الوحشية (في الفن)

 

الوحشية Fauvisme مدرسة في فن التصوير ظهرت في أوائل القرن العشرين في مدينة باريس، وتمثل المرحلة الفرنسية للمدرسة التعبيرية Expressionnisme التي ظهرت نتيجة الثورات الفنية المتلاحقة التي بشر بها منذ فترات سابقة كل من الفنانين غويا Goya ودولاكروا Delacroix وتورنر Turner، وتفجرت رسمياً في المدرسة الانطباعية Impressionnisme بريادة الفنان مونيه Monet ورفاقه، ووصلت قمتها بأعمال الفنانين الكبار الثلاثة فان غوغ van Gogh، وغوغان Gauguin، وسيزان Cézanne، وقد توازت هذه التطورات مع الثورة الفكرية ضد البرجوازية، وانتشار المبادئ الاشتراكية والتحررية، وكانت المدرسة الوحشية قمة هذه التطورات.

أندريه ديران: «طريق العودة» (1906)

التحق بعض الفنانين الشباب أمثال: هنري ماتيس Matisse وماركيه Marquet ومانغان Manguin وجورج رووه Rouault منذ عام 1892 بمرسم الفنان الرمزي غوستاف مورو Gustave Moreau في باريس لتعلم الرسم. ومع أن هؤلاء الطلاب لم يتبعوا أسلوب أستاذهم إلا أنهم تأثروا بشخصيته – وهو الأستاذ بالأكاديمية الفرنسية ـ وكذلك بأفكاره التحررية الجريئة التي كانت تعمل على تحرير الفن وفصله عن الواقع.

وقد انضم إلى المجموعة أيضاً كل من الفنانين: دوفي Dufy وفريز Friesz وبراك Braque الذين درسوا الفن في مدينة هافر، كما التقاهم فيما بعد وعلى فترات مختلفة كل من الفنانين: ديران Derain وڤلامنك Vlaminck وڤلتات Valtat وجان بوي Jean Puy وڤان دونغن Van Dongen وكاموان Camoin. ومع أن هؤلاء الفنانين اتبعوا في البدء مدارس وأساليب فنية مختلفة، وكانوا مختلفي الطبائع، إلا أنهم اجتمعوا معاً في الثورة على تقاليد المدارس الفنية وقيودها، وانطلقوا للتعبير مباشرة عن انفعالاتهم بحرية مطلقة باستخدام الألوان الصافية والمتضادة، وكانوا في ثورتهم هذه يبحثون عن خواص الفن التشكيلي الأساسية التي أغفلها الفن الأكاديمي الاتباعي. وبذلك انفتحت أمامهم عوالم واسعة للبحث والتجريب، ومن دون أن يشعروا بالحرج من التأثر بالفنون الأجنبية ولاسيما البدائية الإفريقية، وبالتعبير الحسي الصافي في رسوم الأطفال.

فلامنك: «السيرك» (1906)

كان الفنان ماتيس الأب الروحي لفناني المدرسة الوحشية لكونه أكبرهم سناً، وأكثرهم ثقافة، فقد وقف ضد الأساليب المنهجية المتزمتة التي وصلت إليها المدرسة الانطباعية المحدثة Neo-impressionnisme التي كان من روادها الفنانان سورا Seurat وسينياك Signac اللذان حوّلا المدرسة الانطباعية – رائدة ثورة الفن الحديث – إلى فعل ميكانيكي أدى إلى تمزيق الشكل وتلاشيه في موجات بقع ألوان دقيقة فقدت مع الزمن بريقها باستخدامها الألوان الرمادية. أراد ماتيس ورفاقه أن يعيدوا إلى الانطباعية الأولى مجدها، والاستمرار في تطويرها. وكانت أعمال مونيه ـ ومن أهمها لوحته «14 تموز» التي رسمها عام 1872، وفيها صوَّر الرايات والتزيينات بألوان مشعة صافية – مثالاً لتطلعاتهم، ما حفزهم على استخدام الألوان الصارخة والصريحة كما هي من دون مزج، وبلمسات عريضة وكثافة واضحة، فتوصلوا بذلك إلى أقصى حد من التبسيط. وباستخدامهم المساحات الكبيرة المسطحة غاب الخط والمنظور من أعمالهم، وغاب معهما الموضوع الدرامي والأدبي، بل عملوا على انتقاء الموضوعات البسيطة التي يستطيعون من خلالها تحقيق أفكارهم التشكيلية، كالاحتفالات بزيناتها وأعلامها الملونة، والجدران الزاخرة بالإعلانات وغيرها. وهكذا كان الفنانون الوحشيون عموماً يستسلمون لسليقتهم بالتعبير الحر والعفوي، ويبتعدون قدر الإمكان عن التحليل العلمي للّون والشكل، وكان الهدف من كل ذلك خلق المتعة المجردة لدى الفنان والمشاهد.

