حوار مع الذّات.. ألف سؤال وسؤال..الجزء الأول – السؤال من 76 – إلى 100 – للأديب و التشكيلي السوري#صبري_ يوسف Sabri YOUSEF ..

حوار مع الذّات.. ألف سؤال وسؤال..الجزء الأول – السؤال من 76 – إلى 100

للأديب و التشكيلي السوري#صبري_ يوسف Sabri YOUSEF ..

 

  1. أنهيتَ المرحلة الابتدائيّة والإعداديّة والثَّانويّة دون أن يكون لديك كرسيٌّ وطاولة خشبيّة، أين وكيف كنتَ تحضِّر وظائفك ودروسك المدرسيّة؟

حقيقةً أنهيتُ دراستي الإعداديّة والثّانويّة دون أن يكون لدي كرسيّ وطاولة خشبيّة، ليس بسبب الفقر؛ بل لأنّ التَّقاليد الفلّاحيّة آنذاك ما كانت تفكّر ولا تخطِّط لأن يكون للطالب غرفة مستقلّة، وبالتّالي ما كان متاحاً أبداً أن نخصِّص ركناً من أركان الغرفة الّتي كنّا نعيش فيها لطاولةٍ وكرسي؛ لأنّنا كنّا نتناول الطَّعام على الأرض، نفترش الأرض فوق المروش/ البساط، والّتي كنّا نستعيضها عن البطانيّات، وهكذا تمَّ إلغاء فكرة أن يكون لدي طاولة خشبيّة وكرسيّ في الغرفة والمطبخ الصَّغير الّذي كنّا نطلق عليه: “بْخيري”، وما كنتُ أشعر أنّه ينقصني طاولة وكرسي؛ كي أقرأ وأكتب دروسي على الطَّاولة؛ لأنّني كنتُ أقرأ على دوشكاية صغيرة وأتّكئ بظهري على الحائط وأنا بجانب مدفأة الحطب، وأقرأ دروسي، وعندما كنت أكتب وظائفي كنت أستلقي على بطني، وأضع وسادة تحت صدري، وأفرش دفاتري وأقلامي وكتبي حول متناول يدي، كنتُ آخذ جانباً من المدفأة وأثناء المساء، كنتُ أنزِّل مصباح الكاز نحو أسفل الجدار بارتفاع حوالي متر من الأرض، وأظلُّ مسترخياً على صدري، وأغطِّي نفسي باللّحاف، ووسادتي تحت صدري، وأدرس دروسي على أصوات شخير بعض الأهل وهم نيام، وكان والدي يستيقظ حوالي منتصف اللّيل؛ كي يضع علفاً للبقرات والبغال، وكان يراني مستيقظاً أعمل دروسي وأقرأ وظائفي بهدوء عميق، فيندهش على صبري ومواظبتي رغم الكثافة السّكانيّة، فقد كنّا: أربعة إخوة، وأختَين، وأمّي، وأبي، نعيش في غرفة كبيرة نوعاً ما، مع مطبخ صغير، وقد كان لدينا دكّة/ مصطبة بناها والدي وصمَّمها لجلوس الضِّيوف عليها في صدر الغرفة بارتفاع (65) سم، وعمق (65) سم، وطول أربعة أمتار تقريباً، وحولها وسائد من كلّ الأطراف، وأحياناً كنتُ أنام عليها أثناء النّهار؛ كي آخذ قسطاً من الرّاحة، وحالما كان يستقبلنا الرَّبيع، أخرج بعد الدَّوام من المنزل وأقرأ في الهواء الطَّلق، أشقُّ طريقي من ديريك موجّهاً أنظاري نحو ربوع كرزرك على الطَّريق التُّرابيّة، ثمّ أتابع طريقي وأنا أحضّر دروسي بأكثر من مادّة، حيث كنت أضع كتاباً تحت حزامي، وأقلب عليه قميصي، متّجهاً نحو قرية قضاء رجب/ قزرجب، وهناك كانت أختي المتزوّجة نعيمة تستقبلني ببشاشة وتسألني عن أمّي وأبي وإخوتي، ثمَّ تقدِّم لي العسل الشَّهي مع خبز التَّنّور، وآكل العسل بشهده بشهيّة عميقة، فقد كان لصهري ووالده منحلة كبيرة ينتجون كلّ موسم العديد من تنكات العسل!

وبعد أن آخذ قيلولتي واستراحتي، كنتُ أشرب الماء، وأوجّه أنظاري نحو قرية باب الهوى/ كاني نعْمِي، ثمَّ من هناك أعود إلى المنزل بعد أن أكون قد قرأت قرابة ثلاث ساعات، وراجعت مادّتين من موادّي الحفظيّة، وغالباً ما كنتُ أدرس دروس التّاريخ، والجغرافية، والفلسفة، واللُّغة الإنكليزيّة، وغيرها من المواد. كم كنتُ أفرح وأنا أقرأ في الهواء الطَّلق، وأحياناً كثيرة كنت أقرأ في ممرّات المدارس خلال أيّام الشِّتاء؛ لو جاءنا ضيوف أو زوّار يشوّشون عليّ في المنزل. وهكذا تجاوزت كلَّ المراحل الدِّراسيّة، أدرس في الهواء الطّلق، وفي ممرَّات المدارس، وفوق دوشاكيتي الصَّغيرة على بطني، وكنتُ من الأوائل على أقراني في مادّة الفلسفة واللُّغة الإنكليزيّة والعربيّة. والطّريف بالأمر أنّني حتّى تاريخه، عندما أقرأ في السَّرير ويخطر على بالي فكرة قصصيّة أو شعريّة، سرعان ما أضع وسادتي تحت صدري وأفرش أقلامي وأوراقي أمامي، ثمَّ أكتب وأكتب برغبةٍ عميقة، وكأنّي أكتب على طاولة من الرّخام وكرسي مطرّز بمساند ووسائد من الحرير، تتدفَّق أفكاري بانسيابيّة عجيبّة ولا أشعر بالزّمن حتّى السّاعات الأولى من الصّباح، وإذ بي أكتب قرابة ثلاثين صفحة من الحجم الكبير، علماً أنّني منذ حوالي عشرين عاماً أكتب نصوصي وأشعاري وحواراتي وكتاباتي على الحاسوب مباشرةً، ونادراً ما أكتب على الورق أو في السَّرير، لكن عندما تنبلج فكرة ما في السَّرير، لا أستطيع مقاومة هذه الحالة الاسترخائيّة على صدري، ولهذا أبتسمُ متمتماً في سرّي، كان معي الحقّ كلَّ الحقّ أن أكتب وظائفي بشغفٍ أيّام زمان على بطني ووسادتي تحت صدري على دفء مدفأة الحطب، وإلّا كيف حقَّقتُ كلّ تلك النَّجاحات دون أن أتأخَّر عاماً واحداً خلال كافّة مراحل دراساتي؟!

  1. انصبّتْ اهتماماتكَ على مادّة اللُّغة الإنكليزيّة واللُّغة العربيّة والمواد الاجتماعيّة، لماذا برأيك؟

انصبّت اهتماماتي على مادّة اللُّغة الإنكليزيّة والعربيّة والمواد الاجتماعيّة والفسلفيّة؛ لأنَّ ميولي كانت أدبيّة فكريّة إبداعيّة، فأحببتُ اللُّغات والأدب منذ المرحلة الابتدائيّة مروراً بالإعداديّة والثّانويّة؛ وربّما لأنّه ما كان هناك من يعلِّمني ويساعدني في حلِّ المسائل العلميّة كالحساب في المرحلة الابتدائيّة والرِّياضيات والفيزياء والكيمياء في المراحل اللَّاحقة، ولهذا كان مستواي في المواد العلميّة وسطاً، وما كنت أميل للأرقام والمعادلات الرّياضيّة، بينما بقيّة المواد النّظريّة كانت تحتاج فقط إلى جهودٍ خاصّة منّي، فكنت بجهودي الشَّخصيّة أحلُّ وظائفي من خلال قراءتها وحفظها، بينما في المواد العلميّة وجدتها غير قريبة من اهتماماتي وكنت أنجح فيها من دون أن أكون متفوّقاً، بينما في المواد النّظريّة وخاصةً اللُّغات كان تفوُّقي قائماً على مدى تحضيري لها واستيعابي العميق؛ لأنّني كنتُ أدرسها برغبة عميقة، وما كنت أستمتع بقراءة المواد العلميّة، وكنت أشعر وكأنّ حفظها ومراجعتها بمثابة عقوبة، لهذا اخترت الفرع الأدبي، وتفوّقتُ على أقراني بمادّة اللُّغة الإنكليزيّة، وكنتُ شغوفاً ومتفوّقاً بمادّة الفلسفة واللُّغة العربيّة، وما كنتُ أحبُّ مادّة التّاريخ والجغرافية؛ لأنّني كنتُ أراها مواد لا تتعلّق بالفكر والإبداع بقدر ما تتعلّق بالحفظ والاستيعاب، وأحببتُ مادّة المجتمع والتَّعبير والإعراب والعروض والقصائد وشرحها وأحببتُ الأدب بشكل عام!

  1. كيف كنتَ تحضِّر اللُّغة الإنكليزيّة، فأصبحتَ متفوِّقاً على أقرانكَ في المرحلة الإعداديّة والثَّانويّة؟

لهذه المرحلة الدِّراسيّة منعطفات وذكريات طيّبة مبهجة للقلب وتحلِّق في مرافئ الذَّاكرة البعيدة، بعد أن سرتُ في برِّ الأمان وأصبحت في شعبة الإنكليزي، غمرني فرحٌ عميق وبدأتُ أخطّطُ لتحضير هذه المادّة قبل أن يبدأ المدرّس بتدريسها لنا، فاشتريتُ نسخةً من منهاج الصَّف السَّابع، كما اشتريتُ دفاتر لكلِّ مادّة على حدة للوظائف البيتيّة، ودفترين لمادّة اللُّغة الإنكليزيّة، ودفتراً صغيراً خاصَّاً للكلمات الجديدة، وبدأت أقرأ الدَّرس في البيت قبل أن يشرحه لنا المدرّس، وأتدرّب على كتابة الحروف وحفظ الكلمات الجديدة وكتابة الملاحظات والقواعد لكلِّ شاردة وواردة، بحيث لا يفوتني أيّة فكرة خلال الشَّرح في الصَّف، كأنّني أخوضُ دورة لغة إنكليزيّة خاصّة، وهكذا بدأتُ أطرح نفسي من أوّل يوم أنّني قادر على فهم هذه المادّة، وأتذكَّر بعد أن شرح الأستاذ الدَّرس الأوّل سألنا مَن يستطيع قراءة الدَّرس، رفعت يدي مباشرة وقرأتُ الدَّرس، وكانت هذه الخطوة الأولى، ثمَّ تلتها خطوات، كنتُ مشاركاً في الإجابة عن أسئلة المدرِّس، وأحفظُ الكلمات الجديدة إملائيّاً وقواعديّاً، مثلاً كيف تتمُّ كتابة الكلمة الاسم في حالة المفرد والجمع، وكيف نلفظ الكلمة، وركّزتُ على الحروف الصّوتيّة وتغيّراتها أثناء كتابتها بالمفرد والجمع، وكتبتُ المفردات الَّتي لها المعنى نفسه، وقسّمت اللُّغة إلى أقسام الكلام: ضمائر، أسماء إشارة، أسماء موصولة، أفعال، أسماء، حروف جر، الظُّروف بأنواعها، ثمَّ ركّزت على الأزمنة والتَّصاريف الخاصّة بالأفعال، وكلّ هذا قمت به مرحلة مرحلة، وخلال الصَّف السّابع وأخذت فكرة على المنهاج بكلِّ هذه التَّفاصيل، علماً أنّني ما كنتُ قد تعلَّمت كلّ هذه التَّفاصيل في المدرسة، لكنّي كنتُ قد اشتريت لي منهاج الصَّف الثَّامن وأقرَؤُه بنفسي وأحفظ مفرداته وشروحاته وتفاصيله بدفتر خاص غير دفتري المدرسي الخاص بالصَّف السَّابع، وهكذا دائماً كنت أدرس منهاجين دفعة واحدة، كي أكون متقدِّماً على أقراني، وبعد أن انتهيتُ من الصَّف السّابع اشتريتُ لي قاموس إنكليزي عربي، صغير الحجم، بحيث يكفيني للمرحلة الإعداديّة، وبدأت أقرأ فيه وأستخرج الكلمات الصَّعبة، وخلال دراستي في المرحلة الإعداديّة ركَّزتُ على حفظ الكلمات الجديدة والمصطلحات والأزمنة، وكنت دائماً آخذ العلامة التّامة في الإملاء والتَّصاريف وتركيب الجمل والعكوس والقراءة واللّفظ السّليم؛ لأنَّ في اللُّغة الإنكليزيّة هناك بعض الحروف يتمُّ لفظها بشكل مختلف عن لفظها الطّبيعي، فيتمُّ دمج حرفين ويشكِّلان لفظاً جديداً، كما لا يتم لفظ بعض الحروف عندما تأتي في سياق معيّن في الكلمة، واتبعت طريقة حفظ الكلمة لفظيّاً وإملائيَّاً، وكنت أتبع طريقة التّرديد لفظاً وكتابةً في الوقت نفسه، مثلاً لو صادفت كلمة معيّنة طويلة وصعبة اللَّفظ والإملاء، أُقسِّمها إلى مقاطع، وأركّز على كلّ مقطع صوتي وكيفية كتابته ولفظه وأدمج هذه المقاطع مقطعاً مقطعاً، ثمَّ أتدرّب على كتابة الكلمة ولفظها، واتبعت قراءة دروسي بصوت مسموع؛ كي ألفظ الكلمة كما هي، وهكذا أصبح لدي شغف كبير بحفظ أكبر عدد ممكن من الكلمات والمفردات؛ بحيث أتمكَّن من حفظها لفظاً وإملاءً، كما حفظت الأفعال الشَّاذة غيباً، وكنت أعيدها عشرات المرّات، ولو أخطأ المدرّس بتصريف بعض الأفعال، كنت أصحِّحها له، وهذا حصل معي في الصَّف التَّاسع وما فوق، ولاحظت أنَّ المفردة الإنكليزيّة أحياناً كثيرة يتغيَّر معناها عندما تتصل مع حرف جر؛ فتعطي معنى جديداً مغايراً للمعنى الأصلي، وهكذا حفظتُ الكلمة من دون حرف جر ومع حروف الجر الخاصّة بها، وأحياناً كانت تأخذ الكلمة أكثر من حرف جر، وكنت أحفظ الكلمة كمعنى ومع حروف الجر الّتي تأخذها، وأضع الكلمات في جملٍ مفيدة لتوضيح وترسيخ معناها، وكنت أتبع طريقة حفظها وكتابتها في دفتر خاص، ظلّ معي منذ الصَّف السَّابع والثَّامن والتَّاسع، وكانت الملاحظات والقواعد كمرجع لي، أعيد قراءتها بين الحين والآخر، إلى أن وجدت نفسي في الصَّف الثَّامن أنّني قادر على المحادثة مع المدرِّس ببعض المحادثة البسيطة، وكنت أصيغ الرّد والجواب بشكل صحيح، مستخدماً الضَّمير والفعل ثمَّ بقيّة الجملة وفي صيغته الزَّمنيّة الصَّحيحة، وفي الصَّف التَّاسع بدأت أراجع ما قرأته في الصَّف السَّابع والثَّامن خلال العطلة الصَّيفيّة، كما أنّني كنتُ أحضِّر كالعادة الدَّرس قبل المدرِّس، واشتريت لي قاموساً أكبر من قاموسي، لحفظ أكبر قدر ممكن من الكلمات الجديدة، وركَّزت على كل كلمة وجملة وسطر في المنهاج، وحفظت التّمارين واشتريت لي الحلول الخاصّة بالتَّمارين، لكنّي كنتُ أحلُّ التَّمارين قبل أن أنقلها بشكل حرفي ومباشر مقارِناً إجاباتي بإجابات الحلول الجاهزة الَّتي اشتريتها من المكتبة، وأحياناً كنت أشكِّك بحلول الإجابات الجاهزة وأراها غير دقيقة، وتبيّن لي أنّني أكتشف بعض الأخطاء المطبعيّة والقواعديّة في كتاب الحلول، وهكذا لم يكُنْ هذا الكتاب بالنّسبة إليَّ جواباً نهائيّاً، بل كان مجرد التّأكّد من دقّة إجاباتي من جهة، وكان الموقف يخلق لي حالة تحدّي للمرجع الخاص بالحلول، وكان أغلب الطُّلَّاب يشترون هذه الحلول الجاهزة ويكتبونها من دون أن يفهموا معناها ومضمونها، ولماذا تمَّ الجواب بهذا الشّكل وليس ذاك؟ وهكذا اجتزت الصَّف التّاسع، المرحلة الإعداديّة بتفوُّق في مادّة اللُّغة الإنكليزيّة، وجهّزت نفسي للمرحلة الثّانويّة، وراجعت منهاج السّابع والثَّامن والتَّاسع في العطلة الصَّيفيّة قبل أن أقرأ منهاج الصَّف العاشر، وأصبحت قادراً على أن أحاور المدرّس في أيّة قضية نقاشيّة في الصّف باللُّغة الإنكليزيّة، كما أنّني كنت أستوعب القصص الَّتي أقرَؤُها بالإنكليزيّة، ودوَّنت كلّ المفردات الجديدة والقواعد الجديدة ولو لم يحضّر مدرّس المادّة في الصّف العاشر والحادي عشر والبكالوريا الدَّرس قبل أن يشرحه لنا، كنت أكتشف له أخطاءً لو وقع فيها، وقد استقبلنا في الصَّف الحادي عشر أدبي المدرّس عدنان ديوانة، وكان مُسرَّحاً حديثاً من الخدمة، وتمَّ تعيينه في ثانويتنا مدرّساً للغة الإنكليزيّة، وبدا لي أنّه لا يحضِّر المنهاج بشكل جيّد؛ لأنّني كنتُ أكتشف له بعض الأخطاء الإملائيّة أثناء كتابته على السَّبورة، إلى درجة أنّه قال لي: هل أنت طالب عندي أم زميل، هل أنت طالب في الصَّف الحادي عشر أدبي؟ كنت أجيبه: أيوه أستاذ، ألا ترى لباسي الموحّد مع زملائي، وإشارة الصَّف الحادي عشر على كتفي؟ كان يقول: نعم أرى هذا لكنّك تستطيع أن تشرح الدّرس تقريباً مثلي! وفعلاً في تلك المرحلة بالذَّات لو كلَّفتني إدارة المدرسة بتدريس المنهاج لزملائي كنت قادراً على تدريسهم لو حضَّرت الدَّرس في البيت جيّداً، فما كان ينقصني أي شيء لتدريس المنهاج! ثمَّ قال لي: يا صبري تعال معي إلى الإدارة! خرجتُ معه إلى غرفة المدرِّسين وإذ به يقول لي: أنت يا عزيزي تسبِّب لي إحراجاً في الصَّف؛ لأنّك تنبّهني أحياناً إلي كتابة بعض الكلمات الخاطئة على السّبورة، وأحياناً تحاججني على إجابات خاطئة في القواعد أو الإملاء، وهذا يسبِّب لي إحراجاً أمام الطُّلاب، فقلت له: وما المطلوب منِّي يا أستاذ؟ صدّقني أنا أحبّك كثيراً لأنّك أستاذي، فأجابني: وأنا أحبُّك كثيراً يا صبري. إذاً ماذا تطلب منِّي طالما تحبُّني وأحبُّك؟ فقال لي أن لا تحرجني أمام الطُّلاب والطَّالبات! فقلت له: ولكن يا أستاذ في هذه الحالة ستعطي أحياناً بعض المعلومات الخاطئة لزملائي وزميلاتي، فهل تقبل أن تقدِّم معلومات خاطئة للطلّاب والطَّالبات؟ فشعر أنّني أفحمته مع أنّني ما كنت أريد إفحامه وكنت أصلاً شخصيّة خجولة، وعندي حياء كبير، لكنّي كنتُ واثقاً من نفسي رغم حيائي وخجلي، فقال: والحل يا أستاذ! أطلق علي صفة أستاذ! فقلت له: عفواً أستاذ لماذا تقول لي أستاذ وأنا طالبك؟ فقال: صدّقني أنت أستاذ ونص! طالما تكتشف لي أخطاء وأنا خريج أكاديمي وأنت مجرّد طالب في الصَّف الحادي عشر أدبي، فقلت له: أنت تسألني عن الحلّ، الحلُّ يا أستاذ موجود وهو أن تحضّر الدّرس يوميّاً قبل حضورك الدّوام؛ لأنّك على ما يبدو نسيتَ بعض معلوماتك خلال فترة خدمة العلم، وأنت تعرف يا أستاذ أنّنا لا نتحدَّث باللُّغة الإنكليزيّة، ونتعلَّمها تعلُّماً؛ ولهذا سرعان ما ننساها، ولذا أنت تحتاج إلى أن تحضِّرها، وكأنّك لأوِّل مرّة تدرِّسها بهذا الحالة ستجنِّب نفسك من الإحراجات الّتي تقع فيها، وتقدِّم لنا معلومات دقيقة وصحيحة! نظر إلي مبتسماً وقال لي: يا صبري أنت إنسان رائع وطالب رائع وأفتخر أنّك طالب من طلّابي، وثق تماماً أنّني سآخذ باقتراحك وسأحضِّر الدَّرس تفادياً من إحراجي أمام الطُّلَّاب، ومعك الحقّ تماماً أنّني نسيتُ قسماً من معلوماتي خلال انقطاعي عن التَّدريس، وهكذا منذ ذلك اللِّقاء بدأ المدرِّس يحضِّر دروسه، لكنّه بين الحين والآخر كان يقع في أخطاء خفيفة، وفيما كان يمرُّ بجانبي ويسألني كيف اللُّغة معك، فأهمس له على أساس لدي سؤال جانبي وأقول له: هذه المفردة أستاذ تكتب هكذا، فيهمس لي ويقول:يبدو أنَّ تحضيري غير مركّز، فأبتسم له وبعد لحظات يحاول تصحيح ما وقع فيه، وفي إحدى المرات في امتحان شفهي طلب منِّي أن أقرأ مقطعاً من القصّة، وبدأ يسألني أسئلة عن أفكار وردت في القصّة الّتي يدرّسها في المنهاج، وكنت أجيب عنه بالإنكليزيّة، فقال لي: تفضَّل ضع لك العلامة الَّتي تريد! فقلت له: عفواً أستاذ أنت أستاذي. وأنت تقدِّر علامتي، فقال لي: طوال أنا مدرسِّك سأضع لك العلامة التّامة؛ لأنّك تستطيع أن تدرس المنهاج لزملائك مثلما يدرّسه أي مدرّس. وهكذا تمرُّ الأيام، وتبقى هذه الذُّكريات محفورة في ظلال الذَّاكرة، وكأنِّي عشتها منذ أيّام، حنين عميق يشدّني إلى ذلك الزّمن البهيج، وإلى الأستاذ عدنان ديوانة، وإلى الزَّميلات الرَّائعات أميرة عبدالكريم، وكلستان المرعي، وسميرة موسى، وجانيت شمعون، وسميرة سليمان، وسامي رشكو، وجورج وارطو، وبولص وارطان، وآخرين … تطفح دمعتي وأنا أكتب من قطب الشِّمال توهُّجات خيوط الحنين، غائصٌ في أعماق غربتي، تنساب هذه الذّكريات كأنّها بلسمٌ شافٍ لغربتنا في الحياة، فتنفرش ديريك أمامي بكلِّ بهائها وطلَّابها وطالباتها ومدرِّسيها ومدرسّاتها والأحبة كلّ الأحبة، مندهشاً من كلِّ هذا الحنين المعشّش في أعماقي، عابراً البحار منذ ربع قرن من الزّمان؛ بحثاً عن أبجديات جديدة للإبداع، والسُّؤال الأهم، كيف سأجد توازناً بين توهُّجات الإبداع ووهج الحنين الَّذي لم يفارق غربتي على امتدادِ كلّ هذه السّنين؟!

  1. عودة إلى دور اللُّغة العربيّة أو الإنكليزيّة أو أيّة لغة أخرى، ماذا تعني لك اللُّغة في عالمِ اليوم؟

اللّغة، أيّة لغة عالم قائم بذاته، وكما أسلفتُ في جواب سابق أنَّ كلَّ الحضارة البشريَّة قائمة ومرتكزة على اللُّغة، ولولا اللُّغة لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من حضارة إنسانيّة في شتّى أنواع التَّخصُّصات؛ لأنّها الحاضن الأبقى لكلِّ أنواع الثّقافات والإبداعات والعلوم والفنون بمختلف أصنافها وتفرُّعاتها، وكلّ مجتمع لا يركّز على اللُّغة وما تحمله من إرث ثقافي وحضاري وأدبي وفنّي وإبداعي وعلمي، مجتمع مصاب بالتّقهقر والتَّراجع والانهيار، لهذا علينا أن نركّز على اللُّغات؛ لأنّها السَّبيل الأمثل للتواصل مع المجتمع البشري في كلِّ مكان، فعبر اللُّغة نستطيع أن نطوِّر البلاد ونتواصل مع بلاد الكون، لهذا أرى من الضُّروري معرفة أكثر من لغة؛ كي نتمكّن من التَّواصل مع مجتمعات أخرى، ونستفيد من خبرات وعلوم وتقدُّم ما وصلت إليه المجتمعات المتقدّمة، وكلّما تواصل مجتمع ما مع بلدان أخرى، واطلع على خبرات غيره، وخاصّة لو كانت البلدان الأخرى متقدِّمة عليه؛ سيستفيد جدّاً من خبرات الآخرين، وسيلحق بالرّكب الحضاري والثّقافي والمعرفي رويداً رويداً؛ وبالتَّالي، سيصبح من عداد الدُّول النّاهضة، على عكس الدُّول الّتي تبقى منغلقة على نفسها وتعتمد على خبراتها الضَّئيلة ومعارفها البسيطة، ولا تتقدَّم إلّا بشكل بطيء جدّاً، كأنّها من فصائل السّلاحف، لهذا نراها تتراجع أمام هذا التَّقدُّم الكوني السَّريع في سائر تقنيات وإمكانيَّات وتكنولوجيا العصر المذهلة؛ لأنَّ ما هو متاح لدى الكثير من دول العالم، غير متاح لتلك الدُّول المنغلقة على نفسها، كما هو الأمر عند أغلب البلاد العربيّة بنسبٍ متفاوتة، والغريب بالأمر أنَّ دول العالم المتقدّم قد وصلت إلى مرحلة التَّفكير بغزو الفضاء ويفكِّرون في حال لو تعرّض الكون والكرة الأرضية إلى ظروف يصعب العيش على الأرض، يفكِّرون بحلول أشبه ما تكون خرافيّة، إذ يفكِّرون بنقل البشر إلى كواكب أخرى ممكن العيش فيها، هذه مجرّد أفكار وتخمينات، كما يفكِّرون بتأثير ثقب الأوزون وكيفية إيجاد الحلول؛ كي يجنَّبوا الكون كوارث يمكن أن تقع على الأرض، في الوقت الَّذي تتساءل بعض برلمانات العالم العربي، هل قيادة المرأة للسيارة حلال أم حرام؟! لهذا نرى كيف تنشب الحروب المميتة في الكثير من دول العالم العربي، ويناضل المواطن من أجل تحقيق حقوقه القوميّة والمذهبيّة والدِّينيّة، ويطالب بالحرّيّة والعدالة والمساواة، مع أنّه من البديهي أن تكون هذه الطّلبات محقَّقة للمواطن من خلال دساتير تكفل تحقيقها دون اللّجوء إلى المطالبة بها؛ لأنَّ الحقوق القوميّة والدِّينيّة والمذهبيّة والعدالة والمساواة والحرّيّة، حقوق بديهيّة، ولا بدَّ من تحقيقها للمواطن، وكلّ دولة ﻻ تكفل هذه الحقوق لمواطنيها عبر دساتيرها وقوانينها وتوجُّهاتها موازينها، تعدُّ دولة خارجة عن القانون وعن الزَّمن وعن التَّاريخ الإنساني والحضاري؛ لأنَّه في الوقت الرّاهن أصبح كلّ شيء واضحاً وضوح الشَّمس، ولا يمكن للعقل المهزوم والمنغلق على ذاته أن يحقِّق أي نجاح، ولا يمكن لرؤية أفكار الدُّول الَّتي تلغي الحقوق القوميّة والوطنيّة والدِّينيّة والمذهبيّة والسِّياسيّة أن تنطلي على أحد؛ لأنَّ حقوق مجانين ومعاقي الدُّول المتقدّمة مصانة ومكفولة ومحقَّقة، فكيف بحقوق العقلاء منهم؟! .. وهكذا فإنَّ اللُّغة في هذا السِّياق هي مفتاح الوصول إلى أوجِ الحضارات!

  1. ضاعت بطاقة اكتتاب امتحان الإعداديّة الخاصّة بك، كيف تقدّمتَ للامتحان وأنتَ في غايةِ القلق؟

لن أنسى القلق الَّذي انتابني ما حييت لحظة اكتشفتُ أنّني ضيَّعت بطاقة اكتتاب امتحان الإعداديّة، وبعد يومين متتاليين من القلق، نصحني أحدهم أن أذهب إلى بيت الأستاذ جرجس بهنان، مدير الثَّانويّة والإعداديّة، وتعيّن رئيساً لمركز الامتحان. واستقبلنا برحابة صدر وهزّ رأسه قائلاً: هل عندك هويّة، فقلت له: أيوه أستاذ عندي هوية وبنفس صورة البطاقة، فأجابني: جيّد، احضر هويتك وتقدّم بهويتك بدلاً من بطاقة الاكتتاب، وكم منحني ردّه راحة نفسيّة وجعلني أسترجع معنوياتي، وقال لي: تفضّل يا عيني، روح حضّر موادك؛ كي تتقدَّم للامتحان وتنجح. عدتُ أدراجي وكلِّي فرح وأمل وراحة واطمئنان، وتقدّمت للامتحان بهويّتي، وأخذ الأستاذمصطفى أحمد، أمين سرّ الامتحان التفقُّد، وسألني: أين بطاقتك؟ فقلت له: لقد ضاعت منِّي، لكنِّي مررْتُ على الأستاذ جورج مدير المدرسة ورئيس المركز وسمح لي أن أتقدّم بهويَّتي بدلاً من بطاقة الاكتتاب الّتي ضاعت منِّي. أجابني والبسمة على وجهه: ما في مشكلة، خاصّة أنَّ صورة الهويّة هي نفس صورة بطاقة الاكتتاب الأخرى المثبّتة على المقعد من قبل إدارة مركز الامتحان!

تقدّمت للامتحان بهويّتي الشَّخصيّة، ودخَّلت هدفي على الَّذي أخفى عنِّي بطاقتي؛ كي يشوّش علي امتحاني وأكون من الرّاسبين، لكم هيهات! فقد تقدّمت بكلِّ ثقة وأعصاب هادئة للامتحان ونجحت، بينما هو وغيره من الغيورين كانوا من الرّاسبين على مدى سنوات! .. وبعد أكثر من أربعين سنة على مرور هذه التَّجربة، توصّلت إلى قناعة مَنْ هو الشَّخص الّذي أخفى بطاقة الاكتتاب؛ لأنّني راجعت وقائع فقدان بطاقتي منذ سنوات وأنا أفكِّر بهذا الأمر، لأنّني كنتُ أودُّ أن أشير إلى هذا الموقف في سياق أحداث إحدى رواياتي، وعندما دقّقت وحلَّلت ما حصل معي، عثرت ببساطة على الشَّخص الَّذي اقتنص بطاقتي من أحد كتبي؛ لأنّه الوحيد الّذي كان يعرف أنَّ بطاقتي هي بين طيَّات كتابي، وأتذكَّر عندما سألته في ذلك الحين فيما إذا شاهد بطاقتي؟ أظهرَ نفسه متفاجئاً وقال لي: أيّة بطاقة؟ وتصرَّف على أساس أنّه تفاجأ بالخبر، وقال: لا يكون ضيَّعت بطاقتك، فقلت له: أيوه لقد ضاعت بطاقتي منِّي، وتصوَّرت أن تكون قد وقعت منّي في بيتكم أو عثرتَ عليها، لأنّك كنتَ معي خلال فترة استلامي البطاقة، فقال لي: يا ريت لو شاهدتها لأعطيتها لك حالاً. في حينها كنتُ يافعاً عفويَّاً بسيطاً، صدّقته لصفاء قلبي، ولكن بعد عقود من الزَّمن، تأكَّدت من خلال إحساسي وتحليلي، أنّه هو ما غيره؛ لأنّه الوحيد الَّذي كان يعرف مكان وجود بطاقتي، مع هذا فقد سامحته منذ أن أحسسْتُ أنّه هو الشّخص، ولو كان بريئاً، فهو بريء ولا غضاضة عليه، ولو لم يكُنْ بريئاً فالمسامح كريم كما يقول جورج قرداحي في برنامجه الرّائع المسامح كريم!

  1. ما هي الأعمال الَّتي قمتَ بها بعد أن تقدَّمت إلى امتحان الإعداديّة؟!

قمت بعدِّة أعمال، منها: عشيفة القطن على مدى أسابيع، كنّا نستيقظُ باكراً، نحملُ معنا طموحنا وأحلامنا، وأنا أنتظر نتائج امتحاني، وساعدت أهلي في حصاد العدس، كنت ماهراً في جمع ملُّوات العدس، والملُّوة عبارة عن مجموعة باقات العدس المحصود، نجمع الملُّوات بكومة كبيرة نطلق عليه الكديس، وبعد أن ننتهي من حصاد العدس ونكوّمه كومةً كبيرة، نلمّ الشّوك ونلصقه حول الكديس؛ كي لا تتمكّن الأغنام والأبقار الشّاردة من أكل العدس، وأستغرب كيف كان أيام زمان أماناً ما بعده أمان؟! حيث كنّا نحصد غلالنا، ونتركها كومةً في العراء، فقد كان بكلِّ بساطة يسطو عليها قطّاع الطُّرق واللُّصوص، ويسرقونها بعربيّاتهم وتريلّاتهم، لكنّي لم أسمع ولم أشاهد يوماً فلّاحاً قال أنَّ محصوله تعرّض للسرقة، بينما في الوقت الرّاهن لا أظن أنَّ أمانَ أيَّام زمان متوفّر الآن، سواء هناك في الوطن الأم، أو هنا في ربوع أوروبا بلد الحرية والعدالة والدّيقراطيّة، فهل من المعقول أن يترك المرء محصوله وإنتاج سنة كاملة في العراء، واللَّيل طويل والنّهار أطول، كيف سيعود أمان ما كنّا نتنعّم به منذ عقود من الزَّمان، كيف؟ .. كما قمتُ بعشيفة الكرم، ولملمنا الحشائش من الكرم، وكانت أمِّي تلملم أوراق العنب؛ كي تعدَّ منها وجبة الأبرخ، كم هي لذيذة وجبة الأبرخ. وعند المساء، وبعد أن آخذ دوشاً وأتعشّى، كنتُ أخرج مع الأحبّة ونتمشَّى أحلى المشاوير ليلاً، وبعد مشوارٍ قصير كنّا نعرّج على مرطَّبات أديب الشَّهيرة، نشتري منه الضّونضرمة الشَّهيّة، ثمَّ نسير في الشّارع ونتناولها بشهيّة عميقة، أحياناً كنّا نعود ونشتري كلاسة، وهي ضونضرمة مغلّفة بالشُّوكلاد اللّذيذ، كم يشمخ أمامي شارع المشوار، وكم كان له حضور وجاذبيّة ونحن نعبر أعماقه والصَّبايا الجميلات تعبق في عوالمه الفسيحة، كم من المشاوير الجميلة قمنا بها في ذلك الشّارع البهيج الّذي كان يتميّز بشبابه وشابّاته أيام العزّ. حنين عميق يجرفني إلى تلك الأيَّام وما بعد تلك الأيام، كنّا سعداء للغاية في شارع يؤمُّه الرّوَّاد، يتفرّع منه عدّة شوارع ونشقُّ طريقنا في هدوء اللَّيل، نتجاذب أطراف الحديث مع بعضنا بعضاً والصَّبايا تزيّن الشّارع وتمنحنا فرحاً وسعادة، نشعر وكأنّنا في شوارع باريس، أو شارع الحمراء في بيروت، أو في شارع القصّاع في دمشق. يا إلهي كم صبايا أيَّام زمان كنَّ جميلات، يبدو لي وكأنَّهنَّ كنَّ أجمل من صبايا هذا الزّمن أم أنّ كثافة الشَّارع في مساءات صيف ديريك كان يعطينا شعوراً مضاعفاً بالجمال والفرح والغبطة، حتّى أنّ الشّارع نفسه كان يصبح أكثر جمالاً بصباياه وشبّانه، وتمرُّ الأيّام والشُّهور والسُّنون ويبقى شارع المشوار معرَّشاً في رحاب الذّاكرة. تتراقص قامات الأصدقاء والأحبّة وأزقّة وشوارع ديريك ويبقى شارع المشوار المطلّ على ركن كنيسة السِّريان المعروفة بشموخ قبّتها نحو سموِّ السَّماء، وعلى الجانب الآخر تشمخ كنيسة الأرمن بأحجار جدرانها الزّرقاء الوديعة، ومن الجهة الشّرقيّة للشارع تضيء قبّة كنيسة الكلدان، تنتظر آل برخو وآل شكّري وآل عازو كي يرفعوا دعاء المحبّة فوق أسوار ديريك. آهٍ، نعبر البحار وتبقى ديريك شجرة وارفة في قلوبنا بكلِّ أحبّائها وبيوتها وأديرتها ومساجدها ومدارسها وأزقّتها الَّتي احتضنتنا سنينَطويلة، وماتزال عبر وداعةِ الأحلام!

