تجارة هتك الستر.. لماذا يبيع الفنانون فضائحهم للإعلام؟

تجارة هتك الستر.. لماذا يبيع الفنانون فضائحهم للإعلام؟

آية طنطاوي

تحل الفنانة “راء” ضيفة في برنامج حواري شهير، كأنها في جلسة استجواب، فتسألها المذيعة التي تشبه في نبرتها ضابط التحقيقات: لماذا انفصلتِ عن زوجك؟ وهل لديكِ ما يثبت وقوع الطلاق؟ بينما تتمدد الفنانة “سين” على “شيزلونج” (كرسي طويل مرتبط بالعلاج النفسي) في برنامج آخر والمذيع بجوارها ينهال عليها بالأسئلة عن حياتها الخاصة وعلاقتها بالله، لتنفجر “سين” باكية، فيشعر المذيع بالرضا والانتصار والنشوة، وآخر هناك يصرخ وينفعل بعد اكتشافه أنه في برنامج مقالب وأنه نال قدرا لا بأس به من السخرية والتنمر من أجل الضحك عليه.

تحوّل الفنانون في شهر رمضان إلى مادة استهلاكية لا تختلف عن استهلاكنا للطعام والشراب وغيرها من السلع، نتنقل بين القنوات لنفتش عن سقوطهم في برامج المقالب، وبكائهم على حياتهم الخاصة، وبرامج المقالب والتوك شو تتصارع لتقدم لنا وجبات مليئة بالنجوم ومشاعرهم لتتحول شيئا فشيئا إلى صناعة وإنتاج ترفيهي ينافس الدراما الرمضانية، لكن كيف تحوّل النجوم إلى سلع؟ وكيف تحوّلنا نحن إلى مستهلكين؟

“من الواضح أن وظيفة الأخبار والهمسات والنميمة لا تقتصر على تحويل الحياة الحقيقية إلى أسطورة، والأسطورة إلى واقع، بل عليها أن تكشف الستر عن كل شيء وتعرضه أمام فضول لا يرتوي”

(إدجار موران)

     

  

“النجمة إله، والجمهور هو صانعها”

(إدجار موران)

أساطير النجوم

لم تنشأ السينما إلا فنا في ذاتها، في بداياتها، تولدت علاقة هادئة بين الممثلين على الشاشة وبين الجمهور في قاعة السينما، ولأن هذه العلاقة نشأت على سيل من المشاعر المتدفقة من طرف الشاشة ليصب في قلب المشاهدين فإن ثمة ارتباطا وجدانيا بات متعلقا بوجوه الفنانين وحضورهم الجسدي، وبفعل النظر والمراقبة الذي يمارسه الجمهور تجاه الفنان، ولأن الفنان لا ينظر إلى جمهوره بالمقابل لأنه لا يراه، تبدل ميزان العلاقة، فارتفع الفنان إلى مصاف النجوم في السماء والجمهور بالأسفل مشدوهون لرؤيته ويتغنّون بتأليهه، والفنان الذي يتلألأ كالنجوم لا يشغله سوى حضوره الساطع المستمر.

يؤطر “ماثيو بارنارد” للعلاقة المتقاربة بين الشهرة والحياة الأبدية، فالشهرة تتطلّب من الفنان حضورا دائما بأيّ وسيلة كي لا يُمحَى أثره من الذاكرة العامة للجماهير، وهذا الحضور يتماهى بشكل أو بآخر مع التجلي الدائم للإله في الأعالي، والرغبة في الخلود هي المساحة المشتركة التي يقف عليها فنان العصر الحالي والآلهة القديمة في الثقافة اليونانية[1]، ولأن الجمهور من جهته يتطلع بنظره إلى آلهته الجديدة أضحت الرغبة في حضورهم الدائم مبتغاه، وأصبحت شاشة السينما مساحة ضيقة لا تُشبع هذا الظهور، فامتدت مساحات الحضور إلى ما هو أبعد من شاشة السينما حيث الصحافة والتلفاز والدعاية الإعلانية ومواقع التواصل الاجتماعي، هنا ينسلخ الفنان عن الجسد الافتراضي الذي يتلبسه في الشخصية الدرامية التي يمثّلها ليتجلّى لنا في هذه المساحات بجسده الذي أصبح قوام منظومة رأسمالية تتربح من صناعة النجوم.

