مملكة ماري حضارة عظيمة اكتشفت بالمصادفة … الموسيقا والحرف حاضران في الثقافة السورية القديمة للتدليل على أصالة السوريين وعمق معارفهم
المهندس علي المبيض
الأربعاء, 25-09-2019
سورية موطن لحضارات عديدة قامت على أرضها وازدهرت خلال تاريخها الطويل وبقيت الأوابد التاريخية والمواقع الأثرية شواهد على ما تركه الأقدمون من بصمات تعكس مستوى تلك الحضارات، ومن تلك الحضارات العظيمة مملكة ماري التي قامت عند تل الحريري الواقع على الضفة الغربية لنهر الفرات وتبعد 10 كم شمال غرب مدينة البوكمال وتعود لفترة 3000 ق. م، كانت المصادفة سبباً في اكتشاف هذا الموقع التاريخي المذهل الذي سلّط الضوء على واحدة من أهم حضارات العالم، ففي عام 1933م وبينما كان أفراد عائلة يفتشون في أرضهم التي تقع في تل الحريري عن حجر لاستخدامه شاهدة على قبر أحد أقربائهم فإذا بهم يعثرون على تمثال حجري مدفون ضمن الأرض، ولما وصل الخبر إلى سلطة الانتداب الفرنسي طلبوا من الحكومة الفرنسية في باريس إرسال خبراء لدراسة هذا الاكتشاف، تم تكليف عالم الآثار آندريه بارو بذلك وأوفد إلى سورية حيث قام بأخذ عدة أسبار من المنطقة وأجرى أبحاثاً معمّقة على التمثال فتبين من خلال كتابة نقشت على التمثال وقرائن أخرى عديدة أن التمثال يعود إلى مملكة ماري التي قامت في سورية نحو عام 2900 ق. م. ورد ذكر ماري في سجلات ملوك سومر فقد كانت حضارةً متطورةً ارتقت وتميّزت بين الحضارات وهي مركز إشعاع متقدم جداً أنارت بقوانينها وثقافتها وفنونها العالم القديم بأسره، ومع تقدم الحفريات المنتظمة فيها تبين وجود عدة سويات وطبقات لمنشآت مختلفة وهي عبارة عن مجموعة حضارات وممالك متوضعة فوق بعضها البعض، الشوارع فوق الشوارع والقصور فوق القصور والمعابد فوق المعابد ومع استمرار الحفريات كان المنقّبون يعثرون على سوية جديدة تكشف عن فترة زمنية جديدة.
تم تقسيم تاريخ مملكة ماري إلى حقبتين رئيسيتين: الحقبة الأولى وتعود إلى عام 3000 ق. م وتم اكتشاف أكثر من 25000 لوح طيني في الموقع مكتوب باللغة المسماريّة والأكّاديّة ساهمت بتسليط الضوء على الحضارات المهمة التي قامت في تلك المنطقة وأكدت للجميع أن منطقة بلاد الرافدين كانت من بين مناطق الاستيطان القديمة في التاريخ، والحقبة الثانية تنتهي عام 1750 ق. م وهو العام الذي قضى فيه حمورابي على ماري حين شنّ هجوماً قاسياً عليها أدى إلى تدميرها وتدمير القصر الذي كان يقيم فيه ملك ماري «زيميري ليم» ولم تستعد المدينة سابق مجدها حتى عصر الآشوريين حيث أعيد لماري جزء من أهميتها عندما أصبحت مركزاً لحماية الطريق التجاري الممتد من الخليج العربي إلى البحر الأبيض المتوسط، ومن أهم مكتشفات قصر «زيميري ليم» تمثال ربّة الينبوع وتمثال «إيدي إيلوم» مقطوع الرأس. تأخذ مدينة ماري شكلاً دائرياً قطرها 19 كم تخترقها قناة مائية متصلة من بدايتها ونهايتها بنهر الفرات لتأمين المياه للمدينة وهي مجهّزة للملاحة النهرية واستقبال المراكب والسفن التجارية، ويحيط بالمدينة سوران الأول طوله نحو 1900 م يحيط بها من جميع جهاتها عدا الجهة التي تتصل بنهر الفرات لحمايتها من فيضان النهر والثاني يحميها من الهجمات خلال الحروب، وتم تخطيطها لتكون مدينة اقتصادية وسياسية على أعلى المستويات، تبلغ مساحة قصر ملك ماري نحو 25000 م2 ويتكون من300 قاعة وقد بني على مراحل متتالية، ويبدو أن أقساماً كبيرة من القصر كانت مكونةً من طابقين كما كان مقر الإقامة الملكية غنياً بالزخارف وتتوافر فيه وسائل الراحة والرفاهية، فعلى سبيل المثال كان يضمّ مستودعاً للجليد تحت الأرض يتم نقل شحنات من الثلج إليه من الجبال الشمالية للمدينة كي ينعم سكان القصر بالمرطبات الباردة على مدار السنة، وكان الملك يمارس التجارة ساعده في ذلك موقع ماري المهم على الطريق التجاري حيث كانت تلتقي فيها طرق المواصلات التي تصل البحر الأبيض المتوسط والأناضول من جهة والمنطقة الوسطى والجنوبية من سورية من جهة ثانية ببلاد الرافدين.
