ديكتاتورية القطيع.. ما لم يتخيله أورويل عن الرقابة في روايته

ديكتاتورية القطيع.. ما لم يتخيله أورويل عن الرقابة في روايته

The Atlantic

مجلة أميركية
مقدّمة المحرر

لعلّك حاولت مرارا الإدلاء برأي صحيح لكنّه مخالف لرأي الأغلبية، في العالم الغربي، تعتبر هذه الأغلبية المخيفة أغلبية شرطة الصوابية السياسية، وهي الآراء التي يتفق عليها أنصار اليسار، انطلاقا من تحيزات هوياتية تنسحب بدورها على الجماليات، والنقد، والتفكير، وتتحوّل مع الوقت إلى نوع مختلف من الديكتاتورية التي تُمارس نفسها من أسفل الهرم المجتمعي لا من فوقه، وتفرض عليه أفكارا قد لا يعتقد أفراده بصحّتها مئة في المئة، لكنها “صائبة سياسيا”. هكذا، نرى المجتمعات والديمقراطيات الغربية ترزح تحت وطأة فصلين ثقيلين من رواية أورويل “1984”؛ فصل لليمين، وآخر لليسار الصوابي.

نص المقال

لم تحمل أي رواية في القرن الماضي تأثيرا أوسع من ذلك الذي حملته رواية جورج أورويل “1984”. فعنوان الرواية، والاسم الأخير لمؤلفها، ومفردات الحزب القوي الذي يحكم دولة أوشينيا الفائقة بأيديولوجيا “الإنجراكية”[1] من قبيل التفكير المزدوج[2]، وثقب الذاكرة واللاشخص[3] وجريمة فكر، والنيوسبيك (اللغة الجديدة التي ابتكرتها الحكومة) وشرطة الأفكار، والغرفة 101، والأخ الأكبر، كلها مفردات دخلت في قلب اللغة كدلالات فورية على مستقبل كابوسيّ مفزع.

يكاد يكون من المستحيل التحدث عن أمور الدعاية والرقابة والسياسة الاستبدادية أو تزييف الحقائق دون الاستدلال برواية “1984”. هكذا وجدت الرواية خلال الحرب الباردة قراء نهمين في الأقبية وخلف القضبان، يتساءلون: كيف عرف ذلك كله؟

أصل الرواية

لفهم العبقرية الحقيقية والعظمة الخالدة لرواية “1984” عليك أن تنسى كل ما تعتقد أنك تعرفه عنها، كل المصطلحات والأيقونات والمفاهيم الثقافية، فالرواية بمنزلة مقال سياسي عميق وعمل فني صادم مدمر، بالإضافة إلى أنها من بين أكثر الكتب مبيعا في عصر يحكم فيه شخص مثل ترامب.

“وزارة الحقيقة: سيرة رواية 1984” لـ “دوريان لينسكي” (مواقع التواصل)

في هذا السياق، يقدم كتاب “وزارة الحقيقة: سيرة رواية 1984 لجورج أورويل”، لكاتبه الناقد الموسيقي البريطاني دوريان لينسكي، دليلا دامغا ومقنعا على أن الرواية هي ملخصٌ لكامل أعمال أورويل ومفتاح رئيسي لفهم العالم الحديث. نُشرت الرواية في عام 1949، عندما كان أورويل يحتضر لإصابته بمرض السل، غير أن لينسكي يُرجع تاريخها إلى ما قبل ذلك بأكثر من عقد من الزمن، وتحديدا إلى تلك الأشهر التي أمضاها أورويل في إسبانيا متطوعا مع الجمهوريين في الحرب الأهلية في البلاد.

هناك، تَعرّف أورويل على الشمولية في برشلونة، عندما لفق عملاء الاتحاد السوفيتي كذبة محكمة لتشويه سمعة التروتسكيين[4] في الحكومة الإسبانية باعتبارهم جواسيس فاشين. وصدّق صحفيو اليسار بسهولة هذه التهمة الملفقة، فقد كانت في صالح قضية الشيوعية، إلا أن أورويل لم يُصدِّقها وفضح الكذبة في “شهادة شاهد عيان في الصحافة“، والتي سبقت كتابه الكلاسيكي “تحية لكاتالونيا”، تلك الرواية التي جعلته مهرطقا في نظر اليسار.

