تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة؛ اسم الملف هو 302701-1714548919.jpg

“أصوات مراكش” وروائحها وغرابتها كما “رآها” الياس كانيتي

بدويّ الكتابة يحول المدينة المغربية إلى لوحة من الكلام المدهش

إيراهيم العريس  الثلاثاء 12 يناير 2021 م

إلياس كانيتي (غيتي)

في العام 1981 حين فاز الياس كانيتي بجائزة نوبل للآداب، كان كثر من القراء في العالم يعرفون اسمه وبعض أعماله، لكن آخرين منهم كانوا حائرين أمام ما يكتبه وينشره حقاً. ومن هنا راح قراء فضوليون يكتشفون فيه الروائي والناقد والفيلسوف وكاتب اليوميات في آن معاً. لكنهم أيضاً اكتشفوا “البدوي” الحقيقي، ذلك الذي عرف كيف يتجول بين الأوطان واللغات بشكل قلّ أن طبع أي كاتب آخر. فالياس كانيتي، المولود في بلغاريا في أسرة إسبانية يهودية الأصل، تلقى علومه في بريطانيا، وعبّر عن نفسه دائماً باللغة الألمانية، أما لغته الأم فكانت الإسبانية إضافة إلى البلغارية. غير أن المسألة لم تكن تقنية وجغرافية بحتة، بمعنى أن الياس كانيتي لم يستخدم التنوع اللغوي والتشتت الجغرافي كمجرد أدوات تعبيرية، بل كانا من الأمور الجوهرية بالنسبة إليه، ومن هنا نراه في كتاباته يعبّر عن هموم إنسانية عامة كما يعبّر في الوقت نفسه عن مستوى من الحكمة يضعه في صف واحد مع كبار الكتّاب الأخلاقيين الذين عرفهم القرن العشرون، ولعل الفصول العديدة من كتابه الأشهر “الجمع والسلطان” تكفي لإطلاعنا على عمق تفكير هذا الكاتب الذي حين رحل عن عالمنا عام 1994 واعتبر النقاد رحيله خسارة كبيرة للأدب العالمي، وليس لأدب بعينه، وإن موته يكاد ينهي مرحلة من تاريخ الأدب، عرف فيها بعض الكتّاب كيف يتجاوزون الحدود والسدود بين الأمم والشعوب لتقديم عمل ينضح بالشمولية الإنسانية، يتجلى في العديد من نصوصه سواء روايات (مثل “الحرق”) أو كتباً فلسفية – اجتماعية (مثل “الجمع والسلطان”) أو كتب سيرة ذاتية (مثل أجزاء سيرته وأشهرها “اللسان الذي أنقذ”). ولكن بصورة خاصة كتابه الأجمل “أصوات مراكش”.

نصّ يقدّم ذاته

فما هو هذا الكتاب؟ ولماذا يمكننا اعتباره متفرداً في مجال كتب الرحلات مع أنه أساساً كتاب رحلة؟ الحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال الأخير تتضمن الإجابة عن السؤال الأول. وببساطة أفضل السبل لتقديم هذا النص الجميل هو ترك فقرات منه تقدم ذاتها بذاتها، وتعكس فرادة المجموع الشاعرية لكن الإنسانية أيضاً. والبداية من هذه الصورة: “تطلع من الأسواق رائحة التوابل. كل شيء هنا طازج والألوان تنهمر انهماراً. لكن الرائحة التي تبدو على الدوام عذبة، تتبدل بتبدّل طبيعة البضائع. ليست للمحلات هنا أسماء ولا يافطات. وليست فيها واجهات. بل كل ما يمكن بيعه معروض هنا. والمرء العابر المكان لا يمكنه أبداً أن يعرف كم سعر هذا الشيء أو ذاك. الأسعار ليست مسجلة على بطاقات… بل هي غير محددة على الإطلاق”. “إن كيس الجلد الذي قد ترغب في شرائه، ستجده معروضاً لدى عشرين حانوتاً وكل حانوت يلتصق بالثاني التصاقاً. هنا تشاهد بائعاً متربعاً وسط بضاعته بشكل يجعل كل البضائع في متناول يده لأن المكان ضيق. بالكاد يحتاج إلى مد ذراعه على طوله للوصول إلى أي كيس من الأكياس. فإن وقف فإنما يقف تهذيباً إن لم يكن مسنّاً”.

من الواضح كما يرى كانيتي أن “كل ما ينتجه الجنوب المغربي من البضائع الجلدية معروض عليك في هذا البازار الذي يعتبر الأشهر والأكبر في المدينة”. ويلاحظ الكاتب أن ثمة الكثير من الشعور بالفخر في هذا العرض. فالبائعون هنا يعرضون عليك كل ما يمكن صنعه، لكنهم يُرونك في الوقت نفسه مدى الوفرة الماثلة بحيث إنك ستخال لوهلة وكأن الأكياس نفسها تدرك أنها ثروة البلاد وأنها على هذا الأساس تعرض أمام عيون العابرين بكل بريقها وزهوها (…). أما العابر فربما يقول لنفسه: اليوم أود أن أقصد سوق التوابل. وعلى الفور يصل إلى أنفه ذلك الخليط العجيب من الروائح والعطور ليرى أمام ناظريه سلالاً ضخمة ملأى بالفلفل الأحمر. ثم يقول في يوم آخر: اليوم تواتيني رغبة في مشاهدة الأصواف الملونة. وعلى الفور يرى الأصواف معلقة من حوله بألوانها البديعة: زرقاء غامقة، أو صفراء ذهبية أو سوداء…”. وقد يقول العابر: اليوم سأقصد السلالين لأرى كيف يحيكون سلالهم…”