أصبحت الشركات الكبرى تحتكر أشهر الفنانين -أصحاب القابلية لدى الجمهور- لأغراض رأسمالية بحتة، وتحوّلت النظرة إلى الفنان باعتباره مشروعا استثماريا

مواقع التواصل

“اليوم تظهر باستمرار صور النجوم في المقام الأول في الصحف والمجلات، حياتهم الخاصة العامة وحياتهم العامة دعاية، حياتهم على الشاشة سيريالية، وحياتهم الواقعية أسطورية”

(مارغريت فاراند ثورب)

     

يتتبع عالم الاجتماع الشهير إدجار موران ظاهرة النجوم في عالم السينما والتي يرجعها إلى عام 1910 حيث تهافتت شركات الإنتاج السينمائي في هوليوود على الممثلين والممثلات، وأصبحت الشركات الكبرى تحتكر أشهر الفنانين -أصحاب القابلية لدى الجمهور- لأغراض رأسمالية بحتة، وتحوّلت النظرة إلى الفنان باعتباره مشروعا استثماريا يدر الأرباح، من هنا تشعبت روافد منظومة النجوم كأي صناعة بحاجة إلى تطوير، سواء بانتشار النجوم أو باكتشاف وصناعة نجوم جدد، ولا تقف حدود هذه الصناعة عند الفن فحسب، بل تمتد للحياة الخاصة للنجم، وما يخص النجم، فهو علامة تجارية في ذاتها، كل ذكرى خاصة، كل علاقاته العاطفية، كل سنتيمتر من جسده هو سلعة استهلاكية لها زبائنها في السوق تماما كالعلكة وشفرات الحلاقة ومستحضرات التجميل[2].

في البرنامج الحواري الرمضاني “شيخ الحارة” سُئِلت الفنانة رانيا يوسف عن تأثير أزمة الفستان العاري -الذي هوجمت بسببه مؤخرا- على جماهيريتها، وهل عاد الأمر عليها بالسلب؟ فأجابت أن العكس تماما هو ما حدث، حيث زاد عدد متابعيها في حسابها الشخصي على إنستغرام إلى مليون ونصف متابع[3]. علينا الآن أن نعيد الربط بين فكرة الأبدية وبين النجم كسلعة لا يريد منتِجها أن تبور أو يقل الاهتمام بها، من هنا تسعى المنظومة إلى التوزيع المكثف لمنتجها من خلال ضخّه الدائم عبر قنوات ووسائل الإعلام التي تصل بين المنتج والمستهلك/النجم والجمهور. يؤكد إدجار موران أن النجم السلعة لا يهلك ولا يفنى بالاستهلاك، وأن الوجود الدائم لجسد النجم أمام جمهوره يُشكّل ذريعة تزيد من قيمته الاستهلاكية وتجعله مرغوبا أكثر ويدخل في ميزان البيع والشراء ليسد احتياجات الإنسان في العصر الاستهلاكي الذي نعاصره[4].

       

في السنوات الأخيرة، تضاعف عدد البرامج الرمضانية الترفيهية بدرجة ملحوظة، والمشترك بين البرامج تلك أن الفنانين هم المادة التي يتمحور حولها مضمون البرامج، وطبيعة الترفيه تختلف من برنامج لآخر، هناك البرامج الحوارية التي تزداد مشاهداتها كلما تعمق الحوار في الحياة الشخصية للفنان، وهناك برامج المسابقات التي يلهو فيها الفنانون من أجل الترفيه وتمضية الوقت، وهناك برامج المقالب والتي تحوّلت من القالب العالمي الشهير الذي يعتمد على افتعال مقالب في المارة بالشوارع إلى استضافة الفنانين الذين تنصب لهم المقالب، ولأن ردود أفعال الفنان المشهور مثيرة وجاذبة للجمهور أكثر من شخص عادي في الشارع، فقد تحوّلت برامج المقالب إلى صناعة ترفيهية سنوية وطقس رمضاني يحصد ملايين المشاهدات كل يوم على حساب صراخ وبكاء الفنانين.

في هذا السياق، يجرّد عالما الاجتماع “ثيودور أدورنو” و”ماكس هوركهايمر” النجومية من القيمة التي يحملها الفنانون باسم الفن أو الإنتاج الثقافي لتصبح القيمة مجرد سلعة تُباع وتُشترى، وعليه أصبح الفيصل في ميزان البيع والشراء هو المستهلك الذي تصنع المواد الترفيهية من أجله[5]، هذا الفرد سيفقد شيئا فشيئا الرغبة في استخراج أي قيمة من الظهور الإعلامي للفنانين، سيرتبط في مخيلته جسد الفنان بالاستهلاك الترفيهي، فالجمهور يستهلك التلصص على مشاعر الفنان سواء كانت ضحكا أو بكاء، ويستهلك الدعاية الإعلانية التي تتخلل البرامج، ويستهلك ملابس فنانته المفضلة وتصفيفة شعرها وملابسها وغيرها من عناصر ستتحول إلى محور اهتمام ومراقبة الجمهور المستهلك في البرامج ولن يشغله سواها.

