاطة، وأصغر منك بسنتين، وجميلة ووحيدة، ومن أسرةوبيئة قريبة من بيئتنا ومستوانا الاجتماعي والاقتصادي، كل هذا يجعلنا نتضامن معك أكثر ممّا لو استمررت مع خطيبتك في محردة؛ لأنَّ ترتيبات القيام بمهام الزّاوج، والإكليل والسَّفر ومتفرّعات عديدة تكلِّفنا كثيراً، ومَنْ عندكَ ممكن أن يقدّم لك كلّ هذه المصاريف؟ ولا تنسَ أنَّني بعد شهور سألتحق بالخدمة الإلزاميَّة، ولا أحد في العائلة هو منتج، حتَّى أنت بالذَّات تسرَّحت من الجيش منذ أسابيع، وبصدد البحث عن العمل، ومتى ستجد عملاً؟ كيف والحالة هذه ستستمرُّ مع خطيبتك؟ لهذا فكّرت أن أضع كلّ هذه الأمور بعين الاعتبار؛ كي يكون جوابه إيجابيَّاً معي، وسأقترح عليه أنّني سأساعده بمبلغ لا يقل عن (2000) ليرة لترتيبات الخطوبة والجهاز الخاص بالخطوبة، ثمَّ سنخطِّط للزفاف ونستدين (2000 ــ 3000) ليرة للإكليل، ونسدّد جزءاً من الدّيون من خلال الصَّباحية، هدايا الزّفاف، وبعد أن وصلت إلى هذه النَّتائج؛ طويتُ ورقتي في جيبي، وتوجَّهت نحوَ البيت، بعد أن وضعتُ في الاعتبار أنّ أبي وأمِّي وأخي الكبير وأختي سيوافقون على اقتراحي، ولا بدَّ أن يوافق أخي نعيم على اقتراحي أيضاً؛ لأنّ كلّ الاقتراحات والنّتائج المترتّبة عليها هي لصالحه قلباً وقالباً!

  1. كيف ناقشتَ الموضوع معَ أخيكَ، في الوقت الّذي كان قد خطب الفتاة المحرداويّة؟

مرحباً، كيف حالكم، رحّب والدي بي ببشاشته، وطلب من أمِّي أن تعدَّ لي الطَّعام، وقالت لي: اليوم رجعت متأخِّراً من الدَّوام، صحيح ماما؛ لأن كان عندي التزامات بعد الدَّوام، بدّي أحضِّر الأكل، طيّب ماما جهّزي الأكل بدّي أحكي مع نعيم شوي، ثمَّ أخذتُ أخي نعيم جانباً، وشرحتُ له الأمر بكلِّ تفاصيله، ابتداءً من أوّل جملة نطقها أبو سمعان حتّى آخر كلمة، وبدأتُ أنفّذ ترتيبات مخطِّطي الّذي وضعتُ نقاطه في المكتبة، وبعد أن شرحتُ له بإسهابٍ كل ما يتعلّق بموضوع فسخ الخطوبة بعد زيارة بيت أبي سمعان أن يقول كلمته الأخيرة فيها، ثمَّ يبدأ بترتيبات فسخ الخطوبة، فكان جوابه إيجابيّاً جدّاً، خاصّة عندما عرضت عليه مساعدتيله وتبنّي كلّ تكاليف الخطوبة، ومحاولتي استدانة مبلغ من المال؛ لترتيبات الإكليل، فقال لي: فعلاً اقتراحك صائب جدّاً، خاصة أنَّ مصاريف الخطوبة والإكليل ستكون أقل، ومن جهة أخرى ستساعدني في الخطوبة والإكليل، وهكذا نجحت في إقناعه، ولكنّه كان متردِّداً وقال: أخشى أن يكون قصد أبي سمعان هو أنتَ وليس أنا، فهو لا يعرفني، ولم يرَني سوى مرّة واحدة فقط، بينما أنت يراك يوميَّاً في المدرسة. لا لا يا أخي لا يقصدني، إنَّه يقصدك تحديداً، فلو قصدني،أنا تحت عينيه منذ شهور، ولم يشِرْ ليبهذا الأمر نهائيَّاً، هو يقصدك تماماً، وقال بالحرف الواحد: لقد انتهى من الخدمة العسكريّة وبحاجة إلى الاستقرار وتأسيس أسرة، وسأحاول أن أوجد له عملاً؛ لأنَّ لدي علاقات مع الكثير من وجهاء البلد والمسؤولين، وتحدَّثنا طويلاً في موضوعك، وحتّى لو قصدني، من جهتي سأترك السّاحة لك بالمليان، فضحك نعيم وقال: رائع، أنا موافق كخطوة أولى للقاء بها وزيارتهم في أقرب فرصة، فقلت له سآخذ موعداً من والدها، ثمَّ سنزورهم أنا وأنت فقط، وعلى ضوء النَّتائج ممكن أن نقرِّر تفاصيل المرحلة القادمة بما يخصُّ فسخ الخطوبة، ثمّ إعلان خطوبتك على الخطيبة الجديدة! ضحك وقال: ممتاز؛ لو سارت الأمور كما تخطِّط لها! في اليوم الثّاني، التقاني أبو سمعان، وببشاشة ردّيتُ السَّلام والتّحيّة وقال: حنطة أم شعير؟ فقلت: حنطة إيطالي خالص، أي كلّ شيء إيجابي، سأراك بعد أن أنتهي من صف الطُّلَّاب، وإدخالهم إلى صفوفهم وبعدها سنشرب الشَّاي، ونناقش بهدوء عن تفاصيل مخطَّطنا القادم! أنا بالانتظار، دقَّيت الجرس وبدأ الطُّلاب يصطفُّون في صفوفِهم، وبعد أن انتهيتُ من ترتيبات تحيّة العلم ودخلَ الطُّلّاب إلى صفوفهم، وزّعت دفاتر التّوقيع على الصُّفوف عن طريق العرفاء، ثمَّ توجّهتُ إلى مكتب التَّوجيه، وإذ بالعم بهنان سارة في الانتظار! وهو في أوج لياقته ومرحه ووقاره! تفضّل أستاذ، خبِّرني عن نتائج حنطتكَ! بالحقيقة يا صديقي قطعتُ شوطاً طيّباً مع أخي نعيم صاحب العلاقة؛ لأنَّ موضوعنا أوَّلاً وأخيراً متعلّق مع نعيم، وبعدئذ سنناقش تفاصيل الأمر مع الوالد والأسرة ككل ومع بيت عمِّي؛ كي نقوم بالتَّرتيبات المتعارف عليها. كلام جميل، ماذا قلت لنعيم؟ شرحت له بالتَّفصيل الموضوع من أوَّله إلى آخره، وركّزتُ له على أنَّ وجود خطيبة له من ديريك ومن طينتنا نفسها، ولها عاداتنا وتقاليدنا ومن المستوى نفسه، كل هذه المعطيات المشاركة بيننا تساعدنا على حلِّ الكثير من مشاكل الزّواج، فمن الصّعب أن نقوم بمهمّة إكليلك لو كان في محردة، فقضايا السَّفر ومكان الإكليل يلبّكنا ويقلق حتّى أهل العروس هناك، ولهذا لو كانت العروس من ديريك، فإنَّ ترتيبات حفل العرس والإكليل سهل، ناهيكَ عن أنّني سأساعدكَ بحدود (2000) ليرة فيما إذا كانت شموني من نصيبك واتفقنا على كلِّ شيء، وماذا كان جواب نعيم؟ جوابه: فمه انفتحَ على المليان ووصل إلى أذنيه، فضحك أبو سمعان، والآن ماذا علينا من خطوات؟ علينا أن نحدّد موعداً معكم؛ كي نزوركم أنا ونعيم أولاً، وبعد أن يلتقيا ويوافق كلاهما، سنقدم على الخطوة الثّانية، وهي فسخ خطوبته؛ لأنّني لا أريد أن يفسخ خطوبته قبل أن يوافق على كريمتكم وهي توافق عليه ويتّفقان معاً على أنّه بعد فسخ خطوبته سيتمُّ إعلان الخطوبة بشكل رسمي مع وفد من الأسرة من طرفنا ومن طرفكم! كلام جميل وتعمل مثل الرّجال الكبار، بل أشتغل بطريقة أفضل من الرّجال الكبار، ضحك أبو سمعان ثانية وقال: صدّقني عقلك يوزن بلد!

متى يناسبكم أن نزوركم؟ يناسبنا يا أستاذ مساء ليلة السّبت. جيّد اتفقنا إذاً، سأخبِّر نعيم؛ كي يجهّز نفسه للقاء يوم السّبت بحدود السّاعة كم؟ بحدود السّاعة السَّادسة؛ كي نسهر مع بعضنا، رائع جدّاً بلّغ تحياتي للأهل، اليوم هو الخميس وغداً عطلتنا، الأسبوعيَّة، نلتقي عصر يوم السّبت على خير، الله يعطيك الخير، وأشكرك على شهامتك ومواقفك وأرجو أن تنتهي الأمور على خير لكافّة الأطراف.

خرجت من المنزل، متوجّهاً إلى البيت، كان أخي نعيم في انتظاري، وخبَّرته عن تفاصيل ما حصل معي والموعد المحدّد للِّقاء يوم السَّبت القادم، السَّاعة السَّادسة عصراً! فرح بهذه النّتائج وتطوُّرات الأوضاع، وهكذا بدأتُ أرسم معالم علاقة جديدة بين طرفين، ستثمر على الأرجح بنتائج بديعة!

  1. ما هي انطباعات اللِّقاء الأوَّل الَّذي تمَّ بينكم أنتَ وأخيك نعيم مع أبي سمعان وابنته شموني؟

كانت انطباعات اللِّقاء الأوَّل طيّبة ومريحة لكلِّ الأطراف، استقبَلنا على الباب العم أبو سمعان، ثمَّ استضافنا في غرفة الصَّالون، بيت دافئ بالمحبّة والحفاوة والبساطة والأصالة والتَّقدير، بعد قليل جاءت شموني وسلّمت علينا، وقدّمها والدها لنا وقدّمنا إليها، وبعد أن جلستْ قليلاً وتجاذبنا أطراف الحديث، سألنا أبو سمعان: ماذا تحبون أن تشربوا؟ قهوة وسط أجبتُ، وكذلك نعيم طلب قهوة، وفيما كنّا ندردش جاءت أم سمعان وسلَّمت علينا، أم حنونة، رؤوم، كتلة من الحنان والمحبّة والتَّقدير والهدوء، ما كانت البسمة تفارق وجهها البشوش، كانت تعرفني، قدّمَ أبو سمعان نعيم إليها، وقدّمها إلى نعيم، لقاء مفعم بالحميميّة والطّيبة والاحترام، دخلت شموني وقدّمت إلينا القهوة، بينما أبو سمعان شرب الشّاي وكذلك أم سمعان، وشربت شموني القهوة، شعرنا كأنّنا في بيتنا، كنّا في غاية الارتياح، كان أبو سمعان ونعيم بجانب بعضهما وأنا إلى يسارهما، وجلستْ شموني وأمّها مقابل أبي سمعان ونعيم، ورحنا نتحدَّث عن قضايا الحياة، وباركتْ أم سمعان تسريح نعيم من الجيش، وكذلك شموني هنَّأته بالتَّسريح، ثمَّ جاءَ أفرام شقيق شموني وسلّم علينا، وجه أشقر وسيم، عينان باسمتان تنضحان فرحاً وأملاً بالحياة، وفي مستهلِّ السَّهرة جاء ميخائيل بحضوره الطَّيب، وجه حنطي مكتنز بحبِّ الفنِّ، كم كان يهوى العزف على العود والجمبش، يعشق الموسيقى، وأمّا أفرام فكان مولعاً بالاستماع إلى أغاني أم كلثوم في أغلب الأوقات. حكى أبو سمعان في معرض سهرتنا بعض القصص الطَّريفة الخفيفة، ولم يدخل في تفاصيل فكاهيّاته، فقط أحبَّ أن يعطي للجوِّ فكاهةً، وأنا كنتُ أتحدَّث مع ميخائيل وأفرام، وأحياناً كنتُ أسأل شموني بعض الأسئلة عن كيفية تعلّمها الخياطة، وما هي المهارات الَّتي تتميّز بها في الخياطة، كانت خجولة ووقورة وهادئة، قليلة الكلام، قالت: أنا أعرف أكثر شيء خياطة بدلات نسائيّة، وأخيِّط على التَّصميم أيضاً لو طلبت الزّبونة أن أخيّط فستانها على تصميم معيّن، برافو عليكِ، طيّب هل يصعب عليك خياطة رجاليّة، بناطيل وما شابه؟ لا ما هو صعب علي لو عندي التَّصميم، لكنِّي لا أحب خياطة البناطيل ولا زبائن شباب للخياطة، فقط زبائني هم بنات.

سررنا بالوقت الَّذي قضيناه، كان نعيم هادئاً يصغي إلى الجميع ويردُّ على تساؤلاتهم؛ لو سأله أحدهم سؤالاً ما، ويشارك في الدَّردشة، وجهه ينضح بالبسمة والانشراح، أعطى انطباعاً طيّباً، كما بدَتْ شموني مرتاحة في السّهرة، وكانت طبيعيّة في ظهورها ولباسها، لكنّها كانت توحي أنّها بنت خجولة، عندها حياء بديع، سررتُ بطريقة استقبالهم لنا، وكأنَّنا نعرف أهل البيت من زمان، بعد أن سهرنا قرابة ساعتين، وتحدَّثنا في الكثير من الأمور، وشاهد كلّ من نعيم وشموني بعضهما، واستراحا لبعضهما من اللِّقاء الأوَّل.

كانَ الأستاذ سمعان الابن البكر يؤدّي الخدمة الإلزاميَّة آنذاك في دمشق، وقد التقى به نعيم عدّة مرّات في دويلعة. نظرتُ إلى ساعتي، وشكرتُ أبا سمعان وشموني وأم سمعان والشَّباب على الحفاوة الَّتي استقبلونابها، ثمَّ استأذنت منهم، وكذلك شكرهم أخي نعيم على كلِّ ما قدَّموه من احترام وتقدير، وقلت لهم قبل أن نودِّعهم: ممكن في قلب الأسبوع القادم نزوركم زيارة أخرى، فرحّبوا جميعاً، قائلين: البيت بيتكم، تقدرون تشرفوننا متى ما تشاؤون، أهلاً بكم بالرّحب والسَّعة، ودّعناهم على أمل زيارة قريبة، وقلنا لهم: أنتم أيضاً تستطيعون زيارتنا متى ما تشاؤون، فقط أخبرونا عن موعد الزّيارة، وسنستقبلكم بكلِّ المحبّة والاحترام، خرجنا ونحن في غاية الامتنان؛ ممّا قدموه لنا من حفاوة واحترام وتقدير، وحالما أصبحنا في الشَّارع ونحنُ في طريقنا إلى البيت، قال أخي نعيم: هذه البنت، كما قال والدها، وأشكره جدّاً على طرحه واقتراحه، مناسبة جدّاً لي، وأشكرك يا أخي على كلِّ ما تقوم به من أجلي، ومن خلال اللِّقاء الأوَّل أقول: أنا موافق من دون أي تردّد على التَّقدُّم لهذه البنت الطَّيّبة الهادئة الوقورة، وسوف أذهب لمحردة بأقرب وقت؛ كي أفسخ خطوبتي، وأعود لأعلن خطوبتي على هذه الفتاة بعد أن نزورهم زيارة أو زيارتين، ونتّفق على بعض التّفاصيل، ونسمع رأيها منها وجهاً لوجه، ثمَّ نرتّب أمورنا؛ كي نتقدّم لخطبتها بشكل رسمي! ابتسمتُ لأخي، وقلتُ له: وهذا ما كنتُ أفكر به أيضاً، وألف مبارك مقدّماً يا أخي، والله يجعل تنتهي الأمور على خير!

  1. كيف تابعتَ السَّهرة في البيت بعد عودتكما أنت وأخيك نعيم وما الحديث الِّذي دار بينكما؟

وجدتُ أخي نعيم مرتاحاً جدَّاً من الزِّيارة الَّتي قمنا بها لبيت أبي سمعان، لكنّه كان في الوقت نفسهأمام موقف محرج من ذاته، بدا لي وكأنّه يتساءل مع نفسه: ما ذنب خطيبتي أن أتخلّى عنها دون أي سبب مقنع أو مباشر، كيف سأقنعها بأنَّنا لا نناسب بعضنا؟ هي متعلّقة بي كثيراً، هكذا قرأتُ ملامحه وشروده، ثمَّ دخلت معه في نقاشٍ واضح وصريح بخصوص خطيبته؛ كي نضع النّقاط على الحروف قبل أن نعطي كلمة نهائيّة مع بيت العم بهنان؛ كي يتحمَّل نعيم بنفسه قراره، ولا أكون متسبّباً أو ضاغطاً عليه، أريد أن يتّخذ قراراته عن قناعة؛ كي لا أتحمّل نتائج أي قرار يتّخذه، مع أنّني شعرت ضمناً أنّني أقوم بموقف خاطئ بحقِّ خطيبته الأولى، ولكن في الوقت نفسه شعرت أنَّ موقفي عادي وطبيعي؛ لأنّني أفكّر بمصلحة أخي بشكل منطقي؛ لأنَّني سألته منذ البداية عن الفكرة كفكرة، فوافق عليها، ولو كان أصلاً متمسِّكاً بخطيبته لما راق له طرحي ولا طرح أبي سمعان، علماً أنَّ أبا سمعان ما كان لديه أي إطلاع على وضع أخي، أنا طرحت الفكرة عليه وتركني على راحتي وراحة أخي، وهكذا وضعت أخي على المحكِّ النّهائي لأسأله من جديد عن موقفه النّهائي في موضوع خطيبته، نظر إليّ وقالَ أشعر بنوع من الذّنب وكأنّني أخونها لأنّها ماتزال خطيبتي وأنا أفكّر بغيرها، لكنّها الحياة يا أخي فأنا لست أوَّل وآخر مَنْ يفسخ خطوبته، وبعد أن أجريت مقارنات بين خطيبتي وبين شموني وجدتُ كفّة شموني مرجّحة على خطيبتي في قراري الأخير لعدّة اعتبارات كما أشرتَ إليها يا أخي أثناء عرضكَ عليّ الفكرة، فأنا متأكّد أنّني لو تابعت حياتي مع خطيبتي سوف لن تكون سعيدة معي ولا أكون أنا سعيداً معها لأنَّنا من بيئتين مختلفتَين ناهيك عن أنّي غير قادر على الإقدام على هذه الخطوة لو اخترتُ المتابعة معها، لهذا قرَّرت بقناعة تامّة أن أفسخَ خطوبتي منها وليس لكَ أنتَ أيّة علاقة، وأتحمَّل أنا كامل المسؤوليّة حتّى ولو كنتَ السَّبب بطريقة أو بأخرى، لكن هذا بالنَّتيجة هو قراري وليس قرارك، ولا تقلق قريباً جدّاً سأذهب إلى محردة وأعتذر منها وأعلن انسحابي، ستحزن بلا شك؛ لأنّها متعلّقة بي كثيراً، لكنّها ستنساني مع الزّمن وتشقُّ طريقها، وأتمنَّى لها بكلِّ الأحوال كلَّ الخير. خيّم علينا صمت، ثمّ قلت لأخي: أنا لا أريد أن أتسبَّب لك بأيَّة مشكلة لا مع خطيبتك ولا مع الخطوة الجديدة، كلّ ما في الأمر عرضتُ وما أزال أعرض عليك كلّ الخيارات، وأنتَ سيّد الموقف، لا تقلق يا أخي فأنت لم تتصرّف إلّا ضمن منطق الحفاظ على الأسرة والتَّعاون معها وتقدِّم لي أقصى ما تستطيع، وفعلاً لو لم أختَر شموني شريكة لي في حياتي القادمة، ستكون حياتي متعبة مع خطيبتي؛ لأنَّه لا يبدو لي أنَّنا سنكون سعداء بحسب ظروفنا، بينما مع شموني سأكون أكثر استقراراً وسعادةً، لأنَّ أهلها هنا وأهلي هنا وسوف تبقى بجانبي من خلال عملها وأسرتها وسنؤسِّس معاً أسرة هادئة، ونعيش بكلِّ تأكيد سعداء مع بعضنا، هكذا أرى وأحس؛ ولهذا ليس لدي أي خيار سوى توجيه الأنظار إلى محردة في أقرب وقت والعودة حرّاً ممَّا يربطني هناك من التزامات!

بعد أيّام قال لي نعيم: سأذهب إلى محردة، جهّزت له ترتيبات السَّفر، شعرتُ بغصّة؛ لأنَّ هناك مواقف يمرُّ بها الإنسان تسبِّب له بعض الإحراج، لكنّها الحياة دائماً تطالعنا بمفاجآت لها أوَّل وليس آخر، وأهم شيء أن تنتهي الأمور على خير، عادَ نعيم بعد أيّام وأيضاً شعر بغصّة، وقال: وضعتُ النِّقاط على الحروف؛ كي انتقل إلى حروفٍ أخرى من طينِنا، فقلتُ له: على بركة الله! ثمَّ قال لي: أنت تفكّر بي وتخطِّط لي أكثر ممّا أفكِّر بنفسي وأخطِّط لنفسي!  إذا لم أفكِّر بكَ بهذه الطَّريقة لماذا نحن إخوة ومن رحم واحد؟!

نظر إليّ بإمعان وقال: حقّاً، الإخوة لهم حقوق وواجبات على بعضهم بعضاً، ثمَّ خرجنا مشواراً وفي انتظار الزِّيارة القادمة لبيت أبي سمعان؛ كي نتحدّث عن الموافقة، والبدء في التَّقدُّم إلى شموني لإعلان الخطوبة.

  1. كيف كان انطباع أبي سمعان عن زيارتكما لهم، وهل اتّفقتم على الزِّيارة القادمة؟

كان الانطباع بديعاً؛ بدليل أنّه الآن بكلِّ بشاشته يصبّح عليّ، صباح الخير يا أستاذ، أهلاً وسهلاً صباح الخيرات أبا سمعان، كيف حالك يا أستاذ، وكيف أخبار وحال العزيز نعيم؟ بخير، لقد عاد البارحة من محردة، لماذا ذهب إلى محردة؟ صدّق فجأة قرّر الذِّهاب إلى محردة وفسخ خطوبته وعاد، ولكنّكَ قلتَ لي: أنّك تفضّل أن نتّفقَ هنا على موضوع شموني بشكل نهائي، وبعدها ينهي موضوع الخطوبة، بالحقيقة هو قرّر بنفسه أن يفسخَ الخطوبة قبل أن يحصلَ على موافقتكم النّهائيّة أو موافقة شموني؛ لأنّه قال لي: يفضّل أن أفسخ خطوبتي أولاً، ولو عندي نصيب مع شموني أهلاً بها وبأهلها، مع أنّه من جهته هو موافق تماماً، لكنّه أراد أن يفاتحها ويتقدّم إليها وهو حرّ وصافي الذّمة، حسناً فعل، وهو رأي صائب ودقيق، حتّى أنّني كنتُ أريد أن أقول لكَ هذا الأمر، لكنّ قلبه الصَّافي قاده إلى تحقيق رغبتي، حقيقةً أنا نفسي ارتحتُ؛ لأنّه قام بهذا الأمر قبل أن يفاتح شموني ويناقشها؛ كي يكون مرتاح الضَّمير، وقد ريّحني أيضاً تصرّفه، وهو في انتظار موعد آخر معكم؛ كي يلتقي مع شموني، ويتناقشا في بعض الأمور؛ تمهيداً للتقدُّم إليها وإعلان الخطوبة بحضور بعض الأهل من الطَّرفين.

