وقف عبدالله الذي كان ذا خدود جوفاء، وهو يرتعش بشكل طفيف ويلبس سروال جينز أكبر من مقاسه، في مرآب للسيارات غير مكتمل، مذهولا أمام جدارية كان حريصًا على فك معناها للزائر، حيث أوضح له:” انظر، الرجل الذي يوجد في المنتصف، يطلب من قوات الأمن ألا يطلقوا النار عليهم، فليس لديهم شيء، لا شيء”. قال عبد الله الكلمة الأخيرة مرتين للتأكيد وهو يدرس بجدية معنى صورة على الحائط رسمت باللونين الأبيض والأسود.

تظهر اللوحة الجدارية التي رسمها بالفحم وبأسلوب اشتراكي واقعي، والتي يبلغ طولها أكثر من 12 قدمًا، مجموعة من الرجال يمشون إلى الأمام ويحملون أصدقائهم المصابين في أذرعهم. وكان الرجال المصورون يمثلون بلا أدنى شك الرجال العمال، الذين كانوا يرتدون ملابس خشنة ويبدو على وجوههم الإجهاد. وأضحى عبد الله، البالغ من العمر 18 سنة، وطلب عدم استخدام لقبه خشية من الانتقام منه بسبب مشاركته في الاحتجاجات المناهضة للحكومة، الذي يعمل عامل نظافة في أحد المستشفيات، دليلًا فنيًا غير رسمي لواحدة من أكثر المعارض التي لا يمكن تخيلها. ويوجد هذا المعرض في مبنى محلي يتألف من 15 طابقًا، يعرف باسم مبنى المطعم التركي، ويطل على نهر دجلة، فضلا عن أنه يعتبر المعقل المعلن عنه للعراقيين الذين يعارضون قيادة البلاد الحالية.

يغطي المبنى من جميع الجهات لافتات تحمل رسائل إلى الحكومة وقوات الأمن والعالم. ويبدو المبنى وكأنه سفينة على وشك الإبحار، مع شعارات مكتوبة على قماش أبيض التي تهتز في مهب الريح. وأصبحت الطوابق الخمسة الأولى واحدة من أكثر من نصف المواقع الفنية الرئيسية التي ظهرت في بغداد وتناولت موضوع الاحتجاجات. وقام الرسامون، المتمرسون والهواة بتحويل الجدران والسلالم والحدائق المتناثرة إلى قطعة قماش كبيرة للرسم. لكن لسائل أن يسأل؛ من أين جاء كل هذا الفن؟ كيف أصبحت المدينة التي تعرّض فيها الجمال واللون للقمع إلى حد كبير لعقود من الزمن، والاستبداد أو اللامبالاة من الحكومات المتعاقبة، فجأة على هذا القدر من الحياة؟

في هذا السياق، أفاد رياض رحيم، البالغ من العمر 45 سنة، ويعمل مدرس فنون قائلا: “لدينا العديد من الأفكار لبناء عراق أفضل، لكن لم يطلب منا أحد من الحكومة التعبير عن أفكارنا واقتراحاتنا”.

صورة

جداريات مخططة على شارع السعدون الذي يؤدي إلى ميدان التحرير

في الواقع، يعد مركز المدينة الإبداعي بمثابة ميدان التحرير. ويغطي الفن النفق الذي يمتد أسفله، والمساحة الخضراء وراءه، والشوارع المؤدية إليه. كما أضحت اللوحات والمنحوتات والصور الفوتوغرافية وأضرحة المحتجين الذين قُتلوا فنًا سياسيًا نادرًا ما يُرى في العراق، حيث صُنع الفن منذ عشرة آلاف سنة عام على الأقل. ويبدو الأمر وكأن المجتمع بأكمله يستيقظ على صوته الخاص، وعلى شكل وحجم وتأثير قوته الإبداعية.

في هذا الإطار، صرّح العراقي الألماني، باسم الشدير، الذي يسافر ذهابا وإيابا بين البلدين وشارك في الاحتجاجات قائلا: “في البداية، كانت هذه انتفاضة، لكنها باتت في الوقت الراهن ثورة”. وأضاف: “هناك فن، هناك مسرح، والناس يقدمون المحاضرات ويوزعون الكتب ويعطونها مجانًا”. علاوة على ذلك، رسم الشدير، وهو فنان تجريدي يحمل شهادة في علم الأحياء، برسم مساهمته في المشهد على الحائط في شارع السعدون، أحد أوسع الشوارع في العاصمة. وتظهر هذه الصورة رجلاً أطلق عليه قوات الأمن النار والدم يتدفق من قلبه ويكوّن بركة واسعة، أكبر من أن يخفيها أو يغسلها رجل عسكري ملثم يقف وراءه.

