كه يلان محمد

أفق النقد في السيرة الذاتية

22 – أكتوبر – 2020

تنوعت أشكال كتابة السيرة، وينزع عدد من الكتّاب إلى حصر ما ينشرونه في الشق الفكري أو الأدبي، وهذا ما تلمحه من خلال عبارات تجنسية مرفقة بالعنوان إذ أصدر المفكر اللبناني علي حرب سيرته بعنوان «خطاب الهوية» مضيفا مصطلح سيرة فكرية إلى العتبة الأولية. وعلى هذا المنوال أرادت الكاتبة والروائية العراقية لطفية الدليمي تحديد مضمون كتابها السيري الموسوم بـ«عصيان الوصايا» المرفق بجملة توضيحية «كاتبة تجوب أقاليم الإبداع» بالحديث عن تجربتها الأدبية، من خلال العلامة التجنسية. كما يشير الروائي المغربي بنسالم حميش في مقدمة سيرته المعنونة بـ»الذات بين الوجود والإيجاد» بأن الغالب الأعم لمرويته، فكرية ذهنية.
وقد يكون الغرض من إيراد هذه المفردات هو إدراك صاحب السيرة بأن ما يتوقعه القارئ منه هو الحديث عن الانشغالات الفكرية والإبداعية، لأن الخلفية الثقافية والإبداعية في نهاية المطاف، لا تنفصل عن المكونات الأخرى لشخصية الأديب والمفكر.
بخلاف ما ذكر آنفا فإن الكاتب العراقي علي الشوك نشر سيرته الذاتية «الكتابة والحياة» بدون وجود ما ينم عن حصر المضمون بالجانب الفكري، أو التكوين الثقافي أو التجارب السياسية، بل ما يتضمنه الكتاب يشمل الحديث عن البيئة الأولى، ومواقف المؤلف السياسية، ومن ثم نمط حياته في المنفى، وانصرافه إلى الدراسات اللغوية، وكتابة الرواية بعد مرارة تجربة السجن.

سوء التقدير

يعترف الشوك بهشاشته أمام آلة التعذيب، مبديا إعجابه بالرفاق الذين لم تلن إرادتهم ويذكر أسماء من تمت تصفيتهم، وما كادت أن تنجح المحاولات لإطلاق سراحه من معتقل خلف السدة حتى يتدخل أحد أقاربه مخبرا جهات نافذة في نظام الحكم بأن هذا السجين الشيوعي عنصر خطير على الدولة. وفي السياق ذاته يقول علي الشوك بأن إبنة خالته كانت سببا في اعتقاله واقتياده إلى قصر النهاية. ما يعطي السلاسة لأسلوب الشوك في الكتابة هو، الاعتماد على الحوار القائم بينه وبين صديقه الطبيب علي السعدي، فيكون صوت الأخير مجاورا لما يسرده الكاتب عن تجربته في السجن، كما يدور النقاش بين الاثنين بشأنِ مفهوم البطل، أكثر من ذلك ينسحب علي الشوك في بعض الفقرات، تاركا زمام الحديث لعلي السعدي وآرائه الصريحة عن السياسيين العراقيين، واصفا إياهم بالارستقراطيين والسطحيين، لافتا إلى أن عبدالكريم قاسم كان شخصية غامضة. فيما يكن إعجابا شديدا للسياسي المغربي مهدي بن بركة، مشيرا إلى أن عملية اختطافه كانت بتواطؤ شبكة من الأجهزة الاستخباراتية. يفهم مما يقدمه على الشوك عن الأجواء السائدة عشية انقلاب 1963، وما تبعه من المجازر ضد اليسار والشيوعيين بأن هناك سوء التقدير للأوضاع لدى قادة الحزب، وتفاؤلا غير مسوغ بالتطورات. أخذ الأمل الذي كان يلوح في فكر صاحب «الموسيقى والميتافيزيقا بالانطفاء وتوصل إلى القناعة بأن الشيوعية العالمية حلم لن يتحقق، وما أنجز في كوبا لم يكن إلا استثناء قد لايتكرر. ويرى أن السوفييت لم يدعمْوا قيام الثورة الاشتراكية في العراق سنة 1959، حتى لا يصل الصراع مع القطب الرأسمالي إلى حافة الانفجار.
وفي نظر علي الشوك كان تحقيق الاشتراكية أيسر من شرب قدح ماء آنذاك. وعن مدّ الفكر الماركسي وقوته المعنوية، وانضواء جماهيرية عريضة تحت مظلته تقول الكاتبة العراقية فاطمة المحسن في مذكراتها «الرحلة الناقصة» بأن مكانة الحزب الشيوعي في الشارع، كانت أكبر بكثير من أعداد منتسبيه بعد انقلاب البعث الثاني، وذلك يعود حسب رأيها إلى تعاطف العراقيين مع التيار اليساري، كما أن تجدد الفكر الماركسي عالميا دفع الشباب والمثقفين في العالم العربي إلى تبنيه، لكن هذه الانطلاقة على ما يبدو لا ترافقها مشاريع فكرية لقراءة الواقع العراقي وأزماته السياسية، ونمط الإنتاج الاقتصادي، على ضوء مفاهيم الفلسفة الماركسية، وبالتالي لم يتمخض عن هذه الحراكات مدونة فكرية ولا تحول على الصعيد السياسي. تحمّل المحسن من تسميهم باليمين الشيوعي مسؤولية انتكاسة الحزب، والاستهانة بتضحيات قاعدته. لا تغيب النبرة الانتقادية في سيرة علي الشوك، غير أنه ينصرف إلى داخل المعقل السوفييتي.