ما رأيكَ بيوم الخميس بحدود السَّادسة أيضاً؛ كي نستطيع أن نسهر على راحتنا؛ لأنّ اليوم الثّاني عطلتنا الأسبوعيّة، جيّد إنَّه وقت مناسب لنا جميعاً، خبّرتُ نعيم على موعد الزّيارة القادمة، وهيَّأ نفسه لهذا اللِّقاء، وشعرَ أنّه أكثر حرّيّة من قبل؛ لأنّه أنهى علاقته بشكل نهائي مع خطيبته؛ كي يخطِّط لحياته من جديد وهو متفائل للخطوة الّتي يقدم عليها بكلِّ قناعة، حيث وجد فعلاً أنّه لو لم يصادف شموني، واستمرّ مع خطيبته؛ فإنَّ حياته ستشوبها المشاكل، خاصّة أنّه غير قادر على العيش في محردة، وغير قادر على خلق الجوّ المناسب لها في ديريك ضمن ظروفه الحاليّة والمستقبليّة، فكيف سيؤسّس أسرةً وهو في بداية حياته سيواجه حالات وظروفاً صعبة؟ فعلى الأقل خياره الثَّاني أكثر أملاً في بناء حياة سعيدة وأسرة بالتَّعاون ما بين الأسرتين، وهو وسط أهله وأقربائه وأصدقائه، والأمل في الحصول على عمل وارد جدَّاً،  خاصّة أن هناك الكثير من المجالات الَّتي تناسبه. عدتُ من الدَّوام يوم الخميس وإذ بأخي نعيم خارج المنزل، فسألتُ أمّي: أين هو نعيم؟ فقالت: ذهب إلى السّوق، وسيعود بعد قليل، وفيما كنّا نتحدّث عنه، دخل باب الحوش وهو يحمل بعض الأغراض الّتي اشتراها من السُّوق، جلسنا في الغرفة؛ كي نحضّر أنفسنا لزيارة العم بهنان، كان هادئاً، شارداً قليلاً، يبتسمُ تارةً، ثمَّ قال: مَن كان يتوقّع أنَّ زيارة عابرة لي إلى المدرسة ستشكِّل كل هذه التَّطوّرات في حياتي؟! دائماً الحياة فيها مفاجآت ومتغيّرات جديدة، لكلِّ سببٍ مسبّب، فعلاً يبدو هكذا مقدّر لي قال نعيم، ربّما يا أخي. دخلتْ أمِّي والبسمة مرتمسة على وجهها، تفضلوا كُلوا، الأكل جاهز، تفضّلوا قبل ما يبرد. شكراً ماما، صبّي الأكل، سنأتي حالاً، كم كانت أمِّي هادئة، رزينة، مطيعة، صافية القلب، كم كنَّا غرباء عن أنفسنا وعن أمّهاتنا وآبائنا وأهلنا وأخواتنا وإخوتنا، كم كنّا جهلاء في مصير أعمارنا! أبكي الآن في هذه اللّحظات وأنا أسمع صوت أمِّي تدعونا للغداء، فقفز إلى ذهني عمري الّذي قضيته هناك؛ عمري الَّذي راح ثلاثة أرباعه هدراً في الكثير من متاهات الحياة، رغم أنّني استلهمت من هدره أبهى ما لدي من تدفُّقاتٍ إبداعيّة، جمحتُ بعيداً. كان الأحبّة في الانتظار ونحن بعد أن تناولنا الطَّعام خرجنا نتدرّج قليلاً؛ كي نذهب في الموعد المحدّد، اسقبلنا أبو سمعان وابنه ميخائيل ببشاشة طيّبة، دخلنا الغرفة وإذ بأم سمعان ترحّب بنا، جلسنا بارتياحٍ كبير، رحّبوا بنا، وبدأنا ندردشُ على قضايا الحياة، دخل لطيف وسلّم علينا، قال أبو سمعان: لطيف ابني الصَّغير وقدّمنا إليه، جلسَ قليلاً ثمَّ خرج إلى الحوش ينظّم زينة بسكليته، كان شغوفاً ببسكليته، دخلت شموني وسلَّمت علينا، ثمَّ جلست قريباً من نعيم، كان اللِّقاءُ ودوداً بين الجميع، يبدو أنَّ أبا سمعان خبّر شموني عمّا حصل مع نعيم من مستجدَّات، فزادَت قناعتها من الاقتراب أكثر منه، وكان كلاهما مصمّمَين على هدفٍ واحد، وبدأنا نتحدَّث عن موضوع الهدف الَّذي جئنا من أجله، فلمّح أبو سمعان لابنته عن نيّة نعيم من جهتها، وسألها عن رأيها فأجابت: بابا أنت وأمّي وإخوتي الَّذي تقولونه أنا موافقة عليه، فقالَ نعيم: وأنا موافق على ما يقولونه أيضاً، فهلهلتْ أم سمعان وقالت: مبارك، ثمَّ قلتُ: ألف مبارك على هذا التَّفاهم، قريباً سأخبِّركم؛ كي نأتي ونتقدَّم إلى خطبة شموني مع وفد رسمي من أهلي، فرحَّبوا باقتراحي، ثمَّ خرجتْ شموني وبعد قليل جاءت وقدّمت بعض السكاكر عربون فرحنا وبداية الموافقة من كلِّ الأطراف، ثمَّ قدّمت القهوة والشَّاي، قضينا وقتاً طيّباً إلى وقت متأخّر من اللَّيل، ثمَّ استأذنا، وعدنا والبهجة تغمرنا، كنّا نسمع أصوات خطواتنا، كأنّها إيذان بأنّ مشروع الألف ميل يبدأ بخطوة فعلاً، وها قد قطعنا الخطوة الأولى يتلوها خطوات العمر الأخرى!

تجليات خيال المبدع الأديب و التشكيلي السوري #صبري_ يوسف Sabri Yousef..عن الفنَّانة اللِّبنانيّة#أميمة_ الخليل..وكأن صوتٌها منبعث من إخضرار الأشجار وإشراقة الصَّباح.. – من كتاب تجليات الخيال – الجزء الثاني..

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نبات‏‏

لا يتوفر وصف للصورة.

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‏نبات‏، ‏منظر داخلي‏‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏‏نظارة‏ و‏لقطة قريبة‏‏‏‏

أميمة الخليل صوتٌ منبعث من اخضرار الأشجار وإشراقة الصَّباح،

تهاطلت علينا؛ كي تُبلِّلَ صحارى الرُّوح العطشى لنداوةِ المطر.

أميمة الخليل

(38)

تُغنِّي الفنَّانة اللِّبنانيّة أميمة الخليل وكأنَّ صوتها ينبعثُ من اخضرارِ الكرومِ ومن ابتهالاتِ وهجِ الحنين، أشعرُ وكأنّها تُغنِّي لي فقطـ، أو لكلِّ مستمعٍ إليهاعلى حِدَّة،تمتلكُ طاقة ساحرة في استحواذها على أسماعِ المتلقِّي لأدائها المنعش، صوتها بلسمٌ لأوجاعنا، في حنجرتها وهجٌ مفعمٌ بابتهالات بوح الرُّوح، فيتوغَّل صوتها المخضلُّ بالحنين إلى أعماقنا الخفيّة، ويسقى عطشنا إلى ذواتنا وإلى الفرح الَّذي توارى بعيدًا عنَّا، وكأنّها تردُّ إلى دنيانا شموع الأمل الّتي طال بها الانتظار،تغنِّي وهي في حالةِ وجْدٍ مع ذاتها ومع عالمها المتهاطل مثلَ شلالٍ من الفرح، وتحلِّقُ عاليًا في تجلِّياتها وكأنّها تطيرُ معَ الكلمة واللَّحن والأداء، تُشبهُ هديّة الأعياد في نيسان في أوجِ بهاء الرّبيع؛ هديّة محبوكة بمذاقِ الشّعر. فرحٌ عميق يغمرني وأنا أسمع أميمة الخليل، تجعلنيأحلِّقُ في فضاءِ القصيدة وأسوحُ في عرينِ الفرح وأسرارِ بهاء الخميلة، هذه الكائنة مجبولة من رحيقِ البساتين وتغريد البلابل وهي في أوجِ شدوها، تشرّبتْ من بعلبك ــ البقاع وهج تجلّيات الغناء، لبنان بلد الغناء الأصيل، يا صوت أساطين الغناء المرصّعة بالشّموخ، لبناء صوت وديع الصّافي صفاء الينابيع العذبة، وصوت فيروز وهو يعانقُ شموخ الجبال المطلّة على بشرِّي وهي تغنِّي لجبران خليل جبران، أميمة خليل صوتٌ مجبولٌ بتراتيل محتبكة باخضرار أهازيجَ قلبٍ مقمَّطٍ بوشاحِ الغمام،تغنِّي أرقى القصائد المزنّرة بالحبِّ في أرقى تجلِّيات طلال حيدر، وجموحات هنري زغيب الورافة، وشموخ هاني نديم في بهجة الإشراقِ، وخصوبة الخيال عند نزير عطيّة الهندي، كما شمختْ بروعةِ الصَّوت وهي تغنّي لمحمود درويش والسَّيَّاب ومحمّد عبدالله، تغنِّي أعذبَ الأشعارِ وكأنّها تنقش القصيدة فوق أجنحةِ الغيوم، وعلى أغصانِ الورد وأمواجِ البحر. تنسابُ كلمات القصيدة بطريقةٍ رهيفة وكأنّها تناجي الطَّبيعة ونداوةَاللَّيل وعصافير الخميلة.

أميمة الخليل؛ مغنِّية محتبكة بمذاق حبور الرُّوح في أوجِ ابتهالاتها، تترجم الكلمات الّتي تغنِّيها بلغة اللّيل الحنونوعلى إيقاعِ خريرِ الماء، وهبوبِ نسيم الصَّباح المندّى بأريج الأزاهير، صوتها موسيقى أشهى الأنغام، تغنِّي لأرواحنا الجامحة نحو تجلِّيات الغناء الملفّح بأسرار تماوجاتِ البحار، وزغبِ الحنطة، يصطبغُ صوتها مع زقزقات العصافير وهي تعانقُ أعشاشها وفي انتظار فراخها ترى النُّور على صوتِ دندناتها، فلا تتوانى أن تناجي هسهسات الطَّبيعة وتغريدَالطُّيورِوشهيقَالأطفال وهم في سباتٍ عميق، يسمعون صوتها عبر حبور أحلامهم.كلّما سمعتُ أغنية: “عصفور طل من الشّباك”؛ حلَّقتُ عاليًا نحو سديمِ الغمامِ، وشعرتُ أنّني أمام روحانيّة طفلة تغنِّي للأطفال الصِّغار والكبار؛ لأنّها تُعيدنا إلى طفولتِنا، وتعودُ هي الأخرى إلى بهجةِ الطّفولة وكركرات هذه العوالم، أميمة أجمل طفلة كبيرة صادفتها عبر أزهى أهازيج الأغاني، وعندما تغنِّي “تكبَّرْ تكبَّرْ”؛ أجدني في حالةِ شموخٍ، غائصًا في أعماقِ القصيدة وفي أشدِّ الحنين إلى أشهى ابتهالات انبعاثها من جوانحِ الرّوح. تغنِّي أميمة الخليل كأنّها في حالةِ تجلٍّ مع ذاتِها السّابحة في خضمِّ الحياة والطَّبيعة بكلِّ حبورها، ومعَ حنين الجبالِ إلى مويجاتِ البحار. تُشبه القصيدة المخضلَّة بأسرارِ جموحِ الرّوحِ، حوَّلتْ صوتها إلى موسيقى منبعثة من هبوبِ نسائمِ اللَّيل، تمشِّطُ أرواحنا من صخبِ الحياة، ومن ضجيج هذا الزّمان، ومن الغبار العالق في متاهاتِ يومنا. لا تحتاج أميمة إلى أيَّة موسيقى ترافقها عندما تغنِّي؛ تولدُ الأغنية من حنجرتها صافية من الشّوائب، والتّذويقاتِ المشوّشة لصفاءِ صوتها المجنّح نحو عذوبة الماء الزُّلال، ما هذه الطّاقة الرّهيفة الّتي تنهمر علينا كأنّها تناجي قلوبنا العطشى إلى أعماقنا، وتضعنا أمام ذواتنا؛ كي نتلمَّسَ مكامن الفرح والجمال والحب، وتوقظَ في أعماقنا أشواقنا الغافية فوق ظلال الرّوح؟!

أميمة خليل صديقة الطُّيورِ المحلّقة في فضاءاتِ انبلاجِ القصيدة وفي آفاقِ مروجِ الرُّوح، صوتها تغريدة عشقٍ مندّى بحبقِ الشِّعر؛صوتٌ منبعثٌ من اخضرار الأشجارِ وإشراقةِ الصَّباح، ومن هلالاتِ الأعالي، كأنّه مفصَّل على مقاساتِ قلوبنا العطشى لأغاني من نكهةِ مزاميرِ الحياة. تبدو لي هذه الفنّانة الرَّصينة وكأنَّها جاءت إلى الحياة خصيصًا كي تغنّي بكلِّ هذا البهاء والتَّجلِّي؛ كي تبهج قلوبنا وتزرعَ فوقَ خدودِ الرُّوح أزهى مرامي الأغاني، ترفرفُ عصافير الخميلة وهي في أوجِ حبورها، وأشبهُ ما تكون قصيدة فرحٍ تهاطلت علينا من خدود السّماء؛ كي تبلِّلَ صحارى الرُّوح العطشى لنداوةِ المطر، وتغنِّي الكلمة البهيجة المحبوكة من شذى أشهى القصائد، وتختار الشِّعر المعتَّق ببخورِ المحبّة ومذاق الوئام ودفء الحياة. تُشبهُ قبلةَ الأم وهي تقبِّل أطفالها قبل أن تغفو للنوم، وتغنِّي لهم بهدهدات دافئة عن أشهى تجلِّياتِ بوحِ الرّوح!

ستوكهولم: (12/ 3/ 2020).

صبري يوسف

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نبات‏‏

تجليات خيال المبدع الأديب و التشكيلي السوري #صبري_ يوسف Sabri Yousef..عن الروائي العراقي #عبد الرَّحمن_ منيف.. طاقة سرديَّة شاهقة.. – من كتاب تجليات الخيال – الجزء الثاني..

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏

الرّوائي عبدالرَّحمن منيف طاقة سرديَّة شاهقة

نسجَ حرفَهُ كأنَّهُ في حالةِ أُلْفَةٍ معَ حكايا الأساطير

عبدالرَّحمن منيف

(36)

الرِّوائي الكبير عبدالرَّحمن منيف قامة إبداعيّة مدهشة في تدفُّقاتِ الخيالِ وانسيابيّةِ السَّردِ في خلقِ فضاءاتِ الحوارِ ووهجِ البناءِ الفنّي عبر سرد تجلِّيات فكريّة شاهقة في مضامينها وأهدافها وعرضها بأدقِّ التَّفاصيل، وكأنّ خياله كاميرة بانوراميّة في تسجيل أحداث ووقائع في غاية الرّهافة. كتبَ رواياته وسرديَّاته ومقالاته وقصصه القصيرة من وحي أفكارٍ خلَّاقة، كأنّه ناسِكٌ اعتكفَ بهدوءٍ كبيرٍ في صومعتِهِ المفتوحة على مساحاتٍ شاهقة من دنيا الشَّرق، وسلَّطَ قلمه على جراحِ الأوطان الّتي تنزفُ أنينًا من كلِّ الأطرافِ، منطلِقًا من الواقعِ المخلخلِ الَّذي رآهُ متفشِّيًا في أهمِّ مفاصل كينونةِ المواطنينِ والأوطانِ معًا.

امتلكَ منيف خيالًا خلَّاقًا في انبعاثِ جموحاتِ سردِهِ، وانطلقُ من ثقافةٍ موسوعيّة في المواضيع الّتي كتبها بتقنياتٍ عالية ونثرَها في الفضاءاتِ الّتي ولجَها بسلاسةٍ طريّة؛ فقد كان ينهضُ في الصَّباحِ الباكرِ وهو في أوجِ صفائِهِ الذّهني، ويكتبُ بشغفٍ عميقٍ على مدى ساعاتٍ. رسمَ شخصيَّات رواياته كمَن يطيرُ بين جنائن النّعيم، وهو يحلِّق في متاهاتِ سردِهِ في أوجِ شغفِهِ وتدفُّقاتِهِ: حرفُه منسابٌ كتهاطلاتِ عذوبةِ المطرِ، يحلِّقُ القارئُ معَ تحليقاتِ حرفِهِ، فلا يرى القارئ أشهى من الغوصِ عميقًا في متاهاتِ عوالمِهِ السَّحيقة وفضاءاته الرّهيفة، ينتشلُنا من واقعِنا، ويدخلنا في منعرجاتِ دنياه المفتوحة على الكثير من وقائع الحياة وما يماثل الحياة الّتي عشناها، وكأنّه قنّاص ماهر قدَّمَ شهاداتٍ دامغة على عصره.

لم أقرأ روايةً من رواياته إلًّاأذهلني خياله المجنّح وطاقاته في بنيانِ فضاءِ شخصيّاته وسرده وطاقاته المدهشة في خلقِ الأحداثِ، إلى درجةٍ أنَّني كنتُ أشعرُ وكأنّي أرى الشَّخصيّة وتفاصيل ما يعتريها بعيني. بدا لي مصوِّرًا بارعًا في رسمِ دقائقِ الأحداثِ وتشابك تفاعلاتها؛ حتّى خُيِّلَ إلي أنّه نسجَ لنا أحداثًا من أرض الواقع وعلى ألسنة شخصيّاتٍ من لحمٍ ودم، وإلَّا ما هذه الطَّاقة الانسيابيّة والتّداخلات في بنيان السَّرد والأحداث والحوار والتّفاعلات المنبجسة من أكبرِ الأحداثِ إلى أصغرِها، مستخدمًا لغةً سامقةً منسابةً معَ حوارِ الشَّخصيّات، ومفصَّلة عليها تفصيلًا مبهرًا، وكأنَّه قام بدراساتٍ محكمةٍ لكلِّ حركةٍ أو نأمةٍ من شخصيّاتِ قصصه وأحداثها وفضائها، ماسكًا خيوط الأحداث برشاقةٍ مدهشةٍ في كلِّ تفرُّعاتها مهما كانت متشعّبة، ويدخلنا في لبِّ الأحداثِ إلى أن يجعلنا غير قادرين من الفكاكِ ممّا سيحصل من أحداثٍ قادمة فنقرأ ونقرأ ونقرأ ولا نملُّ من انسيابيّة وهجِ السَّردِ وألقِ التَّشويقِ، كأنّهُ منذُ أن تبرعمَ في أحشاءِ أمِّهِ، تشكَّل أن يكونَ روائيًّا بارعًا متناغمًا مع كلِّ ما يتطلّبُهُ بناء العمل الرّوائي من أدواتٍ فنّيّة رصينة ومبهرة، ولغةٍ شاهقة وخيالٍ خلَّاق وثقافة موسوعيّة شغوفة في تجسيد طموحاته الرَّحبة فوق بياضِ الورقِ.

أصدر منيف أولى رواياته عام (1973م)؛ بعنوان: “الأشجار واغتيال مرزوق”، ركَّزَ على الغوصِ عميقًا في شخصيّة المواطن الشَّرقي، وعبَّرَ أعمقَ تعبير عن تأزُّماته في رحلةِ العمرِ المثخّنة بالجراحِ ورحلةِ العبورِ نحوَ ما وراءِ البحارِ، كما رسمَ الوطن المعشَّش بالدّهاليزِ والسَّراديبِ الّتي أودَتْ بهِ إلى حالةٍ من التَّوهانِ، فتاهَ الوطنُ والمواطنُ في عالمٍ موحشٍ مليء بالهزائمِ والانكسارات. نسجَ منيف أحداث الرِّواية بمهاراتٍ عالية، تخلَّلَها أحداثٌ غنيّة بالحبِّ والحنينِ إلى ربوع الأوطان، كما جسّدَ فيها الكثير من مشاعر الغضب، وتأزُّمات الذّات. ثمَّ كتبَ رواية: “قصّة حبّ مجوسيّة”، وتبدو لي هذه الرِّواية أنّها لا تناسب أن ندرجها في فضاءِ الرِّواية بقدر ما تناسبُ أن ندرجها في فضاءِ القصّة الطّويلة، أو يمكن أن نصنِّفها مع الرِّواية القصيرة، ولم يتوقّف الكاتب في هذه الرّاوية عندَ قضايا وهموم المواطن في العالم العربي، حتّى أنَّ الزَّمان والمكان كانا في فرنسا، والشِّخصيّة الّتي تحدّث عنها في الرِّواية هي شخصيّة شاب فرنسي، مركّزًا على علاقة البطل الاجتماعيّة وغيرها من العلاقات، مستخدمًا لغة شاعريّة مكثّفة عبر تأمُّلات رهيفة في بنائها الفنِّي، فتداخلَ الفضاء السَّردي مع الوهج الشِّعري؛ فولدَتْ رواية جميلة في تدفّقات تأمُّلاتها ولغتها الرّشيقة ومختلفة جذريًّا عن تجارب منيف الرِّوائيّة كلّها! ثمَّ كتبَ روايته الشَّهيرة: “شرق المتوسّط” الّتي وضعته في مصافِّ الرِّوائيين الكبار؛ وتدور أحداث سرديّاتها المدهشة حول السّجناء والمعتقلين السِّياسيِّين، وقد حلَّقَ الرِّوائي في رسم عذابات السُّجناء في سجون وزنازين الشَّرق المرير. أدهشني منيف في تألُّقه في بناء هذه العوالم والفضاءات خلف الأسوار العالية والأبواب المغلقة في الزَّنازين المعتمة! ينتاب القارئ رعب حقيقي وهو يقرأ مشاهد وصف الرِّوائي لعذابات المساجين السِّياسيِّين، يجد القارئ نفسه أمام عالمٍ خرافي في فنون التّعذيب؛ لا يمكن أن يتخيّله المرء، وما سرَدَهُ منيف في فضاءات “شرق المتوسّط” قريب جدًّامنحالات السّجون في العالم العربي، وهكذا تزدادُ السُّجون والزَّنازين ظلمًا وأنينًا على حساب تقهقر البلاد، ويزدادُ المواطنُ فقرًا وقهرًا وشقاءً، وكأنَّ برامج بلادنا في دنيا الشَّرق قائمة على تعذيب مواطنيها وضدّ ذاتها؛ لأنّها تحاربُ ذاتَها بذاتِها، وقد حصلَ الكثير ممَّا جاء في روايته في الكثير من الزّنازين العربيّة، علمًا أنّه كتبَ روايته منذ عقودٍ من الزّمان، وقد وجدناه في روايته محلِّقًا في فضاءاتٍ سرديّة في غاية الدِّقة والحساسيّة، ثمّ تلاها بعد أن كتبَ عدّة روايات أخرى، عاد وكتب رواية ثانية بنفس الإيقاع المتسارع في أقبية الزّنازين؛ بعنوان: “الآن هنا: أو شرق المتوسّط مرةً أخرى”! أدهشني سرْدُهُ لما كان يحصل خلف الأبواب المغلقة من أنينٍ موجع! فرسمَ عالم السُّجون وعذابات السُّجناء وكأنّه شاهد عيان لما حصلَ في أعماقِ الزّنازين. شعرْتُ وأنا أقرأ سرْدَهُ المرهف في شموخِ تجلّياته، وكأنّي أقبع في زنازين السّجون، وأتفاعل مع أحداث الرّواية مشهدًا مشهدًا، كنتُ أحيانًاأتلمَّس نفسي بعفويّة؛ للتأكّد أنّني لستُ شخصيّته الرِّوائيّة الّتي رسمها. يتفاعل القارئ معَ دهاليزِ السّجونِ ويشعرُ وكأنّه يسمعُ أنينَ السُّجناءِ وآهاتهم؛ فقد استطاعَ الرِّوائي أن ينقلَ للقارئ معاناة السُّجناء إلى درجة أنّ القارئ يشعرُ وكأنّهُ يتحدّثُ عنه وعن كلِّ مَن يشبهُهُ، أو كأنّه هو نفسه -أي الرّاوي- دخل معترك هذه السُّجون ويتحدَّثُ عن تجربتِهِ بدقّةٍ عالية وبتفاصيل لا تخطر إلّا على بال السُّجناء الّذين رسمهم بمهاراتٍ فنّيّة عالية، علمًّا أنّه استوحى سرديّاته من خلالِ بحوثه وقراءاته عن عوالم السُّجون، منطلقًا من خيالٍ جامحٍ وطاقات سرديّة مدهشة في بناءِ عالمٍ روائي أشبه ما يكون مستمَدًّا من وقائع حياة السُّجون؛ كي يقدِّمَ هذه الحالات للقارئ على طبقٍ من إبداع لا يجاريهِ كبار الرِّوائيِّين في العالمِ فيما يخصُّ عوالم السّجون بجرأةٍ غير معهودة.