  1. كيف استقبلتَ نجاحكَ في المرحلة الإعداديّة، وانتقالك إلى المرحلة الثَّانويّة؟

استقبلتُ نجاحي في المرحلة الإعداديّة بفرحٍ كبير، كنّا نلعب كرة القدم في السَّاحة الخارجيّة التّابعة لملحق الإعداديّة، هرع أحد الأصدقاء وبشّر أمِّي وأبي بنجاحي، فخرجت أمِّي إلى الحوش وبدأت تهلهل تهلهيلتها العذبة، كليليليليليلي، خلال دقائق اجتمع عشرات الرّجال والنِّساء والشَّباب والصَّبايا وأهالي الحي في حوشنا. جاؤوا يهنِّئُون أهلي بنجاحي، دخلت خالة أمينة أم فرمان وهلهلَت في حوشنا وسلّمتْ على أمِّي وباستها، ثمّ بدأت أمّي توزّع السّكاكر على أطفال الحي والضِّيوف وقدّمت الشّاي للنساء والرّجال.

كنتُ قد نويتُ شراء علبة راحة وعلبة بسكويت عندما أتلقّى خبر نجاحي، احتفالاً بهذه المناسبة، وفعلاً حالما سمعت خبر نجاحي، وجّهت أنظاري نحوَ محلّات سيروب، واشتريت منه علبة راحة من النّوع الفاخر، وعلبة بسكويت من الحجم الكبير، وذهبتُ إلى البيت بلهفة كبيرة، فاستقبلتني أمِّي وهي تهلهل على رأسي تهلهيلتها الرّائعة، فردّ عليها نساء الحارة ومعهم أختي كريمة بتهلهيلة جماعيّة موحّدة، أضْفتْ على الجوِّ فرحاً كبيراً. رشرشت أختي سكاكر على رؤوس الأطفال، وبدَؤُوا يلملمون السّاكر، عانقني أبّي وباسني، ثمَّ قبّلني إخوتي وأخواتي وعمِّي وأولاد عمي وأولاد وبنات خالي.

كان حوشنا يعجُّ بالزّوار، فقد جاء العديد من رجال وشباب ونساء وصبايا وأولاد الحارة، وفيما كنتُ أوزّع الرَّاحة والبسكويت على الأصدقاء والجيران والأهل الَّذين جاؤوا يهنِّئُوني، دخل أحمو علانة بمزماره وسعدو مطر بطبله، وبدأ يعزف أحمو علانة أغاني راقصة ورافقه بإيقاع طبله سعدو مطرب، فقامت الصّبايا والنّساء والشّبان والشّابات يمسكون الكوڤندة، دبكة الرّقص وقد عزف على إيقاع خانمان في ظهيرة يوم صيفي جميل، ثمّ بدأ أحمو علانة بقامته الطّويلة يعمل الشّاباش على رأسي، ثمّ انتقل إلى والدي يعمل الشّاباش على رأسه، فأخرج أخي خمس ليرات سورية وقدّمها له، وبعد أن قدَّم هو وعازف الطّبل سعدو مطرب وصلةً جميلة، دعاه والدي إلى المنزل، وقدّم له تنكة حنطة من أصفى مؤونة البيت، فرفع يده عالياً، يدعو لوالدي وإخوتي ولي بالتَّوفيق. شعرتُ ببهجة عميقة تغمرني وأنا محاط بهذا الجوّ الجميل، دخلت أختي نعيمة إلى الحوش وهلهلت على رأسي، واستجابت أمِّي لتهلهيلتها، وانتشرت التّهاليل بين النّساء الحاضرات، وقدّمت لي أختي نعيمة قطرميزاً من العسل الصّافي مع شهده، فرحتُ جدّاً بهديّتها اللَّذيذة، ثمّ تقدَّم صهري كورية أبو يعقوب مع والده وهنّآني والفرح يغمر قلوبنا جميعاً، وهكذا أعبر البحار وتبقى هذه الذّكريات والأحداث الدّافئة تغمر قلبي فرحاً وحبوراً، وأزداد شوقاً إلى بيتنا الفسيح في ديريك العتيقة، مسقط رأسي، ستبقين يا ديريك بكلِّ أهلها شجرةً خضراء وارفة في مرافئ قلوبنا إلى الأبد!

  1. ماذا كان يعني لكَ الصّف، اللَّوح، المقعد، الزّملاء والزَّميلات، المدرّسون والمدرِّسات؟

كان الصّف يعني لي مكاناً مقدّساً، دافئاً حميماً، يمنحني الأمل والنّجاح وبشرى الحياة، يعني لي الفرح وأجمل الذّكريات، قضيتُ قرابة ثلث قرن من الزّمن في الصُّفوف، منذ أن التحقت في بالمدرسة الابتدائيّة، فالإعدادية والثّانويّة والصَّف الخاص، وإعادة الثّانويّة الأدبيّة للمرة الثّانيّة والجامعيّة في قسم الآداب في جامعة حلب، ثمّ إعادة الثّانويّة الأدبيّة للمرة الثّالثة، ثمّ الجامعيّة من جديد في قسم الآداب في جامعة دمشق، ثمَّ أبدأ مرحلة التّدريس على مدى (13) عاماً، ثمّ عبور البحار، وفي السّويد عملت في تدريس العربيّة، ثمَّ تابعت دراساتي الجامعيّة بتفوّق في الفنون واللّغة السُّويديّة وغيرها من المواد؛ لهذا كلّه أصبح للصف مكانة مقدّسة في وجودي وكياني وحياتي، الصَّف صديقي وحبيب قلبي، منه وفيه تعلّمتُ أبجديّات الحرف، الّذي فتح أمامي آفاق المحبّة والكتابة والوئام الإنساني، واللُّوح فسحة متنامية بأزاهير الحياة، منه تعلّمت وهج الحنين إلى بوح القصائد، هو عناق مفتوح على أهازيج القلب، اللَّوح وأغاني الحصّادين توأمان، خاصّةً أيام دراساتي في الوطن الأم، والمقعد هذا الخشب المعتّق برحيق العطاء، كان لصيق جلدي، فوقه كتبتُ أسرارَ الطُّموح، ومنه انطلقت نحو آفاق مستقبلي، عانقني دون كللٍ، فجلستُ عليه بكلِّ دفءٍ سنينَ طويلة، وللزملاء والزَّميلات والطُّلاب والطَّالبات حضور بهيج في قلبي، لن أنساكم، أتذكَّركم واحداً واحداً، وللمدرِّسين والمدرّسات مكانة عالية في حياتي، كم أشعر بالشَّوق والحنين إلى مدارس ديريك، وإلى أجواء التّعليم خلال مراحل دراساتي، أقدِّم من هنا من ربوع غربتي خالص الأماني الطَّيبة لكلِّ الَّذين علّموني في مراحل عمري؛ لأنّني لولاهم لما حملتُ القلمَ، ولما كنتُ كاتباً شاعراً أديباً شغوفاً بالحوارِ مع الذَّاتِ، وما حواري مع الذَّاتِ إلَّا حواراً مع ذواتكم أنتم؛ لأنَّ ذاتي متناغمة ومتعانقة مع ذواتكم في الكثير الكثير من جوانب الحياة، فمَنْ منكم لا يرى ويشعر أنّني أتحدَّث عليكم واحداً واحداً عندما أحاور ذاتي؟ فماذا تختلفون عنّي في حنينكم وشوقكم وبكائكم واشتعالكم؟ لهذا حوار مع الذَّات هو حوار معكم جميعاً، حوارٌ مع القرّاء والقارئات أيضاً، هو حوار مع الحياة، مع القصيدة، مع قصص الحياة، حوارٌ مع أمّي وأبي وأخي وأختي وصديقي وصديقتي، حوارٌ مع كروم ديريك وسهول القمح، حوارٌ مع شارع الحرّيّة في محردة ومع شارع القصّاع في ربوع دمشق، حوارٌ مفتوح مع سورية، مع الشّرق، مع الغرب، مع أبجديّات الكون، حوارٌ عميق مع الحياة كلّ الحياة!

  1. كيفَ بدأتَ رحلة الدِّراسة في الحلقة الثَّانويّة منذ بداية الصّف العاشر، الأوَّل الثَّانوي؟

قبل أن التحقَ بالصَّف العاشر، راجعت خلال الصَّيف كلَّ المعلومات الَّتي بحوزتي حول مادّة اللُّغة الإنكليزيّة للمرحلة الإعداديّة، وكذلك راجعت كلّ ما يتعلّق باللُّغة العربيّة؛ لأنّني خطّطت أن أختار الفرع الأدبي، لهذا أحببْت التَّركيز على المواد الأدبيّة والنَّظريّة منذ البداية، وبعد أن التحقت بالصَّف العاشر، بدأت أحضّر دروسي يوماً بيوم، قرأنا في الصَّف العاشر موادَّ أدبيّة وعلميّة كثيرة، وكانت مرحلة ثقيلة علي؛ لكثرة المواد الّتي درسناها، وبرأيي هناك خطأ فادح تقع فيه وزارة التّربية بقراءة الصَّف العاشر المواد العلميّة والأدبيّة، ومن الأفضل أن يتمَّ اختيار الفرع الأدبي والعلمي منذ الصّف العاشر؛ كي يربح الطُّلَّاب قراءة سنة كاملة بنفس الفرع الّذي يختارونه؛ لأنَّ البدء بدراسة الفرع العلمي أو الأدبي من الصَّف العاشر أفضل بكثير من اختيار الفرع الأدبي أو العلمي في الصَّف الحادي عشر، وذلك تسهيلاً للطلّاب، وتعميقاً لمعلوماتهم منذ السَّنة الأولى من المرحلة الثّانويّة. سررتُ جدَّاً وأنا أنتهي من دراستي الصَّف العاشر، وبرغبة عميقة اخترت الفرع الأدبي، تاركاً خلفي الرّياضيات والفيزياء والكيمياء والعلوم؛ كي أتفرّغ للأدب والفلسفة والعلوم الاجتماعيّة، بعيداً عن المعادلات الرِّياضيّة والجبر والهندسة الّتي كانت ترهق كاهلي!

  1. لماذا اخترتَ دراسة الفرع الأدبي، ما الَّذي استهواكَ في هذا الفرع النّظري؟

اخترت الفرع الأدبي واستهواني الفرع النّظري؛ لأنَّ شخصيّتي مجنّحة منذ البداية نحو فضاءِ الأدب والفكر والرُّؤية النّقديّة التّحليليّة، وهذا الفرع يحقِّق لي طموحاتي على أكثر من صعيد، سواء المتعلّقة بالدِّراسة والتَّعليم، أو المتعلِّقة بالأدب والفكر والإبداع، وما كنتُ نهائيَّاً أتخيّل نفسي أن أدرس الفرع العلمي؛ لأنَّ المواد العلميّة ما كانت تستهويني، وكنت أعتبرها مواد ثابتة جامدة لا إبداع فيها، مع أنَّ أي تخصُّص من التَّخصُّصات العلميّة أو الأدبيّة فيه إبداع بلا شك، لكن هذا النّوع من الإبداع، المتعلّق بالرِّياضيات والهندسات والعلوم الفيزيائيّة والكيميائيّة، إبداعٌ بعيد كل البعد عن مزاجي وعالمي وفضائي في التّفكير، لهذا أميل جدّاً إلى الآداب والفنون والموسيقى والمسرح والسِّينما والرّسم؛ لأنَّ دراسة هذه الأنواع من الدِّراسات، تمنحني متعة عميقة وتحفِّزني على أن أعمل يوميِّاً في فلكها وفضائها ساعات وساعات دون أن أشعر بالملل نهائيّاً، وأغلب الظّن أنَّ عدم استساغتي وشغفي بالمواد العلميّة، ناجمٌ على الأرجح عن عدم تفوّقي في هذه المواد، وبالتّالي شعرتُ بضرورة أن أتفوّق في جانب آخر غير المواد العلميّة، فما كان عليّ إلَّا التَّركيز على المواد الأدبيّة؛ كي أحقِّقَ طموحاتٍ كامنة في داخلي؛ لأنَّني كنتُ أشعر منذ بداية دراستي أنَّ هناك في داخلي هاجس البحث، هاجس الإبداع، هاجس استنباط أفكار جديدة، هاجس التَّحليل والتَّفنيد، وهذه الهواجس بدأت تظهر جليَّاً خلال المرحلة الثَّانويّة عندما اخترت الفرع الأدبي، فقد كانت مادّة الفلسفة ملاذي في إرواء غليلي للإجابة عن الكثير من تساؤلاتي الفكريّة، كما كانت اللُّغات الطَّريق الَّذي قادني إلى واحات الأدب والكتابة، لهذا كانت هذه الآفاق الّتي تصبُّ في الإبداع والفكر من أهم تطلُّعاتي الَّتي راهنتُ عليها منذ ذلك الوقت، حيث رأيتُ أنَّ اللّغة ستكونُ محراب سفينتي الَّتي أبحر عبرها في غمار الحياة كي أصل بأمان إلى الشَّواطئ الدّافئة الّتي أبحث عنها، وكانت الفلسفة المنطلق الَّذي سأبني عليه رؤاي في مستقبل الأيّام، وكلُّ هذا جعلني أن أختار الفرع الأدبي؛ كي أحقِّق آفاق تطلُّعاتي الَّتي أسعى إلى تحقيقها بكلِّ هدوءٍ، منذ أن كنتُ طالباً في الصَّف الحادي عشر أدبي وحتّى الآن!

  1. لماذا كنتَ تحضِّر مادّة الإنكليزي والفلسفة قبل أن يشرح مدرّسا المادّتَين درسيهما في الصّف؟

كنتُ أحضِّر هاتين المادَّتين قبل أن يشرحها مدرسّا المادّتين؛ لأنّني كنت شغوفاً جدَّاً بهاتين المادّتين؛ ولأنّني كنت أرى أنَّ كلَّ مستقبلي القادم سيكون مرتكزاً عليهما وعلى اللُّغة العربيّة، لهذا كانت هذه المواد الثّلاث هي المواد الَّتي ركّزت عليها وكنت متفوّقاً بها، وقد استهوتني مادّة الفلسفة إلى أبعد الحدود، شعرت بانجذاب عميق لقراءة وتحضير الدَّرس قبل أن يشرحه المدرّس؛ كي أستطيع استيعابه أكثر؛ وكي أكون قادراً على مناقشة المدرِّس في بعض الأفكار الّتي ما كنتُ مقتنعاً بها، مخالفاً وجهات نظر بعض النَّظريات الفلسفيّة الَّتي جاءت في مقرّر المادّة، كنظرية الجبر الإلهي، وأفكار أخرى وردت بين دفّتي المنهاج، وبرأيي تعدُّ الفلسفة أمّ العلوم الفكريّة، ومن دون رؤية فلسفيّة تحليليّة عميقة، لا يمكن أن يتقدَّم المجتمع البشري والفكر البشري خطوة نحو الأمام؛ لأنّ جوهر الفكر الإنساني محوره هو الفلسفة بكلِّ أبعاده الفكريّة؛ لأنَّ الفكر الفلسفي يقوم على منطق تحليلي سببي وهو أشبه ما يكون بمعادلات رياضيّة ضمن سياقات فكريّة، والمنطق الفكري في الفلسفة هو الّذي ساهم في تقدّم وتطوير وتنوير أغلب مجتمعات الكون، وكل دولة تركّز على رؤية فلسفيّة وفكريّة وعلمانيّة تنويريّة عميقة، وتستوحي دساتيرها وقوانينها من هذه الأفكار، نراها من أوائل الدُّول المتقدِّمة، ونظراً لأهميّة مادّة الفلسفة ضمن المنهاج وفي سياقات الرُّؤية المستقبليّة، أحببت أن أحضّرها قبل المدرّس، لحبّي العميق لها؛ ولأنّني حسبت حسابي منذ البداية أنَّ ثلاث مواد تقرّر نجاحي المضمون بسهولة ويسر في المرحلة الثَّانويّة، وهي: الفلسفة، اللُّغة العربيّة، واللُّغة الإنكليزيّة؛ لأنَّ بقيّة المواد: التَّاريخ، الجغرافية، المجتمع والتّربية الدِّينيّة، كانت مواد سهلة لا تتطلَّب سوى مراجعتها وقراءتها بشكل عابر، فلو أمّنت نجاحي بتفوّق وبعلامات جيّدة في المواد الثَّلاثة الَّتي أركّز عليها، لا تقلقني المواد الأربعة الباقية؛ لأنّني أحتاج أن أنجح في مادَّتين أخريين فقط، ولو رسبت في مادّتين على أن يكون مجموع المادّتين ربع العلامة من أصل مجموع المادَّتين، سأكون من النّاجحين! لهذا جعلت نجاحي المضمون قائماً على المواد المحوريّة الثلاث الَّتي أحببتها حبّاً عميقاً، وكنت متفوِّقاً بها، ونجاحي في هذه الموادّ هو مؤكّد مهما كانت الأسئلة صعبة، حتّى ولو جاء بعضها من خارج المنهاج؛ لأنّني كنتُ قادراً على الإجابة عنها ولو بشكل عام، فكيف لو كانت الأسئلة من صلب المنهاج!

أمّا اللُّغة الإنكليزيّة فكانت مادّتي المفضّلة، وكنتُ أقرَؤُها وأحضِّرُها بشغفٍ منقطع النّظير؛ لأنّني كنت وما أزال أعدُّ اللُّغة الإنكليزيّة هي مفتاح العبور إلى ثقافات الكون! فهي لغة الأم العالميّة، وكنتُ قد أسَّستُ لغتي الإنكليزيّة في المرحلة الإعداديّة واستمرِّيت في تأسيسها وتعميقها في الصَّف العاشر، وشعرت أنّني لا أحتاج نهائيَّاً مدرِّساً يدرِّسني في الصَّف الحادي عشر والبكالوريا؛ لأنّني كنتُ أحضِّر المنهاج تقريباً كما يحضرّه المدرّس، وكان لدي معجم إنكليزي إنكليزي الخاص بالمفردات واللّفظ، وكنتُ قد اشتريتُ حلول التّمارين من المكتبة، لكنّي كنتُ أحلُّ التَّمارين من دون أن أنقلها مباشرة وأقارن إجاباتي بالحلول، ولو وجدْتُ حلَّاً غير صحيح عندي أحاول معرفة سبب خطَئِي، فكان يترسّخ في ذهني الحلّ الصَّحيح أكثر، وهكذا كنتُ أحضّر الدَّرس قبل المدرِّس، وكم كنتُ أشعرُ بمتعة وأنا متمكّن من ناصية اللُّغة والدَّرس، وأستوعب الشّرح بسلاسة من دون أيّة مشكلة، وكلُّ هذا ساعدني على أن أجتاز المرحلة الثَّانويّة بجدارة، وأتذكّر جيّداً كيف التقتني الزَّميلة سميرة موسى قبل امتحان مادّة الإنكليزي وقالت لي: اليوم “هولكتك هيِّي” أي اليوم يومك، فضحكتُ وقلتُ لها: فعلاً اليوم يومي، وأعجبني استخدامك عبارة “هولكتك”، فضحكت هي الأخرى وقالت: فعلاً “هولكتك هيِّي” يا صبري! ضحكنا ونحن نسير نحو قاعة الامتحان!

أيّام دراسيّة جميلة، وطموحات شاهقة، ستبقى معرّشة في مروج الذَّاكرة إلى أمدٍ بعيد!

  1. كيف تنامى لديك شغف عميق بمادّة الفلسفة وكنت تناقش بعمق مع أستاذ المادّة فوزي خرطبيل؟

كان لمادّة الفلسفة هيبة على بعض الطُّلَّاب؛ لأنّها تتضمَّنُ لغة فكريّة عالية المستوى وفيها الكثير من المفاهيم المجرّدة الجديدة على الطُّلَّاب والطَّالبات لأوِّل مرة، وتحتاج إلى ذهن يمتلك بُعداً فكريّاً ثقافيّاً منطقيّاً، وكان دارجاً عندما يتحدَّث شخص ما ويحلِّل ويناقش مع صديقٍ ما والآخر لا يعجبه محاججاته، يردُّ عليه قائلاً: لا تتفلسف، وكأنّ المحاججات والتَّفنيدات والتّحليلات لغة عائدة إلى الفلسفة، وقد يكون معه الحقّ الَّذي يردُّ على مَن يظنُّ أنّه يتفلسف؛ لأنَّ لغة الفلسفة قائمة على التَّحليل والتَّفنيد والعمق في الرُّؤية إلى درجة أنَّ الآخر غير قادر على الرَّدِّ عليه، ردّاً صائباً، لاعتماد الأوّل على تفنيدات سببيّة مقنعة، لهذا أعجبتني الفلسفة؛ لأنّها بدَتْ لي منذ البداية كأنّها أم العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، ومفسِّرة لكلِّ الفكر الإنساني؛ لأنَّ الرّؤية الفلسفيّة قائمة على استنهاض الفكر نحو أرقى المستويات، وهي في حالة تحليل وتقييم وتطوير دائم للفكر الإنساني، وتجعلنا نفهم الحياة ودقائق العلوم الإنسانيّة، وبدَتْ لي الفلسفة كأنّها مفسِّرة الحياة برمّتها، وتجيب على كافّة أسئلة الوجود الّتي راودَت وتراود البشر؛ لهذا وجدت نفسي هائماً وشغوفاً بها وبكلِّ ما يصدر عنها، وهذه المادّة تجعل المرء قادراً على التّشكك في أي فكر ما لم يثبت الفكر صوابه ودقّته؛ لأنّه علم قائم على المنطق وعلى السّببيّة، أي لكلِّ سبب مسبّب، بمعنى لا يخرج شيء من العدم، ولابدّ لكلِّ علّة معلول، ولكلِّ سبب مسبِّب، ومن هذا المنظور وجدتني منجذباً لمادّة الفلسفة، أحضّر الدَّرس قبل المدرّس وغالباً ما كنت أناقش مدرّس المادّة الأستاذ فوزي خرطبيل الَّذي كان يتميّز برحابة صدره في النّقاش، وأحياناً كان يندهش من طروحاتي في بعض القضايا الفلسفيّة كنظريّة الجبر الإلهي الواردة في بعض فصول المنهاج، حيث كنت أطرح طرحاً مغايراً لما ورد في النّظريّة؛ لعدم قناعتي بما جاء في تحليل المنهاج، وماأزال أرى أن منطق الجبر الإلهي لا يخضع لمنطق فلسفي وعقلي وفكري محض، بقدر ما يخضع إلى رؤية إيمانيّة دينيّة خالصة، ولا مجال للنقاش فيها، لأنّها رؤية ناجمة عن حكم إلهي كما هو الأمر في موضوع القضاء والقدر، ولهذا النّقاش في هذه المجالات لا يقودنا فلسفيّاً إلى منطق منطقي وفلسفي دقيق، بل يوصلنا إلى نظريّة الجبر الإلهي كُنْ فليكن: أو هكذا شاءت إرادة الإله سواء اقتنعنا أو لم نقتنعْ بما نقرَؤُه، وهي ليست رؤية فلسفيّة بل رؤية دينيّة.

إنَّ أهم ما في الفكر الفلسفي هو رصانة الرُّؤية الفلسفيّة وقوةّ ثباتها وصحّتها ودقّتها، وهي رؤية إنسانيّة تنويرية تقدُّميّة تفسيريّة لمنطق الفكر عبر المراحل التّاريخيّة، وإنَّ قوّة وأهمِّيّة الفكر الفلسفي تكمن في أن النّظريات الفلسفيّة ومنطق التَّحليل قائمان على رؤية متجدِّدة، حيث نجد عبر التّاريخ البشري كيف تطوّرت عبر كل مرحلة زمنيّة، وهي بالتّالي خاضعة بشكل مستمر لمنطق جديد متجدِّد بحسب قدرة الفيلسوف على تقديم رؤية خلّاقة منطقيّة جديدة، وهي بهذا السِّياق تختلف عن التَّفسير والتَّحاليل الدّينيّة، وبرأيي أن نقرأ النِّصوص الدِّينيّة من منظور فلسفي، لأنّ الفكر الإنساني يتطوّر، ولابدَّ في هذه الحالة من تفسير النُّصوص الدِّينيّة بشكل متطوّر، وبهذه الحالة يمكن أنَّ نقول: أن النُّصوص الدِّينيّة تتطوّر تفسيريّاً هي الأخرى!

  1. لماذا كنتَ تناقش مدرّس الفلسفة بموضوع الحرّيّة والجبر الإلهي، وما كان يقنعكَ موضوع القدر؟

لأنّني ما كنتُ أقتنع بنظرية الجبر الإلهي، وحتَّى تاريخه هذه النَّظريّة لا تقنعي؛ لأن ليس فيها منطق فلسفي أو طرح منطقي؛ لأنّها جبريّة! أي تقمع الآخر وتنفي مبدأ الحرّيّة، وهي غير عادلة من وجهة النّظر المنطقيّة، حتّى أنّها في بعض جوانبها تنفي الرُّؤية الدّينيّة؛ لأنّ الإنسان حرّ في التَّفكير، فأين هي حرّيته طالما هناك ما هو مقدّر عليه عبر نظريّة الجبر الإلهي وأهمّها موضوع القدر؟ فإذا كان كلّ شيء مقدّراً على الإنسان من قبل الله، فلماذا يحاسبه الله على أفعاله؟ لأنَّ أفعاله في مثل هذه الحالة القدريّة، ليست ناجمة عن فعل الإنسان بقدر ما هي تنفيذ لما قُدِّرَ عليه من قبل الله، وأنا أرى أن يكافئ الله الإنسان الَّذي نفّذَ ما قُدِّرَ عليه من قبل الله، لأنّه أطاع الله، ولو توغَّلنا عميقاً في تحليل ونقاش كهذا نرى أنَّ نظريّة الجبر الإلهي بهذا المنظور لا معنى لها؛ لأنّها تجرِّد الإنسان من الحرّيّة وبنفس الوقت تحاسبه على أفعال لم يختَرها بقدر ما كانت مقدَّرة عليه ونفّذها بحسب ما تقتضيه الإرادة الإلهيّة، ولهذا كنتُ منذ أكثر من (40) عاماً غير مقتنع من هذه الرُّؤية المتعلّقة بنظريّة الجبر الإلهي وحتّى تاريخه لا أقتنع بها؛ لأنَّ عقلي لا يقبلها؛ ولأنَّ هذه النَّظريّة تنفي حرّية الإنسان وفي الوقت نفسه تحاسبه على ما يرتكبه من أفعال، مع أنّ أفعاله بحسب نظرية الجبر الإلهي ــ القدر، ناجمة عن إرادة الله في تنفيذ ما كُتِبَ على جبينه أو ما قُدِّرَ عليه، وهكذا ندور عبر نظريّة الجبر الإلهي في حلقة فارغة خاوية لا تركن إلى أي منطق.

إنّ أي قارئ للفكر الفلسفي والمنطق والعدالة لا يقبل نظرية الجبر الإلهي، والمرتبطة بشكل مباشر بالقدر، أي ما هو مقدّر سلفاً على البشر بكلِّ تصرّفاتهم وأعمالهم وممارساتهم، ولو كان الأمر مقتصراً على معرفة الله لِمَا يقوم به البشر، لكان الأمر سهلاً ومقبولاً، وأمَّا أن يكون مقدّراً على البشر كل أفعالهم من قبل الله فهذا يتنافى مع مبدأ الحرّية ويتنافى مع مبدأ العدالة ومبدأ المحاسبة أيضاً؛ لأنَّ أفعال البشر في هذه الحالة ناجمة عن قدرٍ سماوي قدّره الله على البشر، ولهذا أتساءل أين المنطق فيما قُدّرَ على البشر أن يتحاسب عليه البشر؟! من هذا المنطلق لا أقتنع بهذه الرُّؤية القدريّة المسبقة على البشر، وهي تنفي موضوع التَّطوّر والتَّقدم للإنسان؛ لأنَّ تطوّر المجتمع البشري قائم على التَّفكير والتَّحليل؛ وقد حقَّق الإنسان تطوّرات خلّاقه منذ نشوئه على وجه الدُّنيا حتّى الآن، وأنا أميل إلى نظريّة الحرّيّة؛ أي أنّ الإنسان يقوم بما يراه مناسباً من دون أن يكون مقدَّراً عليه أن يفعل هذا الأمر أو ذاك ويتحاسب على فعله سواء عبر القانون الأرضي أو السَّماوي، وأمَّا أن يصرّ أصحاب نظريّة القدر الإلهي أن الله قدّر على البشر أن يفعلوا كذا وكذا وكذا، فإنَّ هذا يتنافى كلِّياً مع مبدأ التَّفكير الحرّ ويجعلنا نقول: أنَّ ما يقوم به المرء هو عبارة عن تطبيق ما يراه الله أو ما قُدِّرَ على الإنسان، وبالتَّالي كلّ ما يقوم به البشر من أفعال غير محاسَبين عليه؛ باعتبار أنّه تنفيذ لقدرٍ إلهي على البشر، وهذه الرُّؤية تتنافى مع سموِّ الله ومع أنّ الله إله خير ومحبّة وعدالة، فأين العدالة في أن يُقدَّر عليَّ أن أعمل عملاً مشيناً مثلاً وأُحاسَب عليه، أو أعمل عملاً فاضلاً وأُكافَأ عليه، على الوجهين عملي ناجم عن إرادة عليا، فلماذا أُحاسب أو أُكافأ عليه إذاً؟!

  1. ما رأيك بالحب، بالإخلاص، بالعطاء والتّعاون؟!

إنَّ أسمى كلمة ومفهوم ومضمون على وجه الدُّنيا هي المحبّة وما يتفرّع عنها من عطاءات، ومن دون الحبّ لا معنى للوجود والحياة، ولا يمكن للمرء أن يقدِّمَ عملاً راقياً وإنسانيَّاً وحضاريّاً من دون الحبّ، والحب يشمل الحياة برمّتها، فهناك حبّ المرأة، وحبّ الطَّبيعة، وحبّ الأبوين والأهل، وحبّ الله، وحبّ الإبداع والفنون والموسيقى، وحبّ العلوم، وحبّ مئات الهوايات والتَّخصُّصات، وكلّ هذه الأنواع من المحبّة ترتكز على العطاء والصّفاء والتّجلِّي في منح المحب أرقى ما لدينا من عطاء، ولهذا قيل: أنَّ الله محبّة؛ لما لهذه الكلمة من معنى عميق وشامل لا يضاهيها كلمة أخرى على وجه الدُّنيا!

والمحبّة من دون إخلاص لا قيمة للحبِّ والمحبّة؛ لأنَّ الإخلاص هو الرّكن الأساسي الَّذي يرتكن عليه الحبّ، وأي عمل نقوم به من دون إخلاص ينتهي بالفشل، وكلّما أخلص المرء للحبّ، ولأيِّ عمل يقوم فيه، حقَّق نجاحاً كبيراً؛ لأنَّ الإخلاص هو سلَّم رُقِيِّنا ونجاحنا وسموِّنا إلى أعلى الدَّرجات، لهذا على الإنسان أن يكون مخلصاً فيما يقوم به من أعمال فكريّة أدبيّة ثقافيّة عاطفيّة إنسانيّة؛ كي يكون معطاءً بشكلٍ يليق به كإنسان مخلص ومحب لكلِّ ما هو خيِّر للمجتمع الَّذي يعيش فيه، ويقدّم أرقى ما لديه للإنسانيّة من عطاءات راقية، وهنا يأتي دور العطاء المرتبط بالإخلاص والمحبّة؛ لأنَّ هذه المفاهيم الثَّلاثة متكاملة ومرتبطة مع بعضها أشدّ ارتباط، فلا حبّ من دون عطاء، فالعطاء هو نعمة من النِّعم الّتي يتميّز بها الإنسان، ومن خلال كلّ هذه المفاهيم الرَّاقية، نجد أنفسنا أمام حالة وئام وتناغم مع ذواتنا ومع تواصلنا مع الآخرين، ويتمُّ من خلال التَّعاون فيما بيننا، لهذا للتعاون الدَّور الأكبر في نشر وترجمة هذه المفاهيم على أرض الواقع، فكلَّما تعاونَّا مع بعضنا بعضاً، حقِّقنا نجاحاً وعطاءً وإخلاصاً راقياً، وهكذا فإنَّ المحبّة والإخلاص والعطاء والتّعاون مربّع متكامل الأضلاع في معيار سويّة الإنسان ضمن المجتمع الّذي يعيش فيه، وهو عبر تنفيذ هذه المفاهيم يحقَّق أرقى قيم إنسانيّة له ولغيره ممّن يتواصل معه!

  1. ما رأيك بالعلم والمنطق والحرّيّة والعدالة الاجتماعيّة؟

إنَّ العلم هو الرّكيزة الأساسيّة الّتي نبني عليها حضارة الإنسان منذ أن نشأ على وجه الأرض حتّى الآن، فلولا العلم لما عشنا في حضارة اليوم؛ ولما حقّقنا كلّ هذه المنجزات العلميّة والتّقنيّة والتّكنولوجيّة والفنّيّة والأدبيّة والإبداعيّة الّتي تخدم البشريّة في كافّة أنحاء العالم، وإنَّ العلم يرتكز على المنطق بالدّرجة الأولى؛ لأنّ علم المنطق هو العلم الّذي نُشيد عليه نظريات العلوم، وكلّما اعتمدنا على المنطق حقّقنا تقدُّماً كبيراً على كافّة الأصعدة الّتي نعمل عليها، إلّا أنّنا لا يمكن أن نحقِّق هذه النَّجاحات في مجال العلم والمنطق لو لم يتوفّر لدينا شرط الحرّيّة، فعبر فضاء الحرّيّة نستطيع أن نرفع من شأن العلوم بكلّ ما تقتضيه أسباب المنطق، وهكذا فإنّنا عبر العلم والمنطق والحرّيّة نحقِّق كلّ سبل الرّفاهية والسّعادة والتّقدم للمجتمع البشري ونحقِّق عبر هذه الأركان الثَّلاثة العدالة الاجتماعيّة في المجتمع، وكلّما صغنا قوانين ودساتير البلاد على أسسٍ علميّة، فيها جوهر المنطق هو السّائد عبر فضاء الحرّيّة، حقّقْنا العدالة الاجتماعيّة من أوسع رحابها ووصلنا إلى الأهداف المنشودة وعشنا في رفاهيّة وسعادة ما بعدها سعادة!

