نتيجة بحث الصور عن بدر الحاج في كتابه "بيروت/ضوء على ورق
نتيجة بحث الصور عن بدر الحاج في كتابه "بيروت/ضوء على ورق

بيروت ضوء على ورق

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، استقر في بيروت عدد كبير من المصوّرين الأجانب، وافتتحوا فيها استديوات خاصة أغرقت الأسواق الغربية بإنتاجها. هكذا احتلت بيروت المركز الأول في ميدان انتاج الصور الفوتوغرافية في المشرق العربي، وفاقت إصداراتها من حيث الكمية إنتاج أي مدينة أخرى في هذه البلاد. في مجلّد صدر عن دار “كتب” تحت عنوان “بيروت ضوء على ورق 1850-1915″، يحلل بدر الحاج هذه الظاهرة اللافتة، ويربط بينها وبين الرؤية الاستشراقية التي سادت في تلك الحقبة من تاريخنا القريب.

في “صورة الأرض”، يذكر الجغرافي محمد بن حوقل بيروت في حديثه عن “سواحل جند دمشق”، إلى جانب طرابلس وجبيل وصيدا وحصن الصرفند وعدلون. في هذا التعريف الذي يعود إلى القرن التاسع، تبدو بيروت ساحل دمشق، “وبها يرابط أهل دمشق وسائر جندها”، “وببيروت هذه كان مقام الأوزاعي، وبها من النخيل وقصب السكّر والغلّات المتوافرة، وتجارات البحر عليها دارة واردة وصادرة، وهي مع حصنها حصينة، منيعة السور، جيّدة الأهل، مع منعة فيهم من عدوّهم وصلاح في عامة أمورهم”. تتبدّل الصورة بعد قرنين من الزمن مع انطلاق الحملات الصليبية، ودخول الفرنجة الشام، وسيطرتهم على أنطاكيا والرها، وبعده ساحل بلاد الشام. أنشأ الفرنجة تباعاً كونتية الرها وإمارة الرها ومملكة أورشليم وكونتية طرابلس. كانت مملكة أورشليم أكبر دول الفرنجة في الشرق، وقاعدة عملياتهم العسكرية، وكانت بيروت جزءاً منها إلى أن حاصرها صلاح الدين الأيوبي ودخلها صلحاً، ونصب فيها المنجق السلطاني، “وكان بها جماعة من المسلمين مستوطنين مساكين بمساكنة الفرنج، فانجلت عنهم الكمدة ورأوا الفرج بعد الشدّة”، كما روى صالح بن يحيى التنوخي، مؤرخ بيروت في القرن الخامس عشر.
استعاد الفرنجة المدينة بعد رحيل صلاح الدين واندلاع الصراع على الحكم بين ورثته، وبقيت في عهدتهم حتى دخول المماليك. في زمن الفترة الثانية من حكم الفرنجة، كتب يعقوب الحموي في “معجم البلدان”: “بيروت مدينة مشهورة على ساحل بحر الشام تُعدّ من أعمال دمشق، بينها وبين صَيدا ثلاثة فراسخ”، “ولم تزل بيروت في أيدي المسلمين على أحسن حال حتى نزل عليها بغدوين الإفرنجي الذي ملك القدسَ في جمعه وحاصرها حتى فتحها عنوة في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شوال سنة 503، وهي في أيديهم إلى هذه الغاية، وكان صلاح الدين قد استنقذها منهم في سنة 583”. أتمّ المماليك عمل الناصر الأيوبي، وقضوا على الفرنجة، وبسطوا سلطتهم على بلاد الشام بشكل كامل. في ذلك العهد، سار ابن بطوطة إلى بيروت، ورأى أنها مدينة “صغيرة، حسنة الأسواق، وجامعها بديع الحسن، ويُجلَب منها إلى ديار مصر الفواكه”. كانت بيروت أشبه ببلدة عادية يقدّر سكانها ببضعة آلاف، ولم تنم وتتحوّل إلى مدينة لها ثقلها إلا في القرن التاسع عشر كما يُجمع اليوم أهل الإختصاص. شهدت المدينة تطوراً كبيراً بين 1832 و1841، وهي السنوات التي بقيت فيها بلاد الشام في حوزة إبرهيم باشا المصري، ابن محمد علي باشا، باني مصر الحديثة. شمل هذا التطور سائر المرافق العمرانية والإدارية، وكان من نتيجته نموّ عدد السكان الذي بلغ خمسة عشر ألف نسمة. استمر هذا التطور بعدما تمكنت الدولة العثمانية من استعادة سلطتها على بلاد الشام، وعظم شأن بيروت إثر انتقال تجارة الإفرنج إليها، وازداد عدد سكانها حين لجأ الكثير من المسيحيين إليها هرباً من المذابح التي تعرضوا لها في جبل لبنان ودمشق خلال حوادث 1860. اتسعت حدود المدينة بسرعة كبيرة، وعمرت خلال بضعة عقود من الزمن، وباتت في مطلع القرن العشرين مدينة “حديثة” لها ثقلها التجاري والاقتصادي في المنطقة.