عاشَ الرِّوائي السّعودي عبدالرّحمن منيف في الأردن والعراق وسوريا ومنافي بعيدة أكثر ممَّا عاشَ في وطنه الأم السُّعوديّة، والطّريف بالأمر، أنّ السُّعوديّة أصدرت قرارًا بإسقاط الجنسيّة السُّعوديّة عنه، وكأنَّ الجنسيَّة والمواطنة هي “شقفة ورقة” يتمُّ تمزيقها من سجلّات النُّفوس أو قرار من هذه الدَّولة أو تلك بإسقاط الجنسيّة! وإنَّ إسقاط الجنسيّة عن شخص ما، عادةً يتمُّ لمَن اكتسبَ جنسيّة دولة ما، ولسببٍ آو لآخر تُسقط عنه الجنسيّة الّتي أكتسبها، وإلّا فأنّه لا يوجد أيّة دولة في العالم تستطيع إسقاط جنسيّة مواطنيها مهما تكُن الأسباب. ونظرًا لأنّه لم يتمكَّن من التّعبير عمّا كان يراوده عبر رواياته وكتاباته في المملكة السّعوديّة؛ فلم يعِشْ فيها؛ أقامَ في عمان وبغداد ودمشق وفي عواصم عربيّة وغربيّة أخرى. وتشرَّبَ ثقافة رصينة وعميقة، خوَّلته أن يمتلكَ خبرةً عميقةً في الفنِّ الرِّوائي، جعلته يمسكُقلمه بحرفيّة عالية ويجسِّد رؤاه، مركّزًا خلال سرديّاته على الفكر الإنساني الخلّاق؛ لهذا، أراه من أبرعِ الرِّوائيِّين العرب. ينسجُ تجلِّيات حرفه مثلَ سيلٍ جارفٍ فوقَ نصاعةِ الورقِ، غير آبهٍ لأيّة رقابة إلّا رقابة ضميره الحي وفكره المستنير، ولديه تحليقات شاهقة في جموحاتِ الخيال، قلّما نجدها عند بقيّة الرّوائيِّين، كأنّه في حالةِ أُلْفةٍ معَ واحاتِ الأساطيرِ وأسرارِ حكايا الشَّخصياتِ الّتي يرسمُها برهافةٍ عالية، يكتبُ سرديّاته كمَنْ يسبحُ في أعماقِ البحارِ الدَّافئة، كمَنْ يحلِّقُ فوقَ أحلامِ الذّاكرة ويفرشُ حرفه فوقَ سهولِ القمحِ الممتدَّة على مدى شهقاتِ الحنين، لا يبالي بأوجاعِ السّنين، محاولًا أن يقرأ جراحَ الغدِ الآتي، واضعًا في الاعتبار أن يبلسمَ آهاتِ الأوطان وجراح الإنسان في دنيا الشَّرق، ويفتحَ كوَّةَ أملٍ لتنويرِ الأجيالِ وتطويرِ البلادِ نحوَ الأفضل.

غاصَ منيف في رواية “النّهايات” في فضاءاتِ الأرضِ، مركّزًاعلى علاقةِ الإنسان معَ الطّبيعة(أُمِّ الحياة)، وخلقَ في عوالم بطل الرّواية قصصًا متقاطعة مع حكايا الأساطير ومتجانسة مع الطَّبيعة، ونجح في إسقاط أفكاره ورؤاه في فضاءات عمله الرّوائي، مركّزًا على ضرورة الحفاظ على بهاء الطَّبيعة والكائنات الجميلة كالطُّيور وكل ما يمنح الطَّبيعة جمالًا وروعةً، تدفَّقَ عبر سرده بلغةٍ رشيقة مثلَ تدفُّقات الأنهار المنسابة في منعرجات الوديان، ثمَّ يصدمنا في نهاية الرِّواية بموت البطل، ويطرح الرِّوائي عبر روايته فكرة الرّفق بالحيوان والتّوازن مع بهاء الطّبيعة والحفاظ على جمالها وعطاءاتها الخيّرة.

يكتب منيف رواياته بعدّة أساليب، وبلغة رصينة عميقة محبوكة بالرّموز والحكم الفلسفيّة والأفكار الهادفة؛ ففي رواية “حين تركنا الجسر” نجد كيف اعتمد منيف على كتابة نصٍّ روائي تخلَّله مونولوج داخلي رهيف المعاني والأنغام في سرده وطريقة عرضه للقارئ، ويقدّم عبر مونولوجه الكثير من الأفكار الّتي تصل إلى أعماقِ القارئ، مبيّنًا خيبة البطل؛ وهي إسقاطات وترميزات لخيبات الإنسان الّتي تصادفه في الحياة، نصّ محبوك بمشاعر غامرة وأحاسيسِ العشقِ، كما نجد في فضاءات النّص مشاعر اليأس والقنوط والفشل في بعض الأحيان، وكذلك يتخلَّله فضاء الفرح والنّشوة وأحاسيس متشعّبة بالكثير من الحالات الّتي نعيشها في حياتنا؛ فهو يعكس حياة القرّاء في سياق سرديّاته، مجسّدًا حكمة ورؤية فلسفيّة وصراعات الإنسان مع الوجود ومع مَن يحيط به، وصراعه مع نفسه في بعض الأحيان، وكل هذا جسَّده في سردٍ روائيٍّ بديع.

وفي رواية “عالم بلا خرائط” المشتركة بينه وبين جبرا إبراهيم جبرا، نجد أنفسنا أمام تجربة فريدة من نوعها، لم نجد مثيلًا لها في الشَّرق والعالم العربي، ويَحارُ القارئ متسائلًا: ما هي الفصول الّتي كتبها جبرا والّتي كتبها منيف في هذا النَّص الرّوائي؟! إذ ليس من السُّهولة أن يميِّزَ القارئ ما كتبه جبرا وما كتبه منيف؛ فقد كان هناك تناغمٌ وسلاسة في سير الأحداث لدرجة أنَّ القارئ يشكُّ أن كاتبَين كتبا الرِّواية، وكلُّ هذا حصل نتيجة التَّناغم الفكري والخيال الخلَّاق لكلٍّ منهما؛ ولما بينهما من انسجام بديع في رؤيتيهما، مع أنّ لكلٍّ منهما خصوصيَّته وفكره المستقل وأسلوبه في العمل الرِّوائي والأدبي، وقد أنجزا في هذا العمل بالذّات رواية مشتركة متميّزة وراقية في كلِّ ما جاء فيها من سردٍ روائي وتناغُمٍ فنّي، وقد كان هدف منيف أن يجرِّبَ كتابة عمل روائي مشترك لتطوير وتجريب الإبداع، وتقديم تجربة غير مسبوقة وجديدة ليضيف للمكتبة العربيّة تجربة غير مطروقة، ويفتح آفاقًا جديدة في السّرد الرِّوائي، ونجح منيف وجبرا في هذه التّجربة إلى حدٍّ كبير. ومنيف كاتب معروف بغزارة إِنتاجه الأدبي؛ فقد كتبَ عدّة روايات أخرى: “أرض السَّواد” من ثلاثة أجزاء، و”أم النّذور”، وكتب مجموعتَين قصصيَّتَين: “أسماء مستعارة” و”الباب المفتوح”، كما كتب العديد من الكتب الفكريّة والأدبيّة وقراءات في التّشكيل واللَّون والإبداع، ولديه كتاب حمل عنوان: “سيرة مدينة” عن عمان العاصمة الأردنيّة، وفي كلّ كتابات منيف السَّردية ومقالاته الفكريّة والأدبيّة وقراءاته في التّشكيل واللّون، نجده يعكس رؤية واسعة وعميقة ومستنيرة لقراءة الحاضر وبناء فكر خلّاق يستشرفُ فيه تطلُّعات آفاق المستقبل.

وأكثر أعمال منيف شهرةً على الصَّعيد العربي والعالمي هي “مدن الملح”؛ رواية خماسيّة تتألَّف من خمسة أجزاء، وقد تُرجمَتْ إلى العديد من لغات العالم، وأطلق عليها منيف “مدن الملح”؛ منطلِقًا من التَّغيرات الّتي حصلت في القرى والمدن بعد أن تمَّ اكتشاف النّفط السُّعودي، وأطلق على اسم الدَّولة في عمله الرّوائي “موران”، وحملت الأجزاء الخمسة العناوين التَّالية: “التِّيه”، “الأخدود”، “تقاسيم اللّيل والنّهار”، “المنبت”، و”بادية الظّلمات”، يصف الرِّوائي في الجزء الأوّل: “التِّيه” بداية اكتشاف النّفط في بعض مدن وقرى الجزيرة العربيّة، وكيف تشكَّلت المدن وتطوَّرت واعتبرها تغيُّرات عاصفة وعنيفة وقاسية، ومن أهم أبطال هذا الجزء “متعب الهذَّال”؛ وهي شخصيّة قويّة ترفض المتغيّرات الَّتي حصلت، ويرمز إلى أصحاب الأرض وقدّ أدّى رفضه إلى استخدام العنف معه من قبل السّلطات الحاكمة في البلاد، رواية مشحونة بسرد طافح بالإبداع والخيال الباذخ في انبعاثاته وبنائه بلغة شيّقة ورشيقة. وفي الجزء الثَّاني “الأخدود” يلجأ الرِّوائي إلى وصف التّحوُّلات الكبيرة الّتي حصلت في الصَّحراء وحوّلتها إلى حقول نفط، ومن أهم شخصيّات هذا الجزء السّلطان “خربيط” وابنه “خزعل”، الّذي استلمَ سدّة الحكم، وسرعان ما مهّد للشركات الأميريكية تسهيل مخطّطاتهم للتنقيب عن النّفط، وركّزَ الكاتب في هذا الجزء على التَّغيُّرات والتَّحوُّلات الّتي تمّت بشكلٍ متسارع، وقفل نهاية الكتاب بالانقلاب الّذي قام به “فنر” ضدَّ أخيه “خزعل”. وفي الجزء الثّالث “تقاسيم اللَّيل والنّهار” تزدادُ حدَّة الصَّراعات القبليّة، ويتدخَّل الغرب من خلال تحالف الحاكم “خربيط” معهم؛ كي يتمكّن من الهيمنة على مكامن النَّفط، للحصول على أكبر قدر ممكن من الثّروة. وفي الجزء الرّابع: “المنبت” يسلّط الكاتب قلمه على “خزعل” وصراعاته مع أخيه “فنر” ووفاته في المنفى. وكيف تمَّ انقلاب “فنر” على أخيه، وما آلت إليه التّغيُّرات السّلبيّة على المنطقة، وحاول قصارى جهده إعداد أجهزة موالية له في الصّحراء؛ كي تساعده وتسانده للتخلُّص من توجّهات أخيه وأبيه؛ كي ينهي نفوذ التّدخُّل الأميريكي في المنطقة. وفي الجزء الخامس: “بادية الظّلمات” يروي الكاتب كيف سادت حالة من الاستقرار الَّتي وصل إليها “فنر” مركّزًا على التَّغيُّرات الّتي طرأت على حياة النّاس مقارنةً بما كانت قبل استلامه حكم البلاد، ويطلق على اسم الدّولة بعد التَّغيُّرات الّتي حصلت “الدَّولة الهديبيّة”، ويحقِّقُ “فنر” نجاحًا في إدارة البلاد وكأنّه شخصيّة أُسطوريّة؛ ممّا دفع خصومه التّفكير بتصفيته واغتياله، وبانتهاء حياته ينتهي الجزء الخامس والأخير من مدنِ الملح.

حاز الرِّوائي الكبير عبدالرَّحمن منيف على عدّة جوائز منها جائزة سلطان العويس، وجائزة القاهرة للإبداع الرِّوائي وغيرها من الجوائز. وكان يستحقُّ أرفع الجوائز في العالم؛ لما قدّمه من عطاءات رصينة وشاهقة في السَّرد والفكر والأدب المعاصر. توفي الكاتب بعد رحلةٍ طويلة في الكتابة الإبداعيّة في دمشق عام (2004م) في الرّابع والعشرين من شهر كانون الثّاني، وتركَ للمكتبة العربيّة والعالميّة إرثًا أدبيًّا وفكريًّا خلَّاقًا، سيبقى ساطعًا معَ إبداعِ الخالدين إلى أجلٍ طويل!

صبري يوسف  Sabri Yousef

ستوكهولم: تشرين الأوَّل (اكتوبر) (2019).

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏نبات‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏نبات‏ و‏منظر داخلي‏‏‏ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‏نبات‏، ‏منظر داخلي‏‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نبات‏‏ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏نبات‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏

تجليات خيال المبدع الأديب و التشكيلي السوري #صبري_ يوسف Sabri Yousef..عن الشاعراللبناني#أنسي الحاج الذي حرفُه يناغي شهوةَ المطرِ..وحرفُه هديَّةُ عشقٍ تهاطلَتْ علينا من مآقي تجلِّياتِ السَّماءِ..– من كتاب تجليات الخيال – الجزء الثاني..

لا يتوفر وصف للصورة.

لا يتوفر وصف للصورة.

حرفُكَ يا أنسي الحاج يناغي شهوةَ المطرِ

حرفُكَ هديَّةُ عشقٍ تهاطلَتْ علينا من مآقي تجلِّياتِ السَّماءِ!

أنسي الحاج

(31)

أُنسي الحاج شاعر موغل في ألقِ الشّعرِ، تشرَّبَ بالشّعرِ منذُ أن تبرعمَ على وجهِ الدُّنيا، كائنٌ مضمّخٌ حتّى الانبهارِ في تلألؤاتِ انبعاثِ بوحِ القصائد، ترعرعَ معهُ الشِّعرُ والحرفُ منذُ أن خطا خطواتِهِ الأولى في الحياةِ، منذُ أن سمعَ فيروز وأرقى الأغاني وهو مُحاط بين أحضانِ الفرحِ، تنامَتِ الموسيقى والكلمة والشِّعرُ في عالمِهِ المنساب بوهجِ القصائد، فجمحَ بشغفٍ كبير نحوَ عوالمِ الشِّعرِ، كتبَ حرفَهُ على إيقاعِ سموِّ السّماءِ وهدهداتِ هبوبِ النِّسيمِ، اِنسابَ من حبرِهِ منائرُ النُّبلِ والأحلامِ الشَّاهقة فوقَ نصاعَةِ الورقِ، فتناثرَ الحبرُ حرفًا ساطعًا فوقَ خدودِ الحياةِ، أعطى للشعرِ فضاءً رحبًا مفتوحًا على أجنحةِ التَّأمُّلِ والحبِّ وضياءِ الصّباحِ، كأنّهُ يرسمُ بسمةَ اللّيلِ والنّهارِ فوقَ أجنحةِ اليمامِ. هدهدَ جموحات بوح القصيدة كمَن يناغي روحَهُ المعرَّشة في مآقي الإبداع، اعتكفَ مثلَ النُّسَّاكِ، مستلهمًا شعره من خصوبةِ الحبِّ والعشقِ، ومن خدودِ الحياةِ المتوَّجة بشموخِ المرأة، كأنّها ينبوعٌ منسابٌ من روافدِ المياهِ العذبة، تروي قصيدته براري الخيالِ، فاتحًا صدرهُ وقلبهُ وروحهُ بشغفٍ عميقٍ لانبلاجِ وهجِ الحرفِ ومذاقِ الكلمة المبلسمة بنكهةِ البساتينِ والعشبِ البرِّي، معتبرًا اللُّغة كنزه الثَّمين الَّذي تهاطلَ عليهِ خلال تشرُّبات خياله وذاكرته لعذوبةِ الحرفِ وهو يجني حصادَ السِّنين عبر محطّاتِ العمرِ، فلم يَرَ أجدى من بناءِ جموحِ رؤاه الأسطوريّة فوقَ قبابِ اللُّغةِ الشّامخة مثلَ تيجانِ ملكةِ الملكاتِ، رسمَ حلمَهُ الشّاهقَ فوقَ هلالاتِ الغيومِ النَّديّة، وناجى آفاقَهُ المنسابة من مروجِ خيالِهِ المندلقِ مثلَ زخّاتِ المطَرِ الصّافي فوقَ ربوعِ الدُّنيا.

يُشبهُ شعرُهُ رغبةً شهيَّةً مفتوحةً على مساحاتِ حنينِ البحارِ إلى المدائنِ العريقة، رهيفٌ مثلُ ابتساماتِ الأطفالِ وهم في أوجِ بهجتِهم وكركراتِهم وحنينِهم إلى صدورِ أمّهاتِهم. تأمَّلَ طويلًا في مساراتِ انبعاثِ القصيدة إلى أن غدَتِ القصيدة صديقة حلمه وروحه وحياته وشغفه الأزهى في الحياةِ، لا يفارقُها ليل نهار وكأنّها ابنته البكر، يحلِّقُ مرتحلًا معها في فضاءاتِ السّماءِ وأغوارِ البحارِ، فأصبحتِ القصيدة شغله الشَّاغل في بناءِ كينونَتِها بكلِّ حبورِها وتجلِّياتِها؛ كي يفرشَها فوقَ قبّةِ العمرِ، ناسجًا أحلامه المبرعمة من خصوبةِ الطُّفولةِ والحبِّ والعشقِ وتغاريدِ بهجةِ الرُّوحِ. مدَّ يدَيهِ للقمرِ مثلما مدَّ الأطفالُ أيديهم للقمرِ؛ كي يعانقوه بكلِّ شغفٍ وانتعاشٍ، ترعرعَ في قلبِهِ طفلٌ حالمٌ، متوفِّزُ المشاعرِ والآمالِ، عميقُ الرُّؤيةِ والخيالِ، صديقُ الكلمة الصّادحة في مهجةِ الفؤادِ، زرعَ حرفه فوقَ أرضٍ خصبة معبّقة بأريجِ العشقِ، كأنّه هديّة من الأعالي لأرضٍ عطشى للقصيدةِ، للفرحِ، للحبِّ، لأزاهيرِ الحلمِ المحبوكِ من بسمةِ الأطفالِ وشغفِ العشّاقِ وهم في أوجِ عناقاتهم لنعيمِ الأرضِ، وحنينِ السَّماء!

نهلَ أُنسي الحاجِ من كتبٍ مبلَّلةٍ بأرقى القصائد، وتشرَّبَ من وهجِ حرفٍ شرقيٍّ وغربيٍّ أزهى المعاني، كتبَ شعرًا محلِّقًا في الأعالي، مُلوَّنًا وصادِحًا بأهازيجِ الدُّنيا الممراحة فوقَ طينِ الحياةِ، شعرًا شفيفًا من نضارةِ النَّدى، وأطلقَ على ابنته ندى وكأنّها منبعثة من شهقاتِ روحه الظَّمأى لأبهى شموخِ الشّعرِ، وبحثَ عن حرفِهِ بين اخضرارِ الحنطة وأريجِ السَّوسنِ المزدهي حولَ أحواشِ البيوتِ العتيقة، كمَن يبحثُ عن ذهبٍ مصفّى ويشكِّلُ من بوحِهِ قِلادةَ فرحٍ ويعلِّقها في أعناقِ العذارى. صاغَ جموحات شعرِهِ من تأمُّلاتٍ مفتوحةٍ على مساحاتِ المدى المنساب معَ حبورِ البحارِ، عابرًا أقصى تجلِّياتِ انبعاثِ الشِّعرِ، غيرَ آبهٍ بخطورةِ العبورِ إلى أقصى اهتياجِ الأمواجِ، ونقشَ حرفَهُ بكلِّ انتعاشٍ فوقَ وجنةِ الحبِّ وعذوبةِ الموجِ، وهو في أوجِ ابتهالاتِهِ لمعانقةِ خدودِ الشَّمسِ وهي تشرقُ فوقَ عشّاقِ العالم. شعرهُ محبوكٌ من عبيرِ الأحلامِ المزدانةِ بأعشابِ الغاباتِ المستنبتة من خدودِ الرَّبيعِ ونقاوةِ نسيمِ اللَّيلِ المنسابِ فوقَ جباهِ الأطفالِ النَّديّة. مرارًا رقصَ منتشيًا من بهجةِ إشراقةِ الحرفِ على إيقاعِ دفءِ العناقِ، كأنّه في حالةِ غرامٍ معَ كينونةِ الكونِ. شاعرٌ مجنَّحٌ على مساحاتِ حنينِ الأرضِ لتجلِّياتِ السَّماءِ، معجونٌ بحبقِ اليراعِ المتناثرِ من شراعِ القصيدةِ الصّادحة أملًا فوقَ أسرارِ البحارِ، مجذَّرٌ بنقاوةِ أغصانِ الحنينِ المتهاطلِ من أشهى مذاقِ جموحاتِ العناقِ. كتبَ شعرًا شهيًّا معبَّقًا بنكهةِ العسلِ البرِّي، محتبكًا بأسرارِ الرّوحِ التّائهة في مرامي براري الصَّحارى بكلِّ فضاءاتِ سحرها ورموزها وتلالها وجبالها الملتحفة بألغازِ قرونٍ من الزّمان!