  1. كيف حضّرتَ مواد الثَّانوية العامّة، القسم الأدبي، هل كان لديك برنامج معيّن للتحضير للامتحان؟

لم يكُن لدي برنامجٌ محددٌ في تحضير المواد، كنتُ أحضّر المواد من خلال الدَّوام اليومي، فقد حضّرت جيّداً المواد الثّلاثة الّتي أحبّها بعمق: الإنكليزيّة والفلسفة، واللّغة العربيّة، وقد كان لدينا في مادّة اللُّغة العربيّة: الموضوع أو التّعبير كتابَين، التَّراجم والنّقد وكتاب الأدب، يأتي من كلِّ كتاب موضوع، ونختارموضوعاً من الموضوعَين، فأحببتُ أن أركّز على كتاب التَّراجم والنَّقد، وأقفز على كتاب الأدب، مع أنّني درسته خلال الدَّوام، لكنّي لم أحضّره قبل الامتحان؛ لأنّني قرّرت أن أختار الموضوع الخاص بالتَّراجم والنّقد، وقد تجاوزت قراءة الكتاب الخاص بالأدب، ولم أقرَأْهُ نهائيّاً، واكتفيت بقراءة التّراجم والنّقد، وكان يتضمّن بشارة الخوري، محمّد كرد علي وبعض المذاهب الأدبيّة، وقد جاء أحد المواضيع من قسم بشارة الخوري، وكنت قد حفظت قرابة (20) بيت شعر من الموضوع الّذي جاءنا بالامتحان، احترتُ بالشَّواهد الَّتي أكتبها، فاختصرتُ الشَّواهد إلى (12) بيتاً وكتبتُ موضوعاً مختزلاً أخذ صفحة من الحجم الكبير، وأمّا الجغرافية فقد ركّزت على بعض الأسئلة الَّتي ممكن أن تكون السُّؤال الرَّئيسي، وتوقّعت أن يكون السُّؤال الرئيسي أدرس “حوضة دمشق” وحدَّدتُ حتّى الدّرجات (9) درجات، وجاءنا هذا السُّؤال فعلاً، وكنت قد عمّمْتُ هذا السُّؤال قبل امتحان المادّة بيوم وقرَأَها عشرات بل مئات الطُّلّاب من القامشلي، كما ركّزت على قراءة الخرائط وبعض المتفرّقات من الأسئلة الفرعيّة، ولم أقرأ المنهاج بالكامل؛ نظراً للحشو الكبير الَّذي فيه، وقد كان لدينا كتاب عن جغرافية الوطن العربي، مقرّر كبير وسميك جدّاً نصف ما جاء فيه حشو ولا داعي لقراءته، وكتاب آخر: الدُّول العظمى، قرأته بشكل ملخّص، لخَّصت مضمونه بحدود (50) صفحة، وقرأت الملخَّص مع الأسئلة الهامّة والخرائط، وأمّا مادّة التّاريخ فما كانت تستهويني هذه المادّة، لهذا قرأتُ الجزء الأوّل، وحذفت كلِّيّاً الجزء الثّاني! واكتفيت بتصفُّح الجزء الثَّاني تصفُّحاً سريعاً وقراءة بعض الأسئلة، وأمّا مادّة المجتمع فكانت سهلةً، قرأتها بتركيز خلال الدّوام، وراجعتها قبل الامتحان، بينما قراءتي للفلسفة قبل الامتحان فقد كانت كتاب مشكلة العمل وكتاب المعرفة وكانا سهلَين علي؛ لأنّني حضّرتهما بعمق، وركّزت على الموضوع، وكان مهمَّاً جدّاً الموضوع؛ لأنّه يتطلَّب تحضير الفقرة الّتي نكتب عنها موضوعاً، وتوقّعت من جملة ما توقّعت قولاً للويس لاڤيل عن الحرّيّة، ولخّصت قوله بجملة حول الحرّيّة، ثمَّ كتبت ناقش ما يقصده لويس لافيل حول الحرية! وبالفعل توفّقت بهذا الموضوع أيضاً، حيث أتفاجأ أول سؤال رئيسي في الفلسفة يفتتح كما يلي: يقول لويس لافيل أنَّ الحرّية ……، ناقش الموضوع مع الأمثلة الّتي تدعم أقوالك!

وأمَّا اللُّغة الإنكليزية فلم أقرأ سوى القصائد، حيث كان يردنا سؤالٌ يأتي من القصائد الشّعريّة، ويتمّ اختيار مقطع من قصيدة، ويترك خمس فراغات في النّص، ونحن نملأ الفراغات من الذّهن دون أن تُدوَّن الكلمات  في أعلى الفراغات، لهذا كان يتطلّب هذا السُّؤال حفظ القصائد غيباً، ولهذا حفظت القصائد المطلوبة كلّهاغيباً! وأمّا القواعد والتَّرجمة والتّمارين فلم أقرَأْها قبيل الامتحان؛ لأنّني كنت قد قرأتها واستوعبتها بعمق خلال العام الدِّراسي، لكنّي اكتفيتُ بمراجعة الكلمات والمفردات الخاصّة بالحلقة الإعداديّة والثّانويّة ومفردات قاموسيّة استهواني حفظها وكانت تربو على عشرة آلاف كلمة من مختلف أقسام الكلام!

  1. تقدّمتَ لامتحان الثَّانوية العامّة في القامشلي، تحدّث عن كيفيّة خوض هذا الامتحان 1975م؟

إنَّ خوض هذا الامتحان كان غريب الأطوار، خطّطتُ قبل أسبوع من موعد الامتحان أن أسافر إلى القامشلي لتقديم امتحان البكالوريا، حيث ما كان في حينها متاحاً لافتتاح مركز امتحان في ديريك؛ لأنَّنا كنّا شعبة بكالوريا أدبي وشعبة علمي، لهذا تمّ ضمّ هاتين الشّعبتين إلى مركز امتحان الطّلائع في القامشلي!

جهّزت لي أمّي تنُّوراً من الكليچة كخطوة أولى قبل يوم من انطلاقي، وجهَّزت كتبي ودفاتري وملخَّصاتي، كما جهّزتُ لباسي الضّروري، ولكنّي كنت محتاجاً لمبلغ من المال، فعقدنا اجتماعاً أُسريَّاًطارئاً؛ وخرجنا بنتيجة مفادها أن نكلِّف زوجة أخي سليمان السَّيّدة فريدة حنّا بأن تستدين مائة ليرة سورية من أختها شوشان حنّا أم سنحريب، فذهبت تقصد أختها، وبعد قرابة ساعة عادت ومعها مائة ليرة، وعدتها أنّني سأردُّها إلى أختها حالما أنتهي من امتحاني، وأشتغل في حصاد البيقيا التَّابعة لمزارع الدَّولة آنذاك! ضحكت فريدة وقالت: يا عيني مو مشكلة، أنتَ دبّر حالك وقدّم امتحانك، وإيْمَتْ ما ترجّع الأمانة رجّعها!

قبضت مائة ليرة سورية آنذاك، وربّما الآن تعادل شراء بضع سجائر من الحمراء القصيرة، أو سندويشة فلافل، أو سندويشة كباب! حتّى أن هذا المبلغ ما كان يكفي آنذاك للنزول في أرخص فندق في القامشلي، حتّى ولو نمت على سطح الفندق، لهذا وجّهت أنظاري بعد أن ودَّعت الأهل وأخذت عنوان السَّيّدة وردة أم ميخائيل وهي ابنة عمّتي، حيث حصلت على عنوان بيتها من عمّتي بيكي الّتي كانت على تواصل معها، وكانت قد استأجرت غرفة ومطبخاً صغيراً، “بْخيري” في الحي الغربي من القامشلي!

حمل أخي حقيبتي إلى كراج التّكاسي، وحجزت راكباً في تاكسي السِّيرفيس بـ (5) ليرات سوريّة، وضعت حقيبتي الكبيرة في باكاج السِّيارة، وصعدتُ في المقعد الثَّاني بجانب الشّباك، وبعد لحظات طبّقت السّيّارة بالرّكّاب، وانطلقنا باتجاه القامشلي، شعرت برهبة ليس خوفاً من الامتحان؛ بل لأنّني انطلقت قبل يومين من بدء الامتحان، ولا أعرف شيئاً عن مكان مركز الامتحان، ولا مكان مركز النّوم، كم تمنّيتُ وأنا في السِّيارة لو كان الامتحان في ربوع ديريك أتقدّم لموادي بكلِّ حرِّيتي وأنام على مزاجي وأسهر على كامل راحتي، ولكن هذه الأماني ماذا تفيدني والسِّيارة قد قطعت أكثر من نصف الطَّريق، وبطاقة اكتتابي الثَّانية تنتظرني بعد يومين على مقعد من مقاعد مركز الطّلائع في قدور بك!

وفيما كنّا على مقربة من قبور البيض، وإذ ببقرة شاردة تقطع الطَّريق العام، فشاهدها السَّائق وخفَّف من السُّرعة بطريقة أقلقَ كلَّ الرّكاب، والبقرة قطعت طريقها بكلِّ اطمئنان، كأنّ الإشارة الخضراء تنتظرها مع أنّه ما كانت أيّة إشارة خضراء أو حمراء على كلّ طرقات سورية البرّيّة آنذاك، وتوقّفت السِّيّارة بضعة أمتار قبل أن تصطدم بالبقرة، فقلت للسائق: يا أخي خلّيتني أنسى ثلاثة أرباع ما قرأته على مدى سنة كاملة من المواد الّتي سأقدُّمها بعد يومين، فضحك كلَّ الرّكاب بما فيهم السَّائق، وأجابني: أن تنسى ثلاثة أرباع المعلومات الَّتي حفظتها أفضل من أن تنساها كلّها ونصطدم بالبقرة، ونذهب في ستِّين داهية، فضحك الرّكاب ثانيةً وتعالت قهقهاتي، معلّقاً على تعليقه الطّريف:الله يعطيك العافية يا أخي على تفاديك هذا الحادث المحتّم، لكنّك على ما يبدو سائق ماهر وتعرف كيف تتجّنب البقرات والأغنام الشَّاردة، ولا يهمّك يا أخي، حفظنا الدَّرس جيّداً مثلما تحفظ موادّك. أنت عندك امتحان مرَّة في السّنة، بينما نحن عندنا كلّ يوم امتحان! الله يكون في عونكم، وخلال نصف ساعة من بعد تفادينا الاصطدام بالبقرة كنَّا على مشارف القامشلي، دخلنا الكراج وقال السّائق لنا: الحمدلله على سلامتكم يا جماعة، الله يسلّمك، ردَّينا عليه.

أخذتُ حقيبتي ووجّهت أنظاري نحو الحيِّ الغربي، وبعد حوالي ربع ساعة كنتُ على الباب الخارجي، من دون أيِّ موعدٍ سابق مع أصحاب البيت! دقَّيتُ الباب الخارجي فخرجت صبيّة من الحوش، وقالت: خير شو بدّك، فقلت لها: هل هنا بيت العم جورج لبناني؟ قالت: أيوه، مين حضرتك؟ حضرتي من ديريك وضيف لبيت ابنة عمّتي وردة، فنادت الصّبية أم ميخائيل: تفضّلي عندك ضيف، ابن خالك من ديريك!

جاءت أم ميخائيل، واستقبلتني ببشاشة وقبَّلتني، قائلة: أهلاً ابن خالي العزيز، تفضّل! حملتُ حقيبتي ودخلتُ الحوش، ثمَّ عبرنا المنزل، غرفة من غرف القامشلي الَّتي يؤجّرونها للمحتاجين أمثال ابنة عمّتي!

سلّم عليّ صهرنا أبو ميخائيل، وابنته مريم وإيڤونة، وأمّا يعقوب واسكندر فقد كانا يعملان في أحد الأفران. وأمّا ولي العهد الابن الكبير ميخائيل فأغلب الظَّن كان في حينها يؤدّي الخدمة الإلزاميّة، أو كان في بيروت. بدّي أعملك غداء يا صبري، لا عمّة، كنت أناديها عمّة مع أنّها كانت ابنة عمّتي؛ لأنّها كانت بعمر أختي الكبيرة وربّما أكبر بقليل! وقلت لها: ممكن نشرب كأس شاي، وفيما كنّا نشرب الشَّاي، قلت لأم ميخائيل: عمّة الأهل بديريك بخير ويسلّمون عليك، وأنا جئت إليكم؛ لأن عندي امتحان بكالوريا، فهل ممكن أن تستقبلوني خلال أيّام الامتحان بحدود (15)يوم؟ فقالت وهي تبتسم: أشلون مو نستقبلك يا ابن خالي؟ أصلاً ما صدَّقت اجيت لعندنا! الله يبارك فيكِ عمّتي ويخلّيكِ ويخلّي الأولاد والبنات. أجاب أبو ميخائيل: أهلاً وسهلاً بك وإن شاء الله تقدّم امتحانك وتكون من النّاجحين، أجابت أم ميخائيل: آمين يا رب!

فتحتُ حقيبتي وقدّمت الكليچة لعمّتي، فقالت: خلّي الكليچة الك عيني، فقلت لها: لا عمّة سنأكلها جميعنا مع الشّاي، ووضعتُ كتبي في ركن من أركان الغرفة، أمسكتُ كتاب التَّاريخ وأحببتُ أن أبدأ بتحضير المادّة، كان الحوش يعجُّ بالأطفال والصّبيان والصّبايا، ضجيج من العيار الثَّقيل، لا يمكن أن يركّز الطَّالب نهائيّاً في أجواءٍ كهذه، وضعتْ لي عمّتي طاولة صغيرة في المطبخ وكرسياً صغيراً؛ كي أدرس هناك كمكتب لي، وبدأت أدرس فعلاً ولكن كل ربع ساعة، نصف ساعة كانوا يحتاجون غرضاً ما من المطبخ وكان بحدود (2.5 × 3.5)م ويحوي الكثير من الأغراض، والمؤونة ومساحة متر بمتر مخصَّص للحمّام الدُّوش، يفصلنا عن الغرفة ستارة! وبعد حوالي ساعتين جاء يعقوب واسكندر وقالت لهما: صبري ابن خالي جاء من ديريك، وعنده امتحان بكالوريا، لكنّه يدرس الآن في المطبخ، خرجتُ وسلّمتُ عليهما وبدأنا ندردش قليلاً، ثمَّ أعدّوا الغداء عصراً وتناولنا طعاماً شهيَّاً، وسألتُ الشَّباب عن عنوان مدرسة الطَّلائع، فقالوا: إنّها قريبة من قدور بك، غداً يجب أن أعرف مكان المركز؛ لأنّ امتحاني هو بعد الغد!

حاولت أن أقرأ لكنّي كنتُ مشوَّشاً وغير قادر على التَّركيز، عند المساء، فرشت لي الفراش في الحوش، وحاولت أن أقرأ على ضوء المصباح الَّذي يضيء مدخل الغرفة، وأنا مسترخٍ على دوشك كبير ومريح، وهم ناموا في المنزل، فرشة مريحة ولحاف سميك من الصُّوف، استسلمت للنوم ونمتُ نوماً عميقاً. توجّهت في صباح اليوم التَّالي إلى مركز الامتحان ومعي مقرّري، فيما كنتُ أسير على رصيف الطَّريق فتحت كتابي وبدأت أقرأ بعض الفقرات استغلالاً للوقت، كم شعرتُ بأهمِّيّة الوقت والهدوء والتّركيز، وصلتُ إلى المركز، ثمَّ عدْتُ إلى المنزل، وفكّرت أن أخترع طريقة؛ كي أقرأ وأحضِّر موادي بعيداً عن عالم الغرفة؛ لأنّني شعرتُ وكأنّي في طريقي إلى نسيان أبسط معلوماتي، استقبلتني عمّتي عند الباب بابتسامة!

دردشنا قليلاً، كنتُ أنا وعمّة ومريم وإيڤونة، كانت إيڤونةطفلة جميلة مثل الملاك، عمّة أنا أريد أن أدرس موادّي بشكل مركّز، وأحتاج إلى مكان للدراسة، فكّرتُ بهذا الأمر منذ يوم أمس، وخطر على بالي أن أدرس في المشتل وأصلاً أنا في ديريك كنتُ أدرس أيّام الصَّيف في الطّبيعة والبرّيّة، وقد لفتَ انتباهي مشتل القامشلي بعد أن سألتُ بعض الطّلاب عن مكان للدراسة في الطَّبيعة، فقالوا عندك المشتل أنسب مكان للدراسة بعيداً عن الضَّجيج، في هذه الحالة يا عمّة سأدرس نهاراً في المشتل وأخصِّص البيت فقط للنوم، وآمل أن لا تفكِّري أنّني متضايق، فأنتم لا تقصِّرون أبداً لكن ظروف البيت والحوش لا تناسب للقراءة هنا، فأنا أعدُّ نفسي لامتحان البكالوريا وهذه الامتحانات صعبة، وتحتاج إلى تركيز واستغلال الوقت!

ادرس عيني في المشتل طالما هذا يريّحك! أنا مرتاح جدّاً لو أدرس نهاراً في المشتل. تناولنا الغداء وشربنا الشَّاي، ثمَّ استأذنت منهم وأخذت معي كتاب التّاريخ الجزء الأول، وكليچتَين، ووجَّهت أنظاري نحو المشتل، يا إلهي كم كان المشتل مناسباً لي، كأنّه مصمَّم لدراسة موادّي! قرأتُ من السّاعة الواحدة حتّى إغلاق المشتل من قبل البوّاب، كان المشتل كبيراً مكثّفاً بالأشجار، وكنت أقرأ وأسير حول المشتل مرّات ومرّات، عدتُ إلى البيت، استقبلتني عمّتي وهي مرتاحة؛ لأنّني قضيت وقتاً في قراءة مادّتي، وسألتني هل درست جيّداً، أيوه درستُ جيَّداً والمشتل يناسب جدَّاً مراجعة موادي فيه نهاراً! العشاء جاهز، تفضّل تعشّى، جهزّت العشاء وتناولنا سويةً، كانت مريم تقوم بحركة في رضفة ركبتها وتطقطقها، اندهشتُ كيف تتحكّم بطقطقة ركبتها، وقلتُ لها: لا تقومي بهذه الحركة يا مريم لئلا تتعطّل حركة صابونة ركبتك! ضحك الجميع بما فيهم مريم! بعد العشاء بقليل قلت لعمّتي: فكّرت يا عمّتي لو استغل قراءة موادّي على أضواء مصابيح الشَّارع، على راحتك ياعيني، أخرجتُ طاولة صغيرة وكرسياً صغيراً، وجلست على كرسيّ، وبدأت أقرأ ما تبقَّى من المادّة، كان بعض الضّجيج في الحارة، الأولاد يلعبون على أضواء المصابيح، تركتهم على راحتهم، وبحدود السَّاعة التَّاسعة ذهبوا إلى بيوتهم، ووقفت أدرس في الشَّارع على أضواء مصابيح الشَّارع، وأردِّد التَّعدادات غيباً، وبحدود الساعة (12) ليلاً انتهيتُ من الجزء الأوّل من التّاريخ، ولم أتمكّن من مراجعة الجزء الثَّاني وحدّدت (20) سؤالاً من الكتاب الثّاني، وقلت لعمّتي أن توقظني في الصّباح الباكر بحدود السّاعة السّادسّة؛ كي أراجع هذه الأسئلة، وأتوجّه بعد ذلكَ للامتحان!

راجعت صباحاً بعض هذه الأسئلة، لم يكن الجوُّ في الصَّباح مناسباً للقراءة، والمشتل كان مقفلاً، فقرأت الأسئلة بطريقة مشوّشة، جلستُ على مقعدي في قاعة الامتحان، وزّعوا الأوراق الخاصّة بالإجابات والمسوّدات، ثمّ وزّعوا الأسئلة، قرأتُها بهدوء وأعصابي هادئة، كنت أعرف الإجابة على نصف الأسئلة، (15) درجة من أصل (30) وعليّ من أصل (15)درجة أن أحصل على (12) درجة؛ كي أنجح في المادّة كحدٍّ أدنى! شعرت بخيبة أمل، وما كنت أحبّ هذه المادّة أصلاً! أجبت عمَّا أعرفه، وعرفت من خلال إجاباتي أنّني من الصّعب أن أنجح في هذه المادّة، وهمست في سرّي: ولتكُنْ مادّة من المواد الّتي أرسب فيها، وعندي مجال أرسب في مادّة أخرى وأنجح في بقيّة المواد؛ كي أكون من النّاجحين! خرجت من القاعة، استقبلتني عمّتي، فابتسمتُ لها وهي تدعو لي:  يارب تنجح يا ابن خالي، إن شاء الله يا عمّتي!

فيما كنتُ عائداً من المشتل بعد أن حضّرتُ مادة الجغرافية، وعندي فراغ في اليوم الثَّاني، وإذ بعمَّتي تستقبلني ببشاشة وقالت لي: عندي لكَ بشرى سارّة، فقلت: ماذا تخبِّريني يا عمة؟ فقالت: يوجد طالب في الحارة يدرس بكالوريا أدبي وقلت له: عندي ابن خالي من ديريك كمان عنده امتحان بكالوريا، فهل ممكن أن يدرس معك أثناء اللَّيل في غرفتك؛ كي تدرسا مع بعضكما وتناقشا بعض الأسئلة؟ فسألني هل هو شاطر؟ فقلت له: أيوه ابن خالي شاطر! فقلت لها: كيف عرفت عمّة أنّني شاطر؟ قالت لي لأنّك تحاول المستحيل أن تقرأ حتَّى ولو في المشتل؛ لهذا عرفت أنّك شاطر؟وتحبُّ الدِّراسة والقراءة، وقلت لها:حقيقة عمة أنا شاطر، وضحكنا ونحن نسير نحو بيت الطّالب، سلّمت عليه، ودخلنا إلى غرفته وبدأنا نتعرّف، وبعد قليل دخلت أخته وقدّمت لنا فنجانين شاي!  فقلت له: ما رأيك نأكل كليچة مع الشّاي؟ عندك كليچة؟ أيوه عندي في بيت عمّتي، غداً نأكل الكليچة، سألني عن تحضيري لمادة الجغرافية، فقلت له: عندنا وقت اليوم وغداً وليلة الغد كي نحضّر المادة، وعندي برنامج لهذه المادّة أؤمّن لك النّجاح فيها! نظر إلي وقال: أراك واثقاً من نفسك، طبعا واثق من نفسي، عن أذنك سأذهب بيت عمّتي؛ كي أجلب معي ملخَّصاتي وكل ما يتعلّق بالمادّة؛ كي نسهر ونحضّر المادّة! أوكي تفضّل، استقبلتني عمّتي وقالت: شو رأيك بسمير؟ قلت لها: رائع، سآخذ بعض الكتب والملخّصات؛ كي أسهر عنده والباب الخارجي مفتوح سأعود في وقت متأخّر من اللّيل. تعشَّى قبل ما تروح، تعشَّينا وأخذت معي (4)كليچات، مساء الخير، أهلاً وسهلاً، تفضّل كليچة من كليچات أمّي، راح نأكلها مع القهوة كي نسهر طويلاً، جيّد فكرة صائبة، فرشتُ أوراقي على الطَّاولة، عندي من كتاب الوطن العربي قرابة (30)سؤالاً، (5)أسئلة للسؤال الرَّئيسي و (25) سؤالاً فرعيَّاً بما في ذلك الخارطة! اللَّيلة سنقرأ كلّ هذه الأسئلة، وغداً سنقرأ ملخّص الدُّول العظمى، قال لي: هل ممكن أن أصوّر هذه الأوراق؟ بكلِّ تأكيد، ذهبنا نحو أقرب مكتبة كنَّا في بداية السَّهرة وصوَّر كلّ الأوراق، أوَّل سؤال رئيسي: أدرس حوضة دمشق (9)درجات! ضحكَ سمير وهو يقرأ (9)درجات، فقلت له: لماذا تضحك؟ فقال:لأنّك تحدّد الدّرجات؛ لأن السُّؤال الرَّئيسي غالباً هو (9)درجات، درسنا المنهاج إلى وقت متأخّر من اللّيل وفي، اليوم الثّاني درسنا الدّول العظمى، ثمَّ راجعنا الأسئلة المتوقّعة، لا تنسى أن توزّع السُّؤال الرَّئيسي على كلِّ أصدقائك مع الخارطة، والأسئلة الفرعيّة! بكلّ تأكيد سأوزّعها على رفاقي!

خذ أقصى الحائط، بالوسط خلّيك على استقامة واحدة. وزّع رئيس القاعة الأسئلة، قلبت الأسئلة على قفاها بعد دقيقة أمسكتها وبدأت أقرَؤُها، 1. أدرس حوضة دمشق (9) درجات! يا إله الفرح، همست في سرّي! قرأت الأسئلة كلّها وإذ أغلب الأسئلة من الأسئلة الّتي قرأناها معاً، النّجاح مؤمّن مئة بالمئة في هذه المادّة!

كان مركز امتحانه أقرب إلى المنزل، سبقني وذهب إلى بيت عمّتي ينتظرني هناك، يا هلا أنت هنا، أشكرك كلّ الشُّكر؛ لأنّك قرأت معي الجغرافية، سأنجح بكلِّ تأكيد بجهودك وتوقُّعاتك! رائع سؤالك أدرس حوضة دمشق (9) درجات يا نبي! والخارطة وأسئلة أخرى. استفدت منك أكثر من قراءتي على مدى سنة.

فرحت عمّتي أم ميخائيل وقالت لسمير: ابن خالي شاطر، فقال لها أحلى ابن خال عندك في الدُّنيا! تفضَّل تفضَّل أنت معزوم عندنا على الغداء واستأذنتُ من العمّة. لا تحرجني. يالله يالله تفضّل البيت بيتك!

استقبلتنا والدته ووالده وأخته، في غرفة الصَّالون، جاءت أمّه وقالت: سمير مبسوط جدّاً لأنّك درستَ معه الجغرافية، ويا ريت لو درست معه التَّاريخ! لا تذكِّريني بالتّاريخ أرجوكِ! خلَّينا، بالجغرافية وبالمواد القادمة!

الغداء كان لذيذاً، ابتسمت أخت سمير وقالت: سمير يحبّك كثيراً؛ لأنّك أمّنتَ بتوقّعاتك علامة النّجاح له خلال يومين! اندهشتُ عندما قرأتُ الأسئلة وقارنتها بتوقّعاتكَ، قلت له: الله أرسل صبري إليكَ يا أخي!

اجتزنا الامتحان مادة تلو الأخرى! في المجتمع، حصرت ثلاثة أرباع الأسئلة الَّتي جاءت بالامتحان، في الفلسفة السُّؤال الرَّئيسي الموضوع (20) درجة من أصل أربعين و(14) درجة من (20)من الأسئلة الفرعيّة! جنَّ جنونه عندما لخّصت له السُّؤال الرَّئيسي لمادّة الفلسفة وجاء بحذافيره، وحضَّرت فقط (3) مواضيع  فكان أوّل موضوع، خرج من امتحان الفلسفة، متوجِّهاً إلى بيت عمّتي قائلاً لها: أنتِ أحلى عمّة؛ لأنّك أرسلتِ ابن خالك عندي كي يدرس معي، أخذني بالقوّة وهو يقول لأمّه:ِ نجاحي سيكون على يد هذا الإنسان يا أمّي! تخيَّلي يا ماما أستاذ الفلسفة حدّد لنا (10) مواضيع ولم يأتِ منها ولا سؤال، بينما صبري حدّد (3) مواضيع فكان أوَّل موضوع (20) علامة، وحفظته كما سلّمني إيّاه. ولكن يا أخي صبري عندي أصعب مادّة عليّ هي الإنكليزي، اشلونك بالإنكليزي؟ ممتاز، المنهاج عندي سهل واستوعبه كمدرّس المادّة! معقول، يعني تقدر تحل تمارين القواعد! قُل المنهاج كلّه، تمارين، التّرجمة، القصّة، الشّعر، تركيب الجُمل، سؤال العواميد آ ب، حروف الجرّ، الفراغات ..! لا يفوتني أي سؤال يخطر على بالك! لا تمزح، لا يا عزيزي لا أمزح نهائيّاً، نجاحي مؤكّد من جهتي مئة بالمئة، ولو تعطيني انتباهك سأحقِّق لكَ النَّجاح! دقيقة خلّيك بالانتظار، ذهبتُ إلى البيت جلبت كلّ ما يتعلق بمادّة الإنكليزي، لا يلزمني مراجعة أي شيء من المادّة سوى مراجعة الشِّعر والكلمات، سأقرأ تصفُّحاً كلمات الحلقة الإعداديّة والثَّانويّة، ولكن أي سؤال يخطر على بالك اسألني سأجيب لك عنه! شرحت له كيفية الإجابة عن الأسئلة، درسنا يومين متتاليين وشرحت ما يحتاجه وحدَّدْتُ (3) قصائد، وحدَّدت مقاطع من القصائد، وجاءت فعلاً القصيدة المحدّدة.

اجتزت امتحان الإنكليزي بنجاح باهر، كانت الأسئلة معه، ولم يكن واثقاً من إجاباته، فقلتُ له سأصحّح لك إجاباتك! جلست أخته بعد أن قدَّمت فنجان القهوة، وفيما كنت أصحِّح له إجاباته، قاطعتني: عفواً صبري هل أنت أستاذ إنكليزي؟ لا عيني، أنا طالب بكالوريا، لكنَّكَ تشرح وتحلُّ إجابات سمير وكأنّك أستاذ إنكليزي، فقال سمير: فعلاً أنا نفسي شعرت بهذا! ضحكتُ وقلت: خلَّونا بتصحيح الورقة! جمعت علاماته فقلت له: علامتك بين (20 ــ 22) درجة من أربعين والنَّجاح هو (16) درجة نحذف منها (4) درجات ممكن أن يكون عندك أخطاء إملائيّة أو في القواعد، يعني أقل من (18) درجة مستحيل تكون علامتك، حملني ثمَّ قال لي: أنت هديّة من السَّماء الله جابك عندي! بقي امتحان العربي، حدَّدت (6) مواضيع من التَّراجم والنَّقد وقلت له: أنت حرّ لو تدرس كتاب الأدب أنا لن أدرسه، كانت المواضيع عندي ملخّصة، صوَّرها، وشرحْتُ له العروض والإعراب والصُّور البيانيّة وشرْح الشّعر ..، تقدَّمنا للامتحان وإذ بموضوع محدّد وملخّص عن بشارة الخوري، جنّ جنونه وهو يقرأ الموضوع، اندهشتُ أنا الآخر، أجبتُ عن الأسئلة، وقبل نهاية الامتحان، وإذ بصديق لي يسحب مسودتي من أمامي ويعطيني مسودته، فشاهدنا رئيس القاعة، في الجرم المشهود، خفتُ خوفاً شديداً، لكنّني اضطرَرْتُ أن أستخدم أقصى ما لدي من اقتحام المعارك، فجاء إليّ وقبل أن يحكي كلمة؛ً لأنّه كان بصدد أن يطردنا كلينا من قاعة الامتحان بسبب محاولة الغش، ولديه إثبات؛ لأنَّ اسمي كان مكتوباً على المسودة، وكذلك اسم صديقي على مسودته، وما كنت متَّفقاً معه لكنّه تصرَّف بتهوّر، التفتَ للخلف وبدّل المسودّتين، وعندما جاء رئيس القاعة همستُ في أذنه لحظة أستاذ إيّاك ثمَّ إيَّاك أن تقترب على هذا الطّالب، فقال لماذا؟ قلت له إنّه عنصر من أمن الدَّولة ولو تعيد مسودتي منه أو تؤشِّر على أوراقنا سيخرِّب بيتكَ تماماً، فإيّاك أن تخرّب بيتك بيدك، تصرّف وكأنَّ شيئا لم يكُنْ، وتصرّف صديقي كرجل أمن وبدأ يزوّره، ففهم منه أنّه خط أحمر، وهكذا انطلى عليه أنّه أحد عناصر أمن الدَّولة، ولم يكُنْ لدي حلٌ أقوى من حل كهذا، ثمَّ تركنا في حال سبيلنا، وبدأنا نكتب وصديقي بدأ ينقل خلال نصف السَّاعة الأخيرة الموضوع والإعراب والعروض والصُّور البيانيّة وقليلاً من شرح القصيدة، جاء رئيس المركز وهو يهمس إليّ إن شاء الله ما أزعجناكم، لا ما في مشكلة حصل خير، يلزمكم شي، لا ما يلزمنا، تركنا نأخذ راحتنا ونتابع الإجابة عن بقيّة الأسئلة، كنت قد نقلت الموضوع أوَّلاً وقسماً كبيراً من إجاباتي، وما لم أتمكَّن من نقله كنت أعرف الجواب، فكتبته على المبيضة مباشرة!

خرجنا من الامتحان، وجاء زميلي وعانقني وقال لي: أريد أن أفهم ماذا قلت لرئيس القاعة بعد أن ضبطنا بالجرم المشهود؟ توقّعتُ أن يحرمنا من الامتحان، فقلت له: وضعت المخطّطات الاحتياط ونجحتُ، فضحك وقال: أي مخطّط تقصد؟ فقلت له: ما كان أمامي سوى ثوان كي أنقذ الموقف، وقرَّرتُ خلال ثوانٍ أن أغامر وأتصرّف، وشو تصرّفت؟ فقلت له: ألم تلاحظ أنّني كنت أتحدَّث معه بهمس وبطريقة مخابراتيّة؟ قال: بلى لاحظت أنّك توشوشه في أذنه، أجل تلك الوشوشات هي الَّتي أنقذتنا، ماذا قلت له؟ قلت له: أنّكَ عنصر من عناصر أمن الدَّولة ولو تسحب أوراقنا أو تحرمنا من الامتحان ستذهب في ستِّين داهية! تفضّل خلِّيك عند اللُّوح بدون أن تخرِّب بيتك بنفسك! فقال: تفضّل أكتب، لا من شاف ولا من دري.

قهقه صديقي وهو يقول يا رجل عليك قلب فيل، عبقريّة مدهشة منك أن تتصرَّف بهذا الشّكل، وإلّا يا عزيزي كنّا قد ذهبنا نحنُ في ستِّين داهية، مع أنّني كنت منتهياً من إجاباتي، كنتَ ستحطِّمني يا صديقي وأنتَ أصلاً كنتَ من دون شيء محطّماً! ضحكنا ثمّ قال: وأنا بدوري شعرتُ أنّك قلتَ له كلاماً خطيراً لهذا نظرتُ إليه وزوّرته، فجاءت تزويرتك تأكيداً لما وشوشته.

كان سمير في الانتظار مع أبيه وأمّه وأخته، عند باب بيت عمّتي! لأنّ عمّتي كانت في السُّوق، عانقني، وسلَّم والده عليّ وباستني أمّه وسلّمت أخته بحرارة وبسمة مشرقة! ثمّ دعوني إلى حفلة الانتهاء من الامتحان، وإذ بالبيتِ كان عامراً بالأهل، وقدَّمني إليهم أنَّ نجاحه سيكون على يدي!

جاءت عمّتي، ولم تجدني، ثمَّ جاءت إلى بيت سمير لتطمئنَّ على مادّة العربي، فشاهدتنا نحتفل بوليمة غداء “مطنطنة” ونحن في أوج فرحنا، ففرحت هي الأخرى بهذه اللَّمَّة، شكرها سمير على اقتراحها بالدِّراسة سويةً، وطلب منها أن تجلس بجانبه، بعد أن تناولنا بكلِّ فرح طعام الغداء، ودّعتهم، وعدنا إلى المنزل، انتظرت إلى أن جاء يعقوب واسكندر، وأبو ميخائيل، ودّعتهم جميعاً واحداً واحداً، وشكرتهم على ضيافتهم الطّيّبة، مؤكّداً لهم أنَّ نجاحي مضمون مئة بالمئة، وقالت عمّتي لي: سلّم على خالي و “مَرْط”/ زوجة خالي وأولاد خالي والأهل وخالة بيكي. رافقني يعقوب إلى الكراج وحمل حقيبتي، وفيما كانت السّيارة تعبر الطّريق نحو ربوع ديريك، تخيَّلت مشهد تبديل صديقي مسوداتنا، واندهشتُ كيف نجحتُ بهذه المغامرة بعد كلِّ هذه الجهود الَّتي بذلتها، وتفاديت كارثةً محتومة، وهمستُ في سرّي بارك الله فيكم أيُّها المخابرات؛ فلكم الكثير من الفوائد ولا ندري! مرّت أمامي ساعات وأيّام الامتحان، كيف انطلقتُ من المطبخ وانتهت معركة العبور بوليمة طيّبة في بيت سمير وقلوبنا غامرة بالسُّرور، استقبلني الأهل في ديريك بفرح كبير، جاء الأهل وسلَّموا عليّ، ثمَّ خطّطْتُ أن التحقَ بورشة حصاد البيقيا، اشتغلت أسبوعين، كل يوم بثماني ليرات سورية،  قبضت (112) ليرة، سدّدت مباشرة ديني لأم سنحريب (100) ليرة بالتمام، وعزمت أصدقائي على بوظة، وضربت يدي بمالي على المليان، كنّا نأكل البوظة بشهيّة مفتوحة وأنا أستعرض لهم مقتطفات ممّا حصل معي بالامتحان، وكم بدَت لي مراحل خوضي للامتحان كأنّها مستوحاة من قصص ألف ليلة وليلة!