التحول الكبير
كيف حصل هذا التطوّر، وكيف تحقّق بهذه السرعة؟ تحت عنوان “بيروت ضوء على ورق 1850-1915″، يستعيد بدر الحاج تلك الحقبة التاريخية الاستثنائية في كتاب يجمع بين الصور الفوتوغرافية التاريخية والقراءة التحليلية الاجتماعية لهذه الوثائق. استقطبت بيروت عدداً كبيراً من المصورين الفوتوغرافيين، وأدى هذا الاستقطاب إلى ازدهار هذه الصنعة فيها بحيث فاق الإنتاج البيروتي من حيث الكمية إنتاج أي مدينة أخرى في المشرق العربي. يتوقّف بدر الحاج أمام هذه الظاهرة معلّقاً: “لم يكن تحول بيروت إلى مركز إنتاج فوتوغرافي رئيسي نتيجة لموقعها الجغرافي الذي يتوسط الساحل السوري فحسب، وليس لكون مرفئها الأفضل من حيث إمكان استقبال السفن المبحرة من أوروبا فقط، بل أيضاً لعوامل اقتصادية ربطت المدينة بالداخل السوري من جهة وبالاقتصاد الأوروبي من جهة أخرى”. بحسب المؤرخ أسد رستم، “كانت بيروت في سنة 1831 عندما افتتحها ابرهيم باشا المصري مربّعاً مستطيل الشكل، طولها من مرفئها القديم من زاوية الراعي شمالاً إلى باب الدركة جنوباً 750 متراً وعرضها من باب السرايا شرقاً إلى باب إدريس غرباً 350 متراً. وكان يحيطها من جهاتها الأربع سور حقير متداعٍ بناه أحمد باشا الجزار في أواخر القرن الثامن عشر يوم طمح الى الاستقلال والخروج على مولاه الأمير يوسف الشهابي المشهور. وكان هذا السور يمتد من طرف قلعة البحر في شارع المارسيلياز إلى باب الدباغة على خط مستقيم تقريبا”. بدأ توسع المدينة وعصرنتها خلال سنوات الحكم المصري. خلال تلك الفترة، ونتيجة للتحالف بينها وبين حكومة محمد علي باشا، سارعت فرنسا إلى تثبيت استثماراتها وعلاقاتها مع سوريا، وجعلت من بيروت مركزاً رئيسياً لتجارتها في المتوسط. تواصل نموّ المدينة بعد خروج المصريين، وأثمر ازدهاراً كبيراً في أكثر من ميدان. في خطبة ألقاها في شباط 1859، قال بطرس البستاني: “منذ ثلاثين سنة كنت أخجل عندما أجول في أسواق بيروت حتى لا أقول في كامل البلاد التي كانت في الأزمان السالفة مرضعة للآداب وسريراً للتمدن، وأفتش باجتهاد على من يقدر أن يقرأ مكتوباً أو كما يقال يفكّ الإسم. لكن ذلك الوضع ما لبث أن تبدل جذرياً بحيث نرى العلوم والفنون الإفرنجية قادمة إلينا من كل فج غميق”.
بسرعة مثيرة للدهشة، أصبحت بيروت المدينة الأكثر بحبوحة في المشرق، وباتت محطة يتوقف فيها ألوف السياح والحجاج الأجانب المتوافدين لزيارة “الأراضي المقدسة”. في العام 1888، عمدت السلطة العثمانية إلى اتباع تقسيم جديد لبلاد الشام، ففصلت بيروت عن ولاية سوريا وجعلت منها عاصمة للولاية حملت اسمها، ضمّت ألوية عكا والبلقاء وطرابلس الشام واللاذقيّة، وأُسند الحكم فيها إلى علي باشا. عاشت بيروت في تلك الحقبة العثمانية عصراً ذهبياً على رغم التقلبات السياسية التي عصفت بها، وعرفت حركة عمران واسعة أدّت إلى رسم أهمّ أقسامها. في تلك الفترة، تمّ مد السكة الحديد بين بيروت ودمشق وتطوير مرفأ العاصمة اللبنانية ليكون المرفأ الرئيسي على شرق البحر الأبيض المتوسط. انعكست هذه السياسة الاقتصادية على الأوضاع الاجتماعية والثقافية، وكان لها أبلغ الأثر في توسع المدينة وامتدادها. مع نموّ حركة توافد الزوار والحجاج الأوروبيين، ازدهرت صناعة التصوير الشمسي في بيروت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كانت بيروت مجرد مرفأ بالنسبة إلى غالبية المصوّرين، لذا فاقت صور بعلبك والقدس ودمشق أضعافاً مضاعفة