تمتازُ فضاءات أُنسي الحاج ببهاءِ الاخضرارِ وخصوبةِ الحرفِ المندَّى بأزهى أريجِ الأزهارِ، شاعرٌ معتَّقٌ بلغةِ التَّجديدِ في بناءِ آفاقِ الغدِ الآتي، متلملمٌ على ذاتِهِ البهيّة، فسيحُ الرُّؤية في مناغاةِ اللُّغة ومساراتِ الخيالِ، صديقُ الصّمتِ والحرفِ والهدوءِ، حاضرُ الفكاهةِ والنّكتةِ والحوارِ ولا تفارقُهُ أصفى القهقهاتِ، هو وشعرُهُ صنوان لا يفترقان، عنيدٌ حدَّ الانبهارِ للوصولِ إلى مراميهِ الشَّاهقة في مناراتِ الحداثةِ؛ شعرًا، وحياةً، وفكرًا، يتناغمُ معَ عالمِهِ الشِّعري والرّوحي والفكري عبر حبر القصيدة، ترجمَ نفسه عبر تجلّياتِ البوحِ دون أن يخشى ردودَ الكونِ، تمتّعَ بجرأةٍ نادرة في مواجهةِ الذّاتِ، غير تابع لأيّةِ جهة فنّية أدبيّة فكريّة، إلّا لفكره وفضائه الخاص به. كتبَ شعرًا مكثّفًا بصورِهِ ومعانيهِ كحبقِ الرّيحانِ ورائحةِ الزَّنبقِ، ونسجَ مسارات حرفِهِ على تماهياتِ بياضِ الغمامِ، كأنّهُ في حالةِ انبعاثٍ في فضاءاتِ حلمٍ سريالي باذخ في تجلِّياتِهِ، مجنّحًا نحوَ أشهى ما في منائرِ التَّجديدِ وبهاءِ اللّغةِ، نابشًا من كنوزِ الحياةِ أبهى ولادات القصائد.

يجمحُ خياله عميقًا في أسرارِ الطَّبيعةِ، ملتقطًا من رحابِ الطُّفولة حبورَ الانبعاثِ، عابرًا في غاباتِ الرُّوحِ المجنّحة نحوَ أعماقِ القارَّات؛ كي يصيغَ قصائده من رحيقِ الأزهارِ المسربلة بحنينِ الأمّهاتِ وهنَّ يبتسمْنَ لآخرِ شهقةٍ في الحياة قبلَ أن يرحلوا إلى زرقةِ السّماءِ، في قلبِهِ تضيءُ بسمةُ الأمِّ، وفي خيالِهِ يموجُ حلمٌ مزنَّرٌ بأرخبيلاتٍ مفتوحة على ضياءِ الأساطيرِ، ناثرًا حرفه المنبعثَ من دماءِ الحنينِ والماءِ الزُّلالِ وصفاءِ الرّوحِ والخيالِ، ليفرشهُ فوقَ خميلةِ الحياةِ هديةً لكلِّ العابرين والعابرات لمعانقةِ حرفٍ من وهجِ الانبهارِ!

اصطفى شوائبَ الحياةِ عبر لغةٍ شاهقةٍ مسبوكةٍ بمذاقِ روحِ الشّعرِ المتلألئة في أهازيجِ العشقِ وهو يفتحُ صدرهُ لزرقةِ السّماءِ؛ كي يصالحَ رعونةَ الأرضِ ويمهّد نتوءاتها معَ سموِّ السّماءِ، مركّزًا على حبورِ الإيمانِ، وصفاءِ الرّوحِ وهي تتطهَّرُ من غبارِ الحياةِ. لملمَ أوجاعَه بهدوءٍ متماهٍ مع طفوحِ القصيدة، وصاغَ تأمُّلاتهُ وحنينهُ وآفاقهُ الرّهيفة فوقَ تماوجاتِ أحلامهِ المنسابة على مساحاتِ اللَّيل، شوقًا إلى أقصى شهقاتِ بوحهِ ليكتبَ حرفًا من مذاقِ الشَّمسِ، حاملًا فوقَ أجنحتِهِ لهيبَ نيران الشّعرِ المقدّس، كان يرى في لهيبِ الشِّعرِ قداسةً متَّقدةً بتجلِّياتٍ في أوجِ إشراقاتها من شهقةِ السّماءِ المتهاطلة فوقَ ضياءِ الحياة.

كتبَ شعره من لجينِ الأحزانِ المعشَّشة في بؤرةِ دنياه، حافرًا معبرًا شاهقًا في بناءِ قصيدةِ القصائد، إلى أن أصبحتِ القصيدة خبزه الشَّهيَّ، متعانقًا مع فضاءاتِ الإبداع الخلّاق بتوهُّجاتٍ عشقيّة نادرة في جموحاتِ الحرفِ. كتبَ شعرهُ كمَنْ يستلهمُ حرفَهُ من غاباتِ النَّعيمِ وحنينِ الحياةِ إلى تلألؤاتِ النّجومِ في أوجِ سطوعِها، لم يُغْرِهِ أي تكريمٍ على وجهِ الدُّنيا، إلَّا بسمة القصائد وهي تناغي روحه الموغلة في هدهداتِ بهاءِ الحرفِ. عشقَ الحرّيّة إلى حدِّ الابتهالِ وهو يدلقُ حرفَهُ بكلِّ شموخٍ في مروجِها الفيّاضة؛ كي يرسمَ أحلامَهُ المتلاطمة مثلَ جموحاتِ البحارِ؛ كي يجسِّدَ رذاذاتِ تبرِه فوقَ أغصانِ الحياةِ، وينثرَها قصيدةً معجونةً من شهيقِ الرُّوحِ فوقَ مروجِ الدُّنيا.

أنسي الحاج؛ شاعرُ الكلمة الحرّة المجنّحة نحو آفاقِ أشهى خصوباتِ الحياة، كتبَ شعرًا من لونِ نسيمِ الصَّباحِ المعبّقِ بقهقهاتِ الطُّفولةِ وصفاءِ البحارِ، وهفهفاتِ زرقةِ السَّماء. لم يُحِدْهُ عن عناقِ القصيدةِ كل إغراءات الكونِ، ظلَّ صديقًا وفيًّا للحرفِ، للعشقِ، للجمالِ، للبهاءِ، لوجنةِ قصيدةٍ مبرعمةٍ من هلالاتِ الحبِّ والوفاءِ والصَّفاءِ. شاعرٌ من مذاقِ تهاطلاتِ الغيومِ، كأنّه رسالةُ فرحٍ منبعثة من مآقي السّماء. صديقُ الطّبيعةِ، صديق الشِّعر والشُّعراء والشَّاعرات، صديقُ الصَّباحِ والمطرِ وتغاريدِ الطُّيورِ، صديقُ فيروز والغناءِ الأصيلِ، صديقُ أدونيس والماغوط والأب يوسف سعيد، صديقُ الأزاهير البرِّيّة والأهليّة،  صديقُ الكون وهو في أوجِ السَّخاءِ، صديقُ الكلمة الممراحة المتناثرة فرحًا فوقَ جموحِ الغاباتِ، صديقُ اللُّغاتِ والحرفِ وشعراء الكونِ. ترجمَ شعرًا من لغاتِ النُّور بأرقى تجلّياتِ الحرفِ، شاعرُ التّناقضاتِ الرّصينة، رقيقُ القلبِ، رهيفُ الرّوحِ وجامحُ الخيالِ إلى حدِّ الإبهارِ، عاشقٌ من شهوةِ الغسقِ. كتبَ خواتيمه بحبرِ الحنينِ، ونقشَ “كلمات كلمات كلمات” بماءِ الحبِّ وخيالٍ مجنَّحٍ نحوَ صفاءِ الغيومِ، استلهمَ حرفه من اخضرارِ السَّنابلِ وبراءةِ الأطفالِ، شاعرٌ من حبرِ المحبّة والحياةِ ونسيمِ الصّباحِ!

أيُّها الشّاعر المجنّح نحوَ تلألؤاتِ نُجيماتِ الصَّباحِ، حرفُكَ -يا أنسي الحاج- يناغي شهوةَ المطرِ، ويسقي حنينَ الأرضِ لحبورِ السَّماءِ، شِعرُكِ هديّةُ عشقٍ تهاطلَتْ علينا من مآقي تجلِّياتِ السّماءِ!

 

ستوكهولم: تشرين الأوَّل (اكتوبر) (2019).

 صبري يوسف

لا يتوفر وصف للصورة.

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نبات‏‏

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نبات‏‏

ــــــــربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏‏نظارة‏ و‏لقطة قريبة‏‏‏‏اسم المؤلِّف: صبري يوسف.عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.- الجزءالأوَّل.
– مقالات نصوص أدبيَّة.- الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).- تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.- صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.- حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.دار نشـر صبري يوسف – [email protected]Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)

حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
  ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏٢‏ شخصان‏، ‏‏بما في ذلك ‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏بدلة‏‏‏‏

يكتب الأديب والتشكيلي السوري#صبري_ يوسف Sabri Yousef..مقالة بعنوان:كيفَ نقودُ الكونَ إلى برِّ الأمان.. أينَ هم حكماء وفلاسفة ومفكِّرو ومبدعو هذا العالم..

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏‏‏وقوف‏، ‏ليل‏‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏‏
كيفَ نقودُ الكونَ إلى برِّ الأمان؟!

أينَ هم حكماء وفلاسفة ومفكِّرو ومبدعو هذا العالم
كي يعالجوا واقع هذا العالم المرير ويعيدوا لكلِّ ذي حقٍّ حقّه؟!
26
لا أرى اهتماماً ملموساً من قبل الدُّول العظمى ولا من قبل الدُّول النّامية ولا حتّى المتخلّفة، بتبنّي الفكر الخلّاق والرُّؤية الخلَّاقة، ولا أرى اهتماماً بتكريم المبدعين والمفكِّرين والفلاسفة في أغلب التّخصُّصات، ولا يتم بالتّالي الاستفادة من خبرات وإبداعات المفكّرين والفلاسفة في برنامج التّنوير والتّطوير في أغلب بلدانِ العالم، ويبدو أنَّ هناك قوى اقتصاديّة خفيّة أحياناً وظاهرة أحياناً أخرى هي الّتي تتحكّم ببرامج الدُّول على الكثير من الأصعدة، وهذه القوى هي الّتي تحدِّد البرامج الّتي تفيدهم هم، ويركّزون على برامجهم الاقتصاديّة ويقودون العالم واقتصاد العالم كما يحلو لهم وكما يفيدهم هم، تاركين الكون برمّته يسير على مزاجهم بطريقة أو بأخرى، وضاربين مبدعين ومفكّري وفلاسفة هذا العالم عرض الحائط، فأين هي التّوجّهات العالميّة في رفد الرُّؤى التَّنويريّة والحضاريّة والإنسانيّة الّتي تقودُ العالم، أين هي برامج الدُّول الكبري في بناء المجتمع البشري إلى أرقى مصاف العالم، أين هي توجُّهات الدُّول الكبرى في مدّ يد العون للدول الفقيرة والنّامية لرفع مستواها نحو أفضل ما لدى هذه الدُّول من امكانيات؟! إنّنا لو ألقينا نظرة فاحصة ودقيقة وعلميّة وعمليّة وتاريخيّة على أغلب دول العالم، نرى أنَّ البشريّة تسيرُ نحو استفحال بوّابات المشاكل والصِّراعات والحروب والمنافسات السّلبية والخراب والدّماء في الكثير من برامج توجّهاتها، بدليل ما نراه من صراعات متفاقمة بين حيتان هذا العالم، وكل هذا ينعكس سلباً على البشريّة ككل، ويعود بالفائدة على نسبة قليلة وقليلة جدَّاً، تكاد لا تشكِّل واحد بالألف من نسبة سكَّان العالم، في الوقت الّذي من المتوجّب على هذه النّسبة الضّئيلة من البشر أن تهتمَّ بالبشر والبشريّة جمعاء، لا أن تفكِّر بنفسها وبأنانيّة قاتلة حتَّى ولو ذهبت البشريّة إلى أعماق الجحيم، لأنّني وبحسب ما أراه على أرضِ الواقع ومنذ مئات السِّنين وربّما إلى أجل غير مسمّى، أنَّ واقع الحياة الّذي نعيشه يسير نحو مستقبلٍ مجهول وغائص في المشاكل والحروب والدّمار والخراب، إلّا قلّة قليلة هي الّتي تستفيد وهي الّتي تتحكَّم في سير الكون والبشريّة، غير مهتمِّين بأرقى نظريات وأفكار التَّطوير والتّنوير، إلّا إذا كان الفكر لمصلحتهم هم، وإلّا فأين هي برامجهم في تطوير بلاد العالم، أليس من الغباء القاتل أن نرى نسبة مخيفة من أراضي العالم غير مستثمرة، ولا تستفيد منها دولها ولا دول العالم، أليس من الخطأ الفادح أن يكون هناك أطنان من الثّروات الباطنيّة والثَّروات البشريّة والجغرافيّة والمياه لا تستفيد من هذه الدُّول، لا بلدانها ولا بلدان العالم، لأنّ برنامج الَّذين يقودون العالم يتطلَّب أن تبقى هذه الدّول أو هذا الواقع على ما هو عليه من خلخلة وتقهقر، كي يتحكَّموا بما يتحكَّموا به ويسيروا نحو أهدافهم ويحقّقوا أنانيَّتهم، ضاربين أغلب البشر عرض الحائط حتَّى ولو تزلزلَ فيهم الكون والأرض والسّماء، ولهذا أنا غير راضٍ نهائيّاً على الواقع الكوني في توجُّهاته المميتة، لأنّه من المفروض أن يستفيد المجتمع البشري من الفكر المستنير والآراء الخلّاقة والنّظريات الحديثة في تطوير وتنوير البلاد والعالم، لا أن يتمَّ تطوير الكون على مزاج حفنة لا نراها ولا نعرف عنها شيئاً، فقط نراها من خلال استنتاجاتنا، فقد درستُ هذه الظّاهرة وعرضتها على مساحات خيالي وفكري وعالمي، فوجدتُ أنَّ هناك قوى خفيّة تتحكّم بالكون منذ زمنٍ بعيد، وما تزال وستبقى تتحكّم بالكون، طالما لا يوجد من يقف في طريق هذه القوى وطالما لهؤلاء الإمكانيات الّتي تخوّلهم التّحكم بالطّاقة البشريّة وبكلِّ موارد العالم، وأرى أنَّ الكونَ مُستعمَر من قبل هؤلاء بطريقة أو بأخرى، ويحتاج إلى التَّحرر من أنياب هؤلاء الّذين يقودون العالم إلى الدَّرك الأسفل، فعلى سبيل المثال أعرض واقع حال: العراق، لبنان، وسوريا كتوضيح لما أنا بصدده. إنَّ اقتصاد هذه الدُّول يكفي لثلاثة أضعاف سكَّان هذه الدُّول، مع هذا أغلبيّة سكّان هذه الدول تتضوَّر جوعاً، ولو أخذنا العراق أنموذجاً، نجد أن أميريكا رأت أنَّ نظام العراق ديكتاتوري، وأرادت بالتّنسيق مع المعارضات العراقيّة وغير العراقيّة أن تطيح بالنّظام العراقي، كي تحقِّق الدِّيمقراطيّة لهذا البلد الدِّيكتاتوري على حدِّ تحليلاتهم وتذرُّعاتهم! طيّب إذا كان العراق في عهد الدّيكتاتور في أوج ديكتاتوريّته وتسلّطه، كان يمتلك ترسانة اقتصاديّة تزلزل أركان الكثير من الدُّول، وكان قادراً أن يطعمَ كل دول الشرق الأوسط باقتصاده، وأتساءل ماذا استفدنا أو ماذا استفاد العراق من الدِّيمقراطيّة الّتي حقَّقتها أميريكا للعراق بالإطاحة بالنّظام العراقي صدّام حسين؟! لقد جلب سقوط الدِّيكتاتور الويلات والحروب والصِّراعات وخلخلة الاقتصاد، إلى أن أصبح الدِّينار العراقي الّذي كان يجابه الدُّولار، أصبح بمستوى التّبن لا أكثر! والسُّؤال المطروح أيُّهما أفضل لو كان العراق تحت سلطة الدِّيكتاتور صدّام حسين ــ مع أنّني كنتُ وما أزال ضدّ ديكتاتوريّة صدّام حسين وضد كل ديكتاريي هذا العالم ــ ومع هذا نتساءل أيّهما أفضل ما بين نظام صدّام الدّيكتاتوري والنّظام الحالي الدّيمقراطي؟! الجواب هو أنَّ نظام صدّام الدِّيكتاتوري كان نظاماً ممسكاً بزمام الأمور بالقوّة بالدّيكتاتوريّة، أو بأي شيء تسمّيه! ولكنّه ــ رغم ديكتاتوريّته ــ كان يؤمّن للمواطن معيشة كريمة جدّاً، بينما في عهد الدّيمقراطيّة العتيدة هبط الدِّينار العراقي إلى مستوى التّبن لا أكثر، لهذا أقول أنَّ الغرب أو أميريكا وما يشبه أميريكا في تحكُّماتها في بلدان العالم، هم كثيرون، وهناك من يتحكَّم في أميريكا نفسها وبالتَّالي نكون أمام حالات تحكُّم مميتة في بلدان العالم، وهذه التَّحكُّمات الخفيّة تارةً والظّاهرة للعيانِ تارةً أخرى هي الّتي تتحكَّم في هذا الكون واقتصاد الكون وتجرُّه إلى منزلقاتِ الجحيم والخراب والدّمار المميت، وما ينسحب على العراق ينسحب على سوريا ولبنان وأغلب بلدان العالم العربي والآسيوي، وكما قلت آنفاً أنا ضدّ الدِّيكتاتوريّات، سواء في الشَّرق أو في الغرب أو في أيَّةِ بقعة في العالم، لكن قضيّة الدِّيكتاتوريَّات لا تعالج بديكتاتوريّات مضادّة للديكتاتوريّات الصّغيرة، لهذا أشدِّد على أنَّ الدِّيكتاتوريات الّتي تقود العالم بطريقة ما عبر تحكُّمها الاقتصادي والسِّياسي الظَّاهر منها والباطن، هي الَّتي يجب أن نقضي عليها ونجد بديلاً عنها، لا أن نقضي على ديكتاتور بإيجاد ديكتاتور أعتى منه بكثير ونحوِّل البلاد إلى حالة فوضى وخراب ودمار على كافّة الأصعدة والعراق ودنيا الشَّرق أنموذجاً، وهناك عشرات بل مئات الدُّول الآسيويّة والأفريقيّة وفي الكثير من دول العالم تعاني ما يعانيه العراق وسوريا ولبنان ومصر وتونس وليبيا والسُّودان والجزائر واليمن وسائر البلاد العربيّة والأفريقيّة، ولهذا لابدّ من إيجاد فريق كبير من الباحثين في شتّى التّخصُّصات ودراسة الواقع السِّياسي الّذي يتحكَّم في العالم ووضع الحلول النّاجعة عبر مؤسَّسات عالميّة لها دساتيرها الفعّالة على تطبيق رؤاها وبرامجها ودساتيرها، وإلّا ستسير البشريّة من واقع مرٍّ إلى أمرٍّ منه عاماً بعد عام وقرناً بعد قرن، إلى أن تصلَ البشريّة إلى منزلقاتِ ما بعدَ الجحيم وما نراه الآن من كورونا وما يماثل كورونا الشّيء الكثير وكل هذا ناجم عن هذه السِّياسات الّتي تتحكّم في قيادة العالم على حساب جماجم البشر! فإلى متى سيكون هناك نسبة من البشر لا تتعدّى ربّما واحد بالألف من العالم أو أقل بكثير هي الّتي تتحكّم بأغلب اقتصاد العالم وبقيّة البشر في وضعٍ يُرثى له، أين هم حكماء وفلاسفة ومفكِّرو ومبدعو هذا العالم كي يعالجوا هذا الواقع المرير ويعيدوا لكلِّ ذي حقٍّ حقّه، ويتم قيادة البشريّة إلى شواطئ الأمان، ويعيش الإنسان بأمان وسلام وهناء وسعادة، بعيداً عن استغلال الإنسان لأخيه الإنسان في شتَّى أرجاء المعمورة؟! إلى متى ستبقى هذه الآمال بعيدة عن التّحقيق وكأنّنا نعيش في عصرِ الكهوفِ، عصرِ القوي يأكلُ الضّعيف، عصرِ الظَّلامِ وشريعةِ الغابات؟! إلى متى سيستمرُّ المجتمع البشري في ضمورٍ فتَّاكٍ في إنسانيّةِ الإنسان، واستفحال القحط الأخلاقي في علاقات بعضِ البشر مع بني جنسهم في هذا الزّمن الأحمق؟!

صبري يوسف

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏‏‏وقوف‏، ‏ليل‏‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏‏
  • ملاك نواف العوام لاطاقة خفية …
    هو الجشع والأنانية التي تنمو. وتكبر تحت ظلال القهر
    وما نحن به

تجليات خيال المبدع الأديب و التشكيلي السوري #صبري_ يوسف Sabri Yousef..عن الفنّان التَّشكيلي #حنَّا_ الحائك.. معجون بشهوةِ الطِّينِ..– من كتاب تجليات الخيال – الجزء الثاني..

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نبات‏‏

الفنّان التَّشكيلي حنَّا الحائك معجون بشهوةِ الطِّينِ

وبهجةِ السَّنابل في أوجِ اخضرارها

حنَّا الحائك

(30)

استقبلتني لوحاته مرارًا من خلال حضوري معارضه الغزيرة الَّتي قدّمها في ستوكهولم، تمايلت بتلات الزُّهور والورد الَّتي قدَّمها الزُّوَّار مع ألوان اللَّوحات الَّتي كانت تناجي الزُّوَّار، كأنَّها تحتفي مع زوَّارها وهي في أعلى تماهياتها مع الكرنفالات الفنّيّة الَّتي ملأت صالات العرض حبورًا وحضورًا طيّبًا يبهج القلوب، عناق دافئ غمرني وهو يرتمي بين أحضاني بضفيرتيه المكتسيتَين ببياض الفرح الآتي، لم تبخل اللَّوحات في فتح صدورها الهائجة بألوانِ شهوةِ الشَّمس وهي متألِّقة في توقِها إلى سماءِ الشَّرقِ، وكأنَّها في حالةِ تأمُّلٍ، تدعو السَّماءَ أن تهطلَ مطرًا فوقَ مروجِ الشَّمالِ المتاخمة للأراضي الَّتي قطعَها كلكامش في أعماقِ البراري؛ بحثًا عن نبتةِ الخلاص!

حنَّا الحائك فنّان تشكيلي معجون بشهوةِ الطِّين، متعطِّش إلى بهجةِ السَّنابل وهي في أوجِ اخضرارِها. تبرعمَتْ في أعماقِهِ منذُ أنْ فتحَ عينيهِ على وجهِ الدُّنيا تلاوين الشَّمالِ؛ شمالِ الرُّوحِ، وشمالِ القلبِ، حيثُ معاولُ الأجدادِ ورائحةُ حضارة معرّشة في أعماقِ الجُذورِ، تنضحُ من كلِّ الجِهاتِ، فتشرّبَ من ينابيعَ متعدِّدة، حتَّى سطعَ لونُهُ معانقًا ضياءَ نُجيماتِ الصَّباح!