  1. بعد أن تقدّمت لامتحان الثَّانوية العامّة، القسم الأدبي، عدْتَ تعمل في حصاد البيقيا مع مزارع الدَّولة، وكان زميلك عادل فقَّة معلاناً: مشرفاً على الحصاد، تحدّث عن ذكريات حصاد البيقيا؟

بعد أيّام من خوضنا امتحان الثَّانوية العامّة، التحقتُ بإحدى ورشات حصاد البيقيا، وإذ بزميلي “عادل فقّه” يُعَيَّن معلاناً؛ أي مشرفاً على العمَّال، وهكذا أصبح زميلي بليلةٍ وضحاها مشرفاً مباشراً عليّ، متوعّداً إيّاي بدعابة بديعة، لا لا ما راح تقولّي شو معنى “غوست” بالإنكليزي، أي شبح أو خيال! إذا ما أصير عليك مثل الشّبح راح تشوف، تقدَّم نحوي الصَّديق كريم متّو الَّذي التحق مؤخّراً بالمدرسة الصّناعيّة في الحسكة، يقول لي: يا شيخ صديقك “عادل فقّه” أصبح معلاناً علينا، شو رأيك لو مرّات نفركها من حصاد البيقيا ونذهب إلى شاطئ نهر الدّجلة، وهناك نجلس بجانب الشَّاطئ تحت الأشجار، ونسمع إلى أغاني الصَّبايا اللَّواتي يحصدْنَ من الجهة الأخرى من النّهر؟ لا داعي أن نقول له، نستطيع أن نُيمّم نحو النَّهر على أساس أنّنا سنقضي حاجة طبيعيّة، ثمَّ نوجّه أنظارنا إلى موجات النّهر وهي تنساب بسرعة فائقة، وهناك نستطيع أن نسمع إلى أصوات الصَّبايا، كم كان صوتهنَّ جميلاً وهنَّ يُغنّيْن على إيقاع مناجلهنَّ، ويردِّدنَ على بعضهنَّ كأنّهنّ في عرض كونسيرت جميل في الهواء الطَّلق، نحضره عن بُعد وعن حبٍّ عميق!

عدنا بعد غياب ساعة تقريباً، وحالما رآنا صديقنا المعلان “عادل فقّه” قال لي: لقد غبتما حوالي ساعة كاملة، وسأحسم من يوميّتكما ليرة على الأقل، ضحكت وأنا أقول له: احسمْ ما تشاء؛ لأنَّ استماعنا إلى أغاني الصَّبايا كان يساوي حق يوم كامل من حصاد البيقيا، وبما أنَّ “عادل فقّه” كان مطرباً من العيار الجميل، أجاب، بحسب كلامك: راحت عليّ، وأضاف المشكلة لو ذهبت معكما من سيبقى مشرفاً على العمّال؟ فقلت له هذه مشكلتك كي تتأدّب مرّة أخرى، وتصبح معلاناً، وتفوّت عليكَ هكذا فرصة، ربّما تتعلّم منهنَّ لحناً جديداً أو أغنية جديدة غير منتشرة في ديريك، وتكون السَّبّاق في تقديمها عندنا، وتطغى على “عبدو علانة” وتصبح لك إضافة جديدة في الغناء، هكذا فُرص لا تتوفّر دائماً يا صديقي.

همس لي كريم متّو: ماذا قال لك عادل، هل عرف أنّنا غبنا طويلاً؟ فقلت له: أيوه عرف وقلت له: راحت عليك أحلى وصلة غناء، فقال لي المشكلة لو شمّعتُ الخيط مثلكما من سيشرف على العمّال؟! ضحك كريم وقال: قُلْ له خلّي في المرّة القادمة يروح معك وأنا سأبقى معلاناً، أخاف لو عيّنك معلاناً يا صديقي وفركها معي تضعه غياباً وتحسم من يوميّته، ضحك كريم وقال مو بعيد أعملها طالما سأكون معلاناً ومن صلاحيّاتي! خبّرت عادل عن اقتراح كريم بترفيع مرتبته إلى معلان، ضحك عادل وقال صدّقني فكرة رائعة، لكنّي سرعان ما قلت لعادل: فكرة رائعة نعم، ولكن كريم شديد جدّاً عندما يكون في موقع المسؤوليّة، ولو وكّلتَ إليه هكذا مهمّة، ليس من المستبعد أن يضعك غائباً ويحسم من يوميّتك، ضحك عادل، ثمَّ ضحكوا الصَّبايا عندما رأونا نضحك، وتقدَّم كريم نحونا وهو يضحك أيضاً، ماذا قلت له كي تضحكان بهذا الشّكل، فقد تحوّل حصاد البيقيا إلى موجات من الضّحك المتواصل، عندما شرحت لكريم عن أسباب ضحكنا، عاد وضحك من جديد. تقدّمت نحوي “قَدُوْ” بنت الملَّا ومعها سليمة وقالت لي قَدُو: الله يخلّيك صبري قل للمعلان عادل خلِّي في الاستراحة يغنِّي لنا قليلاً كي نرقص طالما هو خفيف الظّل ويحبُّ المرح والضُّحك وصوته جميل جدّاً، فقد حضرت له عدّة حفلات! ولا يهمّك سأبلّغه اقتراحكِ، لكن بحيث لمَّا نرقص تمسكي بيدي، أوعدك سأرقص بيدك. تقدّم عادل نحوي، وقبل أن يبادرني السُّؤال، قلت له يا صديقي بعد نصف ساعة سيبدأ وقت الغذاء والاستراحة، بالحقيقة الصّبايا وعلى رأسهم “قدُوْ” يطلبنَ منك برجاء كبير أن تغنِّي لنا وصلة غنائيّة ويرافقك على الإيقاع كريم متّو وقد طلبوا منِّي هذا الطّلب، عندما وجدوا فيك روح البشاشة ومعلاناً مرحاً تحبُّ الفرح والمرح والضُّحك مع العمّال، ويعرفون أنَّ صوتك جميل جدّاً في الغناء، وتأملُ “قَدُو” وصديقاتها ونحن معها أن لا تخيِّب أملهم وطلبهم!

والله هايي ناقصنا، شو مفكّرنا في حفلة؟ وليش لحتّى ما نكون في حفلة أو سيرانة، أيوجد أجمل من هواء طيّب كهذا وطبيعة خلّابة، نطلُّ على نهر الدّجلة، تعرف البنات يحبُّونك كثيراً، ولكن كيف سأغنِّي في العمل، أفرض لو جاء فجأة رئيس العمل والعمَّال عمّو عيدو؟ أش يجيب عمّو عيدو في هذا الظَّهر؟

جاء كريم وقال شو في، شرحت له الفكرة فقال أنا جاهز كضابط إيقاع، نستطيع أن نبدأ بأغاني خانمان؛ كي يرقصوا عليها حول الكديس كأنّه منصّة المسرح، ضحك عادل وقال: والله “تَحَلَّاندْ”! أي أبدعتَ في الرّد! جاءت “قَدُوْ” وهمستْ لي، هل قلتَ له؟ أيوه قلتُ له وتقريباً راح يقتنع. رائع صبري، برافو عليك! ثم قلت لقَدُو: تعالي عندي فكرة قويّة. ما هي؟ شو رأيك لو نحمِّي رأس المعلان وتغنّوا على رأسه أغنية:

“چالا بيِّيُو هاي چالا بي آو كيَّا زافا”! ثمَّ تردّ بعض الصَّبايا: “عادلا زافا” .. بهذه الطَّريقة سنضعه في حالة حماس، ونمهّد له الجو كي يغنيِّ، وربّما تضرب في رأسه ويغنِّي، وقد بقي للاستراحة دقائق، جاء كريم متّو ويقول: لوين وصلتم؟ وصلنا إلى فكرة أن تبدأ الصَّبايا بأغنية “چالا بيّيُو” على رأس “عادل فقّه”، وحالما تبدأ الصَّبايا بالغناء، حضرتك تقوم وتحمل عادل فوق كتفك، ضحك كريم وقال: تريدوا أحمله من الآن؟ طوّل بالك، بعدَ أن يبدأنَ الصَّبايا. اجتمعن الصّبايا حولي وأعطيتهم إشارة البدء، وبدَؤُوا يغنّون بصوتٍ واحد، “چالا بيّيُو هاي چالا بي آو كيّا زافا”، فتردُّ مجموعة الكورس: “عاااادلا زااااافا”! ثمَّ يقوم كريم بحمل عادل خلال ثوانٍ ويصفّق الشَّبان والشَّابات وهلهلنَ بعض الصّبايا على رأس عادل ثمَّ ردَّد الجميع عاااادل عاااادل عاااادل! وأنزل كريم عادل من على كتفه وقال له: الآن جاءت الفرصة والوقت المناسب كي تغنِّي بصوتك الرّائع، وحمَّسته أنا الآخر تفضّل يا صديقي لا تخجّل الصَّبايا الحلوات والشَّباب، لا تنسَ عندنا الآن استراحة الغداء ساعة كاملة من حقِّنا أن نرقص ونغنِّي ونأكل خلالها! أنت المعلان ورئيس العمَّال والمسؤول عن كلّ شيء! ابتسم عادل وقال فعلاً ليش لحتّى ما نفرح ونغنِّي طالما نحن في حالة استراحة؟ وبدأ عادل يقول: أحم أحم ويصفّي صوته، ثمَّ جلب كريم سطلاً من البلاستك كدربكة، وبدأ عادل يغنِّي ويرافقه كريم على إيقاع الأغاني كأنّها دربكة خالص، وبدأنا نرقص وأمسكت في رأس الكوڤندة، فأمسكت “قَدوْ” بيدي وسليمة بيدها وأخوها محمود، ثمَّ كبرت الكوڤندة، وبدأنا نرقص وعادل يغنّي ونحن نردُّ عليه ككورس. هلهلنَ بعض الصَّبايا وأصبح الكديس/ كومة البيقيا الكبيرة في وسط دائرة الرّقص، وعادل يغنِّي بحماسٍ، وكريم يأخذ مجده على الإيقاع، وفجأةً يأخذه الحماس ويعطي الإيقاع لإحدى الصَّبايا، ويرقص في رأس الكوڤندة، ويشتدُّ الحماس والزَّغاريد تقوم ركباً، وفيما نحن في قمّة فرحنا وجدنا عمّو عيدو أمام المطرب المعلان عادل فقّة وجهاً لوجه! مردّداً: يا ماشاء الله، ماشاء الله على هيك معلان! مشرف على العمَّال يغنِّي ويحوِّل العمل إلى ساحة رقص حول الكديس، فقال له: صدّقني عمو عيدو الفكرة هي فكرة صبري، فقال له: يا معلان يا مشرف على العمّال، حتّى ولو كانت الفكرة فكرة صبري، فهو مجرّد عامل عندك، كيف يقنعك بأن تغنِّي وترقصوا بكلِّ هذا الحماس كأنّكم في حفلة حقيقيّة وصوت غنائكم وتهاليلكم يصل إلى آخر الدّنيا؟ يا ريت لو كان عندكم هكذا حماس لحصاد البيقيا! دخلتُ على الخطّ بس عمّو عيدو الآن عندنا استراحة ومن حقِّنا نقضي استراحتنا كما يحلو لنا! شي حلو، عندكم استراحة ما هيك، أنت بالذَّات يا صبري تسكت، بدّي أحسم منك (3) ليرات؛ لأنّك تحرِّض العاملات والعمال والمعلان على الرّقص والغناء، طوِّل بالك عمّو عيدو من المفروض تعطيني مكافأة مو تحسم من يوميّتي؛ لأنّني أحرّك الجو وأعمل لك نشاطاً للعمال، لا تنسَ أنَّ العمَّال بعد هكذا استراحات، يتنشّطون ويحصدون البيقيا بهمّة كبيرة، خاصّة لو استمروا يحصدون ويغنّون على إيقاع المناجل كما تحصد الصَّبايا من خلف النَّهر. ومن قال لك أنَّ الصَّبايا من خلف النّهر يغنُّون وهم يحصدون؟ كنّا نسمع أصواتهم من هنا، فانحسدنا منهم وقلنا لِمَ لا نقوم بالغناء مثلهم طالما معلاننا يغنِّي أحلى الأغاني؟ أوعدك عمّو عيدو أنّنا سنحصد بهمّة بعد أن تنتهي استراحتنا، ثمّ غمزتُ الصَّبايا وقلتُ لهنَّ واحد اثنين بصوت واحد على رأس عمّو عيدو، “دوس دوس إيمان ربّي زين زين مكحول العين واللّي يعادينا الله عليه”!!! ثمَّ بدأتُ أردِّد عمّو عيدو عمُّو عيدو وبدَؤُوا يردِّدون معي إلى أن ضحك عمّو عيدو وقال لي: والله معه حق عادل يقول صبري ورّطني أن أغنّي لأنّك في هذه الحالة مو بعيد تخلّيني أنا بالذَّات أغنِّي، بس المشكلة ما بعرف أغنِّي! ثمَّ ضحكنا بما فينا عمّو عيدو وقلت له بربّك عمّو مو لازم ترفّع يوميتي من (8) ليرات إلى (10) ليرات! نظر إليَّ وقال لي ادعِ لربّك ما أحسم يوميّتك، نظرت إلى ساعتي وإذ بوقت الاستراحة على وشك الانتهاء، فطلبت من عادل أن يطلب البدء من بالعمل، فقلت بدوري: يالله يا صبايا يالله يا شباب على الحصاد، نغنّي ونحصد على إيقاع مناجلنا، بدأنا نحصد بكلِّ رغبة وحماس خاصّة، لأنَّ عمّو عيدو موجود، ولأنّنا كنّا في قمّة فرحنا ونشاطنا، نغنّي ونحصد وفريق من الكورس يردّ على المجموعة الأولى، كان عمُّو عيدو ينظر إلى ملّواتنا/ إلى باقات البيقيا الَّتي نحصدها بحماسٍ منقطع النّظير، وهو يبستم وفي أوج فرحه؛ لما نقدِّمه من إنتاج على إيقاع الأغاني، واقتنع تماماً بفكرتي أنَّ الغناء والرّقص يرفعان من همّة العمَّال خاصَّة لو كانت في أوقاتِ الاستراحات. اقترب عمّو عيدو نحوي وقال: تعرف يا صبري، فكرتك ناجحة جدّاً في إدخال الرّقص والغناء في الاستراحات والغناء أثناء الحصاد؛ لأنّكم فعلاً تحصدون وكأنّكم في سيرانة، واعتباراً من يوم الغد سأعيّنك معلاناً، مشرفاً على العمّال مع عادل، خاصّة أن عدد العمَّال يزداد ويزداد، وهذا يساعدنا في إنجاح  الاستراحات والحصاد على حدٍّ سواء!

  1. بماذا كنتَ تفكّر، بعد يومٍ كامل من حصاد البيقيا وسط عمّالٍ ما بين (15 ــ 60) سنة وما فوق، بعد أن تقدّمتَ إلى البكالوريا الأدبيّة بجدارة وفي مخيّلتك تعجُّ آلاف المفردات الإنكليزيّة؟!

أفكِّرُ بهذا الحصار الجائر على هفهفاتِ بهاءِ الرّوح، أفكِّر بالمستقبل الغائر في أعماق السّراب، أفكِّرُ بالجراحِ المتفاقمة فوقَ رحابِ الأحلام، أفكِّر بفقراء هذا العالم وهم يتضوّرون جوعاً، وأطنان من أشهى المأكولات للكثير من أغنياء العالم تُرمى يوميَّاً في براميل النّفايات، أفكِّر بتصدُّعات مستقبل الكثير من البشر، أفكّر بالغباء المستشري في جماجم الكثير من دنيا الشَّرق، أفكّر كيفأن نسبة ضئيلة من البشر تمتلك ميزانيات خارقة في الكون وملايين ملايين البشر تتضوَّر جوعاً؟ أفكِّر كيف ينامُ الكثير من مليارديري هذا العالم دون أن يرمشَ لهم جفن وهناك ملايين البشر تنام في العراء؟ أفكّر باعوجاج سياسات آخر زمن في الكثير من بلاد العالم؟ أفكِّر كيف يعيشُ الكثيرَ من صنّاعِ القرارِ بعيداً عن أبجدياتِ أبسط حقوق الإنسان في الحياة؟ أفكِّر بحسرةٍ حارقة كيف يقودُ الكثير من مهابيل هذا الزّمان أكبر بلدان هذا العالم، وكبار عباقرة الكون يعيشون على هامشِ الحياة أو تتهدّل رقابهم في أعماقٍ كهوفٍ مكوَّرة بالزَّنازين؟ أفكِّر بطريقةٍ تخترقُ فضاءات البحار؛ بحثاً عن وسادةٍ مريحة لما يموج من أسىً في تكويرة الرَّأس؟ أفكّر أن أنامَ نوماً عميقاً بعد سهرةٍ طويلة مع الأحبّة، ولا أنهض من نومي حتّى انتصاف الظَّهيرة، أفكِّر أن أعانقَ أنثى من نكهةِ المطرِ والنُّجومُ ترنو إلينا، كأنّها تبتسم لكركراتِ ضحكنا ونحن نناجي تلألؤات السَّماء، أفكِّرُ أن أرسمَ خفقةَ القلبِ فوقَ خدودِ صديقةٍ من لونِ النّدى، أفكِّرُ أن أكفكفَ أحزان نساء العالم، وأهدهدَ أرواحهنَّ المخضّبة بالجراح، أفكّرُ أن أزرعَ فوقَ جبينِ الحبيبة أهازيجَ بوحِ القصيدة، أفكّرُ بكلِّ هذا الأنين الطّافح فوقَ قلوبِ مبدعي هذا العالم، أفكِّر بكتابةِ قصيدةٍ منبعثةٍ من حفاوةِ خدودِ الأطفال، أفكّرُ أن أموسقَ عشقي فوقَ أركانِ الحياة، أفكّر أن أضحكَ ملء شدقي على سياسات هذا الزّمان، أفكّر كيف تتصارعُ بعض الأديان على قضايا لا ترقى إلى مستوى إنسانيّة الإنسان؟ أفكِّر باندهاشٍ كيف لا يفهمُ صنّاع الحروبِ على مرِّ الأزمان أنّهم لا يفهمون؟ أفكّر بالكثير من جلافات الحياة الّتي تطوّقني من كلِّ الجهات، أفكِّر بكلِّ هذا الارتصاص الجاثم فوقَ كاهلي على مدى تشظّيات السّنين، أفكّر أن أنامَ يوماً دون أن أفكّرَ بغدٍ ملظّى بآهاتِ الأنين، أفكِّر لماذا كلّ هذه الطُّموحات الشَّاهقة المعلّقة في أذيال الغيوم، وأنا أزدادُ غوصاً في لهيبِ الاشتعال؟! أفكّر أين سترسو آلاف الكلمات الإنكليزيّة الَّتي تموجُ في واحات الذّاكرة بعد أن حفظتها حرفاً حرفاً على مدى سنين؟! أفكّر لماذا أراني مُحاطاً بأبوابٍ مهشّمة بشفير الانكسار؟! أفكِّر كيف سأتابع دراساتي الأكاديميّة ولا أملك سوى قلماً يعبِّرُ عن تشظّيات طموحي المعلّق على متاهاتِ الانشطار؟! أفكِّرُ بهذا القلب المبرعم بين سهول القمح، إلى متى سيتحمَّل تفاقمَ سماكاتِ الغبار؟ أفكِّر بطريقةٍ رهيفة تقودُ حرفي إلى انبعاثِ أصفى تجلِّيات الاخضرار، أفكِّر في كلِّ يومٍ قضيته في سماء ديريك؛ كي أتوّج رؤوس الأحبّة بإشراقةِ أزاهيرِ الصَّباح فوق رحابِ الدِّيار! أفكِّرُ أن أخبِّئ ديريك بينَ مروج القلب وأهازيج الرُّوح وهي تنسابُ نضوحاً من أقدسِ قداساتِ زيتِ المزار!

  1. ماذا حملْتَ بين جناحيك من طموحاتٍ، عبر طفولةٍ ويفاعةٍ وشبابٍ متشابكة بمطاحنات الحياة؟

كنتُ وما أزال أحمل طموحاً تضيق اللُّغة عن التَّعبير عمَّا يراودني من تجلِّيات بوح الرَّد عن هذا السُّؤال! عشتُ طفولةً ويفاعةً وشباباً معرّشاً بطموحاتٍ شاهقة غير قابلة للتحقيق في زمنٍ موغلٍ في تصدُّعاتِ الآمال، الطُّموحات مشاعر مفتوحة على مسارات زرقة السَّماء، رؤى متهاطلة من أغوارٍ عميقةٍ غير قابلة أن نحيطَ بها عبر دندناتِ القلمِ أو حبرِ اللُّغاتِ، اللُّغة أصغر ممّا يموج في الذّاكرة والخيال من طموحٍ، لا تستطيع اللُّغةُ أن تحبكَ تجلِّيات بوحِ الُّروحِ عبر آفاقِ ما تحمله طموحاتنا من مشاعر خلّاقة، دائماً أراني محاصراً في تلافيف بوتقةِ اللُّغة؛ لأنَّ اللُّغة أيّة لغة على وجه الدُّنيا غير قادرة على ترجمة المشاعر الفيّاضة، حيث خلال ثوانٍ معدودات تتدفَّق مشاعرنا وتجلّيات خيالنا، بحيث تعجزُ كلّ لغات الأرض عن الإحاطة بجزء يسير ممَّا يعترينا، لهذا أرى أنَّ الطُّموحات الَّتي تحلِّق فوق أجنحة المبدع لا يمكن أن يسبر غورها ويحقِّقها عبر اللُّغة على أرض الواقع مهما كانت الظُّروف مواتية وميسورة، فكيف لو كانت مهشّمة وغائرة في شفير الانشطار، ضمن متاهات دنيا الشَّرق المغلّفة بينَ أجيجِ نيرانٍ لا تخطر على بال، وحشيّةٌ كاسرةٌ تخلخلُ بسمةَ الأطفالِ، تمحق بهاء اليفاعة، تطحن أجنحة الشَّباب في وَضَحِ النّهار، وحدَه حرفي أنقذ بعضاً من طموحاتي من شفيرِ الغرقِ، تاهت الذَّاكرة في خضمِّ الأحلام؛ بحثاً عن ضياءِ شمعةٍ معلّقة في حنايا حلمٍ هاربٍ قبل أن يتأجّجَ نفيرَ الصَّولجان، عجباً أرى صولجانات من كلِّ الجهات، كيف ستنمو طموحاتُ طفلٍ، صبيٍّ، شابٍّ وسطَ عواصف هوجاء، متطايرة من رشيشِ البراكين، كيف سأرسمُ طموحي وأنا معلَّقٌ بين ألف نارٍ ونار؟ نحتاجُ ألفَ مشرّعٍومشرّعاً؛ كي ينقذَ الطُّفولة واليفاعة والشَّباب من هجومِ براكين الوباء، ما هذا الوباء المستشري فقو أرض الحضارات؟ ما هذا النُّكوص المبرقع فوقّ ألقِ الاخضرار؟ من يستطيع أنْ ينقذَ الشَّرقَ ومروج الشِّمال من شراهةِ أجيجِ النّار؟ لغتي قاصرة عن ترجمة شلَّالات انبعاث بوحي، لغتي مترجرجة أمام فيضان شوقي إلى طفولة ممراحة وطموحات مترصرصة بمطاحناتِ الحياة، كيف سألملمُ ضراوةَ الانكسار عبر حرفٍ مُدمى فوقَ طينِ الانحدار؟ طموحي يشبهُ دغدغاتِ النَّسيم المنساب فوقَ وجنةِ الغابات، طموحي إشراقةُ حبٍّ مجنّحٍ نحوَ انبعاثِ اخضرارِ المروج، طموحي وميضُ قوس قزح في قبّةِ السَّماء، طموحي حنينُ عاشقٍ إلى ابتهالاتِ غيمةٍ عطشى إلى شموخِ الجبال، من يستطيع أن يحيطَ بهذا النَّسيم المتدفّق فوقَ آفاقِ ذاكرة مشتعلة بأريجِ الأغاني؟ مراراً حملتُ بين جناحي طموحاتٍ منبعثة من تهاطلِ صفوةِ المطر، لا أرى طموحاً يتحقَّقُ عبر ضراوةِ الاشتعال، تزدادُ طموحاتي تشظّياً، تئنُّ فوقَ قارعةِ الذَّاكرة الهاربة من نصالِ هذا الزّمان، أنا حالةُ عشقٍ متهاطلٍ فوقَ خدودِ الدُّنيا، رسالةُ فرحٍ محبوكةٍ من إشراقةِ الشَّمسِ رغمِ تفاقمِ أبجديّات الانشطار، ورغمَ شراهاتِ أزيزِ الغدرِ، أنا حالةُ طموحٍ معجونةٍ باخضرارِ السّنابل، حالةٌ مخضّلةٌ بيراعِ القصيدة، أتدفّقُ من توهُّجاتِ أعماقِ الذّاكرة البعيدة، حيثُ بسمةُ أمِّي تبهج صباحاتي كرفرفاتِ أجنحةِ اليمام، وحنينُ والدي يبلِّلُ حرفي برحيقِ الحياة وينعشُ ليلي الطّويل بهلالاتِ المحبّة وضياءِ حبورِ السَّلام!

  1. ما رأيكَ بكيفية ترعرع ونموّ الطّفل، المراهق والشّاب في دنيا الشَّرق؟!

من خلال التَّربية الَّتي يتلقَّاها المرء عبر مرحلة الطُّفولة واليفاعة والشَّباب في عالم الشَّرق، أرى أنَّ طريقة التَّربية سواء في الأسرة أو المدرسة أو الشّارع، لا تؤدّي إلى بناء شخصيّة متكاملة وناضجة ومعتمدة على نفسها إلّا ما ندر؛ لأنَّ العقل الجمعي على كافّة الأصعدة مهيمن ومسيطر إلى حدٍّ كبير على شخصيّة الفرد، حيث نجد الأغلبيّة السَّاحقة من الأطفال واليافعين والشّباب لديهم شبه تفكير موحّد أو متقارب لبعضهم بعضاً؛ لأنّ المجتمع والأسرة والمدرسة تلقّنهم مفاهيم تتقاطع مع بعضها في الكثير من المعاني والمضامين وتطبعهم بطابع واحد، كأنّهم نسخ كربونيّة متكرّرة، ولهذا أرى أنَّ هناك ثغرات عديدة في بناء شخصيّة الفرد؛ لأنّه غالباً ما تكون تربية الجميع بالطريقة نفسها حيث لا تتمُّ التّنشئة على تعميق الرّؤية الفردانيّة، فتغلب تقريباً على أكثريّة أفراد المجتمع روح التَّفكير الجمعي والعقل الجمعي، الَّذي يعني العقل القطيعي بمفهوم علم الاجتماع، ولهذا أرىأنَّ من الضّروري الوقوف عند هذه النّقطة الخطيرة الّتي تؤدّي إلى خلخلة شخصيّة الفرد وإذابتها في الرُّؤية الجمعيّة للفرد ــ المواطن، لهذا يستحسن أن تتمَّ تربية الفرد بطريقة تعمّق شخصيّته عبر مراحل عمره، بحيث ينمو نموّاً طبيعيَّاً، وتسهم تربيّته في تعميق شخصيّته وبناء كينونته كياناً مستقلَّاً عن العقل الجمعي؛ كي يشقَّ طريقه لبناء شخصيّته بشكل منعزل عن الرُّؤية الجمعيّة القطيعية، ونادراً ما نجد الفرد في عالم الشرق متحرِّراً من سلطة الأبوين، وسلطة الرُّؤية المجتمعيّة أو سلطة الأنا الأعلى في المجتمع، وغير متحرِّر من سلطة العائلة، وأحياناً من سلطة العشيرة والطَّائفة، ومن سلطة الدِّين أحياناً أخرى، وبالتّالي نراه أسير جملة من القيود والثّقافات المتخلِّفة الّتي تؤدّي إلى كبح شخصيّته في الكثير من الوجوه، وتبقى رؤاه النّقديّة والتَّحليليّة والإبداعيّة والفردانيّة يطغى عليها طابع هذه القيود الَّتي ترعرع عليها، ويحتاج إلى سنين وعقودٍ من الزّمن؛ كي يتمكّن من التَّحرُّر من هذه الثَّقافات القامعة لشخصيّته في الكثير من جوانبها، ومن هذا المنظور أرى أنَّ من الضُّروري إعادة النَّظر في تنشئة الفرد في الشَّرق، ابتداءً من مرحلة الطُّفولة أو قبل الطُّفولة، ابتداءً من لحظة أن تحبل الأم بالجنين بحيث أن يتمَّ الاهتمام بصحّة الأم وحقوق الجنين القادم على أن يتمّ إعطاؤه الحقّ في أن يعيش ضمن جو ديمقراطي، وتربيّته تربية سويّة طبيعيّة بعيداً عن هذه القيود الّتي أشرنا إليها فيما يخصُّ تشكيل عقل جمعي، وبالتّالي يتوجّب تغيير كلّ المناهج الدّراسيّة، ابتداءً من المرحلة الابتدائيّة، مروراً بالمرحة الإعداديّة والثّانويّة، وانتهاءً بالمرحلة الجامعيّة والدِّراسات العليا بطريقة تسهم المناهج التّحليليّة في خلق كيان مستقل، يتمُّ التَّركيز على فردانيّته، بحيث أن يتحرّر من قيود السّلطات بمختلف أنواعها، مع الأخذ بعين الاعتبار احترام هذه التّكتلات والمؤسّسات؛ مؤسّسة الأسرة والمجتمع والمذاهب والأديان والقوميات، لكن سؤالي وحواري وتفنيدي يرتكز على الجانب التَّعليمي والتّربوي القويم؛ لأنَّ معظم تعليمنا المدرسي والجامعي والأُسري والمجتمعي هو تعليم إقصائي وقمعي وكبحي وتلقيني، فنخرج بنسخ متكرِّرة ومتشابهة، وهذه التَّنشئة غير قائمة على بناء شخصيّة مستقلّة لها خصوصيّتها بقدر ما يتمُّ بناء شخصيّة مقموعة ومكبوحة ومكبوتة في الكثير من قضايا الحياة، ويصبح الفرد بالتَّالي شخصيّة سلبيّة تابعة للأنا الأعلى الّذي هو: جملة من العادات والتّقاليد والأفكار الأُسريّة والمدرسيّة والمؤسّساتيّة والدِّينيّة والمذهبيّة، وغيرها من المؤسّسات الّتي تبني الفرد ضمن سياق بعيد كلّ البعيد عن بناء شخصيّة مستقلّة عاقلة، تفكِّر وتبدع وتصبح فعّالة في المجتمع كما ترى الشَّخصيّة ذاتها، لا كما تريد السُّلطة الأُسريّة والمجتمعيّة والدِّينيّة والمذهبيّة، ولا أريد نهائيّاً أن يفهم منّي وكأنّي ضدّ هذه السُّلطات بالمطلق، بل أريد التَّأكيد على ضرورة أن يُعاد النَّظر في أساليب ومنهاج وتوجُّهات هذه السُّلطات، بحيث نسهم في رفع مستوى الأسرة والمدرسة والمؤسّسات الّتي يترعرع فيها المرء، بحيث تسهم في بناء شخصيّة خلّاقة ومستقلّة وبعيدة عن العقل القطيعي التَّابع السّلبي، والّتي لا يمكن أن تسهم شخصيّة كهذه في تنوير المجتمع الّذي يعيش فيه؛ لأنّ فرداً كهذا هو مجرّد من روح النّقد والتَّقويم والتَّفكير المستقل، وبرأيي أنّ أهم سبب في تخلّف المجتمع الشَّرقي هو هذا التَّحيّز للرؤية الأُسريّة العشائريّة الدِّينيّة المذهبيّة؛ بدليل أن نسبة كبيرة من خلافاتنا وحروبنا ومشاحناتنا وتصارعاتنا قائمة على الأسباب نفسها الّتي يتشبَّث بها هؤلاء المتعصّبون وهذا يدلُّ على أنَّ الشَّخصيّة القطيعيّة عبر العقل الجمعي هي شخصيّة منفعلة وليست شخصيّة فاعلة؛ لأنّ رؤيتها قائمة من منظور ما يراه الآخر: الأسرة المجتمع المؤسّسات المتخلِّفة الّتي تحشو فكره برؤية متخلّفة بعقليّة جمعيّة، وكأنّهم نسخة واحدة مستولدة؛ ولهذا نرى أنَّ الغرب الأوروبي والكثير من دول العالم المتحضِّر استدرك هذه الخطورة في تربية الأجيال، بحيث يعطون لكلّ مرحلة من مراحل الفرد من خلال لحظة الحمل والطُّفولة واليفاعة والشَّباب حقّها من خلال مناهج تدرِّس كلّ عمر بدقّة ومنهجيّة، من خلال مئات البحوث والدّراسات الّتي يقومون بها، وعلى ضوء البحوث والدِّراسات يتمُّ سنّ القوانين المدرسيّة والمجتمعيّة والأُسريّة والجامعيّة والدِّراسات العليّا والقوانين المدنيّة، وقد فصلوا الأديان عن القوانين المدنيّة؛ كي يتركوا المجالمفتوحاً للاجتهاد والإبداع والفردانيّة الخلّاقة!