الصور الملتقطة في بيروت. تطورت تقنية التصوير الشمسي بسرعة، وانتقلت من “الداغيروتيب” إلى “الكالوتيب” وصولاً إلى آلة تصوير كوداك التي عمّمت هذه التقنية ونشرتها بعدما كانت حكرا على فئة العاملين بها. استقر العديد من المصوّرين الأوروبيين في بيروت، وافتتحوا الاستديوات الخاصة بهم فيها لأسباب تسويقية بحتة، “وبطبيعة الحال انتقلت المهنة من المصوّرين الأجانب إلى المصوّرين المحليين وذلك منذ منتصف الستينات من القرن التاسع عشر كما يذكر أول مصور لويس صابونجي الذي قام بتعليم سقسقه جورج سر المهنة”.
تعكس صور بيروت في تلك الحقبة توجهات هؤلاء المصورين، وتظهر بشكل واضح الغرض التي التقطت من أجله هذه الصور. سعى المصورون في الدرجة الأولى إلى توثيق المجد الروماني، كما سعوا إلى توثيق الحقبة الصليبية بقلاعها وأطلالها العديدة. في المقابل، شكّلت الذاكرة التوراتية دافعاً آخر لانتقاء الأمكنة واستعادة كل ما يذكّر بالماضي السحيق. يلاحظ بدر الحاج، أن الأراضي المقدسة “احتلت حيزاً رئيسياً في توجهات العسكريين والسياسيين ورجال الدين في القرن التاسع عشر وما قبله. وكان المطلوب من علماء الآثار والمصوّرين والعسكريين الذين نشطوا في بعثات استكشافية طيلة القرن التاسع عشر أن تنقل صورهم ورسومهم المعابد القديمة والقلاع والحصون وتجاهل كل شيء آخر”. اختصر المصوّر أدريان بونفيس هذه الرؤية الضيقة حين أصدر ألبوماً “إنجيلياً” تناول فيه أراضي “العهد الجديد”، وروّج له بعبارة تقول: “عشرون قرناً مرت من دون أي تغيير في شكل هذه الأرض الفريدة وديكورها، لذلك علينا التمتع بسرعة بهذه المناظر”. هكذا انقسم الانتاج الفوتوغرافي في تلك المرحلة قسمين: الأول طوبوغرافي، والثاني اثني. وسط هذا الكمّ الكبير من الصور، تحضر بيروت الحية في لقطات محدودة لا تحتل سوى هامش ضيق من هذا النتاج الفوتوغرافي الواسع. تتجلى النزعة الاستشراقية في اختيار نماذج محددة من البشر يظهرون في ثياب محلية تستهوي العين الغربية، كما تتجلى في مجموعة صور موضوعها العري الأنثوي قام منتجوها بتسويقها كأنها من “منتجات” بيروت، كما تظهر الكتابة المرافقة لها. في هذه الصور، يغلب أحياناً طابع التحوير والتزوير، كما في اللقطات التي تجمع بين الجنس المستتر وآلام القدّيسين في قالب انتشر في العالم الكاثوليكي في تلك الفترة المتقلبة من الزمن.
في صور المحترفين، تظهر بيروت في أغلب الأحيان خالية من سكانها الأحياء. ترتفع معالم المدينة في طور بنائها الحديث، ولا يحضر من أهلها سوى بضعة أطياف. في الصور البانورامية، تبدو المدينة كأنها تلك التي وصفها الإدريسي في “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” في القرن الثاني عشر: “مدينة على ضفة البحر الملح، على سور حجارة كبيرة واسعة، ولها بمقربة منها جبل فيه معدن حديد طيب جيد القطع، ويستخرج منه الكثير ويُحمل إلى بلاد الشام، ولها غيضة أشجار صنوبر مما يلي جنوبها. تتصل إلى جبل لبنان، وشرب أهلها من الآبار”. في المقابل، تتغير الحالة في اللقطات التي تعود إلى المصوّرين الهواة، في المرحلة التي “أنهت فيها آلة الكوداك حصرية الانتاج التي تمتع بها المصوّرون المحترفون الذين أتخموا الأسواق بإنتاجهم”. يظهر بعض نبض المدينة ونسيجها في نماذج محدودة تحتل القسم الأخير من هذا الكتاب، ومنها صورة تمثل بائع خبز في بيروت في مطلع القرن العشرين، وأخرى تمثل حمّالين على رصيف مرفأ المدينة في نحو العام 1904.