يلاحظ الكاتب أن “الكرامة التي تنبض بها تلك الحوائج المصنوعة بأيد بشرية، تبدو مدهشة، لكنها أحياناً قد تكون هجينة إذ يحدث أن تتسلل إليها عناصر مشكوك فيها مصنوعة على الآلات أو مستوردة من بلاد الشمال. لكنها مع ذلك، تعرض بالأسلوب القديم نفسه…”. ويروي كانيتي: “مررت بالقرب من سبيل عمومي. كان ثمة صبي ينحني عليه شارباً من مائه. انحرفت إلى اليسار فسمعت صوتاً عذباً دافئاً يأتي من أعلى. نظرت إلى البيت المواجه فرأيت وجه امرأة شابة يطل من الطابق الأول من خلف شباك. لم تكن محجبة ولها بشرة غامقة اللون، وكان وجهها شديد القرب من الشباك. كانت تتمتم بعبارات ذات كلمات مفعمة بالحنان. لم أفهم لماذا لم تكن محجبة لكني شعرت بأنها تتوجه بالحديث اليّ. لكني لم أرَ ساعديها. هل كانت مقيدة؟ ربما، لكن المهم أن كلماتها كانت تتدفق كنبع ماء رقراق من دون أن أفهم كلمة…”

gettyimages-1228506203-594x594.jpg

ساحة جامع الفنا في مراكش (غيتي)​​​​​​​

حياة تستمد ثراءها من بداوتها

ولد الياس كانيتي في مدينة روتشوك في بلغاريا في العام 1905، لكنه لم يبقَ هناك سوى ستة أعوام إذ اضطر في العام 1911 إلى اللحاق بوالديه في إنجلترا، وبعد سنتين، حين توفي أبوه، توجه إلى النمسا ليعيش بضع سنين غادر بعدها للتنقل بين ألمانيا وسويسرا حيث حصل علومه الثانوية، ثم عاد إلى فيينا، عاصمة النمسا، لكي يحصل دراسته الجامعية ويحوز شهادة الدكتوراه في الفلسفة. والحقيقة أن مدينة فيينا هي التي أحبها كانيتي أكثر من أي أخرى، كما عبّر عن ذلك في العديد من نصوصه خصوصاً في نص شهير كتبه ليلقيه في العاصمة النمسوية خلال الاحتفال بالذكرى الخمسينية للكاتب هرمان بروخ، غير أنه اضطر لمغادرة فيينا، بين من غادرها من كبار الكتّاب والمبدعين التقدميين والديمقراطيين، في العام 1938 يوم دخلتها القوات الهتلرية، وهو أمر لن يغفره كانيتي لهتلر بعد ذلك، على الإطلاق.

غادر كانيتي النمسا، وتوجه منذ ذلك الحين ليعيش في إنجلترا، حيث سيمضي القسم الأعظم من سنواته، ممتهناً حرفتي الكتابة والترجمة في الوقت نفسه. صحيح أنه عاش عقوداً عديدة من حياته فيها وإن لغته الأم كانت الإسبانية، إلا إنه فضّل دائماً أن يكتب بالألمانية، لغة أعدائه الهتلريين، فأبدع بها العديد من النصوص التي جعلته من كبار كتّاب الألمانية في القرن العشرين. مهما يكن، فإن كانيتي حين كان يُسأل عن ذلك التناقض، وعما يدفعه إلى استخدام لغة تحلّ لديه في المرتبة الرابعة من حيث وجودها في حياته، كان يقول إنما يتبع في ذلك كافكا، ويريد أن يظل شقيقاً، في الكتابة، للعديد من كبار كتّاب الألمانية الذين يحبهم، من بروخ إلى كارل كراوس إلى بريخت.

كتاب لزوار مراكش

رواية “الحرق” (1935) كانت أول رواية كبيرة كتبها كانيتي، وظلت على الدوام – مع ذلك – الأكبر، حيث يروي فيها حكاية مثقف يغرم بإمرأة تذله وتهينه وتغدر به حتى ينتهي الأمر إلى إحراق نفسه وسط كتبه. العمل الشهير التالي له مسرحيته “كوميديا الوحدات” (1950) التي تتحدث عن حكومة تمنع الناس من استخدام المرايا أو من تعليق صورهم! وفي مسرحية تالية له عنوانها “موتى مع وقف التنفيذ” (1956) يطالعنا قادة دولة شمولية وقد آلوا على أنفسهم أن يوقفوا ألم الناس إزاء الموت، بتحديد موعد محدد لموت كل واحد منهم. ويكون أن تقوم ثورة باسم اللايقين يقودها أناس لم يعودوا راغبين في معرفة تاريخ موتهم بشكل مسبق. مهما يكن يبقى كتاب كانيتي “أصوات مراكش” واحداً من أجمل كتبه وربما، الذي يقرأه كل مثقف أوروبي قبل أن يقوم بزيارة تلك المدينة المغربية الاستثنائية.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.