لوحات طافحة بالسُّؤال عن الغدِ الآتي، يرسمُ الفنّان حنَّا الحائك لوحاته من وحي خيال مكثَّف بتجربة فنّيَّة معرفيّة فكريّة تاريخيّة حضاريّة رحبة. تجربة اغترابيّة مغموسة بتدفُّقات لونيّة على بياضِ اللَّوحة. يرسمُ كمَنْ يكتبُ تأمُّلاته للزمنِ الغابر، وللزمنِ القادم، كأنّهُ في حالةِ تأمُّلٍ مع ذاتِهِ ومعَ الآخر الَّذي يجاورُهُ ومعَ أصدقاءَ رحلوا وأصدقاءَ سيرحلون. يتساءلُ عبر تشكيلاته اللَّونيّة عن آفاقِ ما يكتنفُ العمرُ من أفراحٍ قليلة وآهاتٍ كثيرة. يرى عمر الإنسان معفَّرًا بالجراحِ، حيثُ تتداخلُ وشائجُ الغربة والعذاب والأمل وشهقاتُ الإبداعِ فوقَ حنينِ بياضِ اللَّوحاتِ، مشكِّلةً انسياباتٍ لونيّة باذخة في الجمالِ والبهاءِ والانسجامِ، كأنّهُ في رحلةٍ بَحْريَّةٍ حُبلى بالأحلامِ.

تنسابُ فرشاتُهُ فوقَ خدودِ اللَّوحاتِ، كأنّها همهماتُ العشاقِ وزقزقاتُ العصافيرِ في صباحٍ باكرٍ مغبَّشٍ بضبابٍ خفيف. كثيرًا ما يبتسمُ ساخرًا من مراراتِ هذا الزّمان؛ لأنّهُ يعتبرُ الحياةَ رحلةً سريعةً فوقَ وجنةِ لوحةٍ مزدانةٍ بتساؤلاتٍ لا تُحصى، فتوزّعَت التَّساؤلات على الكثيرِ من اللَّوحاتِ الَّتي تشيرُ بانجرافِ الإنسان عن مسارِ الخيرِ والمحبّةِ، فهل ابتعدَ إنسانُ هذا الزّمان عن دربِ المنارةِ ودربِ الفضيلةِ، تائهًا في وهادِ الضّياعِ، هل هي مسيرةُ صراعٍ بينَ نوازعِ الخيرِ والشُّرورِ المتنامية في صدرِ الإنسانِ منذُ فجرِ التَّكوين؟!

لوحاتُ الحائك متماهية معَ اشتعالاتِ الرُّوحِ من جرّاءِ تفاقماتِ شرورِ هذا الزَّمان. عينان غاضبتان تشعَّان من لوحةٍ مكوّرةٍ بتجاويفَ هائجة من تفاقمِ الأسى، يبني لوحاتِهِ من خلالِ تراكماتش الجراحِ الوارفةِ في رحابِ الأحلامِ، كأنّهُ مستودعٌ آمنٌ لارتشافِ أحزاننا، حيثُ نراهُ يجسِّدُ فسحةَ الأملِ بطريقةٍ شفيفةٍ منسابةٍ مثلَ نضوحِ النَّدى، فتغدو اللَّوحةُ كأنَّها سيمفونيّة منبعثة من اهتياجِ الرِّيحِ المخضّبةِ بأحزانِ وأفراحِ ليالينا المسترخية فوقَ هاماتِ الجبالِ!

يتراءى وجهٌ كالحٌ، يعلوه سنجابًا في صدرِ اللَّوحة. خيالٌ جامحٌ نحوَ ظلالِ الرُّوحِ، كأنَّهُ يفرشُ أحلامَنا وأحلامَهُ عبرَ لوحاتِهِ المنسابة فوقَ بساتينِ القلبِ، ويسقي دالياتنا المعرّشة ببهجةِ الطُّفولةِ، فتسطعُ فجأةً مشاهدُ بديعة لعناقيدَ لذيذةٍ، متدلدلةٍ في خميلةِ الذَّاكرة، لوحاتٌ تشكيليّة متعانقبعضُها معبعض بشكلٍ بهيجٍ، متناغمة، ترقصُ شوقًا إلى حنينِ التُّرابِ؛ حيثُ بلاد آشور وأكَّاد وسومر وبابل، تسقيها بكرمٍ باذخٍ مياه دجلة والفرات. ألوان دافئة وانسيابيّة، غنيّة بمنعرجاتِها وخطوطِها وظلالِها ومساحاتِها المترامية معَ روعةِ الانسجام. رسمَها الفنَّان بالأكريلِ، فارشًا ألوانَهُ كأجنحةِ فراشاتٍ على بياضِ اللَّوحةِ.

يرسمُ الفنّان حنّا الحائك لوحاته بعيدًا عن ضجيجِ هذا العالم، كناسكٍ معتكفٍ في مرسمِهِ المسترخي وسطَ غابة مكتنزة بالهدوءِ والأشجارِ والزُّهورِ البرِّية. يناغي ألوانَهُ ساعاتٍ طوالٍ وهو يفرشُها على خدودِ لوحاتِهِ، كأنّهُ يسقي سنابل الجّزيرة الخضراء، بهفهفاتِ فرشاتِهِ وهو في أوجِ تجلِّياتِهِ وشوقِهِ إلى ربوعِ اللَّونِ المتناثرِ من توهُّجاتِ الذَّاكرةِ المتعانقةِ معَ ربوعِ الحسكة ومرابعِ الصِّبا في القامشلي وبراري الجزيرة العليا، حيثُ السَّنابل في قمّةِ حنينِها لخشخشاتِ نصالِ النَّوارج.

تحملُ لوحاتُهُ في ثناياها نكهةَ الشَّرقِ ونكهةَ الحضاراتِ الموغلة في تواشيحِ الحدائقِ المعلَّقة في ذاكرةٍ توَّاقةٍ إلى نقوشِ المعابدِ القديمةِ، راسمًا مسلّةً شامخةً في يراعِ الحضارةِ، وفارشًا تشريعاتِ حمورابي فوقَ خارطةٍ متماهية مع حكمةِ ما قبلَ هذا الزَّمان وما بعدَ هذا الزَّمان، لوحات منبعثة من تجلِّياتِ فنَّانٍ منبعثٍ من رحمِ أقدمِ حضارة ٍعلى وجهِ الدُّنيا!

شفافيّةٌ مفرحة تسطعُ من اللَّوحاتِ، تتعانقُ الألوانُ مشكِّلةً نهرًا عذبًا، تطيرُ فوقَهُ حمائمُ السَّلامِ، وطفولةٌ مخضَّبةٌ بمروجِ الأوَّلِ من نيسان؛ حيثُ بهجة الرَّبيع والأعياد تغمرُ معابرَ اللَّوحاتِ وهي ترقصُ رقصةَ الرَّحيلِ على إيقاعِ أحلامٍ متشظِّيةٍ من ظلالِ القلبِ؛ بحثًا عن غابةٍ فسيحةٍ، محفوفةٍ بألوانٍ متماهيةٍ معَ موشورِ فرحِ السَّماءِ، عندما يرتسمُ فوقَ قبّةِ النَّهارِ في يومٍ مضمَّخٍ بسديمِ الخيرِ!

هل رسمَ الفنّان حنَّا الحائك لوحاته في اللَّيالي القمراء وهو يرنو إلى تلألؤاتِ النُّجومِ؛ حيثُ نجمةُ الصَّباحِ تبوحُ بسرِّها إلى ظلالِ القمرِ من خلالِ تشكيلاتِ أوجاعِ الرُّوحِ المتغلغلة في أعماقِ غربةِ الفنّانِ، وهو يرسمُ أبراجَ بابل تتهاوى فوقَ طغاةِ هذا الزَّمان وفوقَ انكساراتِ أرواحِ أجيالٍ عديدة، طحنتْها حروبٌ مجنونة، شنّها مهابيلُ من هواةِ صليلِ السّيوفِ واندلاعِ أجيجِ النَّارِ، فلم يجدْ أجدى من رشْرَشْةِ ألوانِهِ الهائجة فوقَ قباحاتِ جنوحِ الصَّولجان؟!

عندما تتأمَّلُ لوحات الحائك، تشعرُ وكأنَّ دموعه امتزجَتْ مع حفاوةِ الألوانِ وتناثرَتْ فوقَ خدودِ الصَّباح، مشكِّلةً خيوطًا من الغمامِ. هل وشَّحَ بريشتِهِ التِّلالَ البعيدة بأحلامِ غيمةٍ ماطرةٍ تتهاطلُ فوقَ عاشقَين وهما في طريقِهِما إلى الارتماءِ فوقَ أزاهير براري الشَّمالِ، الَّتي خبَّأها بينَ أجنحتِهِ قبلَ أنْ يعبرَ البحارَ، وكأنَّهُ في حلمٍ مفتوحٍ نحوَ بيادرِ الطُّفولة.

سألْتُ طفلةً تنظرُ إلى لوحةٍ تبتسمُ ألوانُها المفرحة، رغمَ تناثرِ قطرات الدَّم على ضفافِ النَّهرين: ماذا تشبه هذه اللَّوحة؟

ابتسمَتِ الطِّفلة، ثم قالَتْ بصوتٍ خافت: إنَّها تُشبهُني! أجل؛ تُشبهُ بسْمَتَكِ، ثمَّ همسْتُ في سرّي، متسائلًا: كيفَ استطاعَتْ هذهِ اللَّوحة أن تضيءَ لنا بسمتها وفي حلقها غصّة حارقة؟!

لوحاتُ حنَّا الحائك ممهورةٌ بالأملِ، بالبسمةِ، بالمحبَّةِ، بالوداعةِ، بالوئامِ، لكنّها تغفو فوقَ أحزانِ المدائنِ واشتعالاتِ أوتارِ الحنينِ إلى انسيابِ الدُّموعِ الأخيرة، كأنّها تبحثُ عن المآسي المخبّأة في تعاريج ظلالِ الرُّوحِ. تنبشُ أعماقَ آهاتنا؛ كي تخفِّفَ من جراحِنا من خلالِ وميضِ الأملِ الَّذي ينثرُه الفنَّانُ فوقَ جبينِ اللَّوحاتِ.

بهدوءٍ لذيذٍ تمتَّعْتُ بمشاهدةِ الكثيرِ من لوحاتِ الحائكِ، كلُّ لوحةٍ تزرعُ في نفسي حالةً فرحيّةً، وتفجِّرُ بي حنينًا جامحًا نحوَ ضفافِ ذَاكرةٍ مخضَّبةٍ بالنَّفلِ والحجلِ البرّي، وتفجِّرُ لوعةً، شوقًا، فكرةً تنيرُ آفاقًا وتفتحُ شهيَّتي على كتابةِ القصائد.

تخلَّلَتِ اللَّوحاتُ مواضيعَ عن السَّلامِ والتَّآخي والجنوحِ نحوَ الصَّفاءِ والفرحِ والمحبَّةِ والتَّواصلِ بينَ البشرِ، عبرَ سيمفونيّة لونيّة معتَّقة بألوانٍ مسترخية على حافَّاتِ المدنِ البعيدة، الغافية في ذاكرةِ الفنَّان.

أغلب لوحات الحائك تجريديّة، متداخلة تداخُلًا لونيًّا باهرًا. اخضرار متصاعد نحو ليالي غربة الفنَّان، بحثًا عن تصالحِهِ معَ الذَّاتِ ومعَ الحياةِ، لخلقِ حالةِ توازنٍ بينه وبين الذَّاتِ التَّواقة إلى مرافئِ الإبداعِ، وإلى حالاتِ الانشطارِ الَّتي حلّتْ بنا منذُ أمدٍ بعيد.

الفنَّان حنَّا الحائك غزيرُ الإنتاج، نادرًا ما تجدُهُ خارجَ مرسمه، يعتكفُ ساعاتٍ طوال في مرسمِهِ. يدلقُ ألوانَهُ على خامةٍ بيضاء متعطِّشة إلى أحلامِهِ الهائجة مثلَ غيمةٍ مكتنزةٍ بثلوجِ قطبِ الشَّمال. لا يستطيعُ مفارقةَ عالمِهِ الفنِّي، أنَّه جنّته المفتوحة على غاباتِ ستوكهولم، يتوحَّدُ معَ عوالمِهِ ليقدِّمَ للمشاهدِ رحيقَ تجربتِهِ وصداقتِهِ معَ انتعاشاتِ بهجةِ اللَّونِ.

يتميَّز الحائك بألوانِهِ الغنيَّة الدَّافئة الهائجة المنسابة كخريرِ مياه دجلة والخابور، وقدرته على إبداعِ أسلوبٍ خاصٍّ بهِ. ويبدو واضحًا من خلالِ مشاهدةِ لوحاتِهِ أنّهُ خطى خطوات كبيرة في عالمِ اللَّونِ وتشكيلِ اللَّوحةِ واضعًا في تضاريسِها عوالمه المتراقصة مثلَ سنابلِ الرَّبيعِ، فلا يفوتُهُ أنْ يرسمَ ببهجةٍ عارمةٍ، كمَنْ يرقصُ في حفلٍ ممهورٍ بالأفراحِ. تذكِّرُكَ لوحاتُهُ بتحليقِ الطُّيورِ في بداياتِ الرَّبيعِ، وكأنّهُ في كرنفالٍ فنِّي يحتفي بتزاوجِ الألوانِ، وهي تحنُّ إلى بعضِها. ألوانٌ خارجة من بسمةِ طفلٍ في صباحٍ مبلَّلٍ بمطرٍ ناعم.

يرسمُ الحائك كمن يصلِّي في محرابِ ناسكٍ وهبَ نفسه لتجلِّياتِ اللَّونِ وهو يهفو إلى حنين الرُّوح لبهجةِ السَّماء! .. ويكتبُ الحائك بعد الاسترخاءِ من رحلاتِهِ اللَّونيّة، نصوصًا نثريّة تتقاطعُ معَ عوالمِ الشِّعرِ، أشبَهَ بخواطر شعريّة وتأمُّلات متدفِّقة من انتعاشاتِ بهجةِ اللَّونِ وحنينِ الأرضِ إلى مرافئِ الذَّاكرة البعيدة، فيترجمُ ما يطفحُ من الألوانِ على نصاعةِ الورقِ، فتكتملُ عندَهُ معادلةُ عناق الكلمة معَ اللَّونِ، كأنّهما وجهان لعشقٍ واحد يصبُّ في أوجِ تألُّقِهِ، في انبعاثِ ما يمورُ في داخلِهِ من تدفُّقاتِ وهجِ الإبداع!

 

ستوكهولم: (2015).

صبري يوسف

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏نبات‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏

لا يتوفر وصف للصورة.

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‏نبات‏، ‏منظر داخلي‏‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏

ــــــــربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏‏نظارة‏ و‏لقطة قريبة‏‏‏‏اسم المؤلِّف: صبري يوسف.عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.- الجزءالأوَّل.

– مقالات نصوص أدبيَّة.- الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).- تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.- صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.- حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.دار نشـر صبري يوسف – [email protected]Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)

حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
  ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏٢‏ شخصان‏، ‏‏بما في ذلك ‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏بدلة‏‏‏‏

تجليات خيال المبدع الأديب و التشكيلي السوري #صبري_ يوسف Sabri Yousef..عن الشاعر السوري #أدونيس .. القامة الأدبيَّة النقديَّة الفكريَّة التنويريَّة الراقية ..– من كتاب تجليات الخيال – الجزء الثاني..

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏نبات‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نبات‏‏
أدونيس قامة أدبيَّة نقديَّة فكريَّة تنويريَّة راقيةيحتكم إلى العقل والفكر النَّقدي والآراء الخلَّاقةأدونيس

(29)

أدونيس ظاهرة إبداعيّة فريدة ونادرة من نوعها، ولن تتكرَّر في دنيا الشَّرق والعالم العربي بهذه الرُّؤية التّحليليّة الشّموليّة العميقة، وقد تشرَّبَ بثقافة أدبيّة وفكريّة تنويريّة عالية، وضعَ يدَهُ على الجراحِ الغائرة بدقّةٍ عالية، ووجدَ لها الحلول النَّاجعة مقارِنًا واقع الحال في الشَّرق العربي بواقع الحال الغربي والعالمي، فقد درسَ بتمعُّنٍ وتمحُّصٍ التّاريخ العربي على امتدادِ قرونٍ من الزَّمان، وحلَّلَ أسباب تخلُّفه وتقهقره، وأوجدَ من خلالِ دراساته وتحاليله الكثير من الأفكارِ والمقترحات الَّتي تساعدُ على التَّخلُّصِ من الواقعِ المزري الّذي يمرُّ فيه المجتمع العربي، مركّزًا على ضرورةِ فصل الدِّين عن الدَّولة؛ حيثُ أثبتَتْ كلّ التّجارب العالميّة في الشَّرقِ والغربِ وكل جهاتِ الأرضِ أنّ فصلَ الدِّين عن الدَّولة من أولى أولوياتِ بناءِ مجتمع مدني قائم على المؤسّساتِ الدِّيمقراطيّة الّتي تُسهم في ترسيخِ العدالةِ والمساواةِ وتُعمِّق الرُّؤية التّنويريّة إلى مساحاتٍ أرحب في شتّى المجالات، مؤكّدًا على أنَّ علاقةَ الإنسان المؤمن في أيِّ دينٍ من الأديانِ هي معَ الخالقِ؛ معَ اللهِ، معَ السَّماءِ، معَ عالمِ الغيبِ، بينما علاقته فيما يخصُّ الأرض والحياة الأرضيّة هي علاقةُ مواطن بقانون وأنظمة ودساتير ومؤسّسات تضمنُ حقوقَ جميع المواطنين، بعيدًا عن تدخُّلاتِ الأديانِ كلّ الأديان، وتصبحُ في هذه الحالة علاقةُ المواطن معَ المجتمعِ عبر دستور يحميه ويعطيه حقّه، بغضِّ النّظرِ عن دينِهِ ومذهبه وطائفته.

يُعَدُّ أدونيس ومَنْ يحملُ هكذا أفكار تنويريّة، طفرات إبداعيّة خلّاقة تُسهمُ إلى حدٍّ كبير في استنهاض البلاد من حالةِ الجمودِ والتّخلّفِ والتَّعصُّبِ الَّتياستشرت فيها، ولكن للأسفِ الشّديدِ، لا تستفيدُ المؤسّسات الثّقافيّة في العالم العربي من هكذا طفرات ورؤية فكريّة خلّاقة! فقد ظلَّتْ تتبنّى رؤية جامدة وأفكار متخلِّفة وهشّة؛ لا هي دينيّة في المطلق ولا هي ديمقراطيّة، رؤية ضبابيّة سرابيّة قلقة وغير دقيقة في تحقيق أهدافها؛ لأنَّ تطلّعاتها – رغم ضيق رؤيتها – على الورقِ شيء، وعلى أرضِ الواقع شيءٌ آخر، وكل هذا جعلَ هذه البلدان تسيرُ نحوَ المزيدِ من التّيهِ والضّياعِ والصّراعِ والاحترابِ معَ نفسِها كمَنْ يقتلُ نفسَهُ بنفسِهِ، لهذا نرى العالم العربي متخلِّفًا ومخلخلًا وغائصًا في حروبٍ ومتاهاتٍ وصراعاتٍ ووَهْمٍ كبير، وسيبقى متخلّفًا إلى أمدٍ طويل؛ما دام لا يحملُ رؤية تنويريّة وحداثويّة ونقديّة تغييريّة في برامجِهِ الثّقافيّة والفكريّة والحياتيّة الّتي أكّدَ عليها أدونيس وغيره من المفكِّرين التّنويريِّين، وما دام لا يتبنّى العالم العربي فكرة التّحديث والتّطوير والتّنوير ولا يأخذ بعينِ الاعتبارِ آراء المبدعين والمفكِّرين الكبار، أمثال أدونيس وغيره من المفكِّرين الّذين يحملون رؤية نقديّة تحليليّة عميقة في تغيير البلاد والنّهوض بها إلى مصاف الدُّول الرَّاقية، لهذا ظلَّ وسيظلُّ الفكر السَّائد في العالمِ العربي لدى الأغلبيّة رؤية جامدة ومنغلقة وغير مستنيرة. والغريب بالأمر أَنَّهُ لم يتّعظ العالم العربي ممّا مرَّ به الغرب من حروبٍ عالميّة وصراعاتٍ كارثيّة مميتة، ولم يأخذ ما قاله أدونيس وما قاله المفكِّرون والمبدعون الكبار في دنيا الشَّرق ودنيا الغرب بجدّيّة ولا بأيِّ اهتمام، لهذا نرى كيفَ ينحدرُ العالم العربي عامًا بعدَ عامٍ نحوَ الدّرك الأسفل؛ لأنّهُ يعتمدُ على رؤيةٍ جامدة، تزدادُ انزلاقًا نحوَ أسفلِ السَّافلين، رؤيةٍ متخلّفةٍ وغير قادرة على تلمُّسِ وتبنِّي الأفكار الخلّاقة. وأرى أنَّ أدونيس ومَن يحملُ رؤية أدونيسيّة ويتبنّى الأفكار المجنّحة نحوَ التَّنويرِ والحداثةِ هم مَن ينقذون الشَّرق والعالم العربي ومَن يعيشُ في كنفِهم من كلِّ هذا السَّوادِ القاتم والتّخلُّف المريع الّذي بدأ يهمينُ على أغلبِ مفاصلِ الحياةِ، واستشرى فيه فتيل التّخلّفِ والصِّراعاتِ المريرةِ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، وكل هذا قادهم إلى طُرقٍ مسدودة نحوَ أعماقِ متاهاتِ الجحيم. هل وجدتم جحيمًا في العالمِ أكثر ممّا نراه الآن في دنيا الشَّرقِ الغائصِ في حروبٍ وصراعاتٍ مجنونة بلا نهاية؛ لما لديهم من مواقف هزيلة في صراعاتِهم المريرة، ويبتعدونَ عن تبنّي رؤية خلّاقة، وتنويريّة، وحداثويّة، رغم كل ما يمتلكُ الشَّرقُ من إمكانيّاتٍ نفطيّة وغازيّة وبشريّة وأرضٍ خصبةٍ وأنهارٍ ومياهٍ ومعادن وطاقات كبيرة من المواردِ والخيراتِ! ومن المؤلم والمؤسف جدًّا أن تتوفَّرَ كل هذه الإمكانيّات الكبيرة، ولا يستفيدَ منها المواطن ولا تستفيدَ منها البلاد العربيّة، بل تزِجُّ سياسات هذه البلاد الكثير من هذه الطّاقات والإمكانيّات في حروبٍ طائشة ومدمِّرة بشكلٍ مريع، وتحوِّل هذه النِّعمة إلى نقمةٍ وكابوسٍ فوقَ رقابِ البلاد!

