بين البخل والادارة

هل دمشق مؤسسة تربوية لتخريج أجيال من البخلاء ؟؟؟؟؟

محمد بسام سلام وتاريخ الشام المصور


حاشى لله ان اتجرأ على دمشق عشقي المزمن , في الصحو والمنام , الا ان بعض الامور التي عايشتها منذ طفولتي انا واقراني في الحارة والمدرسة ( حتى لا يغمز احد الخبثاء , ويقول اهلك فقط كانوا كذلك) ,فكلنا كنا نعاني من ذات العبارات التي توجه لنا من الاهل ولاسيما في الطعام , فنأكل (نونه … نونه) أي بتأن وهدوء, ولا (تغرف) والكمية صغيرة , وحبة الزيتون تقسم على لقمتين , بشكل قطعي وغير قابل للجدل , وقطعة الجبن التي لا تتجاوز أبعادها 3X5 سم وجب استهلاكها مع رغيف من الخبز المشروح كحد ادنى …… ولا يجوز التعدد في أطباق الإفطار , فيقتصر على الجبن آو الزيتون آو الزيت والزعتر , خلا يوم الجمعة حيث طشت من الفتة بالزيت أو السمن أو الفول المدمس .

والغداء وجب استهلاك كمية من الخبز الى جانب الخضار والارز حتى تتم عملية الشيع بشكل نموذجي, وغالبا مايكون الغداء مقبولا في يومه الاول كأن يكون (كواج او طباخ روحو او منزله بأحمر) ولكن وفي ولكن في يومه الثاني, الكميات لم تكن لتكفي الجيش المنتظر فتلجأ سيدة البيت الى عملية (الدب) بفتح الدال , فتدب برغلا فوق ما تبقى لتظهر طبخة جديدة قوامها البرغل ………….والبرغل فقط مادة مسموح فيها (الغرف) … وعندما يتجاوز احدهم الجرعات المحددة فتوجه له الملاحظه (هادا مو برغل)… ولله الامر .
ان من تجاوز النصف قرن من ابناء دمشق يدرك ما سبق وعايشه واقتنع بمبرراته …. فالسلوك السابق ,تسميه اهل الشام …. اداره ……؟ وتحت هذا العنوان تمارس كل مظاهر البخل والحرص والتشدد , ومن اكبر التهم التي توجه للكنة الجديدة (ماعندها اداره) وهي تهمة تصل الى مصاف الجريمة الموصوفة …………
المهم في الموضوع هو البحث في الموروث الذي يسوق لمجمل هذا السلوك الذي تحمله كلمة الادارة , فبقايا الخبز اليابس تحفظ بأكياس الخام , لتؤكل فيما بعد مع الفتوش والفتات, والشوربه , والكشكه اليابسه والرشتايه ……ولب الكوسا المتبقي بعد الحفر يقلى بالزيت ويضاف له النعنع والثوم ليصبح وجبة مستقلة ولب ليقطين يسلق ليتحول مع اللبن والطحينة الى متبل رائع .
والزجاج المكسور , وبزر المشمش الكلابي المر الذي لايؤكل لانه مر والمتبقي بعد اعداد مربى المشمش الممروت , يحفظ بانتظار اليهودي الذي يتجول في احياء دمشق مناديا (يلي عندو بزر مر يلي عندو ازاز مكسر) ………….ليباع له .وبزر الزيتون يحتفظ به لمنقل الشتاء فناره ما شاء الله .
اما عن بقايا الشراشف والمناشف والالبسة البالية جدا والتي لاتصلح لاي استخدام , فترسل الى المندفة لتتحول الى كتكت وبدوره يتحول الى وسائد غير مريحة وطراريح .
اما عن بيجامات البازان , والالبسة الداخلية من الخام , فهي مصنوعات محليا فلكل سيدة , ماكينة الخياطة الخاصة بها , والمأساة تكمن في المطاط , وغالبا ما( يدكك ) ليضحي مشدودا اكثر من اللازم ليترك علامات , يعرفها من يذكرها .
واما شراء ملابس العيد , من محلات الحريقة والحميدية , فهي مأساة حقيقية فبعد ان تقيس الحذاء المناسب في قياسه ومريح, تبدأ المفاصلة بيع الوالد والبائع وفي النهاية تتم الصفقةولكن الحذاء اكبر بنمرتين ؟؟؟؟؟ لان الحذاء لعيدين .والالبسة كذلك الامر فالبنطال يزود بالشيال لان خصره يزيد بعشرة سنتمترات عن مقاس خصرك ؟ فيتحول الشكل و كما كان يوصف مثل (عسكر فسيكا) ؟؟؟؟
ونعود للموروث من امثالنا الشعبية التي تبرر وتسوق لحسن الادارة المنوه عنه , وتقرر الحقائق المناط الالتزام بها :
المال جمع مو نبع
القرش الابيض لليوم الاسود
القرش شء (شق) جلدك وخبيه تحتو
خود من التل بيختل
معك فرنك ..بتسوى فرنك
عافيتك …..ومصريتك
الدراهم كالمراهم …… ضعها على الجروح تشفي القروح