ما وراء الصور
في ختام بحثه، يقول بدر الحاج: “في المحصلة، يلاحظ أن معظم الدراسات التي تناولت إنتاج مصوّري النصف الثاني من القرن التاسع عشر في بلادنا تحدثت في مجملها عن الناحية الجمالية لتلك الصور من دون تحليل لمحتواها. فالمصوّر بالنسبة لهم فنان بغض النظر عن نوعية صدقية انتاجه ومداها. إن مجمل الإنتاج الفوتوغرافي الذي وصلنا من مصوّري القرن التاسع عشر يؤكد حقيقة أنه إنتاج موجّه للسوق الأوروبية التي تفرض على المصوّر إنتاج الصور التي يريد الشاري الحصول عليها. على هذا الأساس يمكننا طرح السؤال عن مدى صدقية هذا الإنتاج في تمثيله للواقع بعيداً من المبالغة والإثارة، وأحيانا التزوير. لذلك لا يمكننا فصل ذلك الإنتاج عن مجمل حركة الإستشراق الأوروبية، كما أنه لا يمكن إسباغ مواصفات على هذه الصور لم يكن المصوّر نفسه يطمح إليها. وبعيداً من مشاعر الحنين إلى الماضي، يجب فهم الهدف الذي بسببه ظهر ذلك الإنتاج. لذلك فإن أي تقييم يجب أن يستند إلى ذلك الهدف الذي أوضحناه في سياق هذا البحث، وعلى ضوء ذلك يصبح من السهل تحليل بنية ذلك الإنتاج ومضمونه بعيداً من المبالغات والافتراضات الخاطئة، كما تتضح لنا بدورها حقيقة تلك الصور”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نتيجة بحث الصور عن بدر الحاج في كتابه "بيروت/ضوء على ورق