ولهذا صرّحت في سياق نقاشاتي مع بعض الأصدقاء والصَّديقات أكثر من مرّة، انّني حملت في جعبتي الكثير من العقد ممَّا تشرَّبتها من دنيا الشَّرق، مع العلم أنّني طرحت نفسي منذ أن كنت في الوطن الأم إنساناً مجنِّحاً نحو الانفتاح والتَّحضُّر والتَّمدين والتَّحرُّر لخلق رؤية خلّاقة، ومع هذا فقد كان لسطوة المجتمع والأسرة والعادات والتَّقاليد والمدارس والجامعات والثّقافات الّتي تشرّبناها دور أن نكون متخلّفين في بعض قضايا الحياة، مقارنةّ مع المجتمعات المتقدِّمة، ولا يعني أنّ كلّ ما تعلَّمناه في دنيا الشّرق هو جملة من التّخلف والتَّحجُّر والتَّعنُّت! لا أبداً؛ لأنَّ هناك من ثقافات وعادات الشَّرق وتعليم الشَّرق ما هو جيّد ومفيد، ولكن التَّنشئة بمفهومها العام والشَّامل غير مدروسة عبر مراحل الدِّراسات على مختلف مستوياتها، ناهيك أنَّ هناك تعتيماً خالصاً بين الجنسين، فينمو ويترعرع الشّاب والشّابة ولا يعرفان شيئاً عن بعضهما في الكثير من قضايا الحياة، وخاصّة ما يتعلّق بهما كأنثى وذكر، ناهيكم عن هذا الخطّ الأحمر الغامق والجدار الفاصل بينهما الّذي يضعه المجتمع والدِّراسات والأسرة؛ ويؤدّي إلى حالة انفصام مريرة ما بين المرأة والرّجل، ولهذا أستطيع القول: أنّ طريقة تعليم وتربية الأطفال والمراهقين من كلا الجنسين تربية خاطئة في الكثير من جوانبها، بدليل أن نسبة كبيرة من الأطفال المراهقين واليافعين من كلا الجنسين يكذبون على أسرهم ومجتمعهم فيما يفكِّرون به ويذهبون إليه، فهذا الانفصام والجدار الفاصل بين الشّباب والشّابات من جهة وبين الفكر السَّائد من جهة ثانية، يجعل حياتهما جحيماً ضمن سلسلة لانهائيّة من الممنوعات، إلى درجة وكأنّ هناك قوانين مسنونة لغير صالحهما، وكأنّها مسنونة لتعقيدهما وجعلهما كتلة من العقد والتّخلف والتّحجّر والتّعصُّب، وبالتّالي يسهل عليهما الانجراف إلى متاهات وانحرافات وسياسات، وتبنّي رؤى ليست خاطئة فحسب بل هي مريرة أيضاً، كما هو الأمر لما نراه في دنيا الشّرق من نتائج، لهذا لو دقّقنا فيما يقوم به الكثير من أصحاب الرُّؤية الشَّبابيّة، فيما يخص الرّؤية المتعلّقة مثلاً بما يسمى “الرَّبيع العربي” هي رؤية قطيعيّة أكثر ما تكون رؤية الشّاب والشَّابة؛ بدليل لو نسأل هؤلاء وأولئك الشَّبان والشّابات عن سبب اندفاعهم وانخراطهم في هذه الحركات والتّجمُّعات، غالباً لا يستطيعون الإجابة بدقّة وإقناع عمّا قرَّروه وعمّا قاموا به؛ بدليل أنّ رؤيتهم قائمة على رؤية المؤسّسة الفلانيّة والتّيار الفلاني والأسرة والمذاهب والأديان والأقوام وما شابهذلك ممّا هم غير مقتنعين بالكثير ممّا قاموا ويقومون به، وبلا شك لهم تبريراتهم لما يقومون به، إلّا أنّنا لو دقَّقا فيما يقومون به بطريقة منطقيّة، نجدهم على خطأ؛ لأنّهم خرجوا عن معايير التَّغيير والتّطوير نحو تحقيق الأهداف المنشودة الخلّاقة، وإلّا ما معنى أن يدمِّروا ويقتلوا ويهدِّموا أوطاناً بكاملها بهدف التَّغيير والثَّورة وما شابه ذلكمن أفكار؟ برأيي هدّامة جدّاً، خاصّة أنّهم لا يعرفون لماذا قاموا بما قاموا به من دمار؛ لأنّ التَّغيير والثّورة الحقيقيّة يجب أن تكون ضمن سياق برنامج سياسي اجتماعي فكري تنويري مدروس، ويكون هناك قادة لهم برنامجهم، وليس مجرّد اقتتال وحروب طاحنة؛ والنَّتيجة هي دمار لكلّ الأطراف، وهذا يدلُّ على أن تنشئتهم كانت هدّامة وسهلة الانقياد؛ لأنّهم يملكون فكراً قطيعيَّاً جمعيّاً، وهم بعيدون كلّ البعد عن الفكر الفرداني المستقلّ والخلّاق، إلّا بنسبة قليلة نجد مَن يمتلك رؤية فردانيّة مستقلة خلّاقة، وهؤلاء لا يشكِّلون أي تأثير عمَّا آلت إليه الأوضاع!

ولهذا أرى أنّ من الضُّروري إعادة النَّظر في كلِّ قوانين ودساتير الشَّرق والعالم العربي وما يجاوره، للبدء ببناء وتنشئة جيل جديد يحمل رؤية جديدة، يعتمد على أحدث الأفكار التَّنويريّة والحضاريّة والتَّقدميّة والإنسانيّة، بعيداً عن التّعصُّبات الدِّينيّة والقوميّة والمذهبيّة، منطلقين من الإنسان الفرد كمواطن له خصوصيّته الفردانيّة الإبداعيّة الفكريّة المستقلّة؛ كي يبني الجميع -كلّ بحسب موقعه- المجتمع ومؤسّسات الدَّولة بكلّ مرافقها، أسوةً ببقيّة دول العالم المتقدِّمة، وإلّا سيبقى المجتمع والعالم العربي غائصاً في متاهات صراعات وحروب قوميّة ومذهبيّة ودينيّة وفكريّة متناقضة ومتناحرة إلى ما لا نهاية، والمفلق بالأمر أنّهم لا يستفيدون من أخطاء غيرهم، ولا من أخطائهم، ويشقّون طريقهم في متاهات أفكار عقيمة، وكأنّهم خارج الزّمن، وخارج حركة التّاريخ، فإلى متى سيبقى العالم العربي تائهاً عن تبنِّي الفكر الخلّاق والتّنوير والحرِّيّة والدّيمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة، بعيداً عن التّعصُّبات والصِّراعات والحروب المذهبيّة والطَّائفيّة والدِّينيّة والقوميّة الّتي أودَت بالبلاد فوقَ رؤوسِ العباد في الكثير من جوانبها إلى أسفل السّافلين؟!

  1. ما رأيك بالمناهج الدِّراسيّة الَّتي يقرَؤُها الطَّالب في الحلقة الابتدائيّة والإعداديّة والثَّانويّة؟

لا يعجبني الكثير ممّا جاء في المناهج الدِّراسيّة في الحلقة الابتدائيّة والإعداديّة والثّانويّة في بلداننا، ويستحسن أن يتمَّ تغيير الكثير الكثير ممّا جاء في المناهج الدّراسيّة، بحيث تصبح تعليميّة تنويريّة راقية وليس فقط تلقينيّة، فالمناهج الدّراسيّة المدرسيّة لا تعجبني لسببين، أولاًلأنّها لا تواكب حداثة العصر، وثانياً لأنّها تلقينيّة حفظيّة جامدة، كما أنَّ أساليب التَّدريس هي تقليديّة قديمة لا تناسب هذا الزّمن، وهناك إهمال وتجاهل كبير للمواد الإبداعيّة الخلّاقة: كالموسيقى، والرّسم، والمسرح، والغناء، والرّقص، والرّياضة، والتّقنيات، المتسارعة سرعة البرق، والتَّركيز على بناء وتنشئة الطَّالب على الرُّؤية التّحليليّة والفكريّة، وإنشاء مراكز البحوث، وفتح المجال لكلِّ ما يقود الطَّالب إلى الإبداع الخلّاق بمختلف جوانب الحياة.

إنَّ أغلب الأساليب المتّبعة هناك هي حفظيّة سمعيّة، ولا تحرّض على التّفكير والتّحليل، ولا تساهم على التّنوير بقدر ما هي حشو معلومات، ولا يتمُّ تقديمها للطالب بشكل سلس؛ فلا يفهمها بعمق، بل يحفظها عن ظهر قلب، فلا يستخدم الفهم والفكر والخيال في بناء ثقافته وتعليمه المدرسي. من هذا المنطلق أرى أنَّ المناهج الدِّراسيّة بكلِّ المراحل المدرسيّة وبمختلف مستوياتها وفروعها تحتاج إلى تعديل وتغيير، بحيث تصبح مواكبة لحداثة وتطوُّرات العصر، في أغلب بلدان الشَّرق، أسوةً بما حصل ويحصل في بلدان العالم المتمدين، وإلّا ستبقى بلدان الشَّرق خارجة عن حركة التَّاريخ والتَّطوُّر البشري، ولا تسهم في حضارة العالم الجديد؛ لأنَّ تقنيّات العصر تسير بسرعة البرق، ونحن في دنيا الشّرق مانزال نسابق العالم والغرب كأنّنا نسير على ظهر سلحفاة، فكيف سنلحق بهم؟!  لهذا يجب التَّركيز على بناء فكر خلّاق تنويري حضاري إنساني، من خلال سنّ وتطبيق مناهج جديدة تناسب ما نحن بحاجة إليه من تطويرٍ وتنويرٍ راقيَين؛ كي يتمكّن الفرد المرء المواطن الإنسان من أنْ يحلَّ مشاكله وهمومه بطريقة تحليليّة فكريّة حضاريّة إنسانيّة تناسب حضارة العصر، لا أن يتصارع بأفكاره المتحجّرة إلى درجة المناطحات؛ لأنّ الفكر وُجِد من أجل حلِّ مشاكل الحياة والمجتمعات، وليس من أجل الصِّراعات والحروب الخلّبيّة العقيمة!

  1. ما رأيك بالمناهج الجامعيّة والدِّراسات العليا ودور كلّ من الرّجل والمرأة في بناء المجتمع؟

لا يتمُّ تحديث وتطوير المناهج الدِّراسيّة للمعاهد والجامعات في الشّرق بشكل عام، غالباً ما يدرس الطّلاب والطَّالبات المناهج نفسها، المقرّرة منذ عشرات السّنين، مع العلم أنَّ العلوم والأفكار والنّظريات الفكريّة تتطوّر يوماً بعد يوم، ولهذا يجب أن يتمّ تغيير وتطوير المناهج الجامعيّة والمعاهد بما يتناسب التّطوّرات الجارية في العالم، كما أنَّ أسلوب التَّعليم مايزال يعتمد على أسلوب الحفظ والتّلقين، خاصّة في المواد النّظريّة والأدبيّة، ويفتقر إلى الكثير من البحوث الرَّصينة؛ لأنّه يتوجّب على مناهج الجامعات أن تتَّبع طريقة التّحليل والبحوث المعاصرة، وإعداد الكثير من مختبرات البحث العلمي، وافتتاح معاهد خاصَّة بهذه البحوث الخاصّة بتطوير المناهج، ورصد مبالغ كبيرة للبحث العلمي والفكر التَّنويري والعلوم الإنسانيّة، للحاق بتقنيَّات وعلوم العصر عبر كافّة المراحل الدّراسيّة، وخاصّة المعاهد والجامعات والدّراسات العليا؛ كي يتمكّن الطّلّاب والطَّالبات من اللّحاق بعجلة التَّطوّر المتسارعة في كلّ ساعة ويوم، فلا مكان للدول الّتي تعتمد على المناهج القديمة البالية، فنحن في عصر التَّقدُّم الكوني السَّريع، فأين نحن من الدُّول المتقدّمة الَّتي تقدّم بحوثاً عن جيولوجيّة القمر والعالم العربي لا يستطيع أن يقدّمَ بحوثاً عن جيولوجيّة الأرض؟!

كما يجب التَّركيز على دور المرأة في المجتمع؛ لأنّها تشكّل العصب الحسّاس في بناء المجتمع، جنباً إلى جنب مع الرّجل، ولهذا يجب فسح المجال للمرأة؛ كي تأخذ دورها في المجتمع، وسنّ قوانين تؤمّن حقوقها في كلّ ما يتعلَّق بالتّعليم والحرّيّة والعمل على كافّة الأصعدة، بحيث تكون العضو الفعّال في المجتمع، شأنها شأن الرّجل؛ كي تسهم مع الرّجل في بناء عجلة التّطوّر الاقتصادي والاجتماعي والفكري، وتساعد في كلِّ ما يمكن تقديمه للنهوض بالبلاد نحو الأفضل!

  1. تحدَّت عمّا راودك قبل أن تتلقَّى خبر نجاحكَ في الثَّانويّة العامّة، وأين كنتَ لحظة إصدار النّتائج؟

… “لم يقلقني يوماً ما شظف العيش الّذي مرَرْتُ به، بل شعرتُ أنّه يطهّرني من تخبُّطات وانحدارات هذا الزّمان، عانقتني طويلاً سنابل القمح، وأعادت إليَّ رحيق بهجة الحياة، كم كنتُ أفرح وأشعر بمتعة لذيذة عندما أتناول حبيبات الفريكة الخضراء من باقات سنابل والدي، الّتي كان يزرعها بفرحٍ  عميق، وبعد أن أتناول الفريكة الخضراء، أشقُّ طريقي نحو حقول الحمّص الأخضر، ألملم باقات الحمّص، آكل حبّات الحمّص بشهيّة مفتوحة، كأنّها مفتاح العبور إلى أبراجِ القصور، مع أنّني لم أحلم يوماً بالقصور، حتّى أنّها ما كانت تلفت انتباهي، شاقَّاً طريقي نحو كرمنا الواقع إلى الشِّرق من مار يعقوب، آكل أشهى “الأرنوب والحرصم” وآكل عناقيد العنب عندما تنضج بلذّة غامرة، كنت أشعر في حينها أنّني من أغنى أغنياء الكون، وما كان شظف العيش يحبطني إطلاقاً، بل كان يعيد إليَّ نكهة الطُّموح، ولذّة البحث عن الأجمل والأبهى في الحياة.

حلمتُ في ليلة قمراء، أنّني أطير، أحلّق عالياً، فرحٌ عميق غمرني في أعماق الحلم، في اليوم التّالي، وجدت نفسي بين جبلاتِ الطِّين، برفقة شكري ابن عمي، نشتغل مع عمّي يوسف شلو في بناء بيت كورية المشروبات، أبو بول المعروف بخفّة ظلّه. كنتُ نحيفاً للغاية، جسمي غير مقطوع شغل كما يُقال لعمل كهذا، لا يطيقه سوى العمَّال ذوو البنية القويّة، ولكن ظروف الحياة دفعتني للعمل، راغباً أن أحصل على بعض المصاريف الخفيفة لمتابعة دراساتي بعد نجاحي من الثَّانوية الّتي تقدّمت إليها منذ أكثر من شهر، وفيما كنّا نعمل في إعداد البلوك وعدّة البناء، كنت أحضّر جبلة الطِّين، أخلط الماء بالإسمنت، وأحرّكه قبل أن يجفّ، سمعت صوتاً لأحد الطُّلَّاب في مكبّرات الصَّوت يقول: أيّها الأحبّة الكرام، نلفت عنايتكم إلى أنّنا سنقرأ على مسامعكم نتائج امتحانات البكالوريا الأدبيّة، نرغب إليكم الاستماع إلينا؛ لأنّ نتائج الامتحانات قد صدرت وسوف نقرَؤُها عليكم بعد قليل.

فرحتُ عندما سمعتُ هذا النِّداء، وهذا التَّنويه، فقلت لعمّي يوسف: بعد قليل سيقرؤون أسماء النّاجحين والنَّاجحات، وحبذا لو توقّفنا عن العمل ونستمع إلى النّتائج؛ لأسمع نتيجتي النِّهائيّة في الامتحان، ثمَّ نتابع عملنا؛ كي يصبح للعمل نكهة من نوعٍ آخر!

نأخذ استراحة، أجاب عمِّي.

حالما سمعَتْ لميس ابنة كوريّة صوتي فيما كنت أقول لعمّي: حبذا لو نسمع إلى النّتائج بعد قليل لأسمع نتيجتي النّهائيّة، تقدّمتْ نحوي وسألتني.

هل فعلاً تقدّمْتَ إلى امتحانات البكالوريا الأدبيّة هذه السّنة وتنتظر نتائج الامتحان؟

أي نعم، تقدّمتُ لامتحان البكالوريا هذا العام.

هل عندك أمل في النّجاح؟

لا تقولي هل عندك أمل في النّجاح، بل قلي كم سيكون معدّلك؟ لأنَّ النَّجاح مضمون مئة بالمئة! لأنّني لا أؤمن في هذه الأحوال بالاعتماد على الأمل، بقدر ما أؤمن بما زرعته، وبما سأحصده بعد قليل.

ماذا تقصد؟

أقصد أنّ نتيجتي النّهائيّة يا لميس هي النَّجاح وبدون أي شك، ولا أعتمد على الأمل في النّجاح؛ لأنَّ ما كتبته يعني لي النَّجاح لا غير!

يا سلام، واثق من نفسك كتير.

نعم واثق من نفسي كثيراً، مثلما واثق من أنَّ جبلةَ الطِّين الّتي أمامي هي جبلة طين من صنع يدي، هكذا أرى نجاحي أمامي، واضحاً وضوح جبلة الطِّين!

ضحكت لميس عندما وجدتني أشبّه ضمان نجاحي ووضوحه بوضوح جبلة الطّين الَّتي أمامي!

لحظات وسيقرأ أحد الطُّلاب النّتائج، ستسمعين بأذنيك اِسمي مردَّداً بين أسماء النَّاجحين، وبعلامات محصورة ما بين كذا وكذا! سأرمي بنفسي بين جبلة الطِّين لو لم أكُنْ من النّاجحين وبتفوّق!

أحسدك على ثقتك العمياء بنفسك، أراك واثقاً جدَّاً من النّجاح، وتحدّد علاماتك أيضاً، سنسمع بعد قليل هل ستتحقَّق تكهُّناتكَ القاطعة؟

ولو يا لميس نحن لا نفهم فقط بإعداد جبلات الطِّين للبناء، ونقدِّم البلوك والحجر لعمّي، نفهم في الكثير من الأمور الأخرى أيضاً.

معقولة تنجح يا صبري.

ليش مو معقولة، وليش أنتِ مستغربة لو أنجح، ومستكترة عليّ النّجاح؟!

معقولة واحد مقدّم بكالوريا، وينتظر نتائجه وهو غائص في الطِّين في يوم صدور النّتائج، وهو يحضّر جبلة الطِّين للإعمار؟

أصلاً هذا الشّخص وشخص كهذا هو الَّذي ينجح وسينجح، أين الغلط، وأين العائق لطريق النّجاح؟ بالعكس أنا أشْتمُّ نجاحي من خلال جبلة الطّين، والعمل عندي هو مقدّس، يعطيني إحساساً أنّني موجود وأنتج شيئاً ما!

شو قصّتك مركّز على جبلة الطّين، كأنّها طريقكَ إلى النّجاح، خلّينا بالنّتائج!

قلتُ لك يا عزيزتي نجاحي أراه ماثلاً أمامي مثل وضوح جبلة الطّين!

تعرفي لو تناقشي معي بعناد، سأخرِّب جبلة الطِّين، سأقول لعمي: عمّر حائط بيت أبو لميس معوج!

ضحكت لميس وقالت: إذا عمّره عمّك معوجاً، بابا ما راح يعطي لكم حق الإعمار؛ لأنّه معوج!

قصدك سيعتبرنا راسبين في الإعمار؟!

بالضبط.

لحظة، سمعت صوت أحد الطُّلاب عبر مكبّر الصَّوت من ثانوية يوسف العظمة يقول: نقرأ الآن على مسامعكم أسماء الطّلاب والطّالبات النَّاجحين والنّاجحات في الثَّانوية العامّة، القسم الأدبي.

انتبهي لميس، اسمي الكامل صبري صاموئيل يوسف! ركّزي ستسمعينه بأذنيك بعد قليل وعلامتي ما بين كذا وكذا!

ضحكت لميس وقالت: قتلني هذا بتحديد علاماته، لك أنا بدّي أسمع اسمكَ ناجحاً، ما أريد أعرف العلامات الآن!

بدأ أحد الطُّلاب يقرأ أسماء النَّاجحين والنَّاجحات بكلِّ هدوء وبصوتٍ عالٍ، مردِّداً الاسم مرّتين، مع ذكر العلامة، وإذا به يقول: الطّالب صبري يوسف، العلامة …..، من النّاجحين بتفوّق! وإذ بلميس تتوجّه نحوي وتقول: لَكْ صبري نجحت، نجحت بتفوّق، ثمّ فتحت يديها وعانقتني وأنا في كامل طيني، فقلت لها: لَكْ يخرب بيتك صرْتِ كلياتِك طين.

لكْ خلّي أصير طين المهم نجحت يا صبري!

فرَحَتْ لميس وكأنّها هي الّتي نجحت، ثمَّ ركضَتْ نحو البيت وخبّرتْ والدها وأمّها بلهفة، بابا بابا تخيّل هذا العامل صبري اِلّي يشتغل مع عمّو يوسف نجح بالبكالوريا.

ليش هادا كان طالب بكالوريا؟ الله وكيلك فكَّرتو عامل بناء!

اِيه بابا هوَّة هلّا عامل يشتغل مع عمّو يوسف، بس كان مقدّم بكالوريا ونجح بعلامات جيّدة. تخيّل يا بابا قبل ما يقرأ أحد الطُّلاب النّتائج بدقائق غير على جبلة الطِّين ما كان يحكي، تعرف هلكني من كتر ما حكى على جبلة الطِّين، توقّعت أنّه في البداية يمزح على أنّه تقدّم لامتحانات البكالوريا الأدبيّة عندما سمعته يقول لعمِّه: لازم نسمع نتائج الامتحان وأعرف كم هي علامتي.

تعرف بابا أشقد واثق هذا الإنسان من نفسه، أكثر من مرّة يعيد الكلام ويقول لي: نعم أنا من النَّاجحين مثلما ترين جبلة الطِّين الَّتي أعدَدْتُها، هكذا أرى نجاحي.

لمّا قرؤوا اسمه توجّهت نحوه وهنّأته بكلِّ فرح، قال لي: يخرب بيتك عبِّيتِ حالك طين، فقلتُ له: خلّي أتعبّى طين، المهم نجحت يا صبري.

وليش سلّمتِ عليه بهذه الطّريقة؟

بابا شي عجيب كان واثقاً من نجاحه، حبّيت كتير ثقته بنفسه وبتفوّقه! وفعلاً عندما قرأ اِسمه أشار الَّذي يتلو النّتائج، نجح بتفوّق، ففرحت جدَّاً كأنّني أنا الّتي نجحتُ!

لا يكون يا بنت … ؟

شوباك يا بابا أنتَ التَّاني رايح لبعيد!

ضحك وقال: والله يا بنتي بحسب ما أسع كلامك عنه، مفروض أروح لكتير بعيد.

ضحكت هي الأخرى وقالت: شو ممكن نضيّفهم بمناسبة النّجاح.

طولي بالك أحسن ما أروح كمان لبعيد!

فرحَ عمّي كثيراً وهنّأني، وكذلك هنّأني ابن عمي شكري، وجاء أبو لميس وأم لميس وقدّما التَّهاني لي ولعمِّي، واشترَتْ أم لميس علبة سكاكر ووزّعتها على أطفال الحيّ وبعض العابرين، والمهنِّئين، ثمَّ قال أبو بول وهو نفسه أبو لميس، عندكم استراحة أبو أفرام بمناسبة نجاح صبري أفندي ودعوة على أكلة جبس مع جبن وخبز حار على مزاجكم.

قدّم لنا جبسة “كورطبان” كبيرة وطويلة، ثمَّ بدأ يكسرها، ويقسّمها حزوز حزوز، وقطّعتْها لميس في صحون ووزّعتها علينا، وفيما كانت لميس تقترب منّي وتقدِّم لي صحن الجبس، كان أبو بول يغمزني ويشير إليها، وكأنّه يحرِّضني على الاقتراب منها أكثر، فشعرتُ أنّه أب مختلف عن الكثير من آباء ديريك في ذلك الزّمان، وأعجبني موقفه، صحيح كان يقوم بهذهالإيماءات بنوع من الدُّعابة، ولكنّه كان جدِّيّاً فيما إذا تقدَّمتُ نحو ما يدور في خلده! بينما أقصى ما كان يدور في خلدي، أن أنطلق من جبلة الطّين، متوجِّهاً نحو جبلات طينيّة أرحب، جبلات من نوعٍ آخر، نحو آفاقٍ الثَّقافة والعلم وكلّيّة الآداب، حيث كان حلمي أن ألتحق بدراسة الأدب الإنكليزي؛ لأنّني حصلت على المعدّل الأوَّل على دفعتي بهذه المادّة، وبعد مشاورات أُسريّة طينيّة مريرة، قرَّرْتُ مضطرَّاً أن ألتحقَ بالصَّف الخاص كأقرب طريق للقمة الخبز؛ لأخطِّط بعدها بكلِّ هدوء لمشوار العبور في ضفاف المستقبل لتحقيق طموحاتي الدِّراسيّة من أبوابها العريضة!” …

  1. يصادف اليوم عيد الحب، كيف تعيش الحبّ، ماذا يعني لك الحب، كيف تترجم رؤاك في الحب؟!

الحبُّ لغةٌ غير مرئيّة، منبعثة من أجنحةِ القلب ومن هلالاتِ بوحِ الرُّوح، وهجٌ يضيءُ رحابَ الأحلام، أعيش الحبُّ من خلال كينونتي المبرعمة فوق أزاهير الدُّنيا، من خلال تجلِّيات بوح القصيدة، من خلال وهج العشق المتناثر فوق خدود حبيبة محبوكة من نكهة المطر، من خلال مناجاتها وعناقها على إيقاع دندنات الغمام، من خلال ابتهالات بوح الرُّوح، وانتعاش مروج القلب، وهي في أوج حنينها إلى تجلِّيات بهجة الاشتعال! يا أميرةَ حرفي، يا لبَّ القصائد، كوني سمائي الصَّافية صفاءَ بوح القصائد، في عينيكِ تنمو شهقات حنين الرّوح، بلِّلي روحي بقبلات من نكهةِ الفرح، كوني فرحي الدَّائم فوقَ حبرِ القصائد، رسمتُ فوقَ مآقيكِ قبلاتي المبرعمة من إشراقةِ الصَّباح وبهاءِ اللَّيل، تغفو تلالُ العشقِ فوق مروجِ القلبِ، تشبهينَ هفهفات نسيم الصَّباح. كلّما هطلْتِ فوقَ دنياي انتعشَ لوني وكَوني، تنسابين دفئاً رهيفاً فوق منارةِ الرُّوح، فأحلِّقُ عالياً من وهجِ الابتهال!

صباحُكِ يا صديقة الرّوح، يا حبيبة الحلم الآتي، يا حبقاً منبعثاً من أزاهير الرُّمان، يا إشراقة ليلي ويا أشهى ما في حبرِ القصيدة، خدّاك يهدهدان تيجانَ حرفي كإشراقةِ الخيرِ، أناغي خدّيك بتهاطلاتِ أسرارِ الحنين، فتنضحُ مقلتاك ألقاً، ما هذا البهاء المبرعم في بريقِ عينيكِ؟ وجنتاك مدبَّقتان بالعسل البرّي، تعالي أوشّحْ خدّيكِ بأريج الحياةِ، أزرعْ جبينَكِ قُبَلاً فيزدادُ شموخاً كأزهار اللّوتس، قبلةٌ معبَّقة بالنّارنج تنسابُ فوقَ خدودِ الحنين، شوقُكِ يشبهُ تدفُّقات الماء الزّلال من أعالي الجبال، قبلةٌ مكتنزةٌ بمذاقِ التُّوتِ أموسقُها فوقَ هلالاتِ دنياكِ، حيرةٌ مبهجة تغلِّفُ محيّاكِ الحميم، فيومضُ قلبي إشراقاً كأنّكِ شجرة مخضوضرة بثمارِ بوحِ العناقِ، أوشوشُ ضفائر الرُّوح فتشرقُ عيناكِ ألقاً، أزرع قبلةً رهيفةً فوق بسمةِ عينيكِ، تبتهلُ روحي انتعاشاً من توهُّجات دفءِ العناقِ، تطيرينَ فرحاً كأنّك نسمةٌ منبعثةٌ من شهقةِ القمرِ، وميضُ عينيكِ ينعشُ بوحَ العشقِ، كلّما رأيتُكِ، تهاطلت روحي قُبَلاً فوق تجلِّيات كينونتِك المبرعمة فوقَ مروجِ الحياةِ، كأنَّكِ في حالةِ ابتهالٍ بهيجٍ على مدى حبور انبعاثِ الحلمِ، حلمكِ معبّقٌ من يراعِ شهقاتِ الحنين، حلمكِ مكتنزٌ بقبلاتٍ نديّة كأنّها مسربلة بنداوة نسيم الصّباح، تشبهين زهرة عبّاد الشّمس، تستميلين إلى إشراقاتِ الشَّمسِ وإشراقات العناقِ كلّما ازدادَتِ الرّوحُ ابتهالاً، في قلبِك وردةٌ متفتِّحةٌ، تضمَّختْ روحُك فرحاً، كلّما قرَأتِ اسمي وسمعتِ بوحي، تناهى إلى شواطئ القلبِ حبورُ الانتعاشِ. تشبهينَ ربيعي الأبهى، كأنّكِ محبوكة من رحيقِ السَّوسنِ البرِّي، تشبهينَ حنيني الأشهى، كأنَّكِ سرُّ انبعاثِ بوح القصيدة، كأنَّكِ تحملين بين أجنحتكِ أسرارَ جموحِ العناقِ، تشبهين أشهى قبلة على وجهِ الدُّنيا، تشبهينَ مسارات جموح الرُّوح، تشبهينَ روحي عندما ترقص فرحاً، تشبهين ليلي وأنا في أوجِ التَّجلِّي، كلّما أشتقتُ إليكِ، زرعتُ فوقَ خدَّيكِ هدهداتِ هديلِ اليمام. تشبهين جموحات روحي وهي في أوجِ ابتهالاتها، هل كنتِ يوماً روحي ولا أدري؟!

شعلْتُ لك شمعةً كلّما حنَّ قلبُك إلى دنياي،شعلْتُ لك شمعة كلَّما جرفَكِ الشُّوقُ إلى مروجِ العناقِ، شعلتُ لك شمعةً كلّما نامَ اللَّيلُ؛ كي يضيءَ قلبُكِ ألقاً وحبَّاً وبهاءً، لعلَّكِ ترسمي فوقَ منارةِ روحي أسرارَ بوح الحنين.سأشعلُ اللَّيلةَ لكِ شمعةً؛ كي تنامي نوماً مسربلاً بشهقةِ العشقِ العميقِ؛ كي تنقشي اسمي فوقَ خميلةِ الرُّوحِ، تعالي أرسمْ خدَّيكِ وردتا عشقٍ فوقَ تيجانِ القصائد!

يا تفَّاحةَ روحي المعرّشة في مآقي القصيدة، يا لونَ النّدى المنساب فوقَ خدودِ وردةِ الصَّباح، يا حنيني المستنير على خفقةِ ضياءِ الهلالِ، يا حرفاً يموجُ فوقَ حدائقِ السّلام، تعالي أهدهدْ روحَكِ كلّما يغفو اللَّيل على أهدابِ أميرةِ حرفٍ قبل أن تنبلجَ من شهوةِ الغسقِ، تعالي أرسمْكِ قبلةً شهيّةً فوقَ أسرارِ اللَّيلِ، تعالي ألملمْ ذبذبات الرّوح فوقَ هلالاتِ خيوطِ الصَّباحِ، تعالي نرسمْ معاً أغاني الحنين المتدفِّقة من أثداءِ السَّماء، تعالي نرقصْ فرحاً على شهقاتِ أنغامِ المطر، تعالي نبحرْ في لجينِ القصائد، نبحث عن طينِ المحبّة، لعلّنا نحصدُ حفاوةَ الشَّوقِ المنبعث من حنايا اللِّقاء، تعالي أوشِّحْ روحكِ بهلالاتِ نضوحِ الزَّيتِ المقدّس؛ كي نسمو عالياً فوقَ أجنحةِ نجيماتِ الصَّباح، تشبهينَ أحلامَ الطُّفولة وهي تنشدُ أغاني الفرح المتطاير من مآقي الشَّفقِ قبلَ أنْ تتهاطلَ رذاذاتُ الفرحِ من خدودِ غيومِ الصّباحِ، تعالي قبلَ انبلاجِ الفجرِ؛ كي أرسمَ فوقَ خدّيكِ أهازيجَ بوحِ إشراقاتِ العناقِ، تعالي أهمسْ لشواطئ قلبِكِ عن أسرارِ دفءِ الحياةِ، قبلَ أن تنشدَ السَّماءُ أسرارَ تجلّياتِ بوحِ الحرفِ. كلّما نضحَ قلبُكِ شوقاً إلى مروج الرّوحِ؛ رسمْتُ ألَقي فوقَ منائرِ انبعاثِ الحنين. كم مرّة غفيتِ فوقِ مساراتِ خيوطِ الرُّوحِ وأنتِ منسابة بينَ ضفائر حلمٍ مجنّحٍ نحوَ أشهى ابتهالاتِ الخيال، كم مرّةٍ نضحَتْ مقلتاكِ؛ شوقاً إلى رحابِ الذّاكرة البعيدة؛ بحثاً عن مذاقِ الخبزِ المقمّر، كم مرّة هلهلهَتْ أشجارُ الرُّوحِ؛ شوقاً إلى زنابقِ الحوشِ العتيقِ، كم مرّة نمْتِ بين مرافئ الرُّوحِ؛ بحثاً عن أسرارِ بهجةِ الاشتعالِ، كم مرّة أبحرْتِ عميقاً نحوَ مرافئ العشقِ؛ بحثاً عن أشهى تلاوينِ العناقِ، كم مرّة غفيتِ فوقَ مصاطبَ مزنّرة بأزاهيرَ محبوكة بيخضورِ ألقِ الابتهال، كم مرّة عبرْتِ لجينَ القصيدة، وأنتِ مقمّطة بأهازيجَ متماهية من وميضِ الرّوح،ِ وهي تزدادُ شوقاً إلى أبهى ما في حبورِ الانبهار. كلَّما هدهدْتُ خدَّيكِ، انبلجَتْ زهرةٌ في مرافئ الرُّوحِ، كلّما زرعْتُ حنيني فوقَ ربوع نهديك، نسيتِ أحزانَ الكونِ، واخضرّتْ خدّاكِ من بهجةِ تجلّياتِ العناقِ، كلّما دنوتُ من مقلتيكِ، تلألأَ خدَّاك ألقاً من وهجِ الاشتياقِ، كلّما خفقَ قلبُكِ إلى مرامي روحي، رقصَ حرفي ابتهالاً، فهرعْتُ بكلِّ انتعاشٍ نحوَ ندى الأعشابِ، مرتمياً بكلِّ حبورٍ تحت ظلالِ أريجِ التِّين، تعالي أبُحْ لكِ بروعة عبيرِ البيلسان عندما يهدهدُ حياءَ خدَّيكِ، كلّما حنَنْتُ إليكِ، خفقَ قلبي شوقاً إلى تلألؤاتِ عينيكِ، فلا أجدُ أبهى من عبقِ الثَّغرِ؛ كي أمهرَ فوقَه أسرارَ بسمةِ الرُّوحِ وهي في أوجِ ابتهالِ أزاهيرِ العناقِ، تطهَّرَتْ روحي كلّما ناغيتُ وميضَ عينيكِ، وحلَّقْتُ عالياً بين أهدابِ السَّماءِ، كم من الشَّوقِ حتَّى تبرعمَ حرفي فوق وجنتيكِ، كم من العناقِ حتَّى اخضوضرتْ أزاهيرُ الخميلة بأشهى حبورِ البهاءِ، كم من الدِّفءِ حتّى أشرقَت الشِّمس عشقاً شهيَّاً فوقَ ظلالِ الرّوحِ!

***

أترجم مرامي عشقي للحب عبر توهُّجات عناقي لبهاءِ الكونِ، عبر كل هذا العطاءِ المتهاطلِ علينا من أخاديدِ السّماءِ، أتلألأ في خميلةِ دنياكِ عبرَ أريجِ خدّيكِ المسترخييّن فوقَ شغفِ الرُّوحِ، أنسابُ بوحاً شهيَّاً وأنا في كامل قيافتي وابتهالي عبرَ دندناتِ روحِكِ وهي تناجي قلبي منذُ فجرِ التَّكوينِ. رقصَ قلبي من وهجِ الانتعاشِ كلَّما عانقَ خصوبةَ قلبِكِ المتهاطلِ ألقاً على امتدادِ شهقاتِ الاشتعالِ، كم مرّة عانقتُ وجنتيكِ وأنتِ في أوجِ تجلِّياتِ الابتهال، كم مرّة زرعْتُ شهقاتِ الشَّوقِ في منارةِ الرُّوحِ، وأنتِ تزدادينَ إبحاراً في أوجِ انبلاجِ الخيالِ، كم مرّة حلَّقْتِ عالياً على إيقاعِ انبعاثِ الحنينِ، وأنتِ في طريقِكِ لاحتضانِ عرين عشقٍ من طينِ المُحالِ، أقبِّلكُ ألفَ قبلةٍ وقبلةً، لعلّكِ تضيئينِ روحي مثلَ ضياءِ الهلال.

مراراً زرعْتُ في تخومِ الرُّوحِ بوحَ العناقِ، مراراً قطفنا من حدائقِ العشقِ عشقاً، مراراً سَبَحنا في خضمِّ الدِّفءِ، حتَّى حلَّقنا عالياً كأنّنا في جنانِ النّعيمِ، أريدُ أنْ أمهرَ شهقتي الأولى فوقَ حبورِ نهديكِ؛ كي أتوِّجَ مذاقَ خدّيكِ في سِفْرِ العاشقين، تعالي كلَّما نضحَتْ عيناكِ شوقاً؛ كي أفهرسَ رضابَ العشقِ في أشهى تجلّياتِ الخالدين، تعالي في هدوءِ اللٍّيلِ؛ كي أنثرَ همسي فوقَ أبهى تلالِ الحنين، كوني حنونتي المبرعمة في قلبي على امتدادِ السّنين، كوني رسولةَ عشقٍ ممهورةٍ بإشراقةِ انبعاثِ بسماتِ البنين.

