domsky
– مشاركة : بشرى بن فاطمة

التشكيلي الأمريكي شارلز دومسكيCharles Domsky

 

يغير المرض أسلوبه الفني ليحول حدة الوجع إلى مسارات جمالية في الفضاء والمعنى

“يحرّر الفن الإنسان من عجزه، من وجعه ومن ضيق المنافذ، فيفتح له عوالم جديدة يندلع فيها الأمل، ليفسح المجال أمام الفكرة لتحلق بالألوان والأشكال، فيرسم مسارا أوسع” بهذا التحدي والإصرار تشبث الفنان التشكيلي الأمريكي شارلز دومسكي بفنه ليعبر نحو مسالك جمالية حددت رغبته الجامحة في اختراق الفضاء والمكان وتحطيم مساكن المرض في جسده وإعادة إعمار روحه بفنه.

أصيب الرسام الأمريكي شارلز دومسكي منذ سنوات بمرض الباركنزون -الشلل الرعاشي- وهذه الحالة جعلته يغير أسلوبه الفني ويبدأ بخوض تجربة الرسم بأسلوب تجريدي يعتمد على الضربات الحادة للسكين وفسح المجال لخياله كي يغوص في عوالم المدينة التي يسكنها ويعيد تفصيل مخططها من شوارع وبنايات ليقدم إنجازا فنيا مختلف الأبعاد والرؤى المثيرة للدهشة عن ما كان يقدمه سابقا، فقد كان هذا المسار الجديد وليد عزيمة آثرت أن تقاوم المرض وتتخلص من العائق الذي يمنع الحركة بل وتجعل من تلك الحركات المرتعشة والمضطربة أسلوب رسم وأداء فني، ما أزاح عنه توتره وقلقه بل وأخرجه من حالة العجز التي كادت تنهي تجربة سنوات من الفن والرسم والعطاء، ويعبر دومسكي عن هذه التجربة بقوله “لم أمهل للإحباط الوقت كي يتمكن مني، فقد وجدت في حركتي منفذا للتعبير والرسم والتحدي وأصبحت مشغولا بالكثير من الأفكار لإنجازها، فالتجربة حولتني من فنان عاجز إلى انسان اخترق مسالك المرض”.

domsky3

يتمثل أسلوب دومسكي الجديد في التجريد المبني على الحدة سواء في الشكل أو في التوظيفات اللونية أو في الخطوط، فقد خرج من إطار المسطح إلى العمق الداخلي للشكل والفكرة ليعيد إنشاء المنجز بهندسة تحوله إلى فضاء آخر مستوحيا ذلك من كل الأمكنة التي تحيطه، من بيئته وعالمه وطرقاته التي كان يعبرها بسهولة ثم بعد ذلك أصبح عكازه الأداة التي يتكئ عليها لا ليعبر فقط بل ليحلق في تلك الفضاءات ويتمكن من إعادة اكتشافها.

لإنجاز عمله يعتمد دومسكي على خرائط ومخططات المدن العمرانية وقصاصات الجرائد التي تضع بعض العناوين والأمكنة والصفحات السياحية للتعريف بالمدن ودليل السفر، وصور المدن عبر الأقمار الصناعية، كل تلك المواد يجمعها، يتأملها ويعالجها في خياله ليصل إلى تعابير مجردة، يخططها وفق أسلوبه ويلبسها منظومة لونية لا تحيد عن الهندسة والشكل، للمساحات، الطرقات، الأرصفة، البنايات والمنازل كلها حسب الذائقة اللونية التي تعبر من خيال الفنان عن المكان نحو اللوحة، “لو نظرنا للأرض من صور الأقمار الصناعية سنرى أشكالا جديدة للمناطق المأهولة كما سنكتشف مناطق أخرى ليست معدة للسكن سنرى مشاهد تختلف عن المألوف فالمنازل والبنايات والحدائق والطرقات ستصبح لها مساحات أخرى تبدو في أشكال وفراغات ضيقة ومتسعة لذلك عند تلوينها تصبح ذات معنى فني وتناسق يجمع بينها في فكرة الحياة والبقاء والتعايش والتفاصيل اليومية بمختلف تشابكات خطوطها ومراحلها بين المنافذ المفتوحة والمغلقة بين مساحات التوقف ونهاية الطريق بين الانحناءات والانعطافات والتقاطعات.”

domsky1

أعمال دومسكي نابضة بالحياة تعكس رغبته في التعبير والتواصل مع الآخر والمكان ومع ذاته بأسلوب رمزي يحيل من خلال الألوان والأشكال إلى معان مشبعة بالتناقضات الإيجابية التي تبني ولا تهدم فرغم حدة الأسلوب وصعوبة الحركة وانعكاسات التواتر المتوتر في ضيق التوافقات المنبعثة من الشكل استطاع أن يخلق توازنا بينها ويؤسس لمنهج فني تجريدي حاد.

فهو يوغل في التجريد بحدة باحث عن عمق الحياة يحاول أن يشعل الطريق بالألوان والأشكال التي يمحوها ليبني ملامح أخرى غير مرئية فهو يعيد غرسها في تربة اللوحة عبر التحويل والإزاحة ويتحول بها إلى أشكال ملونة ذات دلالات ومعان ورمزية يقظة المضمون، فيذهب عبر موازينه الثقيلة والخفيفة في الألوان ويبتكر في هندستها توافقات ضوئية ذات علامات بصرية تتحول بها من مخطط المدن العادي أو من صورة قمر صناعي لمساحة ما إلى لوحة فنية التشكيل مدهشة التنفيذ، فلا يتوقف عند الخطوط والهندسة العامة للأشكال التي تتراءى له من مخياله وما يراه في أبعاد الأمكنة وتأثيراتها لأنه لا يحدد تلك الأمكنة بمسار معين ومثبت كما في الدليل الخاص بطرقات المدن لكنه يغوص بالمتلقي نحو مسار من نوع خاص يوغل داخل العمق النفسي الذي تتوقف عنده تلك النقطة الحمراء لتتأمل الواقع وتتجرد من الألم وتكمل مستوعبة تلك الحالة، اكتشافاتها الجديدة لمساحات لونية مختلفة.

domsky2

وتجربة دومسكي متراكمة التراكيب في دوي الحركة التي تحاول أن تثبت وجودها بتلك الحدة مع الانسجام والتنظيم الداخلي للخطوط فلا تحيد ولا تقتحم الفضاء المجاور كإشارة نفسية تحاول أن تقف في وجه العجز، والمشاعر المختلطة التي تعكس عنفا يحوله إلى تعبير جمالي الأبعاد.

لم يتوقف دومسكي بالتجربة عنده بل واصل فيها ونشرها وقام بتفعيلها إيجابيا من خلال “استوديو دومسكي” المكان الذي جمع عددا كبيرا من المصابين بنفس مرضه كي يخوضوا التجربة ويعبروا عن كل ما ينتابهم من ألم وفرح وأمل ورغبة “فالفن باب يفتح نحو عمق الذات ويحفزها للتعبير.”

*الأعمال الفنية المرفقة

مجموعة متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.