بيروت يوم كانت “قفرة نفرة”

محمد حجيري

الثلاثاء 04/08/2015
 يلاحظ الكاتب بدر الحاج في كتابه “بيروت/ضوء على ورق 1850 – 1915″(دار كتب) أن العاصمة اللبنانية احتلت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، المركز الأول في إنتاج الصور الشمسية في المناطق الشرق أوسطية التي أقام فيها المصورون الأجانب، وافتتحوا استديوهات خاصة بهم واغرقوا الأسواق الغربية بانتاجهم.

يحلل كتاب بدر الحاج خلفيات هذه الظاهرة ويقدم رؤية لواقع الإنتاج الفوتوغرافي في تلك الفترة مفنّداً محتواه، وبنيته، كما يلقي الضوء على ارتباط ذلك الإنتاج بـ”الرؤية الاستشراقية” لبلادنا، وعلى هذا الأساس قسم المؤلف الكتاب الى ثلاثة أقسام. القسم الأول عبارة عن معلومات عن مدينة بيروت منذ مطلع القرن التاسع عشر وحتى بدء الحرب العالمية الأولى، حيث بدأت المدينة بالتحول من قرية صغيرة الى مدينة ضخمة لها مرفأها ومركزها التعليمي والاقتصادي. والقسم الثاني عن مضمون الصور المنتجة كما ذكرنا، وضم القسم الثالث مجموعة مختارة من الصورة التقط معظمها المصورون الأجانب سواء اكانوا هواة او محترفين… يمكن القول أن اجمل ما في الكتاب هو حكاية الصور التي تتشعب حكايات، بداء من صور الأماكن المقدسة مروراً بصور النساء وصولاً الى حكايات المصورين الأجانب والمصورين المحليين، حتى أولئك الأشخاص الذين التقطت لهم صور في تلك المرحلة صار لهم حكايتهم…

يكتب بدر الحاج عن مسار الصورة البيروتية(1850 – 1915) أو الصورة التي صنعت في بيروت، اذ التقط الفرنسي فريدريك غوبيل فيسكه(1817 – 1878) أول صورة في بيروت لمئذنة جامع السراي التي تتوسط مشهدا عاماً للمدينة وذلك في 30 كانون الثاني 1840. كانت تلك الصورة بمثابة البداية لمرحلة التوثيق المرئي لبيروت بواسطة الفوتوغرافيا. ومع مرور ما يقارب المئة وعشرين عاماً على التقاط صورة فيسكه، لا تزال تظهر بين الحين والآخر صورة مجهولة أو غير معروفة لمدينة بيروت التقطت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. صور فيها الكثير من الرمزية عن مدينة انقلبت رأسا على عقب، بين الجرف والتدمير والحروب، أصبحت مدينة الذاكرات المتراكمة، أو طبقات من الذاكرة يضيع المرء في تفكيكها وتفنيدها، من عام 1840 بدأت بيروت بالتحول الى مركز تجاري ومالي، كما أصبحت مرفأ دمشق ومنطقة مفتوحة أمام الاقتصاد الأوروبي. موقع المدينة الجغرافي، لكونها أفضل مرفأ في لبنان أو ما يسميه الكاتب “الساحل السوري”، جعلها في المرتبة الأولى من حيث انتاج الصورة الشمسية ومركزا دائما لأبرز المصورين الفوتوغرافيين العاملين في المشرق… وبذلك تفوقت على مدينة القدس رغم كون هذه الأخيرة ذات أهمية تاريخية ودينية تفوق بكثير مدينة بيروت.

يبيّن بدر الحاج أن بعض المصورين الأجانب سجلوا بواسطة عدساتهم مناظر لبيروت. بعضهم دخل المدينة في طريقة الى فلسطين ودمشق، وبعضهم الآخر اقام فيها وأسس استديو خاصاً به. وكان أولهم المصور الفرنسي من أصل هولندي ثيودور لوف، الذي أسس استديو في أواخر الاربعينات. وقد قتل في عكا في 8 كانون الثاني 1856. لكن ابنه هونوري واصل نشاطاته التصويرية في بيروت قبل أن يستقر في دمشق… وهناك مصورون أوروبيون آخرون من جنسيات مختلفة أقاموا في بيروت أمثال بياترو سانينوـ تانكراد دوما، فيليكس، ليدي واريان بونفيس، جان بابتيست شارليه، إدوارد أوبان، هنري رومبو، فرانسيسكو كورايللي وغيرهم.

ولم تكن بيروت ذات أهمية تاريخية أو دينية بالنسبة إلى المصورين الأوروبيين، بل كانت مجرد محطة عبور للسياح والحجاج المصورين القادمين من أوروبا الى الأراضي المقدسة. فالصور التي التقطت في هياكل بعلبك، على سبيل المثال، لا يمكن مقارنتها من حيث الكمية بالصور التي التقطت في بيروت.