لقد حافظ أورويل على رباطة جأشه أمام الملل والمضايقات الناجمة عن حرب الخنادق[5] -رُغم إصابته بالرصاص في عنقه والنجاة بصعوبة من إسبانيا-، لكنه اضطرب بشدة لمحو آثار الحقيقة، فقد هدد ذلك مفهومه عما يجعلنا عاقلين، وما يجعل الحياة تستحق العيش. “لقد توقف التاريخ عند عام 1936″، هكذا قال لصديقه آرثر كوستلر الذي كان يعرف بالضبط ما يعنيه أورويل بهذه الكلمات. بعد فترة إسبانيا؛ كان كل ما كتبه وقرأه تقريبا قد أفضى إلى ميلاد تُحفته الأخيرة. وكما يقول لينسكي: “توقف التاريخ وبدأت ألف وتسعمئة وأربعة وثمانون”.

لا شك أن رواية “1984” قاتمة بشكل صادم، لكن وضوحها وصرامتها يلهبان الوعي والمقاومة، وفقا للينسكي: “لا شيء في حياة أورويل وعمله يدعم فكرة أنه كان شخصا يتسم باليأس”. من هنا، تتبّع لينسكي مصدر الإلهام الأدبي لرواية “1984” رجوعا إلى القصص الخيالية المتفائلة للقرن التاسع عشر وخلفائها الدستوبيين في القرن العشرين، بما في ذلك رواية “نحن” للروسي يفغيني زيمياتن (1924)، ورواية “عالم جديد شجاع” للكاتب هوكليز (1932).

ماذا كان يقصد أورويل؟
جورج أورويل (مواقع التواصل)

إن الصفحات الأكثر إثارة للاهتمام في كتاب “وزارة الحقيقة” تقع عند ما يقوله لينسكي عن الحياة الأخرى للرواية، فقد بدأ الصراع على رواية “1984” فور نشرها، في معركة حول معناها السياسي. الأميركيون المحافظون خلصوا إلى أن الهدف الرئيسي لأورويل من الرواية لم يكن الاتحاد السوفييتي فقط، بل اليسار عموما، وأورويل، الذي كانت صحته قد تدهورت بسرعة آنذاك، أوضح أن الرواية لم تكن هجوما على أي حكومة بعينها، بل هجاء عاما للاتجاهات الشمولية في المجتمع الغربي والمثقفين؛ وقال: “إن العبرة التي يمكن استخلاصها من هذا الوضع الكابوسي الخطير بسيطة؛ لا تدع ذلك يحدث، الأمر يعتمد عليك”. ولكن من الطبيعي أن يخرج العمل الفني الجيد عن سيطرة صاحبه، وكلما ازداد شعبية وتعقيدا، ازداد سوء فهمه.

تتجدد شعلة النقاشات حول الرواية كل عشر سنوات أو نحو ذلك، “يقول الناس أشياء مثل: لقد أخطأ أورويل، الأمور لم تصبح بهذا السوء الذي توقعه. أصبح الاتحاد السوفيتي من الماضي”، أو “التكنولوجيا تحررنا”. لكن أورويل لم يقصد قط أن تكون روايته بمنزلة تنبؤ للمستقبل، بل مجرد تحذير، وهذه القدرة التي تملكها رواية “1984” على العودة مجددا والاستمرار في اكتساب أهميات جديدة هي في حد ذاتها تحذير كافٍ.

انتخاب ترامب جلب معه مجموعة من الكتب التحذيرية بعناوين مثل “حول الطغيان”، و”الفاشية: تحذير”، و”كيف تعمل الفاشية”، وأقامت المكتبات ركنا للكتب ذات الطابع الاستبدادي

الجزيرة
ترامب وأورويل ومراقبة من نوع آخر

ولكن، ماذا تعني الرواية بالنسبة لنا؟ إنها لا تُمثّل لنا الغرفة 101 في وزارة الحب؛ حيث يتم استجواب وينستون وتعذيبه حتى يفقد كل ما يحبه، فبحكم التعريف -كما يقول لينسكي- البلد الذي تملك فيه حرية قراءة رواية “1984” ليس هو البلد الموصوف فيها. لكننا نُمضي أيامنا تحت مراقبة من نوع آخر؛ المراقبة التي لا تتوقف من شاشة الهاتف الذي قمنا بشرائه بأنفسنا من متجر آبل، والذي نحمله معنا إلى كل مكان، ونخبره بكل شيء، دون أي إكراه من الدولة، إن “وزارة الحقيقة” هي فيسبوك وغوغل وقنوات الأخبار، لقد قابلنا الأخ الأكبر بالفعل وهو “نحن”.

