دي أوليفيرا: أسئلة وأساطير وحياة بأسرها للفن

… وفي عامه السابع بعد المئة، أسلم الروح ليسجل بهذا رقما قياسياً بالنسبة الى أكبر المعمرين في تاريخ الإخراج السينمائي، إذ ليس هناك على حدّ علمنا بين المبدعين السينمائيين من وصل الى هذه السن، أو على الأقل من واصل الوقوف وراء الكاميرا وكأنه في شرخ الشباب، إذ نعرف أن مانويل دي أوليفيرا – وهو المخرج البرتغالي الذي رحل عن عالمنا قبل أيام -، كان حتى شهوره الأخيرة يشتغل على مشروع جديد، هو الذي اعتاد إنجاز فيلم مرة كل عام أو عامين مسجلاً بهذا أيضاً ما يشبه الرقم القياسي. والحقيقة أنه إذا كان يحق لدي أوليفيرا أن يدخل كتاب «غينيس» للأرقام القياسية لأسباب عديدة، فإن من حقه بالأحرى أن يدخل تاريخ السينما الكبير من الباب الواسع لكونه، في نصف دزينة على الأقل من أفلامه، تبدّى مبدعاً حقيقياً في الفن السابع حتى خارج إطار تلك «الأساطير» التي نسجت من حوله، كتلك التي تقول مثلاً إنه المخرج الذي عاصر السينما منذ حقبتها الصامتة، والمخرج الذي حقق العدد الأكبر من الأفلام في تاريخ السينما. فلا هذا كان صحيحاً ولا ذاك. كل ما في الأمر أنه وُلد في أيام السينما الصامتة – عام 1908 – وأنه حقق عدداً لا بأس به من أفلام. لكن بدايته الحقيقية كسينمائي، إنما كانت في عام 1942 مع فيلمه الروائي الطويل الأول «آنيكي بوبو»، الذي تزوّج خلال إنجازه تلك السيدة الأنيقة الثرية ماريا إيزابيل التي رافقته خلال السبعين سنة التالية من حياته – رقم قياسي آخر؟ -…   حقائق سينمائيّة مهما يكن من أمر، لمناسبة رحيل دي أوليفيرا كان لا بد للأرقام القياسية والتأكيدات الغريبة أن تكثر، ولكن لاحقاً سيُنسى هذا كله لتبقى من الرجل مجموعة حقائق تخصّ تاريخ السينما وتتعلّق به. ومن أولى هذه الحقائق بالطبع، أنه هو الذي أدخل، بلده البرتغال، على خارطة السينما العالمية، وظل حتى رحيله الإسم الأكبر والأشهر في سينما هذا البلد. ومع هذا، لا بد من القول إن دي أوليفيرا لم يكن محبوباً في بلده بقدر ما كان محبوباً في العالم الخارجي، مثله في هذا مثل مبدعين كالياباني كوروساوا والهندي ساتياجيت راي، وحتى الإسباني لويس بونويل الذي غالباً ما يقارن به، بل إن أوليفيرا في واحد من أفلامه وهو «حسناء الى الأبد» (2006)، استطرد راوياً حكاية شخصيتين استعارهما من فيلم «حسناء النهار» لبونويل. لكن هذا الالتفات الى مبدعين آخرين، لم يكن غريباً على المخضرم البرتغالي. فهو في الأفضل بين أفلامه، وجد نفسه على التحام حيناً مع بول كلوديل – حين حقق «حذاء الساتان» عن مسرحية هذا الأخير في أكثر من أربع ساعات بتمويل فرنسي (1985) – أو حتى مع غوستاف فلوبير حين أراد مرة أن يؤفلم «مداد بوفاري» ليتناهى الى علمه أن زميله الفرنسي كلود شابرول بصدد تحقيق مشروع مماثل عن الرواية نفسها، فما كان منه إلا أن طلب من كاتبة صديقة أن تكتب له نصاً مشابهاً تخلق فيه مدام بوفاري على الطريقة البرتغالية، فكان فيلم «فال آبراهام» (1993) الذي حقق نجاحاً مدهشاً حين عرض في «أسبوعي المخرجين» في مهرجان «كان» في ذلك العام. صحيح أن هذا الفيلم حقق نجاحاً كبيراً أيضاً حين عرض في البرتغال، لكن ذلك النجاح لم يوقف الحملة المتواصلة التي كان دي أوليفيرا يتعرض لها هناك بوصفه «مروّجاً للثقافة الفرنسية». وهذا اتهام جوبه به الرجل منذ نجاحاته الأوروبية الأولى، إذ كانت فرنسا أول من حضنه، بل إن المنتج الذي أمن له تمويل الغالبية العظمى من أفلامه منذ «حذاء الساتان»، إنما كان برتغالياً مهاجراً في فرنسا هو باولو برانكو الذي سيصبح لاحقاً واحداً من كبار المنتجين الأوروبيين. والحال أن حكاية «علاقة» مانويل دي أوليفيرا بفرنسا، هذه يجب أن تلفتنا الى واقع أن هذا المخرج على رغم أن بداياته في تحقيق أفلام قصيرة ووثائقية، وحتى قبل روائيّه الطويل الأول «آنيكي بوبو»، تعود الى عام 1931 ليكون بذلك صاحب أول فيلم حمل إسم البرتغال، فإن مرحلة إبداعه السينمائي الحقيقي إنما بدأت في شكل متواصل في عام 1972 فقط، عبر فيلم «الماضي والحاضر» الذي سيكون مدخله الحقيقي الى السينما الأوروبية ومهرجاناتها. قبل ذلك، كان حقّق فقط روائياً طويلاً ثانياً