استفاد أبناء مملكة ماري من موقع مدينتهم على الطريق التجاري الذي يتبع مسلك الفرات داخل سورية إضافة إلى وقوعها على ضفة نهر الفرات وسهولة وصول السفن التي تنقل البضائع من ماري وإليها، فاشتغلوا بالتجارة وشكّلت لهم مصدر دخل انعكس إيجابياً على جميع المستويات، فازدهرت المملكة وكانت من أهم الحضارات القديمة ولعبت مدينة ماري دوراً مهماً حيث شكّلت نقطة عبور إلزامية لجميع العاملين في الدورة الاقتصادية وأصبحت مركزاً للصناعات المعدنية وتم العناية بمرافقها، فتم تشكيل إدارة أهلية واقتصادية للمدينة وهي من الخطوات الأولى التي اتخذتها بلاد مابين النهرين باتجاه إنشاء المدن، كذلك طوّر أبناء مملكة ماري نظاماً خاصاً لتسخير مياه نهر الفرات والاستفادة منه وقت الجفاف في فصل الصيف وكذلك في وقت الفيضان بالشتاء.
اكتشف في ماري الكثير من الوثائق التي تدل على مدى التطور الذي ساد المملكة حيث تضمنت بعض المخطوطات المكتشفة معلومات عن وجود جمعيات لمساعدة الفقراء من أبناء المملكة والمحتاجين الذين فقدوا أموالهم خلال السفر وهذا يدل على مدى الرقي الإنساني والحضاري والتكافل الاجتماعي الذي كان سائداً فيها، كما أظهرت الوثائق بعض الصناعات والحرف التي كانت منتشرة فيها وكذلك البضائع حيث بيّنت وجود 26 نوعاً من المجوهرات و11 نوعاً من الزيوت و31 نوعاً من أواني الشرب و21 نوعاً من الألبسة الداخلية و10 أنواع من العطور، وأشار بعض الباحثين إلى أن ورشات العطور كانت تصنّع حوالي600 ليتر من العطور شهرياً ويتم تصديرها إلى المناطق المحيطة وعرف في المملكة استخدام الستائر والبطانيات وأغطية الأسرة وضمّت المملكة مستودعات لتخزين الثلج، امتدت فعالية مملكة ماري الحضارية لما يزيد على 1200 عام أي من نحو 3000 ق. م إلى 1760 ق. م.