انتخاب ترامب جلب معه مجموعة من الكتب التحذيرية بعناوين مثل “حول الطغيان”، و”الفاشية: تحذير”، و”كيف تعمل الفاشية”، وأقامت المكتبات ركنا للكتب ذات الطابع الاستبدادي ووضعت الكتب الجديدة بجانب رواية “1984”. أشارت الكتب إلى القرن العشرين: (الأهوال التي سببتها النازية بقيادة هتلر) “فإذا حدث الأمر في ألمانيا، قد يحدث ذلك هنا”، وحذّرت القراء من مدى سهولة انهيار الديمقراطيات. كانت التحذيرات مبررة، لكن تركيزها على آليات الديكتاتوريات السابقة سرق انتباهنا عن الورم الخبيث، وهو ليس الدولة، بل الفرد، فلم تكن القضية الحاسمة هي أن ترامب قد يلغي الديمقراطية، بل أن الأميركيين وضعوه في وضع يسمح له بالمحاولة، مما يعني أن عدم الحرية طوعي هذه الأيام، وأنه يأتي من أسفل الهرم لا من أعلاه. نحن نحيا مع نوع جديد من النظام لم يكن موجودا في زمن أورويل، فهو يجمع بين القومية المتعنّتة -تحويل الإحباط والسخرية إلى فوبيا الأجانب والكراهية- مع الإلهاء والارتباك الناعم: مزيج من أورويل وهكسلي، القسوة والترفيه.

نحن نرزح تحت حمل يومي من التفكير المزدوج الذي يتدفق من أشخاص مثل ترامب، وممكنيهم في “الحزب الداخلي”، ومؤيديهم المتعصبين بين “البروليتاريين

رويترز
أين الحقيقة؟

تلك الحالة الذهنية التي يفرضها الحزب من خلال الإرهاب في رواية “1984” -حيث تصبح الحقيقة هلامية لدرجة أنه لم يعد لها وجود- تقبع في أنفسنا الآن. الدعاية الشمولية تسهّل السيطرة على المعلومات، إلى أن يصبح الواقع هو ما يقوله الحزب، فهدف النيوسبيك هو إفقار اللغة بحيث تصبح الأفكار غير الصحيحة متعذرة من الناحية السياسية. المشكلة اليوم هي وفرة المعلومات من مصادر مختلفة. إنه ليس السلطة المفرطة، بل اختفاؤها. الأمر الذي يترك الناس العاديين يستنتجون الحقائق بأنفسهم، تحت وطأة تحيّزاتهم الشخصية وأوهامهم الخاصة.

احتاج الروس إلى شركاء في التلاعب الانتخابي، وتمكّنوا بالفعل من إيجادهم بالملايين، لا سيما في أوساط أميركية لا نخبوية. في “1984”، يُطلق على الناس من الطبقة العاملة اسم “بروليتاريين”، ويعتقد وينستون أنهم الأمل الوحيد للمستقبل. لكن كما يشير لينسكي، ما لم يتنبأ به أورويل “هو أن هؤلاء الناس البروليتاريين سيعتنقون التفكير المزدوج بحماس مثل المثقفين، وأنهم بدون الحاجة إلى الإرهاب أو التعذيب سيختارون الاعتقاد بأن اثنين زائد اثنين يساوي أيًّا كان ما يريدونه”.

نحن نرزح تحت حمل يومي من التفكير المزدوج الذي يتدفق من أشخاص مثل ترامب، وممكنيهم في “الحزب الداخلي”، وأبواقهم في “وزارة الحقيقة”، ومؤيديهم المتعصبين بين “البروليتاريين. لكن اكتشاف التفكير المزدوج في أنفسنا أصعب بكثير، وقد أوضح أورويل ذلك عندما قال: “يحتاج المرء إلى صراع مستمر لرؤية ما أمام أنفه”، ومن منظور واقعي فأمام أنفنا، في عالم الأشخاص المستنيرين والتقدميين حيث نعيش ونعمل، ينتشر نوع مختلف من التفكير المزدوج.

  

اليوم المطالبة بالعدالة تفرض عليك قبول التناقضات التي هي جوهر التفكير المزدوج

مواقع التواصل
  إنه ليس الادعاء بأن الحقيقة مزيفة أو أن ناتج اثنين زائد اثنين يساوي خمسة، وإنما نوع من التفكير المزدوج التقدمي، الذي ازداد سوءا في رد الفعل على نظيره اليميني. وهو يخلق حالة غير واقعية ماكرة بحجّة أنه يعمل باسم كل ما هو جيد، وكلمته الرئيسية هي العدالة، وهي كلمة لا ينبغي لأحد أن يعيش بدونها، لكن اليوم المطالبة بالعدالة تفرض عليك قبول التناقضات التي هي جوهر التفكير المزدوج.