على مقربة منه، هناك جدارية تظهر فيها الأمم المتحدة وهي تتوسل لإنقاذ العراقيين. وتظهر صورة أخرى ترسم خريطة للعراق داخل القلب الذي يقول: “يا بلدي، لا تشعر بالألم”. هناك رسمان أو ثلاثة جداريات تصور الأسود، وهي رمز للعراق يعود إلى الفترة الآشورية التي اعتمدها المحتجون. في المقابل، لم تكن هناك أية رسائل جديدة معادية للولايات المتحدة الأمريكية في اللوحات التي رسمت في الأيام الأخيرة، على الرغم من تنامي المشاعر المعادية للولايات المتحدة في بغداد منذ اغتيال الولايات المتحدة الشهر الماضي الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، خلال زيارة إلى العراق.

من المحتمل أن ذلك يعود إلى أن هناك بالفعل العديد من الجداريات التي تحمل رسائل معادية للولايات المتحدة و”إسرائيل”، فضلا عن أنه يوجد في الوقت الراهن الكثير من الجدران المغطاة بالفن، ومن الصعب العثور على مساحة فارغة لإضافة أي شيء جديد. وتُظهر المواضيع والأساليب الفنية المعروضة مدى تأثر جيل الشباب العراقي بالإنترنت، حيث اكتشفوا صورا تلائم قضيتهم، التي أعادوا رسمها بلمسات عراقية.

من جانب آخر، هناك صورة بروزي المبرشمة ترسم علمًا عراقيًا على خدها؛ وصورة لليلة النجوم للرسام الألماني، فينست فان خوغ، على مبنى مطعم تركي بدلاً من شجرة السرو. وتحتوي بعض اللوحات على شخصيات كتاب هزلي، ولكنها ملفوفة بالعلم العراقي، الذي أضحى زي المحتجين.

صورة

 رسم على خد روزي المبرشمة علم عراقي. وعلى اليسار، رسمت عربة توك توك بأسلوب فن البوب.

انعكس التأثر بفن البوب الذي يعود لفترة الستينيات من القرن الماضي في لوحة رسمت على جدار مبنى المطعم التركي، حيث صُور توك توك أحمر يطير من السطح. والجدير بالذكر أن التوك توك يعد جالبا للحظ للمحتجين، وهو عبارة عن سيارة تعمل بالديزل بثلاث عجلات ولا تحتاج إلى رخصة قيادة، وأصبحت سيارة الإسعاف غير الرسمية في خطوط المواجهة، حيث تحمل الجرحى إلى خيام الإسعافات الأولية.  وتجدر الإشارة إلى أنه قُتل أكثر من 500 محتج وأصيب آلاف آخرون.

صورة

التوك توك، عربة ذات ثلاثة العجلات، جالبة للحظ للمتظاهرين.

من جانب آخر، تعد الأشجار موضوعًا شائعًا آخر، حيث يقوم الرسامون في مواقع مختلفة من مبنى المطعم التركي برسم صور للأوراق المتساقطة. في هذا الإطار، قالت ديانا القيسي، البالغة من العمر 32 سنة، التي تلقت تدريبا في مجال هندسة أنظمة معلومات، لكنها تعمل، في الوقت الراهن، في مجال العلاقات العامة: “تمثل هذه الشجرة العراق وسأكتب على كل ورقة اسم أحد الذين استشهدوا على أيدي قوات الأمن”. وأردفت القيسي قائلة: “أوراقها آخذة في التساقط لأنه فصل الخريف، وأولئك الذين يحاولون قتل الشجرة هم يحاولون قتل الثورة. وحتى وإن حاولوا ذلك، تبقى بعض الأوراق في الشجرة للولادة من جديد”.

فضلا عن ذلك، كان لدى زينب عبد الكريم، البالغة من العمر 22 سنة، وأختها زهرة، البالغة من 15 سنة، رؤية أكثر قتامة لمفهوم الشجرة. وعموما، تمثل شجرتهم صورة ظلية سوداء تقف في مقبرة، حيث يمثل كل قبر، قبر أحد المحتجين الذين قتلوا على أيدي قوات الأمن.

