الناقد أحمد فلمبان

لا زلنا في أول المشوار ..!

يدور جدل في وسطنا التشكيلي عن “الريادة” ومفهومها ومعاييرها ومصطلحاتها والمستحقين لها، وتُقام الندوات والمحاضرات لمناقشتها واستطلاع الآراء والأفكار، في موضوع لا يفيد التشكيل السعودي بصفه عامة، بل يفيد الباحثون عن الوهم والتسميات والألقاب الباذخة، وانا اعتقد الفنان الأصيل الواثق من نفسه لا ينظر الى هذه الشكليات والشغف والركض من اجل الحصول على لقب الريادة، لأن فنه هو كيانه وشخصيته وإبداعاته هي العلامة الفارقة لتي تميزه عن الآخرين وهو الخالد والاعمق من الألقاب .

اعتقد ان الإجابة على هذه التساؤلات ستتفاوت وستصل في النهاية الى العبث ومنح اللقب هباءً ولمن هب ودب، بينما هناك العديد من المواضيع والمشاكل الأزلية يعاني منها الفن التشكيلي السعودي يتطلب طرحها ومناقشتها وتداول الآراء والأفكار وإيجاد الحلول لها، مثل (الدعم المادي وانشاء البنية التحتية والمتاحف وقاعدة بيانات وسجلات توثيق الأعمال وتشجيع البحث والتأليف وطباعة الكتب التشكيلية) وغير ذلك من المواضيع الهامة لتطوير هذا الفن وانتشاله من الترنح والركود والنمطية ومساعدته ليخطو نحو الحراك التشكيلي، لأن مفهوم الريادة بصفة عامة شائك ومعقد ولا تُفسر جُزافا، وهي مرتبطة بالعديد من العوامل الفنية والجمالية ويتعلق بالتأسيس لظاهرة جمالية جديدة ونهجا فريدا واكتشاف الطرق الجديدة والإنجاز له قيمته في مجال الفن لم يقدمه أو يسبقه احد، بمفهوم شامل واتجاهات فكرية ثرية ومضامين وأساليب جلية وخطوط فلسفية واضحة يُضيف للفن بصمة مميزة وأثرًا ونهجا، فهو بالنظر الى اسمه شخص يسبق الآخرين ويفتح لهم الآفاق مستطلعا ومكتشفا لكل ذلك، لأن في انظمة الأدب والفن يحتاج زمنًا طويلا وتجارب مُعمقة لتنضج وتتطور وتكتمل، وليس هناك حدود لولادة الرواد، وظهورهم ليست مرتبطة بعصر دون أخر، فالأسبقية الزمنية والعمر الكبير في السن المخضرم السابق زمنا، وكسب الجوائز ونيل التكريم والعضويات والمنح الفخرية، وزحمة المعارض والمشاركات، جميعها ليست معيارا للتفوق ولا يعني الأحسن والأفضل والأحقية في حمل اللقب .

وبالنظر الى الفن التشكيلي السعودي فأنه لازال رضيعا مقارنة بفنون الدول المتقدمة والعريقة ولهم مئات السنين وحراكا فنيا ومع ذلك لم نقرأ في كتبهم الفنية والتاريخية لقب “رائد” على أي من رموز الفن (دافنشي ومايكل انجلو وبيكاسو ودالي وماتيس وفان جوخ) وغيرهم الذين يستحقون هذ اللقب والجديرون به بعد أن تركوا للفن انجازات وابتكروا النظريات والاتجاهات الفنية الثقافية، ومع ذلك لم يهتموا بهذه اللقب، أما في ساحتنا التشكيلية هناك ركض وقلق وشغف في الحصول عليه وبالمقابل هناك الاستسهال في منحه في ظل غياب المعايير وسكوت المثقفين وسطوة نقاد الشنطة التشكيلية.