تألم علي الشوك وهو يشاهد بوادر انهيار الحلم الاشتراكي، مستعيدا سلسلة من الفرص التي فوتت على اليسار الوصول إلى الحكم في العراق وإيران وإيطاليا وفرنسا.

كانت الديكتاتورية وسياسة التخويف ثغرة في المعكسر الاشتراكي .وهذا ما يؤكده غائب طعمة فرمان لصديقه علي الشوك. وينقل الكاتب على لسان عادل حبة واقع اغتصاب لافرانتي بيريا لرفيقة شيوعية لأنها انتقدت صناعة الأحذية في الاتحاد السوفييتي.

المتصالح

تألم علي الشوك وهو يشاهد بوادر انهيار الحلم الاشتراكي، مستعيدا سلسلة من الفرص التي فوتت على اليسار الوصول إلى الحكم في العراق وإيران وإيطاليا وفرنسا.متسائلا عن أسباب تداعي نظام استمر لمدة سبعين سنة، وبعث الأمل بإمكانية إنشاء عالمٍ تنتهي فيه ظاهرة الاستغلال بأنواعها المختلفة. ويعطف على ذلك بسؤال عن سر اختياره للاشتراكية، وتمسكه بها رغم تهاوي الدولة السوفييتية؟ موضحا بأن السبب ليس عداوة المعسكر الغريم، لأنه لا يمقت الرأسمالية فعلا. إن ما يرويه علي الشوك عن أرومة أسرته وامتلاك جده لمساحات واسعة من الأراضي، والوفرة التي تمتعوا بها، تكشف عن صعوبة التخلص من ترسبات متراكمة بمجرد اعتناق أفكار جديدة، فكانت الأراضي التي تعود ملكيتها لعائلة الشوك، تشمل كل المنطقة التي تقع فيها بناية المتحف، ومطار المثنى وقصر النهاية، طبعا الكلام على عهدة عم الكاتب. يقدم مؤلف «أسرار الموسيقى» رأيه عن القادة الشيوعيين معلنا بأنه لم يحب ستالين، ويكتشف بأن لينين يزدري المثقف واعتبره ماكينة الحزب، ويرفض نبوة ماركس بعدما يعلم بأن الأخير أنجب من خادمته، وكان أنجلز وحده موضع إعجابه.
هل يمكن فهم موقفه من صاحب «ديالكتيك الطبيعة» على خلفية تقاطع اهتماماتهما العلمية، أم لأن أنجلز كان ابن عائلة أرستقراطية كما علي الشوك. الملمح البارز في هذا النص السيري هو ما يسرده المؤلف عن انهمامه على عالم الرواية، وشغفه بالروائيين الكبار، ستاندال وشولوخوف وستيفان زفايغ وتوماس مان وغيرهم. ويعود إلى قراءة «الحب الأول» لتورغينيف بعد ستين عاما على القراءة الأولى، يذكر أن فلوبير قد احتفي بهذه الرواية أيضا، كما قرأت رائعة تورغينيف داخل بلاط الامبراطور الروسي. لا يكتفي علي الشوك بمتابعة الأعمال الروائية إنما يسكنه هاجس كتابة الرواية، لكن إنجاز هذا المشروع يتأخر، لأن الانخراط في هذا العالم يتطلب معرفة بامرأة بمواصفات خاصة. ويدرك المتلقي بأن الشوك كان يبحث عن امرأة من طراز ماتيلد بطلة رواية «الأحمر والأسود».
وعن تواصله مع الجنس الآخر يقول علي الشوك بأنه لم يكن ساحرا أمام المرأة، لكنّ ثمة شخصيتين نسائيتين، أعجب بهما الكاتب الأولى هناء بتحررها وقوة حضورها. فهي آوته في ألمانيا الشرقية، والأخرى من يرمز إليها بـ «غ». يتناول علي الشوك في مفصل آخر من سيرته كواليس كتابة الرواية، إذ ينشر روايته الأولى بعنوان «الأوبرا والكلب»، وتليها أعمال أخرى منها «السراب الأحمر» و»فرس البراري»، وهو قد راودته في البداية فكرة إصدار رواية بعنوان «المعصوبي العين». يناقش الكاتب ما قاله النقاد والقراء عن سردياته الروائية، وتستشف من ردوده بأنه لا يستسيغ بعض الآراء، ويعتبرها استهانة بعملٍ أحرق أعصابه في إنجازه بحب وعناية، الأمر الذي يذكرك بما لاحظته فاطمة المحسن بأن ما يزعج العراقي هو مجادلته في مسلماته. لا تخلو عبارات علي الشوك من الاستعلائية وهو يقول، بأنه يرثي لنفسه لأنه وجد بين أمة متخلفة لا تستحق أن تمارس حياتها في القرن الواحد والعشرين. كما يصف ثورة 14 تموز/يوليو بأنها كانت ثورة رعاعية كأن ما شهدته فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر عبارة عن حركة سلمية. وينزل بالقارئ دون مستوى المبدع، فبرأيه أن الكاتب هو صاحب الإنجاز، أما القارئ فهو مستهلك.
والمشترك في كتب السيرة والمذكرات هو حضور الخطاب النقدي، إذ يمارس المؤلف نقدا لذاته وما كانت بمنزلة المسلمات الأيدولوجية والسياسية، كما يرصد مظاهر التخلف على المستوى السياسي والاجتماعي، وقد تفيد مضامين هذه الكتب لفهم التكوين النفسي للنخبة المثقفة. ومستوى تفاعل هؤلاء مع المعطيات الفكرية.

٭ كاتب عراقي

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.