رحلة ريم بنا.. من مقاهي المثقفين إلى وجدان الشباب

رحلة ريم بنا.. من مقاهي المثقفين إلى وجدان الشباب

إسلام السقا-محرر سينما

لم يصدم خبر رحيل الفنانة الفلسطينية ريم بنّا أيّ من مُتابعيها وهي التي تُحارب السرطان لسنوات أمام عيونهم سواء على القنوات الفضائيّة أو على حساباتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر تدويناتها التي تنشرها من حين لآخر، ولكنه رحيل لا يزال قادرًا على ترك وجع في قلوب أولئك الذين أحبّوا صوتها ومواقفها وهيئتها المختلفة، رحيل لم يدع مجالًا للشكّ أنها حاربت السرطان بالفعل وحاولت الإطاحة به عبر التمسك بالعيش العادي طيلة الوقت فقاتلته وجهًا لوجه، ولكنه رحيل لا يلغي حقيقة أن السرطان استقر في الكفّة الأثقل على ريم بنا وجمهورها.

منذ انطلاقتها في منتصف الثمانينيات وضعت ريم مشروعها الفني في خدمة القضية الفلسطينية وهو ما حمل صوتها ليمسي ضيفًا أساسيًا على مقاهي “المثقفين” في رام الله وعمّان وغيرها من المدن العربية ولكنه سرعان ما تجرّأ للخروج منها والوصول لغرف وجلسات العاديين أمثالها. لم يصطدم حضورها برأي نقدي ثقافي جاد بقدر ما ارتبط بالضرورة التي فرضتها فلسطين على أغانيها فانتهت بجعل ريم بنا في مكانة تُزاحم بثقلها الحنيني والشعبي آخرين كمحمود درويش وغسان كنفاني في الوعي الفلسطيني والعربي.

غنّت بنّا قصائد درويش كما غنّت توفيق زيّاد وسميح القاسم بطريقة اختلفت عن تلك التي غنى بها مارسيل خليفة أو بعض الفرق الغنائيّة الفلسطينية التي صعدت واندثرت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. جاءت ريم بنّا كي تنتصر من أجل اللغة والكلمات على حساب اللحن الذي تكرر وتشابه ولم يحمل ثوريّة تلائم اختيارها لعناوين ألبوماتها مثل “تجلّيات الوجد والثورة” ولكنها كانت ثورية بمنطق العصر الذي انتمت له، ما بعد بيروت وما قبل أوسلو. جاء التأكيد على “البديهي” من الكلمات على حساب “الثوري” من الألحان فاختارت بذكاء أن تحجز لنفسها حيزًا في مقاهي الآخرين عندما دمجت بين ما هو وطني وما هو شعري وما هو صوفي في ألبومها الأول، دون الاعتماد على جماليات اللحن.

    (جزء من جنازة الفنانة الفلسطينية ريم بنّا)

 

غنت ريم لغزّة من مسرح الجنينة في القاهرة وغنت لها من دمشق ومن بيروت وأوسلو ولكنها لم تغن لغزّة من غزّة وإن كانت أمنيتها الدخول لمرّة لا خروج بعدها كما ذكرت في واحدة من تدويناتها إبان عدوان عام  2012 على القطاع. كانت تتمنى ريم أن تطير مع الهواء الذي غنّت له ليسلّم على الأحباب “طير يا هوا سلّم على الاحباب/ أسرع يا هوا من الطير” وكان يتمنى الغزيون أن يروا وجهها مجددًا مرسومًا على شاطئها لا يمحوه الموج ولا تُغيّر ملامحه الشمس ولا تُغطي سُحب الخراب حدوده “تملا الهوا/ تملا الزمن/ حبّ ووطن يا عين”.(1)

لم تكن ريم بنّا مجرّد مغنيّة بل تمسكت حتى رمقها الأخير بصورة جعلت منها أيقونة لا على مستوى الصوت بل حتى في هيئتها. لبست ريم الزي الفلسطيني التقليدي في حفلاتها وغطت شعرها الأوشحة الملونة كعروس لم يُحزنها أنها اضطرت لحلقه بعد غزو السرطان لجسدها واستمرت بالترديد بكلّ أمل وإقبال “هلا لالا ليا وهلا لالا ليا عيني يالبنية يا نار قلبي اشعليه” وكأنها ترفض ما تُخبرها به المرآة، شعري لم يخذلني وكذلك سيفعل جسدي.

