الموسيقى في السينما

الاسم الشائع: الموسيقى التصويرية، وهي في الحقيقة موسيقى درامية رافقت الفعل الدرامي (المسرح) قبل ظهور الصورة، ثم أصبحت في السينما أحد أهم أركان الفيلم. كانت وظيفتها الوحيدة في الفنون، وظيفة درامية خالصة؛ أي فن موسيقي لإنتاج المشاعر المطلوبة من المشهد الدرامي. وما تزال تقوم بهذه الوظيفة العظيمة، كوظيفة أولى في فن الأداء الدرامي، ومصنع إنتاج المشاعر.

إن إنتاج المشاعر هو الوظيفة الأولى للدراما، وقد رافقت السينما قبل إمكانية اختراع الصوت السينمائي، كصوت الحوار أو صوت المؤثرات المرافقة الواجبة، (كالخطوات وتسكير الباب وغيرها من مفردات الصورة التي تستوجب صوتًا لها مطابقًا تمامًا للصوت الحقيقي (في المفردة الصوَرية..). وقد كانت الموسيقى مرافقة للصورة بطريقة حية، حيث يجلس مؤديها قرب الشاشة، في حفرة مشابهة لحفرة الموسيقيين والجوقة في المسرح.

في سلسلة التطور التكنولوجي لصناعة السينما تأكدت الموسيقى كواحدة من الفنون الستة التي تشكّل الفن السينمائي، ليصبح مركبًا ضروريًا للمشهد. وهي خطوة أولى لتصبح شاشة ناطقة صوتيًا، وناطقة بالمعنى؛ من خلال وظيفة الصورة وما احتوت، ومن خلال الرؤيوية الفنية للصورة السينمائية.

إذًا، الموسيقى ليست فعلًا طارئًا على السينما، ولم تكن فعلًا غريبًا عن الدراما بشكل عام، فهي -وفي كثير من الأحيان- عامل مؤثر وصانع للدراما. في غيابها الصوتي، يصبح المشهد ناقصًا، ويفقد واحدة من المؤثرات الأساسية لصناعة وإنتاج المشاعر، وما دامت وظيفتها هي مواكبة وخلق إنتاج المشاعر المبتغاة، إذًا هي موسيقى درامية وليست تصويرية، كما تسمّى بالعادة. والدليل على ذلك أنها ترافق التمثيليات والدراما الإذاعية، التي تخلو من الصورة.

إنها وظيفة أساسية لإنتاج المشاعر، لكنها ليست وحيدة لوظيفة الموسيقى الدرامية. فثمة وظائف عدة تقدّمها في الفيلم السينمائي، فهي تعطي بيئة المشهد السينمائي، وقد تكون لازمة للحدث الرئيس في الفيلم، وقد تعطي نقلات المونتاج حسّها الإيقاعي المطلوب وتساعد عين المتلقي، في استقبال التقطيع السينمائي بسلاسة، وتخلق الترابط الصوري الذهني….

كثير من المخرجين يتطلب عملهم، وضع ثيمات موسيقية، لكل شخصية في الفيلم، لتصبح الموسيقى هي القائد والمعبر عن الشخصية الدرامية بشكل جواني داخلي، لذلك تشكل الموسيقى الدرامية مع عوامل أخرى الطباع السيكولوجية للشخصية وللمشهد والفيلم بشكل عام.

صانع الموسيقى الدرامية هو جزء من صنّاع الفعل الدرامي، وعليه –أولًا- قراءة السيناريو بشكل مسبق ووضع رؤيته الموسيقية، بما يتناسب مع الدراما، وليس الصورة، إن خطوته الثانية بعد مشاهدة الفيلم بشكل أولي، وفي المونتاج الابتدائي، وضع تصوره الإيقاعي، وفي المونتاج النهائي يكتمل لديه التكوين الموسيقي المتصل حينًا والمنفصل حينًا آخر، في وحدة درامية تعبيرية، وتصبح الموسيقى مكونًا أساسًا من مفردات الفيلم.