أريد أن أهدهدَ ليلكِ الحنون على انسيابِ بوحِ الرّوحِ؛ حتَّى تطفح عيناكِ فرحاً، تعالي أمسِّدْ أحلامَكِ المتناثرة فوقَ عتمِ اللَّيل، لعلِّي أزيل ما ينتابكِ من جمرِ المسافاتِ، تعالي نرسمْ معاً بكلِّ شموخٍ رفرفاتِ أجنحتنا المحلِّقة فوقَ أمواجِ البحار، تعالي نعبرْ جنانَ العشقِ على أنغامِ هديلِ اليمام، كوني يمامتي المتألِّقة فوقَ اخضرارِ الغاباتِ، كوني فرحي المحلِّق فوق خدودِ الجبال، كوني منارةَ عشقي المعرَّش بأشجارِ المحبّة حتّى اختراقِ أقاصي الخيال، أيّتها المبرعمة في مزاميرِ ليلي، يا جنّةَ بوحي وروحي، يا غزالةَ العشقِ يا روضةَ الحبّ، يا أريجَ عشقي المتوَّج بأشهى شهقاتِ الاشتعالِ، أراكِ تزدادينَ ألقاً مفتوناً بانتعاشِ القلبِ، وهو يرقصُ في أرقى الأماسي، تحلِّقينَ شوقاً كأنّك غزالة جامحة كجموحِ أجنحةِ الرِّيحِ، يتهادى شَعرُكِ معَ تمايلاتِ نسيمِ الصَّباحِ، كأنّكِ في رحلةِ فرحٍ نحوَ براري السّماءِ، تنمو فوقَ وجنتيكِ أهازيجُ حلمٍ مفتوحٍ على فراديسِ النّعيم، كلّما ناغيتُ مذاقَ شفتيكِ، ابتهلَتْ روحي لأغصانِ السَّماءِ. تشبهينَ شجرةً وارفةً بأشهى ما في اخضرارِ الحياةِ، تزهرُ عيناكِ شوقاً إلى ظلالِ البيتِ العتيقِ، في شموخِ دنياكِ يسطعُ جموحُ حرفي، تشبهين شهوةَ الفجرِ وهي في أوجِ تجلِّي أجنحةِ الصّباحِ، أريدُ أن أبلسمَ رهافةَ نهديكِ بماءِ الوردِ؛ كي تشمخَ قبلتي فوقَ طراوةِ الدِّفءِ كأريجِ النّارنج، كلّما قبَّلْتُ روحَكِ، ابتهلَتْ عيناي شوقاً إلى مآقي هلالاتِ زرقةِ السّماءِ، أغطِسُ حبري في أشجارِ الحنين؛ كي أكحِّلَ خدَّيكِ برحيقِ ما تماهى معَ ماءِ الحياةِ، أموجُ فوقَ تلالِ الدِّفءِ؛ كي أهدي إليكِ تاجاً مزنّراً بصفاءِ عذوبةِ الماءِ، أنقشُ فوقَ نهديكِ أسرارَ دفءِ الشَّمسِ، كوني شمسي المزنّرة بأشهى ينابيعِ العطاءِ، تنمو فوقَ تيجانِ الشّوقِ مهاميزُ الرّوحِ، أرسمُكِ خميلةَ وردٍ معبّقةٍ بأهازيجِ الجنّة، كوني جنَّتي المخضوضرة بانبعاثِ أزاهيرِ النّعيمِ، تتراقصُ روحُكِ جذلى من عذوبةِ مذاقِ التّينِ، تعالي كي أزرعَ بصمةَ بوحي وروحي فوقَ أبهى تيجانِ الحنين!

 نهاية الجزء الأوَّل… … … يتبع الجزء الثّاني!

حوار مع الذّات.. ألف سؤال وسؤال..الجزء الأول – السؤال من 31 – إلى 40 – للأديب و التشكيلي السوري#صبري_ يوسف Sabri YOUSEF ..

حوار مع الذّات.. ألف سؤال وسؤال..الجزء الأول – السؤال من 31 – إلى 40

للأديب و التشكيلي السوري#صبري_ يوسف Sabri YOUSEF ..

 

  1. كان الوالد يربّي الأرانب، ماذا كان ينتابك أثناء ولادة الأرانب وهي تمرح في حوشكم الفسيح؟

قبل أن أتحدَّث عن مرح الأرانب، سأتحدّث عن مرحي ومرح بعض الأصدقاء، فيما يخصُّ الأرانب، أتذكّر عندما كنّا نعمل في سلك التَّعليم، كانت أسعار بعض السّلع بالارتفاع بين حين وآخر، وإذ بي في يومٍ من أيام شتاء ديريك، أسمع بارتفاع سعر اللّحم، فضحكتُ مستهزئاً من ارتفاع هذه السّلعة، فقال لي الأستاذ سمعان بهنان أبو بهنان:  يا أخي أنت ما يهمّك بارتفاع سعر اللّحم؛ لأنَّ لديك موسم وزراعة وما شابه. فقلت له: لا لا، لا يهمُّني ارتفاع سعر اللّحم لأسباب أخرى أقوى بكثير ممَّا يتعلّق بالمواسم، فقال: ما هي الأسباب الأخرى القويّة الَّتي تجعلك غير مكترث بارتفاع سعر اللّحم؟ فقلت إنّني قرَّرت اعتباراً من اليوم أن أصبح نباتيّاً؛ وأستغني عن شراء اللّحم نهائيّاً، خاصَّة لحم الخروف والأبقار والعجول، فقال: كيف ستعيش؟ فقلت له: سأعيش كأنّي إنسان نباتي، وهذه الحالة أكثر صحّيّة. فضحك هو والكثيرون ممَّن سمعوا تصريحاتي، وفعلاً منذ ذلك اليوم استغنيت عن شراء اللُّحوم، وليرتفع سعرها إلى أن يصبح سعره سعر الرَّاتب كله، وحقيقة الأمر لم أستغنِ عن شرائه من باب البخل أو الفقر، بل من باب أنَّني أستطيع الاستغناء عن هذه السّلعة، وحلّيت المشكلة بطريقة طريفة، فقد التقيت مع والدي السّيد صامو شلو المعروف بفكاهاته، وناقشت معه قضيّة ارتفاع أسعار اللّحوم، والتّركيز على تصنيع لحوم داخل البيت، ولا يبعد عن شقّتي (15) سم، وذلك بالتَّركيز على تربية الأرانب، ووالدي كان شغوفاً بتربية الأرانب والحمام، ولكن ظروف حوشنا الجديد ما كانت مناسبة إلّا بتربية الأرانب، وقلت له: يا بابا أنا ألغيت شراء اللَّحم من السُّوق نهائيَّاً، وما عليك سوى التَّركيز على تربية الأرانب، بحيث يكون لدينا شهرياً ما بين (10 ــ 20) أرنبة جاهزة للدعم اللّحمي. ضحك وقال: هذه الفكرة حلوة جدّاً، وهكذا ضاعف اهتمامه بالأرانب، ووسّع المكان المخصَّص لتربيتها، وخلال أسابيع، وفيما كنتُ عائداً من الدَّوم، وإذ به يفتح باب “الكوزكة” كوخ صغير، فخرج عشرات الأرانب الصّغار والأرانب الكبار تمرح في فسحتهم الصَّغيرة، وقال لي: سأذبح لك للغذاء أرنبتين من الأرانب التي عمرها قرابة شهرين، فقلت له: عندي ضيوف، ولم يتناولوا أرنباً في حياتهم، ويصعب عليهم الاقتراب من محلّات اللّحوم هذه الأيّام إلّا بمغامرة، فضحك وقال: إذاً سنذبح أربع أرانب، وهكذا أعدَّ لنا الوالد وليمة من الأرانب، ومن يومها حتَّى تاريخ عبوري البحار لم أشترِ كيلو غرام واحداً من اللّحوم، متحوِّلاً إلى كائن نباتي، وأقصى ما آكله من اللُّحوم هو لحوم الأرانب، حتّى أنّني كنت بين الحين والآخر أتبرَّع بأرنبة أو أرنبتين لبعض الزّملاء، وكنتُ أتندّر أحياناً في المدرسة قائلاً: ما رأيكم بعزيمة من الأرانب؛ لأنَّ الأرانب تقوم ركباً في حوشنا، وعندما شرحت نظريَّتي الأرنبيّة المبرمة مع الوالد أوشك بعض الزّملاء أن يقعوا أرضاً من ضحكهم، وتعالت القهقهات. ثمَّ دخلت إحدى الزّميلات قائلة: أستاذ صبري أنا ما يطلع لي شي أرنبة، وإذ بي أردُّ عليها بكلِّ براءة وعفويّة: لا، فقالت: ليش لفلان وفلان يطلع له أرنبة، وأنا ما يطلع لي؟ فقلت لها: أنت يا عيني أحلى أرنبة، فلا تحتاجي إلى الأرانب نهائيّاً! أحمرّ وجهها خجلاً وضحكت وتعالت القهقهات في جوٍّ طغى عليه نظرية تربية الأرانب في مواجهة ارتفاع أسعار اللُّحوم!

  1. في فترات متقطّعة كنتم تربون الدّجاج أيضاً، كم كنت تفرح وأنت تجد بيضة في أحد أكواخكم؟!

كنتُ أفرح كثيراً، ربّينا الدُّجاج في بيتنا العتيق، في ديريك العتيقة، هناك كان لنا الكثير من الأكواخ و”كوزكة” قنّ الدّجاج، إلَّا أنَّ تربية الدّجاج عندنا لم تدُمْ طويلاً، وما كان والدي يحب هذه الهواية، بل كانت أمّي تميل إلى تربية الدّجاج أكثر من والدي، أثناء ذلك كان تركيز والدي على تربية الحمام، ونجح في تربية الحمام كثيراً، كم كنت أشعر بالفرح عندما كنت أبحث في “حَضْرة” التّبن، كوخ كبير، وأجد بيضة حارّة باضتها دجاجة من دجاجاتنا منذ دقائق، وأركض نحو أمّي وأقول لها: ماما ماما وجدت بيضة في إحدى زوايا حَضْرة التّبن، انظري ما تزال البيضة حارّة، فكانت أمّي تقول: بس ما يسيروا البيض أربع بيضات سنطبخهم مع البندورة الحمراء وقليل من البصل المفروم، وكانت هذه الوجبة من أسهل الوجبات الّتي تعلَّمناها ونحن صغار، وكنّا نطلق عليها “الجظّ مظّ”، وكم كان الأستاذ سمعان بهنان شهيراً في إعداد هذه الوجبة، وتحدَّث مراراً للصديق الفنّان النّحّات عبد الأحد برصوم عن نكهة “الجظّ مظّ” وكيف يشعر بسعادة عندما يعدُّ هذه الوجبة البسيطة، قائلاً لصديقه: إنّ السّعادة يا عبد ممكن أن تكون من أبسط الأشياء حتى ولو كانت إعداد وجبة لذيذة خفيفة مثل “الجظّ مظّ”، كم كانت أيّام زمان جميلة بمراحلها الطُّفوليّة والشَّبابيّة، أيام الجامعة والخدمة الإلزامية، ولقاء الأصدقاء في دمشق وحلب وفي دنيا الاغتراب.

وفي اليوم الثّاني عثرتُ على بيضتين، وأخذتهما إلى أمِّي بفرح كبير، وكانت هي قد وجدت بيضة صبيحة ذلك اليوم، فقالت: أصبح لدينا الآن أربع بيضات، وعندنا الكثير من البندورة، سأفرم بصلتَين وأعدُّ وجبة “الجظّ مظّ” الشَّهيّة مع خبز التنّور اللّذيذ، تستطيع يا ابني أن تذهب وتلعب مع رفاقك، وتعود حوالي الظّهر ستكون الوجبة جاهزة، فأخرج إلى الشَّارع وهناك التقي من رفاقي، ونلعب معاً الكثير من الألعاب، ونبذل طاقة كبيرة أثناء اللّعب إلى أن نجوع تماماً، وأعود خائر القوى وبأشدِّ الشَّوق لتناول وجبة “الجظّ مظّ”.

الآن وأنا في أعماق غربتي الطَّويلة، ترتسم أمامي مشاهد الطُّفولة والشّباب أيضاً، وأرى كم كان الأستاذ سمعان بهنان صائباً في رأيه بأنّ السّعادة تنبع من قناعاتنا، وممكن أن تكون من خلال تناولنا وجبة لذيذة من “الجظّ مظّ” مثلاً، بحيث أن يعدّها بنفسه، وكنَّا نضحك بكلِّ فرح ومرحٍ وعفويّة، رغم أن شظف العيش كان طاغياً علينا، مقارنةً بما يتوفّر لجيل هذا الزَّمان، ومع هذا لا “الجظّ مظّ” ولا ألذ وجبات الغرب والشَّرق تسعدهم في الكثير من الأحيان، حيث “نظنظاتهم” وتأفّفهم قائمة ركباً على الطّالع والنّازل.

لماذا كنّا سعداء ونحن أطفال وشبّان أيّام زمان رغم احتياجنا إلى الكثير الكثير من احتياجات الحياة؟ .. كم أنا بشوق إلى لمّة الأصدقاء والصّديقات بحيث أن يقوم الأستاذ العزيز سمعان بهنان بإعداد وجبة شهيّة من “الجظّ مظ”، في هذه المطابخ العصريّة، ويأخذ مجده في إعداد الوجبة بطريقته والبسمة مرتسمة على وجهه البشوش، ونحن نتناول معاً، وتتعالى قهقهاتنا، ونعيد مجد ذكرياتنا الدّافئة الّتي كانت تغمر قلوبنا بكلّ ما كان يوشّح حياتنا من براءة وسعادة أيّام زمان!

  1. على فترات طويلة كنتم تربّون الأبقار، كنتم تخصِّصون سطلة لبن لتناولها وسطلة لبيعها، تحدّث كيف كنتَ تبيع سطلة اللَّبن وأنت طفل بحدود العاشرة أو أكبر بقليل؟

أجل ربّينا الأبقار فترة طويلة من الزّمن، إلى أن أصبحتُ في حدود الخامسة عشرة من عمري، كنتُ ماهراً في بيع سطلة اللّبن في سوق المدينة، كانت السّطلة بحدود (2) كيلو، وكنت أبيعها ما بين ليرة وليرة ونصف كأقصى حد! وبهذه اللِّيرات كنّا نشتري السّكّر والشّاي والرّزّ والفاصولياء والملح والزّيت والسّمنة وغيرها من حاجات المنزل!

كنتُ أحمل سطلة اللَّبن وأنا بين العاشرة والثّانية عشرة من عمري، كم كنتُ أجيد بيع سطول اللّبن، حيث كانت في البداية أمّي ترافقني، لكن بعد أن بعنا معاً العديد من سطول اللّبن، قلت لأمّي: ماما من الآن وصاعداً لا داعي أن ترافقيني في بيع سطلة اللّبن؛ لأنّك ممكن أن تعملي الكثير من الأعمال في البيت بدلاً أن تضيِّعي كلّ هذا الوقت من أجل بيع سطلة لبن. لم تقتنع أمِّي في البداية بفكرتي، فاقترحت عليها أن ترافقني يوماً يومين ثلاثة، وتراقب كيفية بيعي لسطلة اللّبن، وتبقى هي كمشرفة على عمليّة البيع من بعيد لبعيد؛ لتتأكّد من أنّني قادر على بيع اللّبن دون أيّة مشاكل مع الزّبان الَّذين يحبُّون شراء اللّبن!

سألت أمِّي في اليوم الأوَّل الّذي بدأت أبيع سطلة اللّبن: أقل سعر بكم يناسبنا أن أبيع هذه السّطلة اليوم؟ فقالت لي ما بين ليرة وليرة ونصف؛ لأنها مملوءة بشكل جيد!

جلستُ على رصيف البيع، وكنَّا مجموعة من البائعين والبائعات، وكنتُ أصغر البائعين سنّاً، وكان هناك بعض الصَّبايا أكبر منّي بقليل. وكذلك بعض الأطفال أكبر منِّي بسنتين ثلاث، جلست أمِّي قريبة منّي بضعة أمتار تراقب طريقتي في البيع، وحالما بدأ الزَّبائن يلقون نظرة على سطول اللَّبن، كنت أستقبل الزّبون بابتسامة، فكان يسألني عن سعرها فأقول له: هذه السّطلة حقّها ليرتان لكنّي ممكن أن أحسم لك ربع ليرة، وتستطيع أن تشتريها بليرتين إلّا ربعاً، فبعض الزبائن كان يدفع بها ثلاثة أرباع اللّيرة، ومنهم مَن كان يدفع ليرة، وهو الحد الأدنى من السِّعر المسموح لي ببيعها، ومع هذا ما كنتُ أبيعها، وحالما كنت أجد من يدفع لي ليرة وربع كنت أبيعها له، فجاءت زبونة ممتلئة القامة في حدود الخمسين من عمرها تقريباً، فاستقبلتها ببشاشة، أهلاً خالة، قالت لي: هذه السّلطة هي لك؟ فقلت لها: نعم إنّها سطلتي، وفيما كانت تسألني عن سعرها، قلت لها: هذه السطلة حقها ليرتان، ولكنِّي سأبيعها لك بليرة ونصف فقط، وقد حسمت لك نصف ليرة؛ لأنّك تشبهين أمّي كثيراً، ابتسمت لي وقالت: الله يخلِّيك يا ابني ويخلِّيلك أمّك، سأشتري سطلة اللَّبن، لكن شريطة أن ترافقني وتحملها إلى البيت. بكلِّ سرور خالة، أصلاً بشكل طبيعي أحمل سطلة اللّبن للزبائن الّذين يشترونها منّي!

حملت سطلة اللَّبن، وتوجَّهنا نحو بيتها، فرّغت سطلة اللَّبن في جاط كبير، وسلَّمتني ليرة ونصف، وأعطتني ربع ليرة “بخشيش”، وقالت: أنّني أحببتك وساعدتني في حمل سطلة اللّبن، فعدتُ وأنا في غاية السُّرور.

كانت أمّي تنتظرني، وحالما شاهدتني تقدّمت نحوي وباستني وقالت لي: كنتَ شاطراً يا ابني، فأخرجتُ الفلوس من جيبي، وأعطيت لها ليرة ونصف وقلت لها: أعطتني ربع ليرة “بخشيش” أيضاً. قالت أمِّي: طلعت يا ابني أشطر منّي، اعتباراً من الغد تستطيع فعلاً أن تبيع سطلة اللّبن لوحدك، ولا داعي أن أرافقك كي أختبرك في طريقة البيع؛ لأنّ طريقتك ناجحة، وتعرف كيف تفاوض أثناء البيع بابتسامة، وتقنع الزّبون بطريقة سريعة. وهكذا أسندت لي أمِّي مهمّة بيع سطلة اللّبن، وتوجّهنا إلى أحد الدّكاكين، واشترينا كيلو سكّر ونصف كيلو شاي. وقالت لي تفضّل بقي معي ربع ليرة ومعك ربع ليرة البخشيش خبّيهما في القمبرة؛ أي حصالة النّقود. عدنا إلى المنزل، وتوجّهتُ إلى القمبرة، وعدّيت فرنكاتي، كان لدي سبعة فرنكات، ووضعت نصف ليرة فيها، وخبّأتها بين الألحفة، وبدأتُ أبيع سطول اللّبن وأتابع دراستي بنفس الوقت.

  1. تحدّث كيف كنت تفرح وأمُّكَ تضع لك “السِّيْر” قشطة اللّبن، تتناوله مع خبز التّنُّور بلذة عميقة؟

كم كنتُ أشعر بلذّة “السَّير” قشطة اللّبن، وأنا أتناوله بمتعة ولذّة عميقة فعلاً، لماذا لا أشعر بنفس المتعة وأنا أتناول كلّ أنواع القشطة هنا في ربوع ستوكهولم منذ أكثر من ربع قرن، هل قشطة لبن أمّي كان فيه لمسة أمِّي الحنونة، أو حنين أبقارنا؟

أعتقد أن شعورنا بالفرح وتلذُّذنا بمتعة الطَّعام الَّذي كنّا نتناوله بين أحضان الأسرة والعائلة، يعود إلى دفء العائلة نفسه، وبالتَّالي ينعكس دفء الأسرة على متعة الطَّعام الَّذي كنّا نتناوله، ويبدو أنّه ينقصنا ذلك الدِّفء الحميمي والوئام بين أفراد الأسرة، ويبدو أيضاً أن عصرنا في ذلك الزَّمان كان له قناعاته وحبّه ومتعته، على عكس ما نراه الآن في الغرب وفي أيِّ مكان من العالم، حيث لا يعجب العجب لأطفال هذا الزّمان ويستهلك كل طفل أضعاف مضاعفة لما كان يستهلكه أطفال جيلنا، ومع هذا أرى أنَّنا كنَّا أكثر سعادة وقناعةً بما هم عليه أطفال هذا الزّمان، وما كنّا نتذمَّر من الطّعام والشّراب الّذي كان الوالدان يقدِّمانه لنا، وأرى أنَّ الألعاب الّتي تستهلك على طفولة أي طفل في الوقت الرّاهن تعادل استهلاك مصاريف عشرة أطفال من أطفال جيلنا عندما كنّا أطفالاً، مع هذا أراني أكتب نصوصي وأشعاري، وأستلهم من طفولتي أبهى اللَّحظات، وأتساءل هل أطفال هذا الزَّمن والأزمان القادمة سيستلهمون من طفولتهم الوارفة والمدلّلة والباذخة إلى درجة الإفراط أحياناً، هل سيكتبون قصصاً وأشعاراًوروايات عن عوالم وفضاءات طفولتهم، أم أنَّ الإبداع والكتابة وتجلّيات الحرف ستصبح طموحات في جعبة النّسيان؟!

إنّي أرى حالة انفكاك أُسَري ما بين أفراد الأسرة الواحدة؛ لما لكلِّ فرد من خصوصيّة وفردانيّة مخيفة، حيث أغلب الأوقات يقضيها كل طفل ويافع ومراهق مع عوالمه، فلا يجد الفرد وقتاً لأبيه وأمّه وأخته وأخيه بقدر ما يقضي ساعات طوال عبر شبكة التَّواصل مع أصدقاء وصديقات ومعارف غالباً لا يعرف عنهم سوى أسمائهم والقليل القليل عنهم، فهل من المعقول أن يتقبّل بمتعة عميقة لو قدّمت له أمّه قشطة اللّبن من ثدييها وليس من ضرع البقرة؟! هل يسير عصرنا نحو عبور الأفراد والأطفال في خبايا المجهول؟!

  1. كانت الوالدة معروفة بإعداد الجبنة والجبنة المثوَّمة والسِّيركة والجاجيق، تحدّث عن هذه الأجبان؟

كانت أمّي ماهرة فعلاً في إعداد كل أنّواع الجبنة، حيث كانت تعدُّ لنا سنويّاً سدّاً كبيراً من “السّيركة”، وهي جبنة ناعمة مع حشيشة “السِّيركة”؛ وهي نبتة صفراء وخضراء نلمُّها من حقول القمح خلال الرّبيع، تعدّها بطريقة ناجحة، وتغلق فتحة السّد، وتقلبه على رأسه، وتضع قسماً منه في باطن الأرض، ويُترك جزءٌ منه خارج الأرض، حيث يحتاج السّد إلى وقتٍ كي يصبح جاهزاً لتناوله، ونخرجه بعد أن تصبح السّيركة جاهزة، ونتناولها بلذّة عميقة، كما كانت تصنع الجبنة البيضاء الصّافية مع حبّة السَّوداء، والجبنة المشلّلة أو بالأحرى المجدولة، والجبنة المثوّمة وهذه الجبنة كانت تتطلّب مهارات خاصّة؛ كي تحافظ على نكهتها المطلوبة، وتُعِدُّ الجاجيق أيضاً، وهو مصنوع من الجبنة ومواد أخرى، وكل هذه الأجبان كانت تعدُّها أمّي بطريقة ناجحة؛ ممّا جعل نساء الحارة يقصدونها كي تعدّ لهنَّ أجبانهنَّ، لأنَّ الكثير من النّساء ما كنَّ قادرات على إعداد هذه الأجبان، حيث كانت تفسد وتصاب بالدِّيدان البيضاء الصَّغيرة، فتضطرُّ النِّساء أن ترمي كلّ الأجبان، لهذا كنت أرى أسبوعيَّاً أثناء وقت إعداد الجبن بعض النّسوة يرتادون بيتنا، ويطلبون من أمِّي أن تعدَّ لهنَّ أجبانهنَّ، ويحضِّرون الأجبان والمواد الّتي يخلطونها مع الأجبان، وبعد أن تُعِدَّها وتضعها في السّدود والقطرميزات الكبيرة الخاصّة بالأجبان، وتعدّها لهنَّ أمّي مجّاناً وعلى مدى ساعات، وكانت تنجح الأجبان الّتي تعدُّها أمّي مثل أجباننا تماماً، ومع أنّ النِّساء كنّ يتبعن نفس الخطوات الّتي تتبعها أمِّي، إلّا أنَّ الكثير منهنَّ ما كانت تنجح معهنَّ، فتفسد ويرمونها، فيضطرَّون لـلعودة من جديد إلى إعداد أمّي لهنَّ، حيث يقال أن أمّي كان في يديها بركة في إعداد الجبن بكلّ أنواعها! وأتذكّر كيف كانت النّسوة تقبّل يدَي أمّي بعد أن تنتهي من إعداد الجبنة؛ كي تنتقل البركة إليهنّ على حدِّ قولهنَّ!

كما أنّ والدتي كانت ماهرة في إعداد المكدوس، والمخلّل، والكشك والزّيتون، والمربّى بكلِّ أنواعه، مربّى التِّين، والعنب والقرع، لماذا رحلتِ بعيداً عنِّي يا أمّاه؟ مَن سيُعِدُّ لي كل هذه الأجبان والمربّيات والمخلَّلات والزَّيتون والمكدوس؟!

ستبقين يا أمّاه شجرة وارفة في أريج حرفي ولوني، تعطّرين ليلي ونهاري وتجلِّيات حرفي حتَّى آخر رمقٍ في حياتي، منك أستمدُّ نضارة حرفي وشموخ لوني، ستبقى روحك مسكونة في كينونتي إلى الأبد!

  1. ماذا بقي معلّقاً في الذّاكرة عن مهارات الوالدة في تقطيعِ الشِّعيريّة مع أختيكَ وبقيّة الأهل؟!

كم كانت ورشة تقطيع الشّعيريّة جميلة ومسلّية، صورة وذكرى الوالدة مطبوعتان في ذاكرتي ومخيَّلتي وكياني، كانت أمّي سريعة في تقطيع الشّعيريّة، وتتشكّل ورشة تقطيع الشّعيريّة مرّة في كلِّ عام، أغلبهم من الأهل فانضمّت مارو ابنة خالي مع أختي كريمة ونعيمة إلى الورشة، يتمُّ تحضير العجين أولاً، ثمَّ يقطّعن الشّعيريّة باليد، يعملن العجين فتيلات رفيعة، ويقطعنه بين الإبهام والسّبابة، كنتُ فضوليّاً ومتعلِّقاً بأمِّي، أجلس بجانبها حول الطَّبق وهن يقطِّعنَ الشِّعيريّة، أنظر إلى أمّي، وأقبِّل يدها وهي تفرك الفتيلة وتوزّع فتيلات الشّعيريّة على العاملات، دقّقت وأنا بحدود العاشرة من العمر، كيف تقطّع أمِّي بطريقةٍ سريعة وناعمة حبّاتها الّتي تقطّعها على أطباق كبيرة، وأحياناً على السّفرة الكبيرة، ثمَّ تعرضها للشمس إلى أن تجفّ، وبعد أن تجفَّ يتمّ عرضها للشمس على شرشف كبير، وبعد أن تجفَّ جيداً، يتمّ قَلْيها في الدَّوق بعد أن نقلب الدَّوق، ويصبح كإناء؛ لأنّ الدّوق يتمُّ استخدامه لتقمير الخبز السَّاج عليه، وأحياناً كانت أمِّي تقلّي الشّعيرية في اللّكن الألمينيوم/ “البافون”، وفي إحدى المرّات أحببتُ أن أنضمَّ إلى ورشة الشِّعيريّة؛ كي أقطّع مع أمِّي وبقيّة العاملات رحَّبن بي، وعلّمتني أمّي أولاً كيف أمسك الفتيلة، وأقطع جزءاًصغيراً منه، وأبرمه بين الإبهام والسّبابة، ثمَّ أرميه على الطَّبق، كانت حركة أصابع أمِّي والصَّبايا سريعة، ولكن حركة تقطيع أمِّي للشعيريّة كانت أكثر دقَّةً ومهارةً وسرعةً، تبدو وكأنّها آلة خاصّة لتقطيع الشّعيريّة، حيث يتمُّ تقطيع الحبّات بالقياس والحجم نفسه، حضّرتْ أمِّي لي فتيلة صغيرة بحدود شبر، وبدأت أقطّعها بحركة بطيئة، وكانت حبّاتي تختلف عن حبّاتهنَّ، وشجّعتني أمِّي بينما أختي علّقت عليّ قائلة: أنّها غليظة حبّاتك، حاولْ أن ترفّعها أكثر؛ كي تصبح مثل حبّاتنا، وحاولت أن أقطّعها مثل حباتهنَّ وخلال فترة قصيرة تمكّنتُ أن أقطّع معهم الشِّعيريّة، صحيح كنتُ بطيئا،ً لكنِّي تمكّنتُ من تقطيعها بشكلٍ مقبول.

أتذكّر التقطتُ لأمّي صورة في بلكون بيتي الجديد وهي تقطّع الشّعيريّة، وكانت تلك الصُّورة ناجحة جدَّاً وعندما عبرتُ البحار أخذت معي أغلب أرشيف صوري الخاصّة بما فيها هذه الصُّورة، وأرسلت حقيبتي بكلِّ محتوياتها إلى الصَّديق نعيم إيليا في برلين؛ لأنّني كنتُ في حالة شبه تشرّد في أزقة أوروبا، أنتقل من دولة إلى أخرى، أقطع الحدود الدَّوليّة من دون أي باسبور أو وثيقة سفر، وما كنت أعرف أين سينتهي بي المطاف، وبعد أن استقرَّت قليلاً أوضاعي، أرسل صديقي نعيم إليَّ حقيبتي، وعندما تفقَّدتها، تبيّن لي مباشرةً أن تلك الصُّورة ناقصة من صور أرشيفي؛ لأنَّ الصُّورة كان لها أهمِّيتها عندي؛ لهذا تبيّن لي مباشرة أنّها مفقودة، ولا أعلم حتّى الآن مَنْ أخذ تلك الصُّورة، ويبدو أنَّ الذّي شاهد ألبوم صوري أحبَّ أن يحتفظ بالصُّورة؛ لما كان للصورة من معنى وتعبير للموروث الشَّعبي، لقطة جميلة للغاية، آهٍ لو حصلتُ عليها الآن، إنّها بالنّسبة إليّ ما كانت تُقدّر بثمن، أشعر بحزن عميق لأنّني فقدتها؛ لأنّها كانت أوضح وأجمل صورة من الصُّور الّتي احتفظتُ بها من صور أمِّي قبل رحيلي وعبوري البحار.

  1. ماذا كنتم تموِّنون لمؤونة الشّتاء، وما هي أبرز وجبات الطّعام الدَّارجة آنذاك؟

كنّا نموّن أكياساً عديدة من الحنطة، نغسلها بالماء الزُّلال، ثمّ ننشِّفها وننقِّيها على السّفرة حبّة حبّة، نخصّص قسماً منها للسليقة، ونسلقها في قاقبة، دست كبير خاص بالسَّليقة، ما أجمل طقوس السَّليقة، كم كان يوماً بهيّاً عندما كنّا نسلقها، كنت أحبُّ تناول السّليقة ساخنة يعلوها البخار، وبعد أن نسلقها كنّا ننشِّفها طويلاً على سطح المنزل، كانت العصافير تأخذ حصّتها من حبّاتها اللّذيذة. نصنع منها البرغل الخشن والنّاعم والنّاعم جداً، ولكلِّ هذه البراغل وجباتها الشَّهيّة، كما كنّا نموّن العدس المقشّر الأحمر، ونصنع منه الشُّوربة ونطلق عليها العدسيّة، وهي أكلة لذيذة للغاية، والعدس غير المقشّر ونعدُّ منه وجبة المجدّرة، وأحياناً كنّا نموِّن قليلاً من الفريكة، وتخزين تنكة كبيرة من الحنطة الخضراء وهي في مرحلة الفريكة، أي قبل أن تصبح حبّات يابسة، ثمَّ نموّنها حبات خضراء، ونتركها تجفُّ ونعدُّ منها وجبات الفريكة مع الدّجاج، كانت لذيذة جدَّاً هذه الوجبة. وكم كنت مولعاً في أكلة الشَّمبورك/ السَّمبوسك المصنوع من لحمة مفرومة مع بصل مفروم وبقدونس، ويتمُّ حشوه في رقائق العجين بعد طبخ حشوته، ثمّ يتمُّ تقميره أحياناً على مدافئ الحطب أو على السَّاج أو قَلْيه بالزَّيت، وكذلك كنت أحبُّ وجبة الكتل، أي الكبّة خاصة عندما كنّا نقليها بالبيض بعد طبخها، وهناك وجبات خفيفة وطيّبة كالبلّوع والإيچ، وأغلب الظّن أن البلّوع أطلق عليه اسم البلّوع لسهوله بلعه! وكم من الأكلات الشَّهيّة كالأبرخ/ الملفوف بكلِّ أنواعه، والفاصوليا الخضراء والبيضاء اليابسة، والبرغليّة والمدفونيّة، والمركة، والباميا، والقرع والمطبّق، والخضرة المشكّلة، والمحشي بأنواعه، والكبّة صينية، والرّأس، والصّمّكات والجوقات، والعديد من الوجبات والأطباق الشَّعبيّة المحلِّيّة الَّتي لا يمكن حصرها ضمن هذه الإجابة السَّريعة، كما أنّنا كنّا نعدُّ الكثير من الحلويات كالشّلّكات والزلوبيا والمشبّك/ الطيبوناهي والبوخينة الّتي كنّا نعملها خلال عيد نينوى/ “صميميكي”، وغيرها من الحلويات اللَّذيذة، كما كنّا نصنع العديد من أنواع المربّيات: كمربّى العنب والتّين، والقرع، والورد، والباذنجان، وبعض الفلّاحين كان لهم مناحل ويربّون النّحل، فينتجون أقراصاً شهيَّة من العسل، وقد كان العم عيسى أسمر أبو صهري كورية مشهوراً بمنحلته الَّتي كانت تنتج تنكات عديدة من العسل الصَّافي بأقراصه الشَّهيّة، كما كنّا نصنع من العنب الحليلة والباستيق والعقود مع الجوز، والزّبيب بأنواعه والعرمش وهو ما تبقّى من العنب الّذي كنّا نتركه في الدَّاليات حتّى ينشف ويصبح عرمشاً، كما كنّا نصنّع الانبيت الأحمر/النّبيذ من عنب الدَّار كڤنار والمسبّق، إضافة إلى إعداد التِّين المجفّف، والقديد الَّذي كنّا نجفّفه من البطيخ الأحمر والبطّيخ الّذي فيه نكهة حموضة خفيفة أخضر فاتح نطلق عليه القاوان، وكنّا نركّز على إعداد القليّة أي اللّحمة بعد أن نربّي ربيطة/ “دَرْمَالاْ” على مدى شهور ونذبحها، ونحوّل لحمها الصَّافي إلى قليّة، ونخزّنها للشتاء الطَّويل، وكم كانت لذيذة على البرغل أو مع قليها بالبيض، إضافة إلى إعداد عدّة أنواع من المخلّل، كالكشك المصنوع من الحرشف والبونكة والحنطيّة وغيرها من الحشيشيّات، ونعدُّ سدّاً كاملاً من الكشك كي نتناوله في الشِّتاء، وكان يتميّز بحموضة لذيذة، والمخلّل الذي كنّا نعمله من اللّهانة والقتّي/ التَّرعوز، والعجّور/الفنجكات والخيار وغيرها من الخضار، وقد كان العم الرّاحل داؤود متّو شهيراً بزراعة السّمسم، ومنه كنّا نصنع الطّحينة ونستخدم السّمسم فوق الخبز؛ فيعطي نكهة طيّبة للخبز وغيرها من المعجّنات كالكليجة في أيّام الأعياد.