وقد اشتهر تجار الشام رغم غناهم بحرصهم تحت شعار الادارة , التي تضخمت حتى حتى اضحت بخلا مقوننا يحكمه سلوك صارم , فقد تثنى لي في اواخر الستينات عندما كنت طالبا في الجامعة العربية في بيروت ان تعرفت الى مجموعة من مستوردي المواد الغذائية من السمن والسكر والارز وخلافة لسوريا ولبنان وهم من الدمشقيين النموذجيين الذين حباهم الله بثروات طائلة وقدرة على الادارة اكبر وكنا نتشارك السكنى في بنسيون متواضع قرب الروشة في حين ان احدهم يملك اشهر بناء للشقق المفروشة في شارع الحمراء ولكن حرام ان يعطل شقة من شققه الفاخرة لاقامته وهي ممكن ان تؤجر بخمسين ليرة لبنانية في الليلة, بينما البنسيون بخمس ليرات مع الصحبة الرائعة , ويقرر بعدها حكمته الشهيرة (ياناس درهم مصاري ..بدو أنطار (قنطار) عئل (عقل) …وكأنها حقيقة مطلقة . وعنما يحين وقت الغداء , كنا كطلاب نلجا الى مطعم حمودة في اسفل البناء الذي يقدم وجبة لبنانية شهية وانيقة بمبلغ 175 قرش لبناني , وكنا نتعرض لسخريتهم كمبذرين …….؟ فهم يختارون واحد منهم ويرسلونه إلى البرج إلى محل معتوق فيشتريفروجا مشويا وزنه 1 كغم بثلاث ليرات ونصف وكيلوغرامين من الخبز الطازج من الفرن بنصف ليرة لبنانية وكيلوغرامين من البندورة اللبنانية الرائعة بأربعين قرشا وليمونتان ب15 قرش , ينتف الفروج وتزال منه العظام وتفرم فوقه البندورة ويعصر الليمون وتكون وجبة لثمانية أشخاص بتكلفة 65 قرش للشخص بعد إضافة أجرة المواصلات ؟؟؟؟ والقصة حقيقية ولازلت أحفظ أسمائهم , ولله في خلقه شؤون ؟………

ولاشك ان للبيئة اثر بالغ , وما مر بدمشق من نكبات مروعة عبر تاريخها طبعها بطابع خاص , افرز الشخصية الشامية بما لها وما عليها , وهذا ماكان صديقنا الراحل الاستاذ الدكتور فاخر (رحمه الله وطيب ثراه) يشرحه لنا عبر مثال تستخدم فيه مجموعتين من الفئران الاولى يترك لها تنول الطعام بحرية والثانية يقدم لها بالتقنين وبعد فترة تختلط المجموعتان ويترك لها الطعام بكميات كبيرة , فيلاحظ ان المجموعة الثانية تلجأ للتخزين …………… أليست هذه ادارة .

وكنت امتعض عندما يشنع بعض ابناء الدول العربية الاخرى على الشوام بقولهم (تتغدى عندنا وللا بالمطعم اطيب لك … تنام عنا وللا بالاوتيل اريحلك …) ؟؟؟؟ ولم تكن لدي القدرة على اقناعهم بمفاهيم الادارة …… فهل هذه الادارة نمت  وتطورت في معزل ان ارادتنا ؟؟؟؟؟؟

 

في السنين الاخيرة , وايامها الصعبه , وغيومها السوداء , وليلها الطويل , ونارها المستعرة ……… ادركت الحكمة من الادارة

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.