عمليًا، يكون في ذهن المخرج أثناء التصوير موسيقتان: موسيقى الصورة والأداء بذاتهما، وموسيقى داخلية لا تنتمي إلى الموسيقى، بالمعنى الكلاسيكي، بل موسيقى غير معزوفة، موسيقى حسية، يكوّنها الإيقاع الدرامي للفيلم، وتتشكل من صورة وأداء معًا ليخلق التناغم بين الصورة والأداء، ممتزجة مع المكونات الأخرى كالطبيعة أو الديكورات. ثم يأتي الموسيقي ليكمل ويؤكد هذه المفردات بتناغم مشروط من طبيعة الموسيقى الحسية في المركب السينمائي.

تقوم الموسيقى بدور آخر غير دور الموسيقي المعهود، وهو دور صوتي إيقاعي للحدث كمؤثر صوتي خالص، لكن ضمن الأدوات الموسيقية (كالضربات الموسيقية التي تعطي الحدث مقدمة قبل وجوده أو تعطي أثره بعد حدوثه، هنا يكون الموسيقي منتميًا إلى تقاطعين، تقاطع موسيقاه الصورية، مع تقاطع الشكل والحدث الدرامي السينمائي، هنا يخضع لمفهوم تناغمي، لا يشوش على الصورة، ولا يشوش على الموسيقى الدرامية المنسابة خلسة أو علنًا.

كثيرًا ما يقع الموسيقي بتاريخية الدراما، كأن يلجأ إلى آلات وموسيقى تراثية، كي يؤكد تاريخية المشهد أو الفيلم، لكن الحقيقة الفلمية والفنية، تتطلب موسيقى تتبع الدراما بذاتها كالحب والغيرة والخوف.. إلخ.

الموسيقى التصويرية يجب أن يكون حضورها محسوسًا به بشكل منفرد، بينما يتم الشعور بفقدانها وبنقصان واضح، عند غيابها.. إن التناغم السحري مع الصورة، يشبه ضرورة الماء لإبحار السفينة، والحذر من هذا الماء عندما تُثقب السفينة، حيث يصبح الماء سببًا لمقتل ركابها، أي مقتل المركب السينمائي.

إن عملية المكساج (المزج) هي واحدة من الحرفيات الفنية الدقيقة، حيث يتم وضع الموسيقى الدرامية في سياق الفيلم. وعلى المخرج السينمائي أن يكون أولًا مثقفًا موسيقيًا، ولديه الأذن الفنية والخبيرة بالموسيقى، وعلى دراية بالجملة الموسيقية، بل المقطوعة، وأن يكون حذرًا أثناء المكساج، وعليه أن يحترم الجهد الإبداعي للشريك الموسيقي، تمامًا كالديكورات السينمائية، فمن غير المعقول أن يتم تصميمها وبناؤها ولا نراها في المشهدية السينمائية.

مع المخرجين العباقرة، وبرفقة موسيقيين مبدعين، تستطيع أن تستمتع وترى تكوينًا موسيقيًا؛ إذا سمعت الموسيقى الدرامية من دون الفيلم، لقد كتب شارلي شابلن سيمفونيات لأفلامه، بحيث من المستحيل مشاهدة الفيلم بلا موسيقى، ومن الممكن أن تسمع وتسعد فنيًا في حال سماع الموسيقى خارج الفيلم، هذا لا يعني أن الموسيقى شيء منفرد عن الفيلم، وإنما حرفية فنية مبدعة للموسيقى المؤلفة للسياق الإبداعي للفيلم، حيث تحمل وحدةً فنية متكاملة.

الشيء المزعج أن معظم معاهد الموسيقية في العالم العربي، لا يوجد فيها مساق تعليمي للموسيقى الدرامية، فذلك ضرورة فنية وأكاديمية لتعلم الموسيقى ووظائفها في الفنون الأخرى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

** حول فيصل الزعبي

فيصل الزعبي
مخرج أردني، ماجستير في السينما والتلفزيون من معهد السينما الدولي في موسكو، مستشار دراما في التلفزيون الأردني وعدد من شركات الإنتاج العربية، رئيس للجنان تحكيم في مهرجانات سينمائية، مدير أكاديمية “جو آرت” للفنون والإعلام في عمان.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.