كان للموسيقا حضور واضح في مملكة ماري وشهدت المنطقة تطوراً موسيقياً غير مسبوق منذ الألف الثالث قبل الميلاد امتد لمئات السنين إذ كان تعليم الموسيقا للأطفال إلزامياً في المدارس الملحقة بالمعابد ووضع لها نظام معين، ونستطيع القول إن بداية الموسيقا والألحان الشرقية خرجت من سورية، ومن إبداع السوريين انطلقت الموسيقا إلى شتى أرجاء العالم وقد عرفت ماري في تلك الفترة آلات موسيقية متنوعة هوائية وإيقاعية ووترية «الطبول، المزامير، القيثارة ذات التسعة أوتار وآلة الهارب… ، والشيء المهم واللافت للنظر أن دور الموسيقا تجاوز الدور المعروف والمتمثل بالأغاني والمعزوفات لتصل إلى الدين والمعابد، ففي معبد «ني ني زازا» تم العثور على تمثال جميل من الحجر الأبيض ويعود تاريخه إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد يبلغ ارتفاعه نحو ٢٦ سم وعرضه 14 سم، ودلّت النقوش المسماريّة على ظهره أنه يمثّل «أورنينا» أشهر مغنيّة في مملكة ماري كان قد نذره لها ملك ماري «إبلول إيل» ووهبه للمعبد، ويعتقد بأن أورنينا تفرّغت منذ الصغر للغناء في المعبد واسمها الأصلي أورنانشي، يكسو القسم السفلي لأورنينا تنورة على شكل سروال مصنوع من الصوف المزركش وقد انحسر لما فوق الركبتين ويدل ثوبها على أنها تمارس الرقص أيضاً إضافة إلى الغناء ويظهر وجه أورنينا مفعماً بالحيوية عيونها كبيرة وهذا نمط متبع لنحت التماثيل في ماري يعلوها حاجبان ظاهران ومتصلان على شكل قوسين جميلين تعبر عن جمال أنوثتها وفتنتها يشعّ من عينيها الذكاء والنباهة أنفها يشبه المثلث ولها شفتان رقيقتان مطبقتان تخفي ابتسامة تتجسّد فيها الهدوء والاتزان ولها خدّان ممتلئان وأذنان كبيرتان نسبياً وذقن جميلة ينساب شعرها الأسود الأملس من أعلاه والأجعد في نهايته حتى خصرها وصدرها العاري وهي جالسة على وسادة عالية مستديرة الشكل ومزخرفة وقد فُقدت اليدين والآلة الموسيقية ويتّضح من خلال التدقيق في حركة جسدها أن يديها غير ثابتتين، تبدو يسراها كأنها تمسك بآلتها الموسيقية ويمناها مرتفعة قليلاً كأنها تعزف على هذه الآلة الموسيقية، يدلّ وجود تمثال «أورنينا» في أحد المعابد على أهمية فنون الغناء والموسيقا والرقص وانتشار الثقافة الموسيقية وميل السوريين الأوائل إلى هذه الفنون ومدى ارتباطها بالديانات القديمة حيث كان أبناء مملكة ماري يستخدمون الموسيقا كإحدى طرق العبادة ويعتبرونها وسيلةً لتطهير النفس من الشرور والحقد والضغينة وتقود الإنسان إلى السرور والغبطة الروحية، كما أكدت المخطوطات المكتشفة أن مملكة ماري ضمّت أقدم فرقة موسيقية جماعية في العالم حيث بلغ عدد أفرادها 26 عازفاً ويؤكّد وجود فرقة موسيقية بهذا الحجم أن العازفين يتقنون الدوزنة المشتركة وهو ما أسهم لاحقا بظهور النوتات الموسيقية التي تضبط عمل الفرقة كما تشير الكتابات الجدارية في ماري إلى العلاقة القوية التي تربط قائد الفرقة الموسيقية بالعازفين، ومما يؤكد الشأن الكبير للموسيقا في ماري ما تضمنته الوثائق المكتشفة فيها عن أحوال الموسيقيين ومستواهم المادي والاجتماعي وكيفية اختيار العازفين والمغنين للقصر الملكي وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على السويّة الثقافية والفنية العالية التي بلغتها حضارة ماري.
دفعت هذه الاكتشافات الباحث الفرنسي آندريه بارو ليقول: «إنّ الشرق قد أتى بالنور إلى الغرب ويحق لكل إنسان متمدن في العالم أن يقول إن له وطنين وطنه الأصلي وسورية»
مستشار وزير السياحة

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.