أندهشُ تماماً كيف كان آباؤنا وأمّهاتنا وأجدادنا رغم بساطة حياتهم الفلّاحيّة أن يعدّوا كل هذه المـأكولات والحلويات والمخلَّلات وكلّ ما كان يتوفّر لهم الأرض وسواعدهم، مع هذا كانوا يصنعون من الأرض المباركة، كل هذه العطاءات بأيديهم وبمعدّات بسيطة، بعيداً عن معالم ومصانع هذا الزّمان، ولِمَ لا طالما هم من سلالة حضاريّة تضرب جذورها في أعماق التّاريخ الحضاري الإنساني في الشَّرق؟ إنّهم أحفاد سومر وأكّاد وكلدو آشور السّريان وآرام، شعبٌ حضاري عريق يقال أنّه أوّل شعب اكتشف الحنطة واستخدمها كخبز منذ آلاف السّنين!

  1. لعبة الخاتم/ الخوصة، وبيت لبيت، ماذا تتذكّر من هاتين اللُّعبتين وأنتم حول المدفأة؟

لعبة الخوصة، الخاتم ولعبة بيت لبيت كانتا من الألعاب الشَّعبيّة الدَّارجة في ليالي الشّتاء في الأزمنة البعيدة، حيث لا تلفاز في ذلك الحين ولا أيّة وسائل ترفيهيّة أخرى، فكنّا نلعبها ونتسلَّى في جوٍّ من الفرح والمرح والفكاهة، وننقسم إلى فريقين، مثلاً كل فريق أربعة أشخاص، ونقوم بعمليّة طير نقش، أو “تسطو مسطو” كي نحدّد مع مَنْ ستكون الخوصة كي يبدأ اللّعب، فعندما يحزر أحد الفريقَين في عمليّة طير نقش، أو “تسطو مسطو” يبدأ باللُّعب، واللّعبة عبارة عن توزيع الخاتم بين اللّاعبين وتركه مع أحدهم، ثمَّ يُطلب من الفريق الثَّاني أن يحزر مع مَنْ هو الخاتم، فيتمُّ أحياناً “تپويچ”أحد اللّاعبين بمعنى أن نقول اللَّاعب الفلاني: “پوچ” أي ليس معه الخاتم فيخرج من اللُّعبة، ويتمُّ اختيار الّذي يحمل الخاتم من اللَّاعبين الثَّلاثة الباقين ويستمرُّ الفريق الثَّاني بمعرفة الشَّخص الَّذي يحمل الخاتم، فغالباً ما يوحي اللَّاعب الَّذي لا يحمل الخاتم على أنّه قلق وخائف في حركات وجهه وجسمه؛ كي يوهم الفريق الخصم بأن يختاره، ويتوّه عنه الَّذي يحمل الخاتم، وفي الوقت نفسه الّذي يحمل الخاتم يحاول أن يتجاهل الأمر، وكأنَّ الخاتم ليس معه نهائيّاً؛ كي يتم “تپويچه”، أي أنّه لا يحمل الخاتم، فلو تمّ اختيار شخص لا يحمل الخاتم على أساس أنّه يحمل الخاتم يخسر الفريق الَّذي لا يحزر وهكذا، لو تمَّ “تپويچ” شخص على أنّه لا يحمل الخاتم وكان الجواب صحيحاً، يستمرُّ اللُّعب ويتمُّ اختيار أحد اللَّاعبين الباقين، فلو عرف الشّخص وحدّده يربح الفريق نقطة ولو خسر تحديد الشَّخص الّذي يحمل الخاتم من اللّاعبين، يخسر اللُّعبة وهكذا يستمرُّون على جمع النِّقاط، وفي حال حزر وعرف الفريق مَن يحمل الخاتم؛ يتحوَّل الخاتم إلى الفريق الَّذي حزر حامل الخاتم، ويتمُّ الاتِّفاق على عدد النِّقاط الَّتي يجمعها الفريق الرَّابح، ويتبدّل الخاتم من فريق إلى آخر عندما يحزر الفريق الَّذي هو في موقع أن يحزر مع مَنْ هو الخاتم، وهكذا كنّا نقضي أوقاتاً مسلِّية في جوٍّ من المرح ونحن نلعب لعبة الخاتم، وكم كان بارعاً لطيف حدّاد أبو رباح في لعبة الخاتم، وكذلك أبو عزيزة، وأمَّا لعبة بيت لبيت أيضاً فتعتمد على الانقسام إلى فريقين، وكل فريق يسأل الآخر عن عدد الأشخاص في بيت ما كي يحزر الفريق، وعندما يحزر الفريق يكسب نقطة إلى أن يربح أحد الفريقين، وهكذا على ضوء مصابيح الكاز كنّا نقضي أوقاتاً طيّبة ومسلّية عبر هكذا ألعاب، أو عبر سرد القصص والحكايات من قبل روائي شفهي تتضمَّن قصصه الكثير من المعاني والحِكم والفكاهات!

  1. كان عمّك يوسف شلو معروفاً برواياته الشَّفهيّة، ماذا يعني لك عمّك في هذا الفضاء الرِّوائي؟

يا إلهي كم كان عمِّي الرّاحل يوسف شلو أبو أفرام رائعاً في سرد رواياته شفهيَّاً على مدى أيَّام وأسابيع وشهور في ليالي شتاء ديريك! روائي بديع في تقديم قصصه وأحداثها المتشعّبة ويقفلها في كلِّ سهرة عند نقطة تشويقيّة؛ كي يتابع قصّها وسردها علينا في اليوم الثّاني، كأنّنا إزاء متابعة مسلسل تلفزيوني ونحن نتلملم حول مدفأة الحطب، وهنا أريد أن أشير إلى أنّ معلِّمي الأوّل في تعليمي الأبجديات الأولى في السّرد القصصي والرّوائي هو عمِّي الرَّاحل يوسف شلو، حيثكان له الدَّور الأكبر في زرع حفاوة وحبّ السَّرد القصصي والرِّوائي في آفاق مخيّلتي؛ لما كان يمتلك من شخصيّة جذَّابة في سرد أحداث قصصه، بصوتٍ أخّاذ يستحوذ على اهتمامنا بكلِّ ما لدينا من مخيّلة وتركيز وشغف، وأجمل ما في طريقة عرضه لأحداث قصصه الرِّوائيّة هو أنّه أحياناً كان يقول: هنا يوجد “بَسْتِة” غنائيّة، ويغنّي مقطعاً غنائيّاً حول أحداث القصّة، فيعطي لطريقة سرده عرضاً سينمائيّاً بهيجاً، وأجمل رواياته الشَّفهيّة كانت: “رستمي ظال خُيي شوري كران” أي رستم العملاق صاحب السَّيف الكبير، ويبدو من العنوان أنّه باللُّغة الكرديّة، لكنّ عمِّي كان يسردها ويتلوها بالعربيّة مع أنّه كان يجيد الكرديّة الكرمانجيّة بطلاقة كسائر أفراد أسرتنا، وهناك قصّة “فيلزور وفيروشاه، وكلي وچوكو والأربعين حرامي، وهاديكو صاحب البستان” الفكاهيّة وغيرها من القصص الَّتي كانت من أهم تسلياتنا في شتاءات ديريك الطَّويلة!

“قدّم عمّي عملاً دؤوباً محفوفاً بعطاءات من القلب، ديريك يا زينة المدائن المشيَّدة بقلوبٍ عامرة، يا قطرات العرق المتناثرة فوق جاكوج عمِّي “يوسف شلو” الاثني عشر كيلو وهو يشقُّ الصُّخور الكبيرة شقّاً، كأنّها منشورة بمنشارٍ كهربائي، ديريك يا أمَّ العطاء برجالاتها وأمّهاتها، يا قصيدة منقوشة على جباه الفلَّاحين والفلَّاحات، يا همّة شعبٍ مجبول بطينِ المحبّة. ديريك يا حلم الرُّوح المنساب فوق خدود العشّاق، كم من العطاء حتَّى تربَّعْتِ شامخةً فوقَ وجنةِ الزّمن!

ديريك، أيّتها المبلَّلة بنسيمِ الصَّباح، تستقبلين دبّورة عمّي كي ينحتَ أحجار “الشّيِبين” المستطيلة ويبني تريتوارات ديريك. كم كان لديه رغبة ومهاراتٍ فريدة في نحتِ الأحجار وبنائها على مدى ساعات الصَّيف القائظة، وعلى مدى الشُّهور والسِّنين، كم من البيوت بناها عمّي معَ أصدقائه شمعون بولو وحدي أبو سامي ولحدو هيلانة وآخرين، كم من الأحجار نحت دون كللٍ أو ملل، وبنى مع أصدقائه عشرات بل مئات البيوت الشَّامخة حتّى الآن في ربوع ديريك. ديريك عرقٌ يتصبَّب من جباه العمّال ومعلِّمي البناء في أيَّام الصَّيف القائظة. كم من التِّريتوارات والأرصفة والبيوت بناها عمّي مع صديقه لحدو هيلانة وحَدَي أبو سامي؟ عملٌ دؤوب محفوف بعطاءات من القلب، يبنون أرصفة ديريك وبيوتاً من اللِّبن/ الطّين المجفَّف، من حجرٍ وطين ومن حجرٍ وإسمنت، ثمَّ من البلوك والقرميد، أصدقاء من لونِ المحبّة والعطاء البديع!

هل ستتذكَّر الأجيال القادمة كلّ هذه العطاءات، هل ستنحتُ أسماء هؤلاء على ناصية الشَّوارع مثلما نحتوا تلك الحجارة وبنوا مئات البيوت على مدى سنوات أعمارهم؟!

عمّي من لون القمح الصّافي، بنى مئات البيوت في ديريك العتيقة وفي ديريك وقرى ديريك، بنى قرى جديدة خلال شهور، أرضٌ جرداء تراها بيتاً بعد أيَّام، سرعةٌ من حفاوة بناء القصيدة!

عمّي رحلةُ عطاءٍ مجبولة بالوفاء، كحَّل مآقي ديريك بمحبّة كبيرة من خلال جاكوشه ودبّورته، ومهاراته في بناء عشرات البيوت الّتي ستظلُّ شامخة وشاهدة على جدار الزّمن إلى أمدٍ بعيد!”.

  1. كيف رويت لعمِّكَ قصة من وحي خيالك، في سياق سؤالٍ وجّهه لك عن سرد قصّة ما له؟

فيما كنّا في سهرة عامرة، وبعد أن انتهى عمّي يوسف شلو من سرد إحدى قصصه المسلسلة على مدى أيَّام عديدة، سألني كي أحكي له قصّة من قصصي الّتي أعرفها، وكنت في حينها بحدود العاشرة أو أكبر بقليل، وإذ بي أجهّز نفسي لأروي لعمّي قصّة فيها بعض الشَّخصيَّات، رويتها بطريقة قصصيّة مشوّقة، تشابكت فيها الأحداث واستغرق عرضها بضع دقائق على عمّي والحاضرين من أسرتي، والدي ووالدتي، وبعد أن انتهيت من تقديمها، قال لي: صدّق قصّتك حلوة، ولأوّل مرّة أسمعها، أتساءل من علّمكَ إيّاها؟

وهل أعجبتك القصّة يا عمّي؟

أيوه أعجبتني، لكن من علّمك القصّة؟

بالحقيقة يا عمِّي هذه القصّة لمَ أتعلّمها من أحد.

طيّب كيف حفظتها وحكيتها لنا؟

إنّها من خيالي يا عمّي، فقد نسجتها من خيالي الآن في هذه اللَّحظات الّتي عرضتها عليكم.

ابتسم عمِّي لي وقال: صدّق يا ابني ستصبح روائيّاً وراوياً ماهراً في المستقبل طالما في هذه السّن المبكِّرة تؤلّف من خيالكَ قصّة كهذه، فيها الكثير من عناصر القصّة المشوّقة، حتّى أنّني تصوّرتك حفظتها من قاص معيّن وترويها لنا كما سمعتها.

الآن تيقّنتُ من ثقة عمّي بي، ومن البناء المتين الّذي بناه في مخيّلتي وأنا طفل، ولم تذهب تلك الشِّتاءات الطَّويلة سدىً وأنا أسمعه برهافة، وكنتُ أحفظُ ما يقصّه علينا، وقادر على سرد قصصه الطِّويلة بكلِّ تشعّباتها، ما عدا المقاطع الغنائيّة، ما كنت أستطيع حفظ كلمات الأغاني بحذافيرها، لكنِّي كنت أحفظ الأفكار العريضة لما جاء فيها، وكلّ هذا يجعلني متيقّناً من كلِّ ما قاله عمِّي بأنّني سأصبح قاصّاً روائيّاً في مستقبل الأيام، وإلّا كيف كتبتُ خلال العام 2015 على مدى ستة شهور ثلاث روايات وكتاب ديريك معراج حنين الرُّوح بما يقارب (800) صفحة إبداعيّة قصصيّة وسرديّة وروائيّة، وكلّ هذه الطَّاقة تمَّ تشييدها وزرع البذرة الأولى من قبل عمّي، ثمَّ بنيت عوالمي خطوة خطوة من خلال قراءاتي المتواصلة وخبرتي الطَّويلة في الحياة، إلى أن وصلت إلى مرحلة تجسيد بوح هذه التَّجلِّيات السَّرديّة والقصصيّة والشِّعريّة.

سأبقى أتذكّرك وأذكرك وأحتفي بك يا عمِّي ما حييت، وإلى ذكراكَ وروحِك الطَّيبة أقدِّمُ محبَّتي العميقة، وسيبقى حرفي بكلّ أجناسه الأدبيّة يحتفي بك عالياً إلى آخر حرفٍ من تجلِّياتِ جموحِ الخيال!

حوار مع الذّات.. ألف سؤال وسؤال..الجزء الأول – السؤال من 21 – إلى 30 – للأديب و التشكيلي السوري#صبري_ يوسف Sabri YOUSEF ..

حوار مع الذّات.. ألف سؤال وسؤال..الجزء الأول – السؤال من 21- إلى 30 –

للأديب و التشكيلي السوري#صبري_ يوسف Sabri YOUSEF ..

11. متى ارتديتَ بنطلوناً وقميصاً أوَّل مرّة؟

ارتديت أوَّل بنطلون عندما تمَّ قبولي في الصَّف الأوَّل الابتدائي، عندها اشتريتُ قميصاً مقلّمة، ومريولة خاكي موحّدة كسائر التَّلاميذ، وعندما التحقت في المرّة الأولى بمدرسة ناظم الطَّبقجلي، أتذكَّر لم يتم قبولي في المدرسة؛ لأنَّ عمري كان أقل من ست سنوات، لهذا قال المدير لأمّي: لا نقبله هذه السّنة، لكنَّنا سنقبله في العام القادم، وفرحتُ جدَّاً آنذاك لعدم قبولي في الصَّف الأوَّل؛ لأنَّني سألعب عاماً آخر، دون أن ألتزم بدوام المدرسة، وما كانت المدرسة تجذبني كما كانت تجذبني الألعاب في الحارة، وهكذا تسنّى لي أن أمرح وألعب مع أصدقائي عاماً آخر قبل أن ألتحق بالمدرسة وألتزم بالدّوام والوظائف المدرسيّة، عدتُ وعلامات البشرى والفرح مرتسمة على وجهي!
استقبلني أصدقاء الحارة وهم في أوج فرحهم أيضا؛ً لأنّ قسماً منهم لم يقبلوهم في المدرسة؛ بسبب صغر سنّهم، وهكذا بدأنا نعدُّ العدّة للعب ونحن في حالة فرح؛ لأنَّ شهوراً عديدة ستستقبل ألعابنا ومباهجنا، كانت “مزاعيرنا وكللنا وباقوشنا” والكثير من الألعاب في انتظارنا بحسب مواسم كل لعبة، كم أشعر بالحنين إلى تلك الألعاب والذّكريات الطَّيبة الّتي قضيناها في كنف الطَّبيعة والأزقّة والشَّوارع العريضة، ترتسمُ الألعاب والمواقف الطَّريفة في ذاكرتي وخيالي، وكأنّها حدثت منذ شهور وسنين قريبة، تدهشني ذاكرتي الّتي نقشتُ في رحابها أدقِّ تفاصيل أيام الطّفولة، حتّى أنّه أحياناً تتراءى لي في الحلم الكثير من المواقف، فيخيَّل إليّ حلميّاً أنّني سأتوجّه نحو “مزعاري” حالما أنهض من نومي، كما أن داليات العنب لا تفارق ذاكرتي ومخيّلتي، مراراً تراءت لي في أحلامي، وأنا أقطف عناقيد العنب، كم كانت لذيذة عناقيد عنب “البحدو والمسبّق والدّار كڤنار”. لم آكل عنباً في السُّويد على مدى سنين عمري هنا، أكثر من ربع قرن، بنفس نكهة ومذاق عنبنا بكلِّ أصنافه اللَّذيذة، تعالي يا طفولتي أفترشْكِ بين واحات القصائد وفي فضاءات قصصي ومتاهات حرفي وهو يهفو إلى ذكريات غافية بين مروج الرُّوح والقلب، وإلى ليالي ديريك القمراء، شوقاً إلى تلألؤات نُجيمات الصَّباح.

 

12. ألعاب الطّفولة، “البرّي، التُّوش، المختبوية، الكيلاڤرّي، الدّار پولكة والپرو پرڤانوپري وا چاوايا.. إلخ” ماذا قدّمَتْ لك هذه الألعاب عبر مسارات فضاء الإبداع من خلال الحنين إلى مرابع الطُّفولة؟!

أجل، لقد تركَتْ ألعاب الطّفولة الكثير من توهّجات الإبداع في فضاءات حرفي ولوني، وإن أجمل ما في عوالم طفولتي هي ألعاب الطُّفولة بكلِّ حبورها، وعلى مدى فصول السّنة، حيث لكلِّ فصل من فصول السَّنة، ألعابه وبهائه وجماله، فلا تفارق ذاكرتي لعبة “البرّي والتُّوش والپيپة/المختبوية والدَّار پولكة والصّنم والصّلّابة والقتيلة والطَّفش”، والپرو پرڤانو پري وا چاوايا “، والعديد من الألعاب الأخرى، كما كنَّا نلعب لعبة الخوصة في أيّام الشِّتاء، وبيت لبيت، والحزازير .. ويروي لنا الآباء والأهل القصص، وكم كان عمِّي يوسف شلو باهراً في سرد قصصه المتسلسة على مدى ليالٍ عديدة من أيَّام الشّتاء، وكانت له طريقة مدهشة ومشوّقة في سرد أحداث قصصه، كقصّة “رسمتي ظال خُيي شوري كران”، أي رستم البطل صاحب السَّيف الثّقيل، وفيلزور وفيروشاه، وهاديكو صاحب البستان، وكُلي وچوكو والأربعين حرامي، وقصص أخرى طريفة، بينما والدي كان معروفاً بسرد قصّتين فقط “الكُمْكُمُوك والنّرْنر”، وعندما أصبح شيخاً كبيراً، كنتُ أسأله أن يحكي لنا قصّة “الكمكموك أو النّرنر” الَّتي كان يحكيها لنا أيام زمان! والطَّريف بالأمر كان يجيبني: أي كمكموك وأي نرنر، هل كنتُ فعلاً أحكي لكم هاتين القصّتين؟!
أجل يا بابا، كنتَ تحكيها لنا، هل نسيت كيف كنتَ تحكي لنا قصة “الكمكموك” ونضحك بكلِّ سرور على طريقة سردها؟ ثمَّ كنتُ أستعرض له مقتطفات من القصّة، فكان يضحك هو الآخر قائلاً:فعلاً كنت أحكي لكم هذه القصة، لكنّي نسيتُ الكثير من تفاصيلها وأنتَ تتذكَّرها أكثر ممَّا أتذكَّرها أنا يا ابني!
العمر له حقّه يا بابا، كان يضحك وبكلِّ ببشاشة يجيبني: فعلاً العمر له حقّه. وهكذا يرحل الآباء والأحبّة وتبقى قصصهم محفورة في ذاكرتنا، كما تبقى ألعاب الطُّفولة متراقصة في مروج الذّاكرة إلى أمدٍ بعيد، ونستوحي منها الكثير من القصص والحكايات والقصائد وتدفُّقات مجنّحة نحو حفاوةِ الحوار!

13. تحدَّث عن أصدقاء الطُّفولة وما هي أبرز محطَّات الطُّفولة والصَّداقات؟

لأصدقاء الطّفولة مكانة مهمّة وكبيرة في استلهام الكثير من عوالم إبداعي وتشكيل شغفي العميق في حبِّ الموسيقى ووهج الحرف واللّون، وأعتبر أصدقاء الطُّفولة وألعاب تلك العوالم الرَّحبة، فضاءً مفتوحاً لتجلِّيات الخيال وصفوة ينابيع الإبداع، ولولا الطُّفولة بكلِّ حبورها ومعالمها وألعابها ورحابها الفسيحة، لما تبرعم في شهيقي مذاق أبجديات الحرف، فأنا مَدين كوني كاتباً وشاعراً وفنّاناً؛ لمحطّات الطُّفولة وما رافقها من صداقات مبلَّلة بذكريات شاهقة في انبعاث الحرف واللَّون، وتبدو لي واحات الطُّفولة كأنّها أحلام مفتوحة على فراديس النَّعيم، من حيث احتباكها مع شهوة الكتابة، فلولا معالم الطُّفولة المعرّشة في سهول القمح واخضرار الكروم وأزقّة مسقط الرَّأس بكلِّ مباهجها وألعابها وغناها؛ لما ظلَّ خيالي هائماً ومفتوحاً على طموحاتٍ متجدّدة نحو المزيد من العطاء والتَّحصيل الدِّراسي، وأجدني متشرِّباً من هذا الماء الزّلال الَّذي ظلَّ مرافقاً لكلِّ محطّات العمر، ويبدو أنَّ يفاعتي وشبابي وطموحاتي المتعاقبة بما يتعلّق بدراساتي، ثمَّ انكبابي على الكتابة نجمَ من ينابيع طفولتي البكر، وحملت الطُّفولة فوقَ أجنحتها اخضرار الحياة، وفضاءات مفتوحة على ضياءِ الأحلام، كأنّها نعمة متهاطلة من زرقة السَّماء فوق رهافة بوح الخيال!
تأثَّرتُ موسيقيّاً بجورج ابن خالي، حيث كان موهوباً في العزف على الطَّمبورة سماعيّاً، وأدهشني خياله الموسيقي وشغفه العميق للحصول على جمبش، ففيما كنّا نتحدّث عن الموسيقى وهو يعزف على طمبورته الَّتي صمّمها وصنعها بنفسه، وإذ به ينظر إلى تنجرتهم، قائلاً:لقد وجدتها وهو يضحكُ!
ماذا وجدتَ؟
وجدت التَّنجرة الَّتي ستحقِّق لي طموحي؛ لأنّني سأحوِّلها إلى جمبش.
ضحكتُ قائلاً: كيف ستحوِّل هذه التَّنجرة إلى جمبش؟
هذه التَّنجرة تحتاج إلى الجزء الرَّقيق من الكونتبلاك لواجهة التّنجرة، وإلى زند ومفاتيح، وبعدها نحتاج فقط إلى أوتار وممكن أن نشتريها من قريبك إيليا، وبعدها سيكون الجمبش جاهزاً.
معقول أن تحوِّل هذه التَّنجرة إلى جمبش بهذه السُّهولة؟
معقول جدّاً، لكنِّي أحتاج إلى تنجرة أخرى بدلاً عنها.
أجبته: يوجد تنجرتان عندنا، سآخذ التَّنجرة الصَّغيرة، وهي أصغر بقليل من تنجرتكم، سيبقى عندنا تنجرة وعندكم تنجرة، إلى أن ندبّر أمورنا ونشتري تناجر أخرى بدلاً عن التَّناجر الَّتي سطونا عليها!
ضحك جورج وقال: لو جبتَ تنجرتكم الصَّغيرة ستنقذنا ولو بشكل مؤقّت، ريثما نحل مشكلتنا الجمبشيّة.
ولا يهمّك، سأذهب حالاً. كانت زوجة خالي أم جورج خارج المنزل، وفيما كنت في طريقي للبيت ويبعد حوالي (10)دقائق ذهاباً وإياباً، وإذ بجورج ينقضُّ على تنجرتهم، ويقصّ حوافها من الأعلى، ثمَّ بدأ بترقيق نهاياتها ويشكّلها على نمط الجمبش، وصمَّم التَّنجرة فعلاً على شاكلة جمبش تماماً، استقبلني وهو يضحك: تفضَّل هذه تنجرتنا تمكَّنت أن آخذها دون علم أمِّي، ضحك جورج قائلاً:لا تقلق سنشتري قريباً جدّاً تنجرة أحسن منها لكم، وتنجرة أخرى لنا في أوّل حفلة موسيقية نقدّمها على أنغام الجمبش!
ضحكنا، وقلت: يارب ما تجي والدتك إلّا بعد أن تخفي معالم التّنجرة وتحوِّلها إلى جمبش.
قال جورج: لا تقلق، راحت أمِّي إلى بيت خالها ولن تعود إلّا بعد العصر، وسنكون على وشك الانتهاء من إعداد الجمبش، وبدأ جورج يحضّر الزّند وربطه بالتَّنجرة، بعد أن استعار جمبش عبدو علانة، وأخذ قياسات الجمبش والزّند، ثمَّ أعاد إليه جمبشه، وبدأ يصمِّم جمبشه الجديد، وخلال ساعات تمكّن أن يعدَّ الجمبش، وجربّ الوتر الأول مستخدماً أوتار الطَّمبورة، وكان يستخدمها من أسلاك الكهرباء الرَّفيعة، وبعد أن ركّب وترين بنفس النَّغمة، عزف على الوترين أغنية “روشي روشي روشني” على طريقة العزف على الطّمبورة، فأعطت النّغمة صحيحة، فقال: رائع، نجحت الفكرة، ولا ينقصنا سوى أوتار الجمبش!
وجَّهنا أنظارنا نحو محل قريبي إيليا وكان معي نصف ليرة، وجورج كان معه ربع ليرة، واستدنّا ما كان ينقصنا من بعض الأصدقاء واشترينا الأوتار، وبفرحٍ كبير عدنا إلى المنزل قبل قدوم زوجة خالي، وبدأ يركّب الأوتار، ويدوزن الجمبش على نغمة “شامومر”، الوتر الأول والثَّاني، والثَّالث يدوزنه على الثَّاني شامومر، وهكذا إلى أن يصل الوتر الأخير!
وبعد أن دوزنه، بدأ يعزف عليه. حقيقة اندهشت لبراعته في تصنيع الجمبش، وبراعته في العزف أيضاً، وفتح فتحات صغيرة عند نهايات التَّنجرة مثل فتحات الجمبش الأصلي؛ كي يصدر الصَّوت برنين جمبش، وبدأ يعزف الأغاني الَّتي كان يجيدها على الطّمبورة، مع أن مبدأ العزف على الجمبش يختلف جذرياً عن الطَّمبورة، مع هذا تمكّن أن يجد مكان النّغمات الموزّعة على الأوتار، ثمّ طلبت منه أن أجرّب العزف قليلاً، فعزفت على وترين بطريقة العزف على الطّمبورة، وتمكَّنتُ أن أعزف بعض الأغاني الَّتي كنت أجيدها على الطَّمبورة، وأعطاني فكرة عن توزيع النَّغمات على أوتار الجمبش، وشيئا فشيئاً بدأت أنا أيضاً بعد أيام قليلة أعزف بعض الأغاني السّهلة، مهارة بديعة كان لدى جورج، وقد قدّم بعد شهور حفلة خطبة حنّا ابن جارتهم صارة، وشاركته على الإيقاع وقبضنا آنذاك (25) ليرة سورية، اشترينا تنجرتين أفضل من تناجرنا بكثير، وأعطاني (5) ليرات سوريّة، كم شعر بالزّهو وهو يقبض (25) ليرة ثمرة إنتاج آلة موسيقيّة صنعها بيده، كانت منذ شهور تنجرة لا غير، .. لكن وللأسف الشَّديد وافته المنيّة في مقتبل العمر، وودّعته بحزن عميق، وأتذكّر جيداً أنني ألقيت عليه النّظرة الأخيرة، وقبّلته في تابوته، ووضعت ريشة الجمبش في يده وأنا أبكي بمرارة، … ولو ظلَّ حيّاً لكان من كبار العازفين الآن، الرّحمة لروحه، وكم من الأصدقاء تتلمذوا على يده وهم الآن من العازفين المهرة .. وتبقى الطّفولة منبعاً خصباً للذكريات بكلِّ أفراحها وأتراحها وتلاوينها، ستبقى على مدى الأيام منبعاً طافحاً بكلِّ أنواع العطاء!

14. كان الوالدان وإخوتك الكبار يبنون العرزيلة من القرّام والقصب والكرسبان والأعشاب البرّية كالسَّيّل والكاروش والحمحم والخطميّة، وتنامون عليها في صيف ديريك الجميل، ماذا بقي من عوالم العرزيلة؟

بقي من عوالم العرزيلة والعرازيل الكثير الكثير؛ لأنَّ النّوم على عرازيلنا، كان أجمل نومٍ نمته في الهواء الطَّلق على مدى سنين عمري. تسربلني نسائم اللَّيل الهفهافة.
يا إلهي، كم كنتُ أفرح في الأيام الأولى من بناء وتجهيز العرزيلة، حيث كنتُ بعد أن تفرش أمّي الفرشة أنطُّ عالياً وأدحرج نفسي وأقلب “عِنْطرُوس”، أي أضع رأسي على الفراش وأقلب على ظهري، كان يجنُّ جنوني من شدّة فرحي خلال الأيام الأولى من نومنا على العرزيلة. وكم كان طيّباً النَّوم على هفهفات هبوب نسيم الصَّيف من الغرب، وأجمل ما في العرزيلة أنّها كانت تتألّف من الأعشاب البرِّيّة حيث كان إخوتي وأخواتي يلمُّون القرّام والقصب من “چم” ديريك، نهر صغير ينبع من قرية عين العريضة “كاني پحني” ويسير من جهة غرب ديريك إلى أن يصل إلى أطراف شرق ديريك، متوجِّهاً نحو الشِّمال ثمَّ يصبُّ في سفان من جهة شمال ديريك، كما كنّا نلمُّ السّيِّل والكاروش والحمحم والخطميّة والخُشِّيلة وغيرها من الأعشاب والنَّباتات البرّيّة، وأحياناً كنّا نستخدم الكرسبان/ أغصان الدّاليات المجفَّفَة لأرضيّة العرزيلة، وكانت رائحة الأعشاب والنَّباتات تملأ الحوش برائحة اخضرار الطَّبيعة، كنت أشعر وكأنَّني أنام بين أحضان الطّبيعة، كان يغمرني فرحٌ عميق في اللَّيالي القمراء وأنا أنام فوق كل هذا البهاء الطَّبيعي، سارحاً في أحلامي، وأنا أسترخي على ظهري، وأغطِّي نفسي حتّى أكتافي، وأنظر إلى السَّماء المتلألئة بالنُّجوم. كم كانت النُّجوم بديعة وقريبة إلي، وكم كنت أفرح عندما أجد نجمةً تخرُّ، وأحياناً أرى طائرة تسير في الفضاء، بوميضها المتلألئ، سماء ديريك كانت أجمل بكثير في ليالي الصَّيف من سماء السُّويد، هناك كانت النّجوم قريبة إلينا، تناجينا، تهدهد أرواحنا. هنا لا نرى النُّجوم متلألئة بتلك الكثافة الَّتي كنَّا نراها هناك، وكم كنت أفرح وأنا في قمة انتعاشي أسمع نقرات “عبدو علانة” وهو يعزف على جمبشه ويغنِّي أجمل الأغاني الكرديّة في ليالي حفلات الزّفاف في أوَّل المساء، ويغنّي بصوته الرّخيم: “ورا ورا أسمر خان ورا ورا ستو مرجان، وازي بتارَڤينِم ببم آشي علي خان”! ثم يصدح صوته يغنِّي: “ناريني هاي ناري هاي ناري هاي ناري، عوليا باڤو بليندا دالالي”! .. ويقدِّم على دندنات هدوء اللَّيل مجموعة من الأغاني المحبّبة إلي قلبي، وسرعان ما كنت أنهض من فراشي وأرتدي لباسي متوجِّهاً نحو جهةِ الصَّوتِ، وأشاهد حفلات الزّفاف بمتعة غامرة، يرقص الشّبان والصَّبايا دبكات خانمان وهلاية ودبكة هزّ الكتف/ العادي وغيرها من الدَّبكات الجميلة، شغفٌ عميق كان يجذبني إلى الرّقص منذ الطُّفولة، فتعلّمته عندما كنت في أوَّل يفاعتي، كم كنّا نتمتّع في مشاهدة حفلات الزّفاف ونسمع أغاني “عبدو علانة” و”كمچاية أكرمو وحسينو”، ثمَّ لاحقاً بدأنا نسمع كمان إيليا وعود موسى إيليا، ثمَّ برز عازف العود والجمبش جوزيف إيليا، نسمع أغاني ماردلِّية وسريانيّة للعديد من المطربين السّريان، إضافة للأغاني الكرديّة الّتي كانت تملأ أرواحنا بهجةً وحبوراً، حنانٌ عميق يجرفني إلى تلك اللَّيالي القمراء وأنا أسمع أجمل أغاني حفلات الزَّفاف البديعة، مسترخياً فوق عرزيلتنا ونسيم اللَّيل ينعش قلبي، ويهدهدُ أحلامي الغافية بين أحضان الفرح!

15. كيف كنتَ تتواصل مع تلألؤات النّجوم على هفهفات نسيم اللَّيل وأنت مسترخٍ فوق العرازيل في اللَّيالي القمراء؟

كنتُ أتواصل مع النّجوم بكلِّ بهائها وتلألؤاتها، كأنَّ النّجوم أصدقائي وصديقاتي وأسرتي الكبيرة منذ زمنٍ بعيد، جمالٌ مبهج للقلب يوشّح مساءاتي، كلّما غفا اللِّيل بين سطوع أحضانِ النّجوم، حالة رهيفة ربطتني في فضاء النُّجوم المعرّشة في مآقي السّماء، ما هذه العلاقة الدَّافئة الَّتي توّجتني مع نور الأعالي؟ أشبه ما تكون علاقة ابتهاليّة مبهجة للروح والقلب، حيث كان ضياء النّجوم يقدّم لي راحة وفرحاً عميقاً، كم كانت النّجوم تبهجني، كأنّها تناجيني وتتحدّث معي، تبتسم لي، تهمس لي عن أسرارِ تجلِّيات سموِّ السّماء، وتبثُّ لي عن عوالمها الشَّفيفة من خلالِ ضيائها المنساب على وجه الدّنيا، تبوح عن أشواقها لمَن يفتح لها صدره بحميميّة شاهقة، وكأنّنا في حالة عشقيّة منذ أن تشكّلنا فوق طينِ الحياة.
كم مرّة سهرتُ بكلِّ ارتياحٍ معَ تلألؤات النّجوم، والرّوح في أبهى تجلِّياتها وهي تناغي روعة النّجوم وهي تتراقص ألقاً في قبّة السّماء، حفظتُ مواضع النّجوم وكأنّ للنجوم بيوتاً ومنازل وساحات وحقولاً وبساتين مكلَّلة بالضّياء والنُّور في أسمى تيجانِ البهاء، تطلُّ علينا من أعلى الأعالي، أبتسم للنجوم كما أبتسم للأصدقاء والصّديقات، عالم فريد وبهي وساطع بالنّور والبركات، أحياناً كنتُ أتمعّن في نجمة مضيئة ساطعة بهيّة رهيفة، فينبلج أمامي وجه صبيّة في غاية الجمال. أجل، كنت أشعر في قرارة نفسي وكأنّي أرى وجه صبية من أجمل جميلات الكون، أليست الصَّبية الجميلة الرَّهيفة البهيّة هي تلك الفتاة الّتي يشعُّ من وجهها نورٌ ساطعٌ من خلال طلّتها المصونة المبهجة للقلب، النُّجوم كائنات متوّجة بنور الحياة، انبثقت من شهقات السّماء في ليلةٍ مبلَّلة بحبور النَّعيم، لأنّها حالة انبعاثٌ من هلالات النّعيم!