“سطرًا سطرًا أنثرك أمامي بكفاءة لم أوتها إلا في المطالع. وكما اوصيتني، أقف الآن باسمك كي أشكر مشيعيك إلى هذا السفر الأخير، وأدعوهم إلى اختصار الوداع والانصراف إلى عشاء احتفالي يليق بذكراك” – محمود درويش، في حضرة الغياب.

لم تدر ريم عندما غنّت “انتظريني” أن كلماتها ستنقلب في يوم من الأيّام للتحول إلى مرثيّة لروحها، تلك الأغنية التي تصف حال الغياب القاتل، الحبيب الذي رحل ولم يعد، الرفيق الذي ذهب ولم يُخبرنا، إنها صورة فلسطين في عيون ريم بنّا وصورة ريم في عيون مُحبيها. لم تكن هذه الأغنية قصيدة حبّ بل انتظار، ولم تكن أُغنية للعشاق بل المكلومين الصابرين.

تتجسد ريم بشخصيّة الفتاة التي يلفها شالها الملوّن ذو الأطراف المزركشة بخفّة لا تُسيء لبساطتها، تنتقل بجرارها وشعرها الأسود بين العين والنبع – تمامًا كما طلب منها حبيبها الوطن “انتظريني حبيبتي عند العين/ املأي جرارك وانتظريني/ النبع وافرٌ ماؤه/ املئي جرارك لترويني”. أدركت ريم معنى الوطن وشربت من عيونه وقطفت من شقائق نعمانه وصعدت تلاله وبقيت هناك، تنتظر البقية ليلحقوا بها. لربما رحلت ريم بنا ولكنها في نظر الكثيرين وصلت، وصلت لما أرادت الوصول إليه وتنتظر بقيتنا لنأتي وننثر الخُزامى فوق ثنايا ثوبها.

توفيت ريم بنا عن 51 عامًا رفعت فيهم شعار “المقاومة والأمل”، المقاومة بصوتها للاحتلال الإسرائيلي والمقاومة بروحها للسرطان، إلا أن إجماعًا على أغانيها وشخصيتها لم يكن متوفرًا بشكل قاطع في يوم من الأيام، حاول البعض التفريق بين شخصيتها وفنها فيما لم يتمكن آخرون من حقيقة وصفها لمن يموتون بالسرطان بأنهم “ضعفاء” كما لقت مُعارضين لها على موقفها “بالغ الإنسانية” من الثورة السوريّة.(2)

تمتعت ريم بنّا بقدرة عالية على الانتقال بسلاسة بين حالات غنائيّة مختلفة، غنّت “يا ليل ما أطولك” وغنّت “أمسى المسا” ولكنها غنّت أيضًا للطفولة فكانت “قمر أبو ليلة” وعلى حسابها على فايسبوك وفي أيامها الأخيرة كتبت  “طموحي صار أن أبقى على قيد الحياة، هذا ليوم واحد في الأسبوع. باقي الأيام أحيا وأفكر كيف سأظل أحرّك الحياة قُدُماً في حيّز أكبر من رئتيّ سأنهض يوماً من هذا الحلم العابر وأجري كغزالة نحو الشمس”، بهذا كانت ريم تُعبّر حالة أُخرى من حالاتها، الإقبال على ما هو جديد ومختلف وإن كان نحو الشمس.(3)

“سافر وخدني معاك بفطُر على دُقّة/ بصبر على الجوع ما بصبر على الفُرقة” بهذه الكلمات من أمسى المسا كانت ريم تصدح بعنفوانها وبصدق عشقها وتصالحها مع ضريبته “خبّيتو بعيوني/ عفراق أهلي يا يمّا/ بالله لا تلوموني” لتُسافر ريم وحدها هذه المرّة وليُمسى المسا من بعدها على الغُرباء الذين لم يجمع بينهم سوى صوتها في الليل الطويل، وزيارة أخيرة لم تُتمّها لغزّة التي ودعتها فقالت “والآن.. سأظل أقاتل من أجل حلمي إلى أن أرى امتداد بحر لا ينتهي عند مَد النظر وبيوت الصفيح في المخيمات والشوارع الضيقة وما تبقى من الحارات، ولأغني مع أحبتي هناك أغانيَ تُرهب الأعداء وتكسرهم ذبذبات الصوت الصاعد من قاع الروح”(4)

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.