صورة

خيمة في ميدان التحرير

من جهة أخرى، كانت الصور الفردية للقتلى من بين المواضيع الشائعة التي تطرق لها الرسامون. كما تم تقسيم الحديقة الصغيرة خلف ميدان التحرير بواسطة خيام، أصبحت إحداها معرضًا للصور التي تزيد باستمرار بصور أولئك الذين قتلوا على أيدي قوات الأمن. ويمشي الناس على طول الصور التذكارية بهدوء وينظرون إلى كل وجه من وجوههم، وتنهمر أحيانًا دموعهم عندما يرون وجهًا يتعرفون عليه.

تشهد البلاد ازدهارًا تعبيريًا في مجالات غير الفنون البصرية، حيث تمت كتابة أكثر من اثني عشر أغنية للاحتجاجات التي تنشر دون توقف على مواقع التواصل الاجتماعي. من جانبهم، تجمّع نجوم الفنون العراقيون مثل الممثلون والممثلات، فضلاً عن الموسيقيين والرسامين والنحاتين، لتسجيل أغنية يكرمون فيها المتظاهرين الذين قتلوا.

صورة

هذه اللوحات هي فن سياسي نادرًا ما يبرز في العراق.

في الآونة الأخيرة، كان رحيم، مدرس الفنون، يعمل مع صديقه، حسين شنشل، البالغ من العمر 41 سنة، الذي يدير متجرًا لبيع الملابس، في مشروع منحوتات منخفضة التكلفة. لقد كانا ينحتان بعناية فائقة قطع أثرية دقيقة تعود لستة مواقع عراقية شهيرة، ثلاثة قديمة وثلاثة حديثة. كما أنهيا ثلاثة تحف أثرية منها منارة الحدباء في الموصل، التي دمرت في الحرب مع تنظيم الدولة؛ زقورة سامراء ومبنى المطعم التركي. وفي الوقت الراهن، يعملان على بوابة عشتار، التي كانت موجودة في بابل القديمة. كانت أدواتهما تتلخص في الرغوة، وأعواد الأسنان، والمشرط، ورذاذ الطلاء من أجل تلوين الخلفية، وفرشاة الرسم.

في هذا الإطار، أشار رحيم قائلا: “نريد التعبير عن معنى الحضارة العراقية. نريد أن نرسل رسالة إلى العالم مفادها أن هذه هي ثقافتنا، نحن متعلمون، ورسامون وشعراء وموسيقيون ونحاتون، وهذا هو ما يعنيه أن تكون عراقيًا”. وأضاف: “يعتقد الجميع أن العراق لا يرمز سوى للحروب والقتال”.

صورة

بات الهيكل غير المكتمل، والمعروف للجميع باسم مبنى المطعم التركي، قطعة قماش ضخمة للفنانين العراقيين.

خارج مبنى المطعم التركي الذي لم يكتمل بعد، وأطلق عليه هذا الاسم لأنه منذ حوالي 25 سنة، كان يضم مطعمًا تركيًا في الطابق الأرضي، كان حسين عبد المفسن، البالغ من العمر 25 سنة، ينهي جدارية في شارع السعدون. ورسم بالفعل أربعة آخرين، وهي مهنة بعيدة كل البعد عن عمله المعتاد كعامل طلاء خاص بالمنازل. وتصور جداريتان صورة ظلية للمتظاهرين الذين يحاولون رفع الحواجز التي تفصلهم عن قوات الأمن. في المقابل، لم يكن يتسم هدفه الأساسي من الرسم بأبعاد فنية، بل من أجل الشعور بمعنى الحياة. لقد كان يرسم الخطوط التي تحدد حواف الشارع لمنع السيارات من الوقوف على الرصيف.

في سياق متصل، أفاد عبد المفسن قائلًا: “لقد أحضرت الطلاء الذي يعكسني اليوم من المنزل لأن الحكومة في الليل تغلق الأضواء ولا يمكن لعربة توك توك التي تحمل المصابين أن ترى حافة الطريق ويمكن أن تصطدم”. كما أن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا يفعل هذا؟ أليس ذلك من مسؤولية المدينة؟ حيال هذا الشأن، قال المفسن وهو ينظر بخجل: “يمكنك تسميته بالتمويل الذاتي، أو ربما هذه هي الوطنية”.

المصدر: نيويورك تايمز