أندهشُ جدًّا، كيفَ لا يستغلُّ المجتمع الشَّرقي والعربي فكر أدونيس وآفاق من يشبه أدونيس في الحداثةِ والتّنويرِ، ولا يتبنّى الفكر الخلّاق، لبناءِ مجتمع قائم على الحرّيّة والعدالة والمساواة، تتساوى فيه المرأة معَ الرّجل، ويبنيان معًا حضارة الشَّرق الّتي كانت مهدَ الحضارات ومهدَالحرفِ الأوَّل؟! لقد جذبني فكر أدونيس منذ أن قرأتُ تحاليله النّقديّة في كتابِهِ الرَّصينِ الثَّابتِ والمتحوِّلِ، وقرأتُ أشعاره وأفكاره وآفاقه الرّحبة، واستمعتُ إلى أغلبِ اللِّقاءاتِ الّتي أُجريَتْ معَهُ عبرَ اللّقاءاتِ التِّلفزيونيّة والنَّدوات، وتمَّ بثّها عبر الفضائيّات ومحفوظة في الشّبكة، وأفادني كثيرًا ما يقدِّمه من آراء نقديّة تحليليّة راقية، وقد حرَّضني أدونيس على التّمرُّدِ حتَّى على ذاتي؛ ولهذا، وجدتني -وهذا من طبعي أصلًا- أجنح يومًا بعدَ يومٍ نحوَ تبنّي الفكر التّنويري والعلمي والحداثوي؛ لأنّه هو الفكر الخلّاق الّذي يجعلنا في حالة تطوُّر دائم، وقد اِصْطَفْتُ رؤاي هذه منذ أن تخصَّصْتُ في الفلسفة والعلوم الاجتماعيّة، ووجدْتُ أنَّ الفلسفة والعلوم الإنسانيّة هي الّتي تبني المجتمع الإنساني وليس الأديان والرُّوحانيّات؛ لأنَّ علاقة الإنسان عبر الأديان هي مع السَّماء والله والرّوحانيات، لهذا وجدتني متناغمًا معَ طروحاتِ أدونيس وكل المفكِّرين العلمانيِّين في الشَّرقِ والغربِ، وأستغربُ جدًّا عندما أرى بعض الكتّاب والنّقاد يقفون ضدّ طروحات أدونيس، ويعاتبونه أو يخالفونه في الرّأي بحدّيّة وسلبيّة ممجوجة وغير منطقيّة حولَ بعضِ أو أغلبِ طروحاتِهِ، ورأيتُهُ عبر الحوارات واللِّقاءات الّتي أُجْرِيَتْ معه، منفتحًا على الآخر، ويتقبّلُ النّقد برحابةِ صدر ويعتبرُ الاختلاف في الرَّأي ظاهرة صحّيّة وضروريّة، وينتظرُ مَنْ يختلفُ معَهُ في الرّأي؛ كي يتناقشَ معه ليصلا معًا إلى رؤية متقدّمة عن رؤيةِ أدونيس نفسه، فأنا أؤمن بأنَّ الحياةَ والفكرَ الإنساني في حالةِ تطوُّرٍ دائم،ولايوجد فكرٌ ثابتٌ وغير متحوّل، دائمًا يكتشفُ الإنسانُ أفكارًا جديدة ومتطوّرة إلى ما لا نهاية، وحالما يتوقّفُ المرءُ عندَ خطٍّ معيَّنٍ وفكرٍ معيّنٍ؛ يصبحُ جامدًا وغير قابل للتطوير؛ لهذا، يتوجّب أن نُخضعَ كلّ الأفكار للنقاشِ والحوارِ والتّحليل؛ لأنَّ هذه التّحاليل والنّقاشات والحوارات الرّصينة المبنيّة على المنطقِ العلمي والعدالة والمساواة والدِّيمقراطيّة ستصبُّ في أرقى ما يمكنُ أن يصلَ إليه الفكر الإنساني الخلَّاق، لا أن يأتي ناقدٌ من هنا وكاتبٌ من هناك ويبقى ضدّ ما يطرحه أدونيس من دون أي وجه حق، ومن دون أي تعليل أو تبرير أو تحليل دقيق ومقنع، لمجرّد أنّ أفكار أدونيس لا تعجب هذا أو ذاك، ولستُ هنا في وارد أن يعجبنا أدونيس أو غيره من المبدعين والنّقاد والمفكِّرين، بقدر ما أنا بصددِ محاججة أفكار أدونيس نفسه؛ نناقشه الحجّة بالحجّة، بطريقة علميّة حضاريّة إقناعيَّة، بحيث يَخضعُرأي أدونيس نفسه ورأي مَن يخالفه للتَّصويبِ الدّقيقِ والتّحليلِ العميقِ، على أن نطرح أنفسنا أمام حالة مَن يُقنعنا أنّه هو الَّذي على صواب، فما يطرحُهُ أدونيس هو رأي مفتوح للنقاش والنّقد والتّحليل، وهو في طروحاتِهِ يطالبُ مَن يستطيعُ إقناعه على أنّهُ على خطأ فليتفضّل بمقترحاته وتحاليله؛ لأنّ أدونيس نفسه لا يعتبرُ كلامه وطرحه وفكره نهائيًّا وقاطعًا، بل يعتبرُ نفسه أنّه يجتهد ويقدِّمُ وجهات نظر نقديّة وتحليليّة لما يراه، وأرى أنَّ آفاق رؤاه تصبُّ في استنهاض البلاد، وانتشال البلاد من الحالة المزرية الّتي يمرُّ بها عالمنا العربي الانغلاقي؛ لأنّه يمتلك فكرًا حرًّا ومستقلًّا ورؤيته ناجمة عن تحليل دقيق وتشخيص عميق لما مرَّ به العرب من حالة تخلّف وتقهقر، والواقع العربي يؤكّد دقّة تحاليله ورؤاه في كلّ ما قاله وحلّله، فيما يخصُّ نقد الفكر العربي، والحالة الرَّاهنة، ومنذ زمن بعيد وضع أدونيس يده على الجراح الّتي يعاني منها الواقع العربي والجمود الفكري الّذي نراه مسلَّطًا على السّاحة دون تحليلٍ عميق ودون إخضاعه للنقدِ الرّصين، وجاء أدونيس وغيره من المفكِّرين ووضعوا مشارطهم على التَّخلّفِ الّذي تعاني منه البلاد؛ كي يستأصلوا كل ما يعيق تقدُّم البلاد، سيرًا نحوَ مرافئ الحضارة؛ كي يعيدوا لهذهِ البلاد مجدها التّليد، بلاد الأبجديّة الأولى في العالم.

أدونيس قامة أدبيّة نقديّة فكريّة تحديثيّة راقية إلى أقصى منارات الرّقي، يحتكم إلى العقل والفكر النّقدي والآراء الخلّاقة، بعيدًا عن أيّة تعصُّبات دينيّة مذهبيّة قوميّة، مركّزًا على الإنسان بكلِّ ما يحملُ من آفاقٍ حضاريّة وتنويريّة راقية، وهو قامة إبداعيّة شاهقة كجبالِ الحبِّ والفرحِ والخيرِ والجمالِ، يتهاطلُ بأفكارهِ علينا مثلَ غيمةٍ حُبلى بالمطر، شاعر ومفكِّر راجح الذّهن وعميق الرُّؤية بتحاليله وآفاقِ رؤاه وحرفه ونقده؛ لما يمتلكُ من بصيرة نافذة وناقدة لقراءة التّراث العربي وتقويمه ورسم ملامح المستقبل بشكلٍ أفضل ممّا يعاني منه الواقع العربي من تناقضاتٍ في الرُّؤية ومن تشرذمٍ وتصارعٍ وانحدارٍ، ولا بدَّ من تجاوز مآسي وصراعات وخلافات العالم العربي من خلالِ إيجاد رؤية جديدة تناسب تطوّرات العصر؛ لأنَّ التّغيير والتّنوير هو أساس تقدُّم المجتمع البشري؛ لذا، نرى أدونيس يحلّق فوقَ منائر التَّطوير وأهازيج اللّيل الحنون، متناغمًا ومنسابًا مع هدهداتِ نسيم الصَّباح كأنّه صديق الطّبيعة والبحر والغربة والشّعر والمرأة والأعشاب البرّيّة والأهليّة. ينسجُ حرفه من بؤرةِ العقلِ والحكمةِ والنَّقدِ البنّاءِ، منطلقًا من منطقِ العلمِ المستندِ على تطويرِ كل مناحي الحياةِ، من خلالِ تطلُّعاتِ آفاقِهِ الخلّاقة. يُشبهُ أدونيس شجرة وارفة الاخضرار والظَّلال، يغدقُ عطاياه الطّيّبة فوقَ الجميعِ؛ كي تبقى رؤاه مرجعًا تنويريًّا لهذهِ الأجيال والأجيال اللّاحقة قبلَ أن يرحلَ عاليًا نحوَ قبّةِ السّماء!

أتساءَلُ بكلِّ آهاتِ السُّؤال: إلى متى سيتجاهل العالم العربي تطلُّعات وآفاق المفكِّرين والمفكِّرات والمبدعين والمبدعات، ويظلُّ الواقع العربي وما يجاوره وما فيه من إثنيات وقوميات في حالةِ تخلْخُلٍ وانحدارٍ كأنّنا نعيشُ خارجَ الزّمن أو نعيشُ في عصرٍ أشبهِ ما يكونُ بعصرِ الظّلمات، في عصرٍ أقرب من الخرافاتِ منه إلى أيِّ شيء آخر؟!

 

ستوكهولم: أيلول (سبتمبر) (2019).

لا يتوفر وصف للصورة.

  لا يتوفر وصف للصورة.

  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏‏نظارة‏ و‏لقطة قريبة‏‏‏‏اسم المؤلِّف: صبري يوسف.عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.- الجزءالأوَّل.

– مقالات نصوص أدبيَّة.- الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).- تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.- صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.- حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.دار نشـر صبري يوسف – [email protected]Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)

حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نبات‏‏
  لا يتوفر وصف للصورة.ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏٢‏ شخصان‏، ‏‏بما في ذلك ‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏بدلة‏‏‏‏

 

تجليات خيال المبدع الأديب و التشكيلي السوري #صبري_ يوسف Sabri Yousef..عن المغنِّية الأوبراليَّة اللّبنانيَّة الدكتورة#هبة_ القوَّاس ..هبةُ السَّماءِ إلى الأرضِ..– من كتاب تجليات الخيال – الجزء الثاني..

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏
المغنِّية الأوبراليَّة اللّبنانيَّة د. هبة القوَّاس هبةُ السَّماءِ إلى الأرضِ،

غنَّتْ بكلِّ ابتهالٍ حبورَ الأرضِ لمجدِ السَّماء!

هبة القوَّاس

(27)

المغنِّية الأوبراليّة اللّبنانيّة المدهشة هبة القوّاس ابنة صيدا، المتعانقة مع نسيمِ البحرِ المعبّق برائحة اللّيمون وأريجِ الورد الجوري، قمّطَتِ الموسيقى روحَها منذُ أن تبرعمَتْ على وجهِ الدُّنيا، وتغلغلتْ الأنغامُ في مساماتِ كينونتها، فتشرَّبتْ آفاقُها بأعذبِ الألحانِ إلى أنْ أصبحَ قلبها بحيرةَ فرحٍ وحنينٍ، يناغي ابتهالاتِ أشهى وأرقى بدائعِ الموسيقى. حالةٌ نادرةٌ في سموِّ ذائقتها الفنّيّة وقد تمكَّنَتْ حفاوةُ الموسيقى الّتي تحلَّتْ بها منذُ طفولتِها أن تمحقَ آثارَ الحرب اللِّبنانيّة بكلِّ أوجاعها، وبدَتْ لها الحرب وكأنّها لعبة، رغم الخوف الهادر المنبعث من حالات الحرب الَّتي شاهدتها، مع هذا تأقلمت مع هدير الحروب وأزيز الرّصاص، فكانت الموسيقى بلسمَ الرّوحِ وقارب النّجاة الّذي حملها إلى أقاصي الدُّنيا؛ لأنَّ هذه الفنَّانة تمتلكُ طاقات روحيّة فنِّية إنسانيّة كونيّة؛ هذه الطّاقات متشرّبة بالمحبّةِ والصَّفاءِ والسَّلامِ مع ذاتِها ومعَ الكائناتِ وكلّ من حولها، وكلّ هذا ساعدَها على تفادي وطمسِ أثر الحروب، ووجدَتْ في فضاءاتِ الموسيقى والغناءِ والإبداعِ ملجأً مناسبًا لتجلّياتِ عوالمها الطّافحة في أرقى صنوفِ العطاءِ الخلّاق.  

استقبلتْ الفنّانة هَدهداتِ أمواجِ البحرِ وهي طفلة، مجنّحة نحوَ تغريدِ البلابل وهبوبِ النَّسيمِ وهمهماتِ الطَّبيعة بكلِّ تجلِّياتِها المورقة بالاخضرارِ، فأصبحَتِ الموسيقى سلوتها ولعبتها المفضَّلة منذُ باكورةِ العمرِ. كانت غرفة نومها تطلُّ على البحرِ، تستنشقُ حنينَ البحرِ،وأزاهيرُ الفرحِ الفوّاحة تنبعثُ من أجواءِ المكانِ. تقضي معظمَ أوقاتها في قراءةِ الشِّعرِ والأدبِ والنُّصوصِ الفنِّيّةِ والإبداعِ بمختلفِ أجناسِهِ، فارشةً ألوانَها، ترسمُ تارةً وتعزفُ على البيانو طورًا، غير مبالية بدخانِ الحروبِ ولا بصراعاتِ هذا وذاك، مركِّزةً على تجلِّياتِ الموسيقى الَّتي كانتْ تنعشُ روحَها وتصفّي قلبَها من أنينِ الجراحِ المرافقةِ لخرائطِ الشَّرقِ المريرِ في تشظِّي جموحاتِه نحوَ تصدُّعاتٍ لا تخطرُ على بال، فكانت الموسيقى ينبوعَ فرحٍ وعناقٍ لفضاءاتِ حنينِ الرُّوحِ روحِها، وبلسمًا منعشًا لما تواجهه من شراهاتِ ضراوةِ الانكسار!

تنامى في كينونتِها شغفُ الحرفِ والصَّوتِ واللَّونِ وهدهداتُ الألحانِ، ووجدَتْ متعةً غامرة في هذهِ الاهتماماتِ منذُ سنواتِها الأولى. كائنة متفرّدة منذُ أن تشكَّلَتْ جنينًا مميَّزًا في رحمِ أمِّها، حتّى أن كيفية حملها في أحشاءِ أمّها جاءت بطريقةٍ أشبهُ ما تكونُ أسطوريّة؛ طريقة روحيّة دينيّة عجائبيّة، وقد صرّحتْ بهذا التَّصريح في سياقِ حوارٍ معها، كيف حَبِلَتْ بها أمّها بعد انتظار (17) عامًا لمولودٍ، وبعدَ كلّ هذا الانتظارِ نصحتها إحدى النِّساء كي تنذرَ نفسها للسيِّدة مريم العذراء؛ لعلَّها تستجيب العذراء لنذرها وتنجبُ مولودًا من بركاتِها، فذهبَتْ حافية القدمين إلى مزار السَّيّدة مغدوشة في صيدا، مع أنَّ الوالدة مسلمة، ذهبت إلى مزارٍ مسيحي وهذا من جماليات الشَّعب اللِّبناني، ذهبتْ حافية؛ لأنّها منذورة، وكي يتقبَّل نذرها، وطلبت من السَّيِّدة العذراء أن تحلَّ عليها بركاتها، وفي اليوم الثّاني ظهرت لها السَّيِّدة العذراء في الرُّؤية وهي ترتدي ثوبًا أبيضَ وبيدها مسبحة وسطل ماء، وقالت لها: ستحبلين وتلدين ابنة تسمّينها “هبة الله”؛ لأنّها هبة من الله! وتراءت الرّؤية بنفس الوقت لجدّها، فجاء جدّها وقال لأمِّها: لقد ظهرت لي السَّيِّدة العذراء في الرُّؤية وبشَّرتني أنّكِ ستحبلين بابنة وتسمِّينها هبة الله، فقالت له: لقد ظهرت لي قبل أن تظهرَ لك. يبدو أنّها ظهرت لكليهما معًا، وفعلًا حَبِلتِ الوالدة وولدتني وسمّتني هبة الله؛ هبة من الله لأمِّي!

تفوَّقتْ الفنّانة هبة القوَّاس في دراستها منذُ أن خطَتْ خطواتها الدّراسيّة الأولى، فهل حلَّتْ عليها بركات السَّيِّدة العذراء، بعد أن زَرَعَتْ والدتها في آفاقِها حبَّ القراءةِ والرّسمِ والموسيقى وأرقى أنواعِ الغناء، فتعرَّشتْ هذه الاهتمامات في قلبِها وروحِها، فتنامى شغفُها العميق بالإبداعِ وترسّخَ في رؤاها وتطلُّعاتِها وهجُ الاكتشافِ والطّموحِ وتحقيقُ الأحلامِ الشّاهقة في كلّ مراحلِ دراساتها؛ ابتداءً من دراساتِ المرحلة الأولى والمتوسّطة والعليا، وتابعَتْ تصقلُ مواهبها دراسيًّا وعمليًّا إلى أن وصلَتْ إلى تحقيقِ أقصى طموحاتِها ضمنَ برنامج متدرّجٍ ومؤسَّسٍ على أسسٍ متينة وبدراية عالية للوصول إلى الأهدافِ المأمولة.

تمتلكُ الفنّانة موهبةً غير طبيعيّة في الكثيرِ من الأجناسِ الفنّيّةِ الإبداعيّةِ، كما أنلديها طاقة رهيفة في رحابِ العطاءِ والتّألقِ والطُّموحِ والنّجاحاتِ المبهرة على أكثرِ من صعيدٍ إبداعي، كأنّها معجونة من روحِ العطاءاتِ الخلّاقة، يكتنفُها طاقة رصينة في استمراريّتها على التَّدريبِ على الألحانِ والعزفِ والغناءِ لساعاتٍ طويلة وعلى مدى أيام، وقد استمدّتْ هذه الطّاقة منذُ طفولتِها وصباها؛ حيثُ كانت تتدرّبُ على القراءةِ والعزفِ والغناءِ ساعاتٍ طوال، دون كللٍ أو مللٍ، إلى أن أصبح اشتغالها الطَّويل في رحابِ الموسيقى والغناءِ والتّدريبِ شغلها الشّاغل، تقومُ بهذه الاشتغالات بمتعةٍ غامرة، وكأنَّ لديها طاقة روحيّة سماويّة تمنحُها كل هذا الزَّخم في العطاء والتّجلِّيات والنَّجاحات البديعة!

ترعرَعَتِ القوَّاس في فضاءاتِ الموسيقى والألحانِ وقراءةِ أمَّهاتِ الكتبِ والشّعرِ والغوصِ في مروجِ الألوانِ وبهاءِ الرّسمِ، وتمرَّسَتْ في فضاءِ الرّشاقةِ وحقّقتْ حضورًا وتميّزًا رائدًا وبطولةً في رياضةِ الجمبازِ. تبدو لي هذه الفنّانة أنّها مبدعة في العديد من المجالات الفنِّيّة والإبداعيّة؛ فلا مستحيل أمامها نهائيًّا، فهل من المعقول أن تراقبَ والدها ووالدتها كيف كانا يقودان السَّيَّارة، وتأخذَ أحيانًا مفاتيح السَّيَّارة وتفتحَ بابَ السَّيَّارة خلسةً وبعيدًا عن أنظارِ الوالدين، وتقودَالسَّيَّارة وهي طفلة في الثَّامنة من عمرها، وتنطلقَ بها من منزلهم إلى مدرسة والدتها، إلى درجة أنّها ما كانت تُشاهَدُ من خارجِ السَّيَّارة لصغرِها، وما كانت تستطيعُ أن ترى أمامها إلّا من خلال فتحات المقود؟! فمن أين استمدّتْ هذه الجرأة في المغامرة والتّعليم والاكتشاف؟! وكانَ لديها شغفُ الاكتشاف والتّجريب والتّعليم لأبسطِ الأمورِ حتّى أعقد الأمورِ؛ فقد كانت مهتمّة منذ طفولتها بتصليح الرّاديو والتّلفزيون وتبديل بطارية السّيارة والزّيت والكثير من التقنيَّات الّتي تتطلّب مهارات وتعليمًا ودقّة في اشتغالها، فمن أين كان لها كل هذا الشَّغف وهي ماتزال طفلة، ما لم تمتلك موهبة غير طبيعيّة في كل ما يتعلّق بالإبداع والاكتشاف والتَّقنيّات اليدويّة؟!

التحقت بالجامعة قبل الأوان وهي في سنِّ الخامسة عشرة من عمرها، ونجحت بتفوّق على أقرانِها. تميّزت بقدراتها العالية على القراءة المتواصلة على مدى ساعات اللّيل، تقرأ ما يقع بين يديها بشغفٍ وتركيزٍ مدهشَين، وكأن السَّماء منحتها طاقات علوِيّة، ساعدتها على تشرُّبِ فضاءات بديعة في اكتساب العلم والغوص عميقًا في رحابِ الموسيقى والألحانِ ودرجاتِ الصَّوتِ والغناءِ والعطاءاتِ الّتي تُشبهُ حلمًا مفتوحًا على غاباتِ الفرح. جرفها البيانو إلى فضاءاتها الشَّفيفة وغاصتْ رويدًا رويدًا في جموحاتِ الموسيقى والألحانِ والغناءِ، وكانت تنوي متابعة دراساتها في الطّب، لكن ابن خالتها الَّذي سبقَ ودرسَ الطّبَّ في لندن نصحها بضرورةِ متابعة دراسة الموسيقى، كما أكّد الموسيقار الكبير وليد غلميّة على متابعة دراساتها في الموسيقى في أرقى جامعات الشَّرق والغرب، طالما لديها كل هذه الموهبة والإمكانيات العالية، فالتحقت بقسم الموسيقى وتخصَّصت في الأوبرا إلى أن غدَتِ الموسيقى شهيقها الّذي تتنفَّسَه، والماء الّذي تشربه، وغاصَتْ في عوالم الأوبرا بعد أن درست هذه الفضاءات السَّامقة في أرقى تجلّياتها الإبداعيّة. 

كما درسَتْ علم النّفس العيادي في الجامعة اللّبنانيّة، ثمَّ التحقَتْ بالمعهد الوطني اللّبناني العالي للموسيقى، وحصلَتْ على ماجستير بامتياز في الغناء الأوبرالي، وتابعَتْ دراساتها في التَّأليفِ الموسيقى في نفسِ المعهد وحصلَتْ على ماجستير بامتياز، وتابعَتْ دراسات عليا في علم الموسيقى بإشراف د. غلميّة، وختمت في بيروت دراسات كاملة لدبلوم في البيانو، وحصَلتْ على منحة من أكاديميّة كيدجيانا بإيطاليا لمتابعة دراساتها العليا في الغناء الأوبرالي مع التَّينور الشَّهير كارلو برغونزي، وفي التّأليف الموسيقي مع المؤلّف الموسيقي فرانكو دوناتوني، وحصلت على الدّكتوراه في التَّأليف في أكاديميّة كراكوف الموسيقيّة.