  على سبيل المثال، يتقاسم الكثيرون من اليسار الآن افتراضا غير معترف به ولكنه شائع مفاده أن العمل الفني الجيد هو السياسة الجيدة وأن السياسة الجيدة هي مسألة هوية. ما يعني أن تقييمنا لكتاب أو مسرحية يعتمد على موقفه السياسي، ويتم فحص موقفه -وحتى موضوعه- في ضوء الانتماء الجماعي للفنان: الهوية الشخصية والموقف السياسي يساوي القيمة الجمالية.

  يوجّه هذا الخلط بين الفئات إطلاق الأحكام في جميع أنحاء العالم من وسائل الإعلام والفنون والتعليم، من مراجعات الأفلام إلى لجان المنح، تتحول الرقابة الذاتية إلى خداع ذاتي، إلى أن يختفي الاعتراف نفسه، فالكذبة التي تقبلها تصبح كذبة تنساها. وبهذه الطريقة يقوم الأشخاص الأذكياء بمهمة القضاء على البِدَع دون الحاجة إلى شرطة الفكر.

سيظل “1984” دائما كتابا مهما، بغض النظر عن التغييرات في الأيديولوجيات، لتصويره لشخص واحد يكافح من أجل التمسك بما هو حقيقي وقيّم

الجزيرة

  تعليم الببغاء الكلام

هذه الأرثذوكسية يكرّسها أيضا الضغط الاجتماعي، وأفضل مثال على ذلك نجده في تويتر، حيث يولّد رعب إلحاق وصمة العار أو “الإلغاء” الطاعةَ بقدر ما تفعل زيادة عدد متابعيك، ويمكن لهذا الضغط أن يكون أقوى من حزب أو دولة، لأنه يتحدث باسم الناس ولغة الغضب الأخلاقي، الذي لا يواجه أي شكل من المقاومة. يقوم بعض المفوضين ذوي المتابعين الكثر بدوريات في مواقع التواصل الاجتماعي ومعاقبة مجرمي الفكر، لكن معظم التقدميين يوافقون دون صعوبة على الإجماع الخانق والتعصب الذي يولّده هذا التصرف، ليس بسبب الخوف، ولكن لأنهم يريدون أن يُحسبوا على جانب العدالة.

   

إن هذا التضييق الطوعي للحرية الفكرية سيؤدي إلى ضرر لا عودة منه. إنه يفسد القدرة على التفكير الواضح النقدي، ويقوّض الثقافة والتقدم؛ فبحسب هذا الرأي، الفن الجيد لا يأتي من الشر، والمشكلات الاجتماعية المتعطشة للجدل لا يمكن أن تجد حلولا حقيقية. لقد كتب أورويل في عام 1946: “لا فائدة تُرجى من تعليم الببغاء كلمة جديدة، ما نحتاج إليه هو الحق في طباعة ونشر ما يعتقد المرء أنه صحيح، دون الحاجة إلى الخوف من التنمر أو الابتزاز من أي جانب”، لكن لم يتغير الكثير منذ الأربعينيات، ولا تزال إرادة السلطة تمر عبر الكراهية على اليمين والفضيلة على اليسار.

سيظل “1984” دائما كتابا مهما، بغض النظر عن التغييرات في الأيديولوجيات، لتصويره لشخص واحد يكافح من أجل التمسك بما هو حقيقي وقيّم. “سلامة العقل ليست مسألة إحصائية”، هكذا يفكر وينستون في إحدى الليالي وهو ينسحب ببطء في النوم، ويبدو أن الحقيقة هي أكثر الأشياء هشاشة في العالم، وأن الدراما المركزية للسياسة هي تلك الموجودة داخل جمجمتك.

 ________________________________________________

اعلان

هوامش: 

[1] الإنجراكية (الاشتراكية الإنجليزية) في عام 1984، تعتبر الإنجراكية هي أيديولوجية أوشينيا وفلسفتها الزائفة.

[2] قدرة المرء على الإيمان بفكرتين متناقضتين في الآن نفسه وأن يدافع عنهما بضراوة، وهو ما يحدث بالفعل في أحداث الرواية.

[3] هم أولئك الذين “تبخروا”، أي من لم تكتف السلطة بقتلهم وإنما أنكرت وجودهم أصلا سواء في التاريخ أو في الذاكرة.

اعلان

[4] التروتسكية هي تيار شيوعي وضعه ليون تروتسكي، التروتسكية ترى أن الثورة الاشتراكية يجب أن تكون أممية ولا بد أن تنتقل للعالم كافة وليس في بلد واحد.

[5] هو شكل من أشكال الحرب يأخذ فيه المقاتلون مواقع محصّنة وتكون خطوط القتال جامدة وممتدة كالخنادق لذلك سُمّيت بحرب الخنادق.

———————————————————–

ترجمة: سارة المصري

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.