      

لم تكن البرامج الحوارية مع الفنانين وليدة السنوات الحالية، بل عاصرتها الأجيال السابقة تزامنا مع بدايات بث الإرسال التلفزيوني، لكن طبيعة البرامج تلك تتطور بشكل ملحوظ من الأسئلة الفنية التقليدية إلى الأسئلة الشخصية، إلى كشف الفضائح المستورة، إلى الضغط على الفنانين من أجل استدرار الدموع، ولأن البكاء ينتج عنه تفاعل جماهيري أكبر؛ من هنا تحولت الدموع إلى مادة جديدة للاستهلاك، وهو ما يضاهي تحول المجتمع الاستهلاكي من إشباع الحاجة إلى استحداثها[6]، فإذا كان ظهور الفنانين يشبع حاجة الجمهور في السابق، فأصبحت الدموع والمشاعر الدرامية -المزيفة أو الصادقة- مطلبا رئيسا تبني عليه برامج بأكملها نسب مشاهداتها ورواجها لأنها تداعب مشاعر الجمهور وتتغذى عليها.

“أنا أظهر للجميع وأحظى بمشاهدة ومتابعة منهم، إذن فأنا موجود”

(زيجمونت باومان*)

     

أصبحنا كجمهور ننتمي لشبكة اتصالات معينة أو مشروب غازي أو بنك مصرفي بعينه لا لخدماته، بل لارتباطه بالفنان الذي يتصدر واجهة الإعلانات

مواقع التواصل

إن قوام العلاقة بين الجمهور والفنانين قائم على المشاعر، بداية من التعلق بالمشاهير والهوس بتزيين الغرف بصورهم وملاحقة أخبارهم في الصحف، وهو ما يسميه علماء النفس التفاعل شبه الاجتماعي (Parasocial Interaction)، هذا التعلق ينتج عنه استهلاك حرفي لظهور الفنان في الصحافة أو البرامج الحوارية، من هنا تنتج قاعدة جماهيرية تتبع ظهور هذا الفنان بمنأى عن ظهوره الفني في السينما أو المسرح، وتتشكّل علاقة أحادية يلاحق فيها كل فرد فنانه المفضل. ومع اتساع رقعة مواقع التواصل امتلك الفنان مهارات أسهل وأسرع في استعراض نفسه كسلعة، فنراقب ماذا يأكل وأين يقضي إجازته وكيف يبدو سعيدا مع أسرته، وأصبحت صور الفنانين وفيديوهاتهم تبلورا جديدا لعلاقة الفنان بنا، فهو ينظر لنا ويخاطبنا نحن بما يقول ويفعل، دائرة المشاعر أصبحت أكثر اتساعا وتعمّقا بين الطرفين، وأضحى الفنان مقيدا في هذه العلاقة بإرضائنا كمستهلكين له، وعليه أن يعري مشاعره أمامنا من أجل كسب الود والاهتمام بيننا وبينه، لأنه سيظل في قلق دائم على مكانته التي يخشى انحدارها في أعيننا، فتأتي البرامج الترفيهية لتعيده إلى مراتبه العليا من جديد.[7]

اعتدنا في شهر رمضان على الإسراف لا الاقتصاد، وعلى ربط أوقات الصيام بالتسلية لتمضية الوقت، ولم تتنازل منظومة النجوم عن استغلال هذه الحاجة إلى الإشباع، لتسكب أمامنا الصنوف المختلفة التي يملأ الفنانون أطباقها الرئيسة، بداية من الدراما الرمضانية -التي تختلف في قالبها عن الدراما في الأيام العادية- ووصولا للدعاية الإعلانية حيث تتسارع الشركات على استقطاب أكبر قدر ممكن من النجوم في دعاياتها من أجل تحقيق نسب مبيعات أعلى، فأصبحنا كجمهور ننتمي لشبكة اتصالات معينة أو مشروب غازي أو بنك مصرفي بعينه لا لخدماته، بل لارتباطه بالفنان الذي يتصدر واجهة الإعلانات، ولأن هذا الفنان يقف في الإعلان ليخبرنا أنه بإمكاننا معا تغيير العالم، وعبثا نصدقه بدورنا، ونختار أن ننتمي إلى السلع التي يروجها لنا، لأننا بالأساس ننتمي له كسلعة تخصنا ونستهلكها بشكل يومي دون حتى أن نشعر باعتياد الأمر، لكننا نشعر بالرضا، وهو يعلو أكثر، ويتجاوز مداه مصاف النجوم صعبة المنال مهما كلّفه الثمن، لأنه يخشى أن يسقط سقوطا مدويا وينطفئ بريقه إلى الأبد.

————————————————————–

اعلان

هامش:

* يسخر باومان من هوس الرغبة الدائمة في الظهور ويعدل على الكوجيتو الديكارتي “أنا أفكر، إذن أنا موجود”.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.