تتعاملُ الفنّانة مع الكلمة والحرف وإيقاع اللُّغة عبر الألحان الموسيقيّة الّتي تبدعها برهافة عالية بعد خبراتٍ عميقة في فضاءات عالم الموسيقى، وتطويع الصَّوت لطبقات ومساحات الغناء الأوبرالي؛ فقد اشتغلت وتمرَّست عبر دراسات وبحوث متواصلة في طبقات الصَّوت العربي عبر مخارج الحروف ومقارنتها بطبقات الصّوت الغربي ومخارج حروفه، وخرجت بتوجّهات وآفاق أوبراليّة جديدة، ودمجت طبقات الصّوت في الموسيقى العربية الشَّرقيّة مع طبقات الصَّوت والموسيقى الغربية وصاغت من الغناء الأوبرالي الغربي ما يمكن إدراجه في الغناء العربي بكلِّ آفاقه الممكنة، وحقَّقت نجاحًا بديعًا في النّتائج الّتي وصلت إليها في التَّلحين ومساحات الأصوات وأسَّست لمرحلة جديدة في الغناء الأوبرالي الشّرقي، وقدّمت عشرات الأغاني الأوبراليّة الغربيّة والشّرقيّة على أرقى مسارح العالم، وحقَّقت نجاحًا وحضورًا عالميًّا.

عندما تعزف على البيانو وتغنِّي وهي في أوج تجلّياتها، يشعرُ المشاهد وكأنّها تحلِّقُ في أقاصي السّماء، تبدو وكأنّ الموسيقى هي حالة تواصل ما بين الأرض والسَّماء أو هبة السَّماء للأرض، ألهذا أطلقتْ عليها السَّيِّدة العذراء –كما أشرنا- هبة الله؟ ولهذا كل مَن يتابع مسارات رحلتها في فضاء الموسيقى والغناء، يجد أنّها تكثِّفُ الزّمن/الوقت، وتعمل بدقّة عالية في صياغة برامجها الفنّيّة الموسيقيّة وكأنّها عاشت قرونًا من الزّمن، أو كأنّها تسابقُ الزّمن؛ لهذا نراها قدّمت أعمالًا لا يضاهيها أحدٌ في هذا المضمار، حتّى أنّها سبقتِ الكثير من فنّاني الغرب في ما أبدعته خلال رحلتها في دنيا التّلحين والغناء الأوبرالي الخلّاق!

أدهشني اشتغالها كعضوة في العديد من اللّجان الفنّيّة الموسيقيّة؛ فهي على سبيل المثال: عضو مجلس إدارة المعهد الوطني اللّبناني العالي للموسيقى، وعضو في لجنة الأوركسترا السّيمفونيّة الوطنيّة اللّبنانيّة، وعضو لجنة الأوركسترا الوطنيّة اللّبنانيّة للموسيقى الشّرق-عربيّة، وعضو لجنة الثّقافة ومنسّقة لجنة الاتصال في اللّجنة الوطنيّة اللّبنانيّة للأونسكو، ومنسِّقة لدروس الموسيقى في دور المعلِّمين والمعلِّمات، وعضو في لجنة المناهج التَّربويّة لمادّة الموسيقى في المركز التَّربوي للبحوث ولجان أخرى، وهذا يقودني إلى السُّؤال: كيف تستطيع هذه الفنّانة أن تقوم بكلِّ هذه المهام في هذه اللِّجان، إضافة إلى مشاريعها الفنّيّة الخاصّة، إن لم تحمل في عالمها طاقات إبداعيّة مدهشة، قلّما تتوفَّرُ في أيِّ مبدعٍ أو مبدعة أخرى؟!

 تمتلكُ الفنّانة المبدعة هبة القوَّاس إمكانيّات غزيرة في التّلحين؛ فقد سجَّلتْ(21) عملًا من تأليفِها الموسيقي مع أوركسترا دنيبرو بتروفسك السِّيمفونيّة وكورال دار أوبرا دنيبرو بتروفسك بقيادة فياتشسلاف بلينوف، وسجَّلَتْ أربعة أعمال سيمفونيّة مع أوركسترا أكاديميّة كراكوف السّيمفونيّة بقيادة فويتشك تشابيل، كما ألَّفتْ وسجَّلتْ (13) عملًا سمفونيًّا معَ الأوركسترا السِّيمفونيّة الوطنيّة الأوكرانيّة بقيادةِ فلاديمير سيرينكو. إبداع بلا حدود، يلامس شهقات السّماء، كأنّها مئة إنسان في إنسان. ونالت العديد من الجوائز العالميّة، وترى أنَّ الموسيقى تمنحُ  للمتلقّي المزيد من الفرح والمتعة والتّأمُّل، والطّاقة الإيجابيّة، فلماذا لا تركّزُ مؤسّساتنا الثّقافية والفنِّيّة في دنيا الشّرقِ على تعميقِ هذا الجانب، ونضعُ حدًّا للحروبِ والصِّراعاتِ والعنفِ؛ كي نمنحَ المتلقّي/ المواطن الفرح والوئام والسَّلام، بدلًا من أن نزجّه في متاهات الحروب والصّراعات المريرة؟!

أشعرُ بالفرح والفخر والاعتزاز وأنا أرى وأسمعُ هبة القوّاس تحلِّق في مرافئ الإبداع، وتعيدُ مجدَ حضارة الشّرق، وكلّما سمعتُ أغانيها؛ شعرتُ بفرحٍ وشوقٍ عميقَين إلى كتابةِ الشّعرِ، وتتلبَّسني حالة شهيّة في انبعاثِ توهّجات بهجة الحرف. أغانيها تُشبه زخّات مطر متهاطلة علينا من قبّة السّماء. فهل كانت هبة يومًا ما رذاذاتِ مطرٍ تهاطَلَتْ علينا كي تروي عطشنا إلى كلِّ هذه التّجليات المبهجة للروح والقلب؟! وعندما أسمعُ أغنية “صوتي يقلِّصُ المسافةَ إليك”؛ تغمرني حالةُ انتعاشٍ في أعماقي، وأشعر أنَّ الأغنية بأدائها المبهر تطهِّرني من غبارِ الحياة، وكأنَّ صوت الفنّانة منبعث من محرابِ معبدٍ إلى هلالاتِ السَّماءِ والجمال والفرح وأبهى مرافئ السَّلام مع الذّاتِ وبهاءِ الكونِ!

 

ستوكهولم: أيلول (سبتمبر) (2019).

  ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏نبات‏ و‏منظر داخلي‏‏‏

  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏‏نظارة‏ و‏لقطة قريبة‏‏‏‏اسم المؤلِّف: صبري يوسف.عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.- الجزءالأوَّل.

– مقالات نصوص أدبيَّة.- الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).- تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.- صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.- حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.دار نشـر صبري يوسف – [email protected]Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)

حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نبات‏‏
  لا يتوفر وصف للصورة.ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏٢‏ شخصان‏، ‏‏بما في ذلك ‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏بدلة‏‏‏‏

 

تجليات خيال المبدع الأديب و التشكيلي السوري #صبري_ يوسف Sabri Yousef..عن راقصة الفلامنكو #كبرئيلة_ كوتارا ..سوسنة معبَّقة بشهوةِ المطرِ ..– من كتاب تجليات الخيال – الجزء الثاني..

لا يتوفر وصف للصورة.

لا يتوفر وصف للصورة.

راقصة الفلامنكو كبرئيلة كوتارا سوسنة معبَّقة بشهوةِ المطرِ

إيقاعُ رقصها متناغمٌ معِ بهجةِ القلبِ والرُّوحِ

كبرئيلة غوتارة

(21)

الرَّقص أحد أجمل فنون تجلِّيات الرُّوح والجسد؛ خاصّة عندما ينبع من أعماق الرُّوح والخيال ووهجِ الجسد وكأنّه يطيرُ، ويحلِّق في السّماء؛ شوقًا إلى أبهى التّجلّيات. تبهرني رقصة السّالسا، والتّانغو، والباليه، والسّامبا، والفلامنكو؛ هذا الرّقص المدهش في تجلّيات شموخه وإيقاعاته، والكثير الكثير من الرّقص شرقًا وغربًا، أتوقّف مليًّا في انبعاثات هذا النَّصِّ عند الرَّاقصة السُّويديّة من جذور اسبانيّة غجريّة الفنّانة كبرئيلة كوتارا؛ حيث أنّني في إحدى ليالي ستوكهولم الزَّاخرة بالرّقص، وفيما كنتُ أشاهد عرضًا لرقصِ الفلامنكو على مسرح دار الرّقص ضمن فعاليات ستوكهولم عندما كانت عاصمة أوروبا للثقافة، وكنتُ أحد أعضاء منظِّمي ومعدِّي هذه العروض الموسيقيّة والغنائيّة والفنِّيّة المتنوّعة، برفقتي الشَّاعر السّعودي الرّائع أحمد كتّوعة؛ صاحب ديوان: “كرة صوف لُفَّتْ على عجل”، كنّا مشدودَين إلى فتحِ السِّتار، بهدوءٍ افتُتِحَ ستار المسرح على الرَّاقصة الغجريّة كبرئيلة كَوتارا، يرافقها فرقة مصريّة وهنديّة وراقصة مصريّة، كنتُ قد هيَّأتُ صديقي على أنّه سيشاهدُ عرضًا للفلامنكو لن ينساهُ أبدًا، عرضًا له علاقة بتجلِّياتِ الرُّوحِ وهي في أوجِ انتعاشاتها. بدأت كبرئيلة بالرّقصِ على إيقاعاتِ الموسيقى، كان يذهلني كيفية لملمة فستانها المتدلّى خلفها ورفعه في الهواء بطريقةٍ إيقاعيّة ترافقُ حركة الرّقص، فتغدو كفراشةٍ مبهرةٍ منبعثة من كنفِ الغسقِ في صباحٍ مكلَّلٍ بأغاني فيروز. شعرتُ وكأنَّ رائحة البخور تعبقُ في أجواءِ المكان، انتابتني غيرة إيجابيَّة ممزوجة بالمحبّة والإعجاب العميق بما تقدِّمُهُ من عروضٍ رائعة، ترقى إلى مستوى الغيرة المحفّزة على تقديم أبهى ما لدى الإنسان من عطاءٍ مكلَّلٍ بينابيعِ الصَّفاء!

فيما كنتُ أشاهدُها، اعتراني رغبة حلميّة أن أصعدَ إلى المسرحِ وأتحوّلَ بقدرةٍ ما إلى فراشةٍ وأحطَّ على جبينها المرفرفِ فوقَ قممِ الجبال. حلمْتُ في تلكَ اللَّحظات لو كنتُ راقصًا جامحًا أراقصها على إيقاع الفلامنكو؛ لعلِّي أتطهّرُ قليلًا من التَّكلُّسات المتراكمة حولَ خاصرةِ الرُّوح. كبرئيلة كوتارا سوسنة معبّقة بشهوةِ المطر في صباحاتِ نيسان، فرحٌ منبعثٌ من حبقِ السّماءِ، إيقاعٌ متناغمٌ معَ بهجةِ القلبِ والرّوحِ، تُشبهُ مرجًا مغطّى بأهزوجةِ الحلمِ الآتي، هطلَ الفرحُ علينا، غيمةً ماطرةً على مرافئ اللَّيل. أمسكْتُ قلمي وبدأتُ أكتبُ شعرًا من وحي تواصلي الاشتعالي معَ بهاءِ الحضورِ. فجأةً، وجدْتُ غمامةً بيضاء تعانقُ بهجةَ المسرحِ، عبرَتْ سارة كوتارا فضاءَ المسرحِ كأنّها حمامة ترفرفُ حولَ وهجِ الانبهارِ، شقيقتان متعانقتان معَ خمائلِ غيمة حبلى بدفءِ السّنين. التفَتَ “كتّوعة” نحوي قائلًا: كنّا مسترخيَين تحتَ تماوجاتِ رذاذاتِ الحنين المتناثرة من أجنحةِ كبرئيلة فوقَ بسمةِ اللّيلِ، فدخلَتْ سارة بعذوبةٍ معبّقةٍ بأريجِ التِّينِ، رقصٌ متعانقٌ مع دمعِ اللَّيلِ، يطلقان صوتًا على إيقاعِ الرَّقصِ، رأسان شامخان مثلَ عنفوانِ الجبالِ. طرنا فرحًا وكأنّنا نشاهدُ حلمًا منبعثًا من غمامِ الأساطيرِ، كم كانَ العرضُ مبهجًا للروح! أهلًا بتجلِّياتِ الإبداع.

قفزَت ذاكرتي إلى لقاءاتٍ سابقة مع هذه الرّاقصة المدهشة في أدائها البهيج؛ فقد التقيتُ بكبرئيلة وأمّها “هيلينا” وأختيها؛ “سارة، ولاريسا”، أتذكَّرُ كيفَ استرعى انتباهها عودي في إحدى لقاءاتنا، فسألتني كبرئيلة فيما إذا أعزف على العود وأغنِّي؟ ما كنتُ آنذاك أعرفها جيّدًا، طلبَتْ منّي في إحدى الاستراحات في مركز الفلامنكو الَّذي تشرفُ عليه، وتدرِّب الشُّبان والشّابات على الرَّقصِ، أن أعزفَ لها بعض الأغاني الَّتي أجيدُها؛ لعلَّها تجدُ ما يناسبُ إيقاع الفلامنكو الّذي ترقصُ عليه. شعرْتُ بالإحراج قليلًا، ثمُّ أردفتُ قائلًا: أنا مجرّد هاوٍ للموسيقى والغناء، أعزف وأغنّي بعض الأغاني الشَّعبيّة الفولكلوريّة الخفيفة، فقالت: أصلًا أنا أبحث عن هكذا نوع من الموسيقى والغناء. بعد دردشة هادئة، استطاعت أن تقنعني كي أعزفَ لها ما يمكن عزفه، فأمسكتُ عودي وبدأتُ أقدِّمُ لها مقاطع من بعضِ الأغاني الَّتي أحبُّها، وفيما كنتُ في غمرةِ العزفِ والغناءِ، جنحْتُ نحوَ الأغاني الغجريّة القديمة الّتي تعلَّمتها من خلالِ تواصلي مع عوالمِ الغجر، سررْتُ لهذا النّزوع الغجري المستوحى من هناك، من أقصى الشَّمالِ الشَّرقي من خصوبةِ الرُّوح، نعم، غناء غجري ذو حميميّة دافئة، يتميّز بالصّخب وعلوِّ الصَّوتِ وذو إيقاع راقص، والفلامنكو يرتكز أصلًا على الإيقاعِ الصّاخبِ السَّريع.

كانت تسمعُ بتركيزٍ مرهفٍ إلى موسيقاي وهي جالسة على كرسي، تدندنُ وتصفّقُ على الخفيفِ وتدقُّ أقدامَها على الأرضِ برتمٍ رائعٍ ترافقُ موسيقاي، وفجأةً، وجدتُها تقفُ على قدميها تموجُ على إيقاعِ موسيقاي مثلَ موجةٍ بحريّة هائجة، ما كانت ترتدي لباس الرّقصِ ولا حذاءَها الخاص بالرّقص، رافقتني بحدودِ خمس دقائق تقريبًا، ثمَّ توقّفتْ حالما خرجتُ عمَّا كان يناسبُ إيقاعها، فتوقّفتُ أنا أيضًا، ثمَّ عانقتها، شعرْتُ أنّني أعانقُ نداوةَ اللَّيلِ، وأحلِّقُ نحوَ الأعالي، ابتسمَتْ لي موجات البحر، وكأنِّي في حلمٍ شفيف يتعانقُ معَ نسيمِ الصَّباحِ، فرحٌ من نكهةِ النَّارنج غمرَ روحي، هل من المعقولِ أن ترقصَ كبرئيلة غوتارا على إيقاعِ أغنياتي وموسيقاي؟! اقترحَتْ عليَّ أن أقدّمَ الأغنيتين اللَّتين رقصَتْ على إيقاعهما في عرضها القادم، وقالت:إنَّهما أغنيتان مناسبتان للفلامنكو، وأستطيعُ أن أرقصَ على إيقاعهما، فهل تريدُ أن ترافقني في الحفلة القادمة الّتي سأقدِّمها هنا في مركز تدريبي؟ أفرحني اقتراحها؛ بل أنعش فؤادي، وافقتُ من دونِ أي تردُّد؛ لأنّها أبهرتني، همسْتُ في سرّي: أنا عاشق الشِّعر إلى حدِّ الاشتعالِ، هل من المعقولِ أن أتحوّلَ إلى عازفِ عودٍ ترافقُ موسيقاي ولو لخمسِ دقائق أوَّل راقصة فلامنكو في اسكندنافيا؟!

انشغلتْ كبرئيلة مع بعضِ ضيوفها، تقدّمَتْ أمّها “هيلينا” نحوي وقالت لي: إيَّاك لو طلبَتْ “كابي” منكَ أن تعزفَ لها في حفلتها القادمة ولا تأخذ حقّكَ منها بالكامل؟ فقلتُ لها عن أيِّ حقٍّ تتحدَّثين؟! فقالت: عن حقِّ عزفكَ؟ رفعتُ يدي وحرّكتها بطريقةٍ تعني: اتركينا من الفلوس الآن؟! هزّتْ رأسها قائلةً: أنتَ بحياتكَ لن تنجح كموسيقي ومغنٍّ، فقلتُ لها: ومَن قال لكِ أنّني أفكِّرُ أو أحلمُ أن أكونَ موسيقيًّا ومغنّيًا ناجحًا؟! أنا شاعر وأريد أن أكونَ شاعرًا حرًّا منعتقًا من كلِّ القيودِ، فقالت: حتّى في الشِّعرِ لن تنجحَ كشاعرٍ طالما تحملُ هكذا تفكير. ضحكْتُ وهززْتُ رأسي، ابتسمتْ وهمستْ لي سرًّا يصبُّ في مرافئ القصيدة. جاءت كبرئيلة وقالت: عن ماذا تتحدّثان؟ فقالت أمُّها: نتحدّثُ عنكِ وعن عروضِكِ؟ فقالت: عن أي شيء تتحدَّثان بالضّبط؟ عن الثّمن الّذي سيتقاضاه صبري لما سيقدِّمه في عرضِكِ القادم، قالت كبرئيلة: طيّب كم تريدُ أجر عزفك لمدّة خمس دقائق في عرضي القادم؟ تمعّنتُ في بريق عينيها وقامتها الشّامخة شموخَ القصائد، قائلًا لها: لا شيء يا عزيزتي، كفاني أن أتمتَّع في عرضِكِ الجميل. نظرَتْ إلى أُمِّها، غمزتْها وكأنّها تعني أنّها حقَّقتْ ما تريده، ثمَّ فتحَتْ يديها وعانقتني عناقًا حميمًا كأنّهُ منبعثٌ من رحابِ حنينِ بهجةِ الحرفِ ووهج انبعاثِ الشِّعر، قبّلْتُ خدّهَا الأيسر وأرجَح الظَّنّ قبَّلْتُ جبينها المتماهي معَ شموخِ الجبال!

همسَ كتّوعة إليّ وهو مذهول بما يراه، عرضٌ رائع جدًّا، إيقاعٌ منعشٌ. كانت كبرئيلة تملأ المسرحَ فرحًا، شعرْتُ أنَّ قسطًا من أحزاني قد تبدَّدَ، وقسطًا من غربتي عبرَ شقوقَ اللَّيلِ، وقسطًا من فشلي في الحياة قد انزاحَ جانبًا، وراودني أنَّ صديقي أحمد كتّوعة ربّما يكتبُ أيضًا نصًّا من رحمِ تجلّياته الانتعاشيّة فيما يراه. سألتُهُ بنوعٍ من الدُّعابة، فيما إذا تستطيع كوتارا أن تسقطَ بحركةٍ من حركاتِ فستانها وهي تتراقصُ مثلَ فراشةٍ عاشقة وزارةً من وزاراتنا؟ ضحكَ قائلًا: قُلْ وزارات؛ بل حكومة برمَّتها! ضحكتُ أنا الآخر، وشعرْتُ بفرحٍ عميق، هامسًا لروحي المنتعشة من بهجةِ الحضورِ: هل من المعقولِ أن تكونَ هذه الرَّاقصة الغجريّة المائجة أمامي الآن، مثل بحرٍ هائجٍ بوهجِ العشقِ، كانت تتمايلُ أمامي منذُ أسابيع، ترقصُ على تماوجاتِ إيقاعي الغجري؟! .. فرحٌ يزدادُ تلألؤًا في سماءِ الرُّوح!

 ستوكهولم: (27/ 11/ 2006) صياغة أولى.

(17/ 9/ 2019) صياغة نهائيَّة.

 

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نبات‏‏

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏ لا يتوفر وصف للصورة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏‏نظارة‏ و‏لقطة قريبة‏‏‏‏

اسم المؤلِّف: صبري يوسف.

عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.- الجزءالأوَّل.– مقالات نصوص أدبيَّة.- الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).

الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).- تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.- صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.- حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.