هنري ماتيس: «الحلوى» (1908)

تجمع هؤلاء الفنانون منذ عام 1900 حول ماتيس، واشتركوا بصالون الخريف منذ عام 1903، هذا الصالون الذي أُحدث ليكون رداً على الصالون الرسمي للفنانين المحافظين. وكان الجو الفني في باريس مفعماً بالحيوية والنشاط؛ إذ افتتحت في هذه الفترة معارض الفنانين: فان غوغ (1901) وغوغان (1903) وسيزان (1904). وفي عام 1905 خُصص لماتيس وجماعته صالة في معرض الخريف عرضت فيها لوحات كل من: ماتيس وديران وفريز ومنغوان وبوي وفالتات وماركيه ورووه وفلامنك، وفي هذه الصالة أُلصق بأسلوب هؤلاء الفنانين اسم الوحشية. ذلك أن الناقد الفني لويس فوكسل L.Vauxcelles حين رأى لوحات الفنانين في الصالة تحيط بتمثال لطفل من البرونز للنحات ألبير مارك، أطلق مقولته المشهورة «هذا دوناتلّو في قفص الوحوش».

ارتضى الفنانون بالوحشية اسماً لأسلوبهم الفني، ليميزهم من فناني المدارس المعاصرة. ولكن كثيراً من النقاد يعدونهم أحد وجوه المدرسة التعبيرية Expressionnisme الفرنسية التي تزامن ظهورها مع ظهور المدرسة التعبيرية الألمانية في مدينتي درسدن وميونيخ عام 1905، فالمدرستان كلتاهما تأثرتا بالثورات الفكرية الاشتراكية والتقدمية وكذلك بفن فان غوغ وغوغان، إلا أن لكل منهما خواصَّ تميز إحداهما من الأخرى، ففي حين كان الوحشيون الفرنسيون يهتمون بالموضوعات الطريفة وبالصفاء والسكون والبعد عن الموضوعات المقلقة؛ كان التعبيريون الألمان يعمقون البعد النفسي والأخلاقي في أعمالهم، ويختارون الموضوعات الانتقادية المأسوية، وإن كاناـ على سبيل المثال ـ قد تأثرا معاً بالفن الإفريقي؛ إذ أخذ الوحشيون منه جمال ألوانه وأشكاله، واستلهم التعبيريون الألمان بعده الديني والسحري.

ولكن المدرسة الوحشية لم تستمر سوى سنوات عدة؛ إذ نشأ أعلامها وتربوا على أن حريتهم المطلقة تمنعهم من التقيد بأسلوب واحد، وكانت الساحة الثقافية زاخرة بالتأثيرات الفنية المختلفة التي تدفع الفنانين إلى التغيير. فهذا أسلوب الفنان سيزان يفرض وجوده بالتبشير بالفن التكعيبي، ذي البنية المتينة والرصينة، والذي أعاد إلى الحجم والبعد الثالث دورهما. وهذا الفنان بيكاسو Picasso يزاوج بين الفن التكعيبي والفن الإفريقي في لوحته «نساء أفينيون». وكان لهذه التأثيرات أن افترق الفنانون الوحشيون ليتبع كل منهم أسلوبه الخاص، فظهر الخط والزخرفة في أسلوب ماتيس، ولاسيما بعد زيارته الجزائر، كما عاد الخط المتحرك إلى أسلوب الفنان دوفي، والخط الأسود العريض إلى أسلوب رووه الذي قرّبه من التعبيرية الألمانية، ومال الفنان براك نحو المدرسة التكعيبية، وفلامنك نحو الألوان القاسية المأسوية، وتحولت أعمال ديران إلى كتل مبسطة تحددها خطوط قاسية. في حين بقي فان دونغن على أسلوبه، وبذلك انفرط عقد المدرسة الوحشية التي عدت ذروة الفن التشكيلي من حرية وصفاء.

 

 

حسان أبو عياش

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.