16. كيف تقارن ليالي صيف ديريك، وأنت تنام على سطوح المنازل أو فوق العرازيل وتتواصل مع تلألؤات النّجوم وسطوع القمر مقارنة بصيف السُّويد وأنت تنام داخل المنزل على مرِّ كل الفصول؟

لا يوجد أي وجه للمقارنة، كمَن يقارن في هذا السِّياق ما بين الأرض والسَّماء. كم من الأشياء والمرامي الجميلة نمتلكها ولا نعرف قيمتها، كم من الأصدقاء والصَّديقات والأهل والمعارف لا نعرف قيمتهم إلّا بعد رحيلهم، كم من الذّكريات والمواقف والمنعطفات البديعة في حياتنا لا نعرف أهمِّيتها إلّا بعد أن تبقى في تجاويف الذَّاكرة، كم من الهدوء والسَّكينة والخيال والفكر والشِّعر والحفاوة والخبرة والتَّجلِّيات الرَّهيفة نعيشها ونعايشها ولا نعرف أهمِّيتها إلَّا بعد رحيلها أو زوالها، أو بعد أن تقبع في جعبة النّسيان، أو في منعرجات الذّاكرة البعيدة، كم من التَّساؤلات تخطر على بالي؛ كي أصيغ منها ألفَ سؤالٍ وسؤالاً؟!
لا مقارنة على الإطلاق؛ لأنَّ لا نجوم هنا ساطعة ومتلألئة كما كانت نجوم الشَّرق وديريك تتلألأ في قبّة السَّماء، كأنّها تعايش ليلنا وأحلامنا، حتّى ولو نمنا هنا في ليالي الصّيف في العراء، لا أرى نجوماً باسمة هنا في أحضان الأعالي، ولكن استعاضت لنا السّماء بنجوم بشرية جميلة يخفق لها القلب، كم من البهاء والجمال وألق الحياة، ينبعث من نجيماتٍ من نكهة الحلم الغافي بين تلافيف خيوط الحنين، كأنّهنَّ محبوكات من تلألؤات نجوم السَّماء؟!
يوماً بعد يوم أكتشف أنَّنا نحن البشر نمتلك أغلب الأحيان ما هو أغلى من ذهب العالم، وياقوت وألماس العالم ولا ندري. ديريك آهٍ يا ديريك، كم أراك بسمةَ وردة مبرعمة باخضرار دائم فوق خميلة الرُّوح، في اللَّيالي القمراء، وفي قيظ الظَّهيرة من أيّام الصَّيف، وفي عزِّ الشِّتاء، وفي صباحات الخريف والأوراق تداعبها نسائم الصَّباح، وفي أوائل الرَّبيع والطَّبيعة تلبس حللها؛ كي تستقبل الكائنات بأجمل ما منحته السَّماء لبني البشر، مع هذا عبرنا البحار؛ بحثاً عن الإبداع أو الخبز المقمّر، وهل هناك خبزٌ مقمّرٌ يضاهي خبز أمّي الَّذي كانت تقمّره على جمرات تنّورنا في البيت العتيق؟ وهل عثرتُ بعد عقودٍ من الزّمان على أبجديات الإبداع في سماء غربةٍ مفتوحة على متاهات الحياة؟ أليس جلَّ إبداعي مستوحى من معالم الشّرق، من نجيمات الصَّباح في ليالي ديريك القمراء، من أحداث وبهاء الشَّرق؟ أليست قصصي وأشعاري وحفاوة حواري وبهاء لوني وحرفي مستوحى من رحاب الذَّاكرة البعيدة، المبرعمة في روحي وكياني منذ أن تشكَّلتُ في أحشاء أمِّي، ثمَّ ترعرتُ قامةً مفهرسةً بشهقات البكاء؟ أليست تجلّيات حرفي مسكونة ومنبعثة من دفء الشَّرق ومعالم ديريك وأحضان البيادر وسهول القمح وعناقيد العنب واخضرار الدَّاليات؟ أليست روحي منبعثة من لجين بوح القصائد قبل أن أعبر وجه الدُّنيا، منذ أن كانت شهقةً مندلقةً من مآقي السَّماء؟ هل أنا أنا، أم أنّاتٌ أخرى مسربلة بأنين الحياة المتفاقمة هناك منذ أن زرعنا الدَّاليات في طور عبدين، وحصدنا الحنطة على أنغام تراتيل منبعثة من رنين النَّواقيس، ثمَّ تهنا على وجه الدّنيا كأسراب الطُّيورِ؛ بحثاً عن أغصانٍ عالية كي نبني أعشاشنا بعيداً عن تربُّصات قنّاصي هذا الزَّمان، وفراراً مريراً ممَّا أنهكتنا سهام القنص على امتدادِ كلّ الأزمنة الغابرة، الملفَّحة بكلِّ أنواعِ الشّقاء؟!
سأبقى أحلم وأنسج وأرسم نجيمات الصَّباح المتلألئة هناك، طالما لا تبدو النّجوم ساطعةً هنا بالبهاء نفسه، مستمدّاً من تلألؤاتها ضياء حرفي ولوني، حتّى ولو نمتُ في أعماقِ كهوفٍ وأقبيةٍ منسيّة، طالما أحملُ فوقَ أجنحتي من ضياءِ ونورِ الشَّرقِ خميرةً تبلسمُ شموخَ حرفي ولوني وأنا في أوجِ تجلِّياتِ حنينِ الاشتعال!

17. كيف كنتَ تستقبل أغاني عبدو علانة الشَّجيّة في حفلات الزَّفاف وهو يغنّي ويعزف على جمبشه؟

الفنّان عبدو علانة من الفنّانين الكرد الَّذين كان لهم الأثر الكبير في زرع بهاء وحميميّة الأغنية الكرديّة في عوالمي، خاصّة؛ لأنّني أجيد الكرديّة الكرمانجيّة بطلاقة، وهذا ساعدني على تعميق تلقِّي روعة الأغاني وألحانها ومعانيها، وبالتّالي قادني إلى عزفها وأدائها، حيث أنّني تمكّنت في بداية صباي ويفاعتي أن أعزف على الطّمبورة قليلاً وسرعان ما استهواني العزف على العود والجمبش وقطعت شوطاً طيّباً في تعلّم الكثير من الأغاني الكرديّة بشكلٍ سماعي، بعيداً عن عوالم النّوطة والصُّولفيج الغنائي، وقد كانت الموسيقى والأغاني الكرديّة هي الدَّارجة أكثر من بقيّة أنواع الموسيقى والغناء في بداية السّتِّينيّات والسَّبعينيّات، جنباً إلى جنب مع ظهور الأغنية الماردلّيّة والسّريانيّة، وقد وصلتنا الأغاني الماردلّيّة من ربوع القامشلي، وغنّاها المطربون السّريان، لكن ما جذبني في البداية لأغاني الفنّان عبدو علانة هو إيقاعها الرّاقص ومضامينها، وقدرتي على استيعابها وفهمها وعزفها وغنائها، كلّ هذا جعلني أتواصل مع أغانيه خلال حفلات الزّفاف والمناسبات، وقد كان لابن خالي الرّاحل جورج يعقوب الرَّديف الفضل الأكبر في تعلُّم العزف على كل الآلات؛ ابتداءً من الطّمبورة/البزق والعود والجمبش كما أشرت في جواب سابق، وبعد أن قطعتُ شوطاً في الاستماع إلى الأغنية الكرديّة، والماردلِّيّة والسّريانيّة، توقّفت مليّاً عند تجربة الفنَّان المبدع حبيب موسى، ملك الأغنية السِّريانيّة في العالم، ولنا عودة عبر فضاءات الحوار للحديث عن تجربة هذا المبدع الرّاقي على مدى عطاءاته الفنِّيّة وألحانه المدهشة ابتداءً من شامومر ومروراً بكلِّ أغانيه الّتي حقَّقتْ نجاحاً باهراً لم يقدّمها مطربٌ سريانيٌّعلى امتداد عقود من الزِّمان!
ومع مرور الوقت، توقّفتُ، بالنّسبة للأغنية الكرديّة، عند تجربة الفنّان المبدع الرّاحل محمّد شيخو الَّذي امتلكَ صوتاً حنوناً عميقاً شجيّاً رخيماً، وأحببتُ أغانيه حبّاً عميقاً، وظلَّ عبدو علّانة رغم حبِّي العميق لأغانيه، في مرتبة ثانية أو ثالثة فيما يخصُّ مكانة محمَّد شيخو، وكم كنت مغرماً في أغنيته: “هيلا كُلي كُلا مني، شيرينة لبر دلي مني، كلي مني نادم دني، أز سر كلي تيم كشتني، …” وقدّ عزفت هذه الأغنية وأغنية “آي كوري” مراراً أمام الكثير من الفنّانين والمطربين الكرد وغير الكرد، وكانوا مندهشين من الإحساس العميق الَّذي أؤدِّيه عزفاً وغناءً من دون استخدام مايكروفونات أو أجهزة تجميل وتنقية الصّوت، وقد عزفتها مع مجموعة أغاني أخرى لمحمّد شيخو في عيد نيروز في صالة “سولنا هالّن” إحدى ضواحي ستوكهولم، أمام أكثر من ألفيّ مشاهد وأمام عدسة “ميد تيفي” في عام (1998) في ستوكهولم، ولهذه المشاركة قصّة طريفة ألخّصها بأنّي كنتُ مدعواً كضيف شرف لتقديم أغنية أو أغنيتين لمحمّد شيخو عبر الاستراحة بين فقرة شيڤان بيرور وفنّان آخر، لكنّ شيڤان ظلّ في ألمانيا، وقدَّمَ برنامجه في عيد نيروز هناك، واتّصل مع عريف الحفل في ستوكهولم وبلّغه بأنّني سأحضر الحفل كضيف شرف بدعوة منه ــ أي من شيڤان ــ فلا بأس أن يسندوا إليّ الوقت المخصّص لشيڤان، إضافة إلى بضع دقائق من وقتي المخصّص كضيف شرف، وهكذا صعدت إلى المسرح برفقتي ضابط الإيقاع البرازيلي الفنّان “نينو”، وقدّمت خلال الوقت المخصّص لشيڤان مقتطفات من أغاني محمّد شيخو وبعض الأغاني الفولكلوريّة الكرديّة على مدى (40) دقيقة، والطَّريف بالأمر أنَّ عريف الحفل قدّمني مطرباً كرديّاً، فضحكتُ في عبّي بكلِّ براءتي وعفويّتي، ها هو صبري يوسف الأديب السُّوري السّرياني، يقدّمه عريف الحفل مطرباً كرديَّاً!، .. ومع أنّني كنت قد قطعت شوطاً في هذا المسار الفنّي، لكن الموسيقى والغناء ما كانا هدفي على الإطلاق، ومنذ البداية طرحت نفسي هاوياً، في مجال الغناء والموسيقى، وماأزال هاوياً من العيار الخفيف؛ لأنَّني أجد نفسي مجنّحاً في مجال الحرف، في مجال الكتابة فلا شيء على وجه الدُّنيا يشفي غليلي لا الموسيقى والغناء ولا حتّى الرّسم بقدر ما تشفي الكتابة عوالمي وطموحي وشغفي في الإبداع؛ لأنّ الكتابة وحدَها قادرة على ترجمة مكنونات مشاعري وما يعتريني من تجلّيات، واللُّغة هي الوحيدة القادرة على ترجمة الكثير من هواجسي وتطلُّعاتي وأحلامي وأهدافي وآفاق فكري في الحياة، وأما ما تبقّى من اهتمامات إبداعيّة وفنِّيّة فتأتي بعد الكتابة، وقد جاءت الموسيقى والغناء بعد الرّسم بكثير، ونظراً لأنّني أحبُّ الموسيقى وأستمع إلى الموسيقى بإحساس غامر وبرهافةٍ وشغفٍ عميق؛ لهذا استوحيت من خلال استماعي لأغاني فيروز على مدى عقودٍ من الزّمان نصاً شعرياً حمل عنوان: “فيروز صديقة براري الرُّوح”، وهو الجزء الثَّامن من أنشودة الحياة، وتمَّت ترجمته ضمن المجلّد الأوَّل بأجزائه العشرة إلى اللّغة الإنكليزيّة عبر دار نشر صافي للترجمة والنَّشر والتَّوزيع في واشنطن (2016)، ترجمة الهندوراسي سلمان كُريمون، كما أنّني كتبت الكثير من النُّصوص من وحي استماعي لموسيقى الفنّانين: منير، وجميل بشر، وعمر بشير، ومن وحي استماعي إلى أغاني الفنّانة المبدعة جاهدة وهبة، وموسيقى وعزف الفنّان نصير شمّة، وهناك الكثير من المشاريع الّتي أدرجتها في جدول أعمالي فيما يخص استلهام نصوص إبداعيّة من وحي الاستماع للموسيقى، وأخطّط لها بهدوء للمرحلة القادمة، وهكذا كان للفنّان عبدو علانة تأثير بديع على تشكيلي الموسيقى وشغفي للموسيقى والغناء، إضافة للفنّان محمّد شيخو، ومحمّد عارف جزراوي، وعيسى برواري، وتحسين طه، ورفعت داري، وشيڤان بيرور، وجوان حاجو، والعديد من الفنّانين الكرد والقائمة طويلة من الفنَّانين السّريان والعرب والفرس والغربيِّين، إلى أن أصبحت الموسيقى إحدى الرَّوافد الشّاهقة الَّتي أستلهم من فضاءاتها نصوصاً من أشهى تجلِّيات الإبداع!

18. كيف كانت موسيقى آل إيليا وأغاني المطربين الماردلِّيّة والسِّريانيّة تنساب إلى مسامعك؟

كانت موسيقى آل إيليّا وتحديداً كمان العازف المبدع الرّاحل إيليّا إيليّا أنغاماً شهيّة، تنساب إلى معالمي بفرحٍ وبهجةٍ عميقة، حيث تشكّلت فرقة إيليّا وانضمَّ إليها الفنّان عازف العود والجمبش موسى إيليا وعازف الكمان والعود فريد إيليا، ومنير معجون، ثمّ برز بشكل مدهش جوزيف إيليّا بريشته اليسراويّة، يمسك العود والجمبش بأوتار مقلوبة، مع هذا يعزف بطريقة مبهرة، تدهشكَ ريشته المتألِّقة، فقد امتلك ريشةً تأخذك رهافة عزفه إلى مطارح شاهقة، وكأنّه في حالة تجلِّيات موصولة عبر إنسيابيّة ريشته معتمداً على أذنه الموسيقيّة ليس إلَّا، حيث ما كان يعتمد على النّوطة نهائيّاً، فكانت نوطته أذنه الرَّهيفة، لِمَ لا؟ أنّه سليلة الفنِّ والفنّانين، ابن ايليا عازف الكمان الأوَّل في ديريك ومؤسّس الموسيقى في زمنٍ ما كنّا في حينها قد شاهدنا آلة الكمان، معتمداً على أذنه الموسيقيّة أيضاً، ثمَّ ظهر الكثير من العازفين في تلك المرحلة أمثال: عازف الكمان عيسى شني، وعازف الأوكورديون والأورغ بهيج استيفو، ثم تخصَّص كابي ايليّا إيليّا في الموسيقى وأصبح عازفاً على الأوكورديون والعود يعزف على النُّوطة، ويدرّس النُّوطة، ويلحّن أجمل الألحان، وهكذا تطوَّرت الموسيقى رويداً رويداً، وظهر فنَّانون جدد ومطربون، وحقَّقوا حضوراً متميّزاً يعزفون الأغاني الماردليّة والسّريانيّة والأغاني السّورية الشّعبيّة المنتشرة على السَّاحة السُّوريّة وبعض الأغاني اللّبنانيّة، وغيرها من الأغاني، إلى أن أصبحت الفرق الموسيقيّة السِّريانيّة والماردليّة والكرديّة في ديريك تحقِّق حضوراً متميّزاً، حيث شاركَ الفنّان موسى إيليا عازف العود والجمبش في الفرقة الّتي سجّلت أوَّل أغنية سريانيّة شامومر الّتي غنّاها الفنّان المبدع حبيب موسى، ملك الأغنية السِّريانيّة ومؤسّس انطلاقتها وتوالت الأغاني الّتي قدّمها الفنّان حبيب موسى، وحقَّقَ حضوراً غير مسبوق في الأغنية السِّريانيّة عبر رحلته الفسيحة في التَّلحين والغناء، وقد حضرت له الكثير من الكونسيرتات والحفلات، وفيما كنت أستمع إلى كونسيرت للفنّان حبيب موسى عبر فضائية (صورويو تي في)، وُلِدَت تدفُّقات النّص التّالي:
“جاءني الصَّوت رخيماً عبر الهاتف، حبيب موسى ونغم موسى على فضائيّة (صورويو تي في) بعد قليل، كونسيرت هولندة. أجبتُ شكراً، وأغلقتُ الهاتف لتهيئة نفسي لمشاهدة الكونسيرت!
تربَّع الفنَّان حبيب موسى ملك الأغنية السّريانيّة في العالم على خشبة مسرح كنيسة هولنديّة (خروتي كيرك) أي الكنيسة الكبيرة عبر المهرجان السَّنوي لموسيقى الشَّرق الأوسط، لتقديم كونسيرت رائع، تشاركه الفنّانة نغم موسى، بإشراف وإعداد كورال مار أفرام التّابع لنادي بيت نهرين الآثوري في مدينة انشخيده، والَّذي أسَّسه وأشرف على تدريبه الموسيقار الكبير ألياس موساكي.
يبدو مسرح الكنيسة للمشاهد كأنّه معبَّقٌ ببخور الأزمنة الغابرة، وكأنَّ ألحان مار أفرام السّرياني كانت منبعثة من تجلِّيات وشموخ كنائس كهذه، ضاربة جذورها في أعماق التّاريخ. كم كانوا على صواب أصحاب الدَّعوة الّذين دعوا حبيب موسى إلى مكان يشمخ هدوءاً وشموخاً؛ كي يصدح الفنَّان في قداسة المكان، ويطلق العنان لصوته الشَّجيِّ المتعطِّش لهياكل ومسارح الأديرة القديمة، وقد بدا لي حبيب موسى كأنَّه يحلِّق عالياً كنسرٍ جامح فوق مرتفعات جبل جودي، متوجّهاً نحو قمَّة آرارات، وكأنّه في سفينة مماثلة لسفينة نوح في انتظار حمامة السَّلام، بعد أن تفاقمَ في كنفِ الأوطانِ هدير الطَّوفان!
تألَّقَ الفنَّان وتوهَّجَ ابتهالاً، كأنَّه يرتِّل تراتيل كنسيَّة في مزارِ مار كبرئيل، أو دير الزَّعفران، أو كنيسة راسخة فوق مرتفعات صخور معلولا المعرّشة في أجنحة التَّاريخ في أوجِ العصور الذَّهبية للسريان.
أيُّها السّريان، هل ترونَ ما أراه الآن، هل تسمعون تجلِّيات صديق الأصدقاء الملفونو حبيب موسى، وخلفه يشمخ تمثالان لقدِّيسين كأنَّهما يشهدان على بلوغ أحفاد جلجامش إلى مسارح الخلود؟!
ارتعش جسمي من وهجِ التَّواصل مع حفاوةِ أصالةِ الصَّوتِ والمكان، وخرّت من عيني دمعتان: دمعةُ فرحٍ، ودمعة تساؤلٍ على خلخلاتِ أجنحةِ أوَّل حضارة انبلجت على وجه الدُّنيا، تتهاوى في وادي الرَّافدين، في سهول بيت نهرين بين أنياب مجانين وحيتان هذا الزَّمان، وتتالت التَّساؤلات في أعماقِ الجراح الغائرة وصوت حبيب موسى يمسح الأسى المرسوم على شفير الحزن المتفاقم على مسارات غربتي وغربة ملايين الأحبّة التَّائهين في انشطارات مسارات غربة الرُّوح اللَّاهثة في سماءٍ من بكاء. آهٍ يا بكاء وألف آهٍ يا سماء!
ما كان يبدو الفنَّان حبيب موسى أحياناً مرتاحاً للموسيقى الَّتي كانت ترافقه، ومع هذا حلّق عالياً رغم بعض هفوات الموسيقى المرافقة، فانطلقَ بأصالته الغنائيّة البديعة، وكأنّه في نزهة دافئة في حدائق بابل المعلَّقة في شموخِ السَّماء، هل كانت الموسيقى حزينة لما آلَتْ إليه الأمور أم أنَّها كانت تعكس انتشار شراسة الطُّغيان، طغيان الأسى على مساحات حنين القلوب إلى صباحاتٍ تموجُ برنين النَّواقيس في بدايات نيسان؟!
حضر الكونسيرت رئيس بلدية أنشخيده، وأعضاء مجلس المدينة وعددٌ من أعضاء البرلمان الهولندي، وجمهور غفير من جالياتنا السّريانيّة الآشوريّة الكلدانيّة، كان الجمهور يصغي بفرحٍ عميق إلى روحانيّة الغناء، ويستمتع بروعةِ تجلِّياتِ الأداء والجوّ المهيب لهذا الصَّرح الرُّوحي الَّذي حلَّق فيه النَّورسُ عالياً، كأنّه في مواسم الحصاد الأخيرة يقطف الغلال الوفيرة، ثمّ قدَّم الموسيقي جوزيف جاجان رويداً رويداً أبهى ما لديه. فغنَّى حبيب موسى بطريقةٍ منعشة للقلب، كأنّه شهقة نيزكٍ مندلقٍ من بسمةِ السَّماء، رقصَتْ قلوب المشاهدين جذلى مع بهجةِ الألحان النَّابعة من ينابيع هياكل الأديرة القديمة.
نضحَ وجه الفنَّانة نغم موسى فرحاً وهي تغنِّي على أنغام الموسيقار ألياس موساكي ألحاناً عذبة، مدخلٌ يبهج القلب، رغم أنّي شعرت إيقاعاً أوبرالياً غريباً عن عوالم كنائسنا العامرة بألحانٍ لا تحصى، ومع هذا أطربني الأداء الذي سمعته، حيث غنَّت أغنية (لليانا) وأغنية (آنين شاميرام) الَّتي لحّنها والدها الموسيقار أدوار موسى، وكانت الأغنية موجّهة للبيت الأبيض، ولا أعلم كيف ستصل وكيف سيسمعها أعضاء البيت الأبيض، أم أنها مجرَّد رسالة على الهواء مباشرةً؟ وأطربني أداؤها أكثر عندما غنَّتِ الدويتو بمهارة طيّبة مع حبيب موسى، فجاءت انسيابيّة الألحان أكثر؛ لأنّها كانت من صميم موسيقانا السّريانيّة الأصيلة.
انطلاقة فرقة كورال مار أفرام كانت جميلة، وقد غنّى عارف يعقوب وجورج عبدو وأحلام بهنان وصلات رائعة من الألحان السّريانيّة الكنسيّة. أداء منسجم مع روعةِ المكان، ومرافقات نغم موسى في الآهات الأوبراليّة بين الحين والآخر، كانت موفَّقة وأعطاها مساحة مريحة في عفوّيةِ الانطلاق. وتدفَّقَ حبيب موسى مُحلِّقاً بصوته الأوبرالي في سماءِ الإبداع، وحاولت نغم بأقصى ما لديها أن تجاريه فانطلقا وكأنّهما في خضمِّ بوحِ الفرح.
لفتَ انتباهي المايسترو القدير ألياس موساكي وهو يتماوجُ متراقصاً مع الألحان الّتي كان يلملمها بإيقاع بديع وهو في قمّةِ الانسجام مع عوالم الغناء والأداء الأصيل؛ ممَّا ترك بسمات فرحيّة على محيّا نغم موسى وهو يتراقص بابتهاج عميق. كان حبيب موسى يتجّنبُ النَّظر إلى حفاوةِ الرّقصِ؛ لئلا ينخرط بعفويّة فرحيّة هو الآخر مع إيقاع رقص المايسترو، فنظر إلى الطَّرف الآخر؛ تفادياً من مجاراته في الرّقص، ولكن عزيزنا الموسيقار لم يكترث لما كان يجول في خاطر حبيب موسى، بل ازدادَ(استهاجاً) ورقصاً، وكأنّه في إيقاع سيمفوني فريد، فلِمَ لا يتراقص بجنونٍ فرحي، شأنّه شأن مايستروات السِّيمفونيَّات العالميّة، فهل سيمفونيّات العالم أكثر بهجة وانتعاشاً ممَّا نراه؟!
انتعشتُ فرحاً وأسدلتُ ستائري، عفواً ستائري دائماً منسدلة وجاهزٌ للرقص عندما يحين الأوان، وحان الأوان فنهضتُ أرقصُ بفرحٍ كبير، وكأنّي في منافسة عارمة مع عزيزنا موساكي، موسيقى راقية وغناء أصيل ينعش القلب، رقصتُ بطريقةٍ فرحيّة باذخة، حفاظاً على رشاقتي في جموحاتي الرّقصية المعهودة!
رنَّ جرس الهاتف فلم أردّ؛ أنني كنتُ غائصاُ في عوالمي مع شاشة (صورويو تي في) الصَّغيرة، الَّتي أنعشت ليلتي، هذه الشَّاشة الَّتي نادراً ما تحرِّضني على الرّقص مثلما حرَّضتني هذا المساء، إلى مَن سنرفع شكوانا في إدارة (صورويو تي في)، إلى الملفونو العزيز يوسف بيت طورو؛ كي يطوّر قليلاً أو كثيراً البرامج الغنائيّة، بالتَّركيز على بثِّ المزيد من أغاني حبيب موسى ومايستروات على إيقاع موساكي ومَنْ ينحو منحاهما، لعلَّ وعسى نستطيع بين الحين والآخر أن نرقص بانتعاشٍ على إيقاع موسيقى وأغانٍ مبلَّلة بالفرح ومنسابة مثل مياه دجلة في أوج عناقها مع شهوةِ الغيوم؟!
أجاد عازف الأورغ جورج موساكي، وغطّى العثرات الَّتي رافقت أحياناً سير أداء الموسيقى. حبذا لو كانت الفرقة أكثر عدداً وأكثر مهارةً؛ كي تكون بمقام طاقات الملك المبرعمة بشموخ على خشبة المسرح، ومع هذا غمرني فرحٌ حقيقي وأنا أشاهدُ هذا الكونسيرت البديع، وأرَّقني السُّؤال، كيف فات ويفوت على بيت طورو ومَن تعاقبوا على إدارة فضائيَّاتنا على إغفال طاقات فنِّيّة أصيلة كهذه، تضاهي جموحات الأحصنة المندفعة نحو مروج بيت نهرين المعرّشة في عرين الإبداع، كيف فاتهم أن يحرموا الأحبّة المشاهدين بين حينٍ وآخر من متعة تألّقِ ملكِ الطَّربِ والأصالة والغناء؟ تساؤلات مفتوحة لمَنْ يهمّه الأمر.
كم يدهشني ويؤلمني أن لا أرى في عالمنا السّرياني فرقة سيمفونيّة خاصّة بأصالة باهرة كهذه الأصالة؛ كي نقدِّم ما لدينا من موسيقى وغناء سرياني طربي أصيل على أرقى مسارح العالم؛ وكي تتماوج فرحاً قلوب مايستروات العالم على إيقاع موسيقانا؛ وكي نؤكِّد للعالم أجمع أنَّنا أحفاد أولى أرقى الحضارات على وجهِ الدُّنيا، وورثة موسيقى مار أفرام السّرياني (البيت كازْ)، نعزفها ونغنِّي على إيقاعِ ألحانها بمهارات فائقة، هذه الموسيقى المنبعثة من بخور الأديرة المقمَّطة بأجنحةِ المحبَّة وأزاهيرِ السَّلامِ وأصالةِ إبداعِ السِّريان على مدى الأزمان!”.

19. هل تَعتَبِر الطُّفولة خزيناً غنيّاً حميميَّاً، تسهم في تعميق تجلِّيات الكتابة؟

بكلِّ تأكيد، الطُّفولة هي معين إبداعي زاخر بالعطاء لكلِّ مبدع حقيقي، هي صديقتي الأعمق في الحياة، أعتبرنفسي بمثابة طفلٍ يرفرف فوقَ فضاءات حرفي أينما حللتُ ورحلتُ، لا أستطيع الفكاك من طفولتي؛ لأنّها منبع رهافتي وإبداعي، منها أنهل أبهى تجلِّياتي، هي خصوبة خيالي المحبوك في آفاقِ الذّكريات، معرّشة في فضاء لوني وهدهدات مذاق انبعاث الحرف، لا يمكن أبداً لو حذفتُ طفولتي من عالمي، أن أتمكّنَ من كتابة نصوصي بهذه الرّحابة والفضاءات المتدفِّقة، لأنَّ الطّفولة تزوِّدني بينابيع رهيفة في صنوفِ الإبداع، فهي ينبوع ثرّ في العطاءات المتواصلة، تسهم كثيراً في تعميق وتجديد فضاءات الكتابة؛ لما في عوالمها من فسحات رحبة مكتنزة في تجاويف الذَّاكرة البعيدة، أستوحي منها وعبرها قصصي وأشعاري وتنبعثُ من ظلالها الدّافئة الكثير من رؤاي وأفكاري، وأنسج من خلالها وميض انبعاث الحرفِ، متوّجاً تفاصيل شهقات الإبداع من جموحاتِ الخيال، فالطُّفولة ومتاهات بوح الخيال يتعاضدان وينسابان معاً، وتولد النُّصوص من رحم الطُّفولة، وتترعرع في آفاق الخيال من خلال الاشتغال على معانقة ومواءَمة حيثيات الذّكريات المنبعثة من فضاءاتِ الذّاكرة البعيدة، أراني الطُّفولة والطُّفولة أنا، صنوان متجاذبان ومتعانقان في دقائق مسارات الحياة، أيُّ نصّ لا يحتبكُ في معالم الطُّفولة، يولد كأنّه من دون روح أو أجنحة محلّقة عالياً، وحدَها الطُّفولة تمنح نصوصي تحليقات مجنَّحة إلى أقصى رحاب الخيال، كأنّ الطُّفولة هي حالات انبعاث لتجلّيات الخيال في أوج تدفّقه وانبعاثه، يبدو أن الكاتب ينمو وتبقى الطُّفولة مرافقة لكلِّ محطَّات العمر، فهو كالطّفل الّذي لا يكبر كسائر الأطفال، ويبدو أيضاً أنَّ الكتابة تقتضي البراءة والصَّفاء والمحبّة والحنان والعفويّة وكل ما له علاقة بتدفُّقات الماء الزُّلال، لهذا تشترك معالم الكتابة بمعالم الطُّفولة، سواء انبثقت معالم الكتابة من الطُّفولة أو من محطَّات الطّفولة، حيث تولد بكلِّ عفويَّتها وانسيابيَّتها، كأنّها متهاطلة على الكاتب من شواطئ الطّفولة البكر، وكلّ هذا يقودنا إلى أنَّ الإبداع حالة إنسانيّة شفيفة شاهقة كشهقات صفاء الأطفال بكلِّ ما تعني كلمة الطّفولة من معنى، حتّى ولو كانت المشاعر الَّتي يترجمها الكاتب متأتِّية من طفولته وشبابه وكهولته وشيخوخته؛ أنَّ روحه طفوليّة ممتدّة رحيقها على كافّة مساحات ومراحل عمره، تبلسم فضاءَه الإبداعي وتنعش حرفه المندّى بألقِ الحياة، وتضيء ألوانه المتناثرة فوقَ أغصان الحنين، كأنّها بسمة منبعثة من خياله كإشراقة حبورِ الصَّباح!

20. كنت تهوى مع أصدقاء الطُّفولة عبور البراري، الكروم، بهاء الطَّبيعة، تلملمون “الحرشف والحمحم والشُّوقلّة وعين البقرة والپيژّكات والتُّولكة/الخبَّازة،” .. والكثير من الحشيشيَّات، تحدَّث عن هذه العوالم؟

هذه العوالم ظلَّت تحافظ على اخضرار مخيّلتي على مدى عقود من الزّمان، ترتسم أمامي براري ديريك بكلِّ روعتها وجمالها الخلّاب أيّام كنّا أطفالاً نجوب البراري الفسيحة، ونلملمُ الشّوقلّة من بين سهول القمح، وتكبر باقاتنا ونأكل حبيباتها الصَّغيرة بلذّة عميقة، تهبُّ علينا نسائم الرّبيع بكل هفهفاتها المنعشة، ونتمتّع بمشاهدة الكائنات الصَّغيرة: كالفراشات، و”الجرقز ومرقز”، والجراد بكلِّ أنواعه، كم كنت أحبُّ مشاهدة فراخ العصافير، والجراد الأخضر الكبير، وفرس الأمير وهي تسير بكلِّ بهائها وشموخها، عالم مليء بالجمال وأريج الأزاهير والأعشاب البرّيّة برائحتها الطّيّبة، وكم كنتُ أحبُّ الحرشف وخاصة الزّيغلانة، أي الحرشفة الصّغيرة فقد كانت لذيذة، وعندما كنتُ أشاهد مجموعة شيقان من “شوقلّة الشَّايك”، سرعان ما كنت ألملمها بفرحٍ طفولي، ثمَّ آكل حبيباتها الشَّهيّة، كأنّها نبتة الحياة الّتي تناولها جلجامش في رحلة بحثه عن الخلود.
أتذكَّر كيف كنَّا نعبر البراري بكلِّ حبورٍ وابتهاجٍ، كأنَّنا نملك بهاء الطّبيعة، وأصبحت الطَّبيعة صديقتنا الحميمة، وكأنّنا جزء متطاير منها، عالم مدهش بالجمال والرّوعة، لا نشبع من اللَّعب في أحضان الطّبيعة، وأحياناً كنّا على مساحة معيّنة من الأرض فيها الكثير من شيقان الپيژّكات، فكنّا نتسابق في لملمة الپيژّكات، ونعدّها ثمَّ نفتح وريقاتها الطَّريّة ونتناول طراوة ما في أوراقها، تذوب في أفواهنا ثمَّ نُيمِّم وجوهنا نحو “كڤري حارّو” بحثاً عن أرضٍ فسيحة من النّرجس البرِّي، وكان أريجها يفوح من بعيدٍ، ندخل الأرض الخضراء وهي مكلَّلة ببياض واصفرار النّرجس مع نضارة أغصانها وسيقانها الخضراء ممتدّة على مدى ابتهالِ البصر. جمالٌ خلَّاب يتعانق مع طفولة معبّقة بالمرح بين خدود الطّبيعة، ومكتنزة بأشهى أنواع الحشيشيّات: كالخبّازة، والنّعناع، والرّشّادة، والپيرقلّاچك، والــپـرپــارة والبقوليّات، وعين البقرة، وبطاطا الأرض. عالم زاخر بالعطاء والخيرات والفرح، كأنَّنا في فراديس حقول النَّعيم، تنفرش طفولتي بكلِّ رحابها البهيجة أمامي، فتطفح دموعي ألقاً وشوقاً إلى تلك الأيام البهيجة، وكم تراءت لي هذه الذّكريات في متاهات الأحلام وظلَّت محفورة ومنقوشة في ظلال الذَّاكرة، إلى أن جسّدتُ الكثير من معالمها فوق نصاعة الورق، تناغي أشعاري ونصوصي وقصصي وفصول عديدة من رواياتي المفعمة بحنين الرّوح إلى أشهى انبعاث الخيال في مسار ذكريات معرّشة في ظلال أرخبيلات القلب منذ أن تبرعمنا هناك بين نسيمات حبور الطَّبيعة وهي في أوجِ عطائها وتألّقها على مدى فصول الاخضرار ومناغاة فصول البركات على إيقاعِ رنينِ أجراسِالحنين.