ومع مطلع الستينات من القرن التاسع عشر، وبدء إقامة استديوهات للمصورين المحترفين الأجانب في بيروت، انتشرت بطاقات الزيارة وتم انتاج كميات كبيرة منها تمثل الوجهاء وكبار التجار والمصورين والمثقفين والاختصاصيين من أطباء وصيادلة ومدرسين. توزع المصورون منذ القرن الثاني في القرن التاسع عشر وحتى بداية الانتداب في مناطق عدة. وفي خلال الفترة ما بين 1860 وحتى مطلع العشرينات من القرن التاسع عشر تنافس المصورون الأجانب المقيمون في بيروت على استغلال السوق الأجنبية. وكان فيلكيس بونفيس رائدا في هذا المجال بحيث تفوق بأشواط على زملائه في توزع الصور على مدن العالم، ولم يكتف في انتاج ألبومات مجلدة تجليدا انيقا وتسويقها، بل انخرط منذ العام 1878 في مشروع اصدار سلسلة من الألبومات المصورة حملت عنوان “ذكريات من الشرق”، تشمل صورا لكل من مصر والنوبة والأراضي المقدسة وسورية واليونان وإسطنبول. كما واصل ابنه ادريان اعتماد أسلوب والده… وهناك قاسم مشترك بين معظم المصورين وهو أن التصوير الشمسي كان بالنسبة الى معظمهم مجرد حرفة تجارية، لكنهم في الوقت نفسه مارسوا مهنة أخرى بهدف زيادة دخلهم.

ويبدو بوضوح أن شعبية صور بطاقات الستيريوغراف في أسواق الاستهلاك الغربية فرضت على فيليكس بونفيس وغيره انتاج كميات ضخمة من تلك البطاقات التي كانت تشبع مخيلة المشاهد في الغرب حيث كانت اليقظة الدينية في أوجّها. تلك البطاقات كانت تنقل الأراضي المقدسة الى منزل المشاهد الغربي حيث يرى بأم عينه المناطق التي عاش فيها المسيح وسار عليها الرسل… ويلاحظ المؤلف أن القسم الأكبر من صور المصورين يعكس نظرة غربية محدودة الى المشرق تراوح بين توثيق المجد الروماني(بعلبك_ تدمر) او الصليبي(قلعتي الشقيف وطرابلس)، وصور مدينة دمشق كونها مركز انطلاق المسيحية الأولى وبولس الرسول، او صور السكان في ألبستهم التقليدية “المزركشة والغريبة”. وإذ عدنا تحديدا الى الصور التي التقطت لبيروت نلاحظ أن المشاهد مشابهة الى حد بعيد بين أكثر المصورين، لا بل تتكرر لدرجة أنه تتعذر معرفة من التقط الصورة في حال عدم وجود توقيع عليها… المثال على ذلك واضح في لقطات كل من بونفيس ودوما وشارليه.. وصور بيروت الملتقطة في الجامعة الأميركية على سبيل المثال، وكذلك صور المرفأ والقلعة البحرية ومشاهد أخرى تم التقاطها من زوايا واحدة، تظهر المدينة عالما ساكنا لا حياة فيه أو ريف ناء يعج بالرومنسية وكما يقال بالعامية كانت “قفرا نفرا” أي مقفرة بلا حياة ولا نفر، وثمة من يقول إنها كانت حرشاً لا يتجول فيها سوى الواوي، وحدها ساحة البرج كانت تتسم بالحركة المتواضعة.

كان يمكن قراءة واقع بيروت السوسيولوجي من خلال الصورة المنشورة في الكتاب، قراءة تعكس التحولات التي طرأت على المجتمعات من زمن الطربوش والشروال الى وحتى المنازل والأسواق، ففي احدى الصور نشاهد نهر بيروت يوم كان نهراً، ونشاهد العمارات التي كانت حضارية اكثر من اليوم… ثمة جانب في الكتاب وهو صور النساء في وضعيات استشراقية، وهو موضوع مريب ومثير للانتباه نعود إليه لاحقاً.

على الهامش، بيروت في زمن الواوية، مشهد رومنسي صارخ، تزداد قوته في زمن القمامة…

نتيجة بحث الصور عن بدر الحاج في كتابه "بيروت/ضوء على ورق

نتيجة بحث الصور عن بدر الحاج في كتابه "بيروت/ضوء على ورق
 
 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.