دار نشـر صبري يوسف – [email protected]

Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)

اسم المؤلِّف: صبري يوسف.
عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.
الجزءالثَّاني.
مقالات ونصوص أدبيّة.
الطَّبعة الأولى: ستوكهولم (2020).
الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،و التَّخطيطات الدَّاخليّة: (المؤلِّف).
تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.
صورالغلاف:للأديبالتَّشكيلي صبري يوسف.
حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نبات‏‏

مقدِّمة

صبري يوسف في فردوس الخَيالِ الكونيِّ الخلَّاق

 د. أسماء غريب

كلُّ مَنِ اخْتارَ الحرفَ رفيقًا لرحلةِ الحياة القصيرة جدًّا، يعرفُ جيِّدًا ما معنى أنْ تُصبِحَ الكلمةُ خبزَهُ اليوميّ، ويعرفُ أيضًا كيف أنّها حقيقةٌ لا مجاز، النّجمةُ التي تُضيء كلّ عتمةٍ أو ظلامٍ قبل الخُلود إلى سرير السّرّ. ولأنّني مِن أهل الأبجديّةِ؛ فلا بدَّ للحروفِ أنْ تَصحَبني كلَّ يومٍ إلى أن أستسلمَ لسُلطانِ الموتِ الأصغر؛ وذلكَ لأنّي بهَا أكشِفُ العديدَ مِنْ أسرارِ الكُتُبِ التي اختارُها بعنايةٍ فائقةٍ، ولا بدَّ أن يكونَ للحرفِ المُنَزَّلِ مِنها نصيبٌ، وحينما تكتملُ دورةُ النَّهارِ، ويُقبلُ اللّيلُ ليُضيءَ خلوةَ العاشقين أقرأُ ما تَيَسَّرَ مِن القُرآن، وبضعَ آياتٍ مِنْ كُتب مُقدَّسة أخرى، وقد يحدثُ أيضًا أنْ أقرأَ بعضَ الكُتُبِ ذات الطّابعِ العرفانيّ؛ سواء باللّغة العربيّة أو الإيطاليّة أو الفرنسيّة أحيانًا. وأذكرُ أنَّه في الأيّام الثلاثة الأولى من شهر آذار (2020) وقعَ بَيْنَ يديَّ كتابٌ للسّيّد حسن الأبطحيّ؛ وهو بعنوان (معراجُ الرّوح) (1)، وبينما كنتُ أقرأُ بشغف كبيرٍ حكايتَهُ عن الكمال الإنسانيّ وكيف أنّ الإنسانَ لا يتوقّفُ أبدًا عن الترقّي لبلوغ أعلى مدارج الصّفاء مادامتْ روحُه لا نهائيّة البقاء، لا أدري كيف تذكّرتُ في تلكَ اللّحظة صديقًا آخر لي في الحرف هو النبيُّ النّائم إدغار كايس، كنتُ قد قرأتُ في العام الماضي عن سيرة حياتهِ الكثير، لقد شعرتُ وكأنّي بدأتُ أستوعبُ أكثرَ فأكثرَ بعضَ التفاصيل عن حياة إدغار الرّوحيّة من خلال أحاديث السّيّد حسن عن تجاربهِ المعمَّقة في عوالم الرّؤية والبصيرة والكشف الربّانيّ. ابتسمتُ وأنا أرى عظمةَ الخالق في مخلوقاتِه، وفيْضَ هباته وعطاياه التي يوزّعُها عليهم بدون أدنى تمييز أو استثناء، وقلتُ وأنا أغلقُ كتاب السيّد حسن: لا بدّ لي مِنْ أن أختمَ ليلتي هذه كما العادة بقراءة سورة ٍمن سُوَر القرآن الكريم، وحينما فتحتُ صفحاتِ الذّكْرِ الحكيم، إذا بي مباشرة أمامَ سورة (ق)، بدأتُ أُمعنُ النّظرَ في آياتِها الواحدة تلو الأخرى، وفجأةً، وجدتُني أتوقّفُ عند المقطع الذي يقول فيهِ ربّ العزّة والجلال: ((وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ))، فبدا لي وكأنّني أقرأُ هذا المقطع لأوّل مرّة في حياتي، فقد بزغَ منه نورٌ باهرٌ جَعَلَني أعود للآيات الأولى من السّورة لأقرأَها مرّات ومرّات، وفي كلّ مرّة كانت تتولّدُ أمامي معانٍساميةٌجديدةٌ إلى أنْ تجلّى لي الـ (ق) كما هُو؛ قلبٌ كونيٌّ ضخمٌ يشعّ بالنّور وتتلألأُ كلّ خليّة فيه تلألُؤًا عجيبًا، ويصدرُ منها صوتٌ كأزيز الطّائرات، وكلامٌ قادمٌ من مكان بعيدٍ جدًّا فيه هديرٌ يُشبهُ هديرَ شلّالاتٍ عنيفة من الماء مصحوبة بأصواتٍ تُشْبهُ أصواتَ الأبواق الصّادحة في المطارات، أو داخل محطّات السّككِ الحديديّة وهي تُعلنُ للمسافرين أوقاتَ الذّهاب والإيّابِ، وعلمتُ حينئذٍ أنّ قلبَ الإنسانِ مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بهذا القلب الكونيّ العظيم، الّذي أقسَم الخالقُ بالحرف الأول من اسمه؛ لأنّهُ العرشُ الّذي يتربّعُ عليهِ، ومنه يتنزّلُ الحرفُ والنّبوءة والحكمة ليتخلّقَ العقلُ الوجوديّ الأكبَر المُسمّى بالقرآن الكامل، والّذي منه وبه يتحرّكُ كلُّ كائن فيه روحٌ ليصبحَ من أصحاب الاستعداد الأوليّ لتلقّي تفاصيل الوجود. ومنْ هذا القلبِ الكونيّ وجدتُني أقفُ متأمّلةً باندهاش كبير الصُّورَ التي قرنَ بها اللهُ طريقةَ خلقهِ للسّماء والأرض، وخلقِهِ للإنسان وكيفيّة عودةِ هذا الأخير إلى عالم البرازخ ومنها إلى عوالم الملكوتِ الأكبر، عندئذٍ وجدتُني أقول: ((يا إلهي، كيف يحدثُ هذا؟! هل تريدُ أن تقولَ لي: إنّنا نهطلُ على الأرضِ كحبّات المَطر، ثمّ ندخلُ إلى عمق ترابِ الأرحامِ بذورًا تحمل كلّ خصائصها التكوينيّة، ونظلُّ قابعين في عتمة الاختمار والتّبرعم والنموّ، إلى أن نظهرَ كما تظهرُ النباتاتُ والأزهار والأشجار فوق سطح الأرض لكلٍّ منها مهمّتُها السّامية في الوجود، وحينما تكتملُ دورَتُهَا البيولوجيّة تسقطُ فوق الأرض وتعود ثانيةً في دورة أخرى جديدة؟! أهذا حقًّا ما عنيتَه حينما قُلتَ: “كذلكَ الخروج”؟! إذا كان الأمرُ هكذا؛ فيالكَ يا إلهي من بُستانيٍّ عظيم! واسمح لي أن أقول لكَ: إنّهُ قد اكتملتِ الصّورةُ أمام عينيّ الآن؛ فكلّنا زهرُ الأرضِ ووَردُها، لكلّ زهرة ووردة عطرٌ معيّن، ولونٌ معيّن، وأنتَ ترعى كلّ وردةٍ باستمرار وتسهرُ على نشأتها إلى أن تصلَ بها إلى دار السّلام والأمن والأمان!)) بهذه الفكرة خلدتُ إلى نومٍ عميق وقلبي يُردّدُ قصيدتَهُ التي قُلتُ فيها ذات بوحٍ:

((في البدءِ كانتِ النُّقطَة

وكُنَّا أنتَ وأنا معًا

داخل بيضة فضيّة كبيرة

تتلألأُ بين الأقمار والنّجوم

كُنَّا نُغنِّي

ليتكَ تدري

وكانت بنا لهفة عظيمة

للخروج من العتمة

إلى النّهار المُشِعّ المُضيء

وفجأة، فوق شاشة بحر التّخليق العظيم

رأينا نجمَ الشّمالِ يَحلُم بنا

كان في الحُلم يغنّي

ويرقُصُ بنشوةٍ وسعادة كبيرة

وبقي كذلك لوقتٍ طويل

إلى أن سمعناه يقول ذات فجرٍ:

غدا سأكْسِرُ البيضةَ

فتخرجُ منها المرأةُ

ومن المرأة يولدُ الرّجلُ

ومعًا سيعيشان

ويموتان

ثم يُولدان

ويموتان

ولن يتوقّفا معًا أبدًا عن الولادة

فالموتُ يا أحبّتي

كذبة كبيرة!)) (2)

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏

وفي صباح اليوم التّالي، وبينما أنا منهمكة في العملِ على كتابي النّقديّ الجديد عن الأديب صبري يوسف، إذا بي أتذكّرُ سورةَ اللّيلة الماضية (ق)، وتحضرُ أمامي صورةُ البستانِ الإلهيّ والنّاسُ فيه ورود وأشجار وأزهار وكواكبُ ونيازك وأنهار وكائنات أخرى لا تعدُّ ولا تُحصى، ووجدتُني أقولُ هاتفةً وأنا أرى صبري يُواصلُ نشرَ كتاباته عن نجوم ساطعة في سماء الأدب والفنّ على صفحته الرسميّة في الفيسبوك: ((لا شكّ أنّ هذا الرّجلَ استوعبَ درس المطَرِ والخروج بامتياز، إنّه بُستانيّ من طرازٍ رفيع، وكيف لا يكون كذلكَ وهو هنا في الفردوس الأرضيّ ينظرُ إلى كلّ إنسانٍ على أنّه بذرة في طور النموّ والإزهار، وحينما يراهُ قدِ اكتملَ وتوهّجَ بريقُه يكتبُ عنه ليؤرْشِفَهُ في لوحِ الله، حتّى تَطَّلِعَ وتتعرفَّ عليه الأجيال القادمة، وإنّي لأجدُه في عمله هذا يشبه الملائكة المتحدّثِ عنهم في سورة (ق)، يُسجّلُ بماء الذّهب كلّ شيء يخصُّ أهل النّور والحكمة!…))، وقبل أن أختمَ استنتاجيَ هذا إذا بي أجدُ في بريدي رسالةً منهُ يقترحُ فيها عليَّ تحريرَ مقدّمة عن كتابه (تجلّيات الخيال)، فقلتُ في نفسي: ((يا إله الحرف، أيّة مهمّة هذه التي يكلّفُني بها هذا البستانيّ؟! كيف سأقوى على استيعاب كلّ هذا العطر المتدفّق من أبجديّة النّور؟!)).

وضعتُ الكتابَ في قارئيَ الإلكترونيّ، وبدأتُ أتصفّحُ أوراقه بتأمّلٍ شديدٍ، فكان أوّل ما لاحظتُ هو طريقته في اختيار الأسماء التي كتبَ عنْهَا؛ إنَّها كلّها منتقاة من ملكوت الإبداع والفنّ، وهذا الاختيار ليس له سوى مبرّرٍ واحد لا غير: إنّ صبري يوسف يؤمنُ إيمانًا عميقًا بأنّ البتوليّة الحقّة لا تُدرَكُ إلّا عبر الإبداع بكلّ تجلّياتِه وتدفُّقاته في شتّى الميادين الفنّيّة والعلميّة والأدبيّة والموسيقيّة والرياضيّة وما إليها. وإذ أقولُ البتوليّة؛ فإنّي أعني بها حالةَ الاستنارة الكاملة للإنسانِ الحقّ؛ أيْ حالة التحرّرِ من عبوديّة الجسد وجبروتِ العقل المادّي للوصول إلى العروج الكامل نحو سماوات الخيالِ الإلهيّ، ومن هُنا جاء عنوانُه لكتابه هذا (تجلّياتُ الخيال)، فهو لا يعني بها بشكل محدود تجلّياتَ الأدباء والفنّانين الّذين تناولَهُم بالاهتمام والعناية، وإنّما تجلّيات الخيالِ الخلّاق للذّات الإلهيّة العليا التي تكشفُ عن نفسِها بذاتِها عبر مخلوقاتها، وهو الكشفُ الّذي لا يتمّ إلّا عبر الخيال المُطلق اللّامشروط، والتميّز بالوجود الخفيّ من خلال إظهار الذّاتِ بكلّ ممكناتها وأسمائها وصفاتها وأعيانِها الثّابتة، ممّا يعني الانتقالَ من حالة الكمون إلى حالة النّورانيّة والظّهور؛ وذلك لأنّ كلّ العوالمِ التي يراها صبري يوسف هُنا من خلال كتابه هذا هي في الآن نفسهِ مظهرٌ من تمظهرات الحَقّ المتكَشِّفِ في الأشكال، فيكونُ بهذا المحدودَ الذي لا يُحَدُّ، والمرئيَّ الّذي لا يُمكنُ رؤيتُهُ؛ لأنّ هذا الظّهور هو غير قابلٍ للإدراك ولا للتّحقيق بواسطة الملَكَات المحسوسة، والعقلُ البشريُّ يُنكره، ولأجل هذا فإنّ الأسماءَ التي اختارها صبري يوسف في كتابه هذا هي ممّنْ تُبدِع وتكتبُ وترسُم وتلَحِّنُ وتُغَنّي وتُهَنْدِسُ الأشياءَ التي تُملى عليها عبرَ العقل الإلهيّ الخلّاق؛ لأنّ أصحابَها هُم أنفسهم صورةٌ من تجلّي الخيالِ الإلهيّ المحض، ولعلّ هذا هو السّبب الذي يجعلُ صبري يوسف يستخدمُ قاموسًا تعبيريًا لا يخرجُ عمَّا هو سماويٌّ خالص وفردوسيٌّ محض؛ انظر إليه كيفَ يتحدّثُ عن جبران خليل جبران، وزُها حديد والأب يوسف سعيد، ثمّ حبيب موسى وصدر الدّين أمين، هؤلاء كلّهُم من أهل التنوّر والإزهار والبتوليّة الحقّة. وانظر إلى ما كتبهُ عن طاغور مثلًا وسَتَعِي للعُمق أنّ اختياراته ليست بالعفويّة بتاتًا، وإنّما هي مقتطفةً من الفردوس بدقّة شديدة، وليسَ ما يقولُه عن مبدعٍ ما تجدُه عندَ مُبدع آخر، بل على العكس من ذلك تمامًا؛ إنّ كلّ اسمٍ عند صبري له خصوصيّته وصفاته وبَصْمَتُه التي لا تتكرّرُ أبدًا، لكنّهم يشتركونَ جميعًا في شيءٍ واحد: إنّهُم يسكنون الفردوسَ الإلهيّ، ويتنعّمون بمطره النقيّ البهيّ، ويتجدّدونَ فيه حياة بعد حياةٍ، وإلّا فما معنى أن تكون بينهم عازفة السّيتار الهنديّة أنوشكا شنتر، والأوبراليّة هبة القوّاس، والفنّانة جاهدة وهبة، أليسَ ذلك لأنّ الموسيقى هي اللّغة الرّسميّة للسّماء؟! صبري يوسف يعرفُ هذا جيّدًا، ويعلمُ أنّ الموسيقى كامنة في كلّ العلوم والمعارف الإنسانيّة، وقد قالَ عنْها في أكثر من مقام إنّها: ((هي الحياة بعينها، تُطهِّر الرّوح من منغصّات الحياة، بلسمٌ شافٍ من آهاتِ السِّنين، تناغي القلبَ بأحلام الغد الآتي، تهدهدُ القلبَ بسطوعِ القمر وهو يعانقُ حنينَ عاشقة في ليلةٍ قمراء[…] فالموسيقى صديقةُ حلمه المفتوح على مروجِ الدُّنيا، لا يستطيعُ أن يتصوَّر الكونَ بدونِها، فهو يُسبغُ عبر إيقاعاتها حبورَ الكلمة المنسابة من حنينِ الرُّوحِ إلى فضاءاتِ ذاكرةٍ معبّقة بخيوطِ الشَّوقِ إلى محطّاتِ العمرِ، تنسابُ الكلمة معَ بهجةِ انبعاثِ أنغامِ الموسيقى ضمنَ إيقاعِ تجلِّيات القصيدة وهي تسمو نحوَ أحلام وارفة بوهجِ الانتعاش!)) (3)، نعم؛ فالموسيقى وحيٌ أُنزلَ على الإنسان من سماوات الصّفاء والنّقاء ليُعَرِّفَهُ بخالقه، ويُسْعِفَهُ بلغة جديدة يتواصلُ بها معهُ، تكونُ ترتيلةً من تراتيل الرّوح، وترنيمةً من ترانيم الفؤاد، وحبلًا سرّيًّا يُغذّيه بمصلٍ كونيّ ليس له مثيل. إنّهَا كالعشقِ تُفتّتُ بمائِها الزّلالِ قلبَ الصّخر، وتغسلُ همومَ النّفس وأحزانَها. وكالقنديلِ تطردُ العتمة من وجه النهار، وتفتحُ ذراعَيْها لمعانقة كلّ البشر مهما اختلفت لغاتهم وعاداتهم وانتماءاتهم. إنها الفنّ الذي يُجسِّدُ في أحسن صورة سرَّ الخلقِ والخليقة، وهيَ لهذا لصيقة بأهمّ الحالات والتجارب الرّوحيّة التي يمكنُ أن يمرَّ بها كلّ كائنٍ في حياته؛ وأعني بها تجربةَ العشق، ثمّ تجربةَ الموت والفقد، وكذا تجربة التعرّفِ إلى اللّه، وهي أمُّ التجاربِ كلّها التي منها انطلقَ كلّ شيء (4)، والتي بها دخل الإنسانُ إلى عوالم المعرفة الحقّة، كما فعلتْ كلّ هذه القامات السّامقة التي كتبَ عنها صبري يوسف في كتابه هذا بجزأيْه الأوّل والثّاني بمَن فيها طاغور الّذي كان حينما يأتيه وحيُ الكتابة يُغلق على نفسه في غرفته لأربعة أيّام أو ربّما أكثر، ولا يخرجُ إلى أن تتحوّلَ طاقتُه إلى إبداع نورانيّ خلّاق، يُصبحُ معه وجهُه مُحاطًا بهالة من النّور وجسدُه فوّاحًا بعِطر القداسة، كوردةٍ صوفيّةٍ في فردوس الله، مثله في هذا مثل كلّ هذه الورود التي يقفُ بقُربها صبري يوسف ليعاينَ ألوانَها الخلّابة وجمالَها الآسر، ويقرأَ الحروفَ المرتسمة فوق جبينها، ويسكر بشذا عبيرها الفوّاح، كدرويش يدُور بسرعة البرقِ في فلكِ البهاء إلى أن يدخل حال الغيْبة فيتجلّى لهُ كلّ اسمٍ على حقيقته: نقشًا في خيال العقلِ الكونيّ الذي أظهرَ الوجودَ بسرّ “كُنْ فيكونْ”!

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‏نبات‏، ‏منظر داخلي‏‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1)السّيّد حسن الأبطحيّ، معراج الرّوح، ترجمة إبراهيم رفاعة، ط2، دار البلاغة، بيروت، (1993).

(2)د. أسماء غريب، قصيدة (كذبة كبيرة) ضمن ديوان (ڤـتامين سي)، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، (2020)، ص(51-52).

(3)صبري يوسف، حوار مع الذّات؛ ألف سؤال وسؤال، الجزء الخامس، سؤال رقم (425)، دار صبري يوسف، ط1، ستوكهولم، (2017)، ص(32).

(4)د. أسماء غريب، أنا رع، دار الفرات للثقافة والإعلام، العراق، (2016)، ص(62).

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏٢‏ شخصان‏، ‏‏بما في ذلك ‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏بدلة‏‏‏‏

نتابع تجليات خيال المبدع الأديب و التشكيلي السوري #صبري_ يوسف Sabri Yousef..عن صاحب الصوت الدافئ#عدنان_ كريم.. الفنَّان الرهيف الذي يسقي خيوط الأمل العطشى للمطر..– من كتاب تجليات الخيال – الجزء الأول..

لا يتوفر وصف للصورة.

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نبات‏‏

 

عدنان كريم فنَّان رهيف يسقي خيوط الأمل العطشى للمطر

عدنان كريم

(17)

 

يولد الفنّان في ليلةٍ قمراء وأمّه مذهولة من تلألؤات النُّجوم، تحلمُ أن يبزغ جنينها بوميضِ خيوطِ النّجوم، يولدُ وأمُّه موحومة بضياء نجمة، بهبوب نسمة معبّقة بهفهفات السَّنابل، عدنان كريم فنّان رهيف الأداء، صاحب صوت دافئ حنون مفعم بالحبِّ والمناجاة، كأنّه يرتِّل ويناجي قلوب العشّاق ووهجِ حنينهم العميق إلى هدوء اللَّيل على إيقاعِ هديل يمامةٍ ترفرفُ جذلى. حالما أسمع أغنية: “ئه‌ىشه‌مىشه‌وان” (عنوان أغنية بالكرديّة)،تستيقظ في أعماقي خيوطِ الحنين إلى الماضي الغابر، وتنفرشُ في خيالي حبور العشق الآفل في أعماقِ مرافئ الرّوحِ، وتستنهض الذّكريات والحياة بكلِّ طزاجتها وسط الأهل والأحبّة الأصدقاء.

يشبه صوتُ الفنان عدنان كريم حلمًا خاطفًا يعبر بسلاسة إلى أعماقنا، يؤدِّي ألحانه بكلِّ جوارحه، فيبلسم الجراح ويسقي خيوط الأمل العطشى للمطر، ويزرع في القلب أسرار بوح الرُّوح في صباحٍ مبلَّلٍ بأهازيج الزُّهور وهي تتمايل بين تماوجات هبوب النَّسيم المندّى بأريجِ الحنين الملفّح فوقَ خدودِ الحبيبة. سمعتُ أغنية “ئه‌ى شه‌مى شه‌وان” عشرات عشرات المرّات. وكلّما جرفني الشَّوق إلى تجلِّيات وهج الرّوح، أعود إليها وأسمعها بشغفٍ مبهج للقلب؛ لما فيها من أداءٍ رخيم وعذب، رغم المساحات القليلة الّتي يبحر فيها، كأنّه لحّن وغنّى هذه الأغنية؛ كي يناجي مرامي القلب بروحانيّة شفيفة.

لا أجيد الكرديّة السُّورانيّة، ولا البادينيّة، لستُ كرديًّا لكنِّي أجيد الكرديّة الكرمانجيّة، ومع هذا عندما أسمع هكذا أغنية من الفنّان عدنان كريم، أشعر وكأنِّي أفهمها بعمق، من خلال أدائه المنساب كشلّال فرحٍ، وكأنّه تمرّس على مخاطبة الرُّوح والقلب وما بينهما من تجلّيات بوح العشق وعناقِ هلالات الأمل وهي تموجُ في شواطئ أحلامنا، رغمَ أنَّ مساحة صوته عاديّة للغاية، لكن مساحة مناجاته لأرواحنا ومشاعرنا وشوقنا ومنعرجات حنيننا غير عاديّة، كأنّه يتعانق مع مشاعرنا برهافةٍ مدهشة من خلال تفاعله بكلِّ مشاعره وأحاسيسه؛ لهذا، فهو من الفنَّانين القلائل الّذين يجعلونك تسمعه بكثير من الهدوء والتّأنّي، والكثير من التّأمُّل، وهو من الفنّانين الَّذين التقيتهم بكلِّ فرحٍ في سماء غربتي في ستوكهولم عندما كنتُ أتابع دراساتي الجامعيّة لكتابة رسالة التّخرج للفن: الرّسم، وحالما عرفتُ-أثناء لقائي به- أنّه فنّان تشكيلي وموسيقي، تقرّبتُ منه أكثر، وبنينا خلال فترة قصيرة صداقة مورقة بالاحترام المتبادل والتَّواصل وبراعم الأمل.

تبرعمَ فرحٌ في أجنحتي، عندما وقّع لي على اثنين من “سي ديهاته” عربون صداقة ومحبّة، وكم رسمتُ لوحاتي لساعاتٍ طوال وأنا أسمع أغانيه الشَّجيّة وأغاني فنّانين من نكهة المطر، متعةٌ غريبة ولذيذة كانت تغمرني وأنا أسمع أغانيه، وأرسم أزاهيري من وحي توهُّجات الرّوح وتجلّيات بوح الخيال!

تنبتُ القصيدة من رحم الفرح والحبِّ والجمال، ومن وحي أصدقاء من لون الشّفق الصّباحي، رسمتُ بهاء أغانيه وألحانه فوق بسمة ألواني وهي تزرعُ هفهفاته للطفولة والصّباح واللَّيل الحنون. كلّما نظرتُ إلى لوحاتي المنبعثة من وحي استماعي لأغانيه، تساءلتُ: هل الألوان والأنغام والشّعر وجموحِ الخيال ودقّات القلب وهفهفات حنين الرّوح، تولدُ من خلالِ تماهياتبعضها مع بعضٍ عبر انبعاثِ شهقاتِ الخيال؟!

 

ستوكهولم: مسودة أولى (2015).

صياغة نهائيَّة (15/ 12/ 2017).

 

  لا يتوفر وصف للصورة. ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏٢‏ شخصان‏، ‏‏بما في ذلك ‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏بدلة‏‏‏‏

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اسم المؤلِّف: صبري يوسف.

عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.- الجزءالأوَّل.– مقالات نصوص أدبيَّة.- الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).

الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).- تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.- صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.- حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.

دار نشـر صبري يوسف – [email protected]

Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)

لا يتوفر وصف للصورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*يليه بالنشر مجموعة الجزء الثاني :