ولذلك لا يمكن تحديد الريادة في الفن التشكيلي السعودي لأسباب موضوعية كثيرة تتعلق بواقع تركيبه وتأسيسه، واذا فرضنا جدلا أن العام 76/1377هـ بداية لتاريخ هذا الفن عندما قررت وزارة المعارف رسميا إدراج مادة التربية الفنية في صلب الخطط الدراسية في مدارس البنين، والعام 1378ه عرض باكورة اعمال التلاميذ في مادة التربية الفنية ضمن المعرض المدرسي العام عـلى مستوى المملكة في الرياض، واستمرت عروض الأعمال التشكيلية ضمن الأنشطة المدرسية، الى الثمانينيات ومع افتتاح معهد التربية الفنية الذي كان منعطفاً تاريخياً في ممرات التشكيل السعودي، والتي كانت بمثابة تعريفا للمجتمع بماهية الفنون التشكيلية، كما كانت مصدراً لإبراز المواهب في مجال الفنون التشكيلية، وحينها اخذت المعارض التشكيلية الاستقلالية كنشاط فني ذاتي، حيث قامت عدد من المعارض التشكيلية ولكنها مشتتة وغير موثقة بالبراهين والأدلة والشواهد والصور، وأيضا السير الذاتية للفنانين مغمغمه متناقضة مبعثرة واعمالهم مجهولة ولم يتم التعرف عليها إلا من خلال إشارات بسيطة لبعضها وكانت مجهولة الهوية والتاريخ، ومن هذه المعارض ظهرت أسماء واسعفهم الوقت بالظهور في هذه الفترة، واذا حددنا هذا التاريخ كمعيار زمني لمسيرة الفن التشكيلي السعودي المعاصر، سيتم حجب عقود من تاريخ الامتداد التراثي الفني لهذه البلاد وتجاهل فنانيها والذين مارسوا الرسم والخط خلال السبعينيات الهجرية وما قبلها، أمثال (عبدالعلي وحسن السنان في الشرقية ومحمد راسم وسعيد صنع الله في جدة واديب العجمي في الرياض وداود رماني ومحمد طاهر الكردي ومحمد حلمي ومحي الدين كرنشي وهاشم النجدي وسعود العصيمي وعبدالله راشد وحسين فطاني وحمزه مداح وفخري علي رضا ومحمد الزرقاني وطه الدهان وعبدالرزاق خوجة في مكة) وغيرهم، وهناك أيضا نحاتون على الحجر والرخام والخشب ونقاشون على الجبس والخزف والخشب وتصنيع الزجاج والحديد وتصميم المطبوعات وحفر أسطوانات النحاس واللدائن وسبك الكليشيهات لمطابع الطوابع وسك النقود الحكومية، وكان الفن في ذلك الزمن مزدهرا ويعرفهم الناس كفنانين، ولكن لم يسعفهم الحظ في العرض والظهور الى العلن بسبب المحاذير وغياب الوعي الفني واستخفاف الناس بهذا الفن ورفض المجتمع لفكرة الفنون بصفة عامة، وكان ممارستهم للرسم من باب الهواية أو كمهنة وتلبية حاجة الناس النفعية والسكنية والتجميلية، وبعضهم يمتلكون محلات شبه جاليري لبيع الأعمال الفنية التي كانوا يرسمونها، وتوجد بعض اللوحات الفنية والخطية في منازل الوجهاء والأعيان وبعض القصور والقلاع القديمة وفي المكتبات ودكاكين التحف والسجاد، واعتقد أن هؤلاء يمثلون امتداداً تراثياَ للفنان السعودي المعاصر، لا يمكن تهميشهم أو تجاهلهم، وحتما يوجد الكثير امثالهم في بقية مدن المملكة، ولا يعرفهم الكتّاب والباحثون والمؤرخون الذين اسقطوهم من أجندتهم ولم يكتبوا عنهم في أي من الكتب التشكيلية السعودية .

ولذلك أن : لقب “الريادة” سابق لأوانه في الفن التشكيلي السعودي، ولا اجد احدا يستحق هذا اللقب بما فيهم المؤسسون والذين عرضوا في الثمانيات، وقد يكون من الجيل الثاني والطلائع فنانون يتسقون مع اللقب !! ومن هنا يحتاج الأمر الى البحث وتتبع احداث الماضي وتقصيها وتوثيقها ومتابعة مسيرة الحاضر وتدوينها، مثل الدول العريقة في الفنون التي وظفت امكاناتها وخبراتها وعكفت في البحث والتقصي في أعماق التاريخ عن فنونها قبل مئات السنين وحفظوها ونشروها بكل الوسائل والتقنيات ولا زالوا يبحثون ويقدمون للعالم آثار فنونها وابداعات فنانيها .

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.