هو «فصل الربيع» الذي حاول أن يروي فيه على طريقته آلام السيد المسيح. إذاً، عند بداية سنوات السبعين كان الدخول الأول لأوليفيرا في السينما العالمية، لكنها كانت لا تزال بدايات متواضعة آيتها بضعة أفلام أخرى لم يفت كلاً منها أن يثير بعض الإشكاليات، أما الإشكال الأكبر في ذلك الوقت «المبكر» فكان بصدد فيلمه الرابع «بنيلده أو الأم العذراء»، الذي طلع به الى الجمهور البرتغالي في وقت كانت البرتغال أنجزت ثورة القرنفل متخلّصة من الديكتاتور سالازار الذي كان دي أوليفيرا قد عُرف بمناهضته. فكانت الدهشة كبيرة إزاء فيلم غامض، يتحدث عن فتاة تدّعي أنها حملت من ملاك جاءها من السماء… في وقت كانت فيه البرتغال قد حققت حريتها! غير أن الدهشة بقيت برتغالية، إذ إن الجمهور الأوروبي لم يكن قد تنبه بعد الى وجود هذا المخرج الذي من الطريف أنه «بدأ» حينها في سن يتقاعد فيها الآخرون. لكنه بدأ شاباً حتى وإن كان قد بارح الستين من عمره.   دور النقد الفرنسي وحتى لئن كانت أوروبا لا تزال تجهل دي أوليفيرا في ذلك الحين، فإن النقد الفرنسي – على عادته -، كان سبّاقاً في الخارج الى الالتفات ولفت النظر إليه، ولا سيما بعد أن اكتملت له بفيلم تالٍ هو «فرانسيكا» رباعية رومانسية – غيبية، في عام 1981 بعدما كان حقق نجاحاً سجالياً بالفيلم السابق «حب الضياع»، المأخوذ عن واحدة من أشهر الروايات الرومانسية البرتغالية… وكان السجال لأن دي أوليفيرا حرص على إبقاء الطابع الأدبي للعمل من دون أن يفرط في التدخل السينمائي. وهذا الجهد الذي اعتبر مجانياً في البرتغال، كان هو بالذات ما أثار حماسة النقد الفرنسي، ما دفع وزير الثقافة الفرنسي – آنذاك – جاك لانغ، الى دعم مشروع دي أوليفيرا التالي، والذي سيدخله مباشرة الى سجل كبار السينمائيين، ونعني به هنا طبعاً «حذاء الساتان» المقتبس عن مسرحية الفرنسي بول كلوديل، ليصبح ذلك الفيلم الضخم الذي عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية، ليشكّل مفاجأة ضخمة بالنسبة الى البعض، ومناسبة للنوم في الصالة وللملل بالنسبة الى البعض الآخر. وفي الأحوال كافة، سنراه يقفز باســم مانويل دي أوليفيرا قفزة لا سابق لها، إذ منحته لجنة تحكيم المهرجان الإيطــالي يومها «أسداً ذهبياً» خاصاً، فيما وجد باولو برانكو، الذي أضحى صديقه ومنتجه الدائم، من السهولة بمكان الحصول له على الأموال الكافية لإنتاح أفلامه المقبلة. كان ذلك كما أشرنا في عام 1985، وكان دي أوليفيرا في السابعة والسبعين من عمره، لكنه في الحقيقة كان يبدو أكثر نشاطاً من كثر من السينمائيين الذين يصغرونه سناً بكثير. ولقد مضى الآن أربعون عاماً على تلك الولادة الجديدة للمخرج الذي بات يرى مكانه الآن طبيعياً في صفوف الكبار، وتتهافت المهرجانات الى الحصول على جديده. وهذا الجديد سيكون نحو خمسة وعشرين فيلماً راح دي أوليفيرا يحققها الواحد تلو الآخر من دون فترات استراحة طويلة بين الفيلم منها والآخر. وهو لئن كان في البداية، بعد النجاح الكبير لـ «حذاء الساتان»، قد أمعن اقتباساً ولا سيما من الآداب الكلاسيكية: من «الكوميديا الإلهية» الى «مدام بوفاري» و«مدام دي لافاييت» (الأميرة دي كليف في «الرسالة»)، وصولاً الى استلهام شكسبير ولو بطريقة مواربة في «الدير» (1995)، فإنه في الفيلم الذي حققـه عام 1990 بعنوان «لا… أو مجد القائد غير المجدي»، قدّم في ساعتين تقريباً وانطلاقاً من حكاية دورية عسكرية برتغالية كولونيالية في إفريقيا، ما يمكن اعتباره مرافعة حول تاريخ بلده ومفاسد هذا التاريخ في تعامل البرتغال مع مستعمراتها التي لطالما زعمت أنها تتطلّع الى تمدينها. والحقيقة أن في هذا الفيلم، الذي حقق بدوره نجاحاً استثنائياً على مستوى النقد والتقييم الدراسي، أكثر مما على مستوى الجمهور، دنا دي أوليفيرا من السياسة، في بعدها التاريخي المجازي على الأقل، دنواً لم يمارسه في أي وقت أو فيلم مضى.   عودة الى الذات في ذلك الحين، كان لا بد أخيراً لدي أوليفـــيرا من أن يبدأ التفكير بمواضيعه الخاصة. لقد خدم مواضيع الآخرين وأفكارهم بأشكال سينمائية غالباً ما اتّسمت بكلاسيكية محدثنة، وبات عليه الآن أن يقدم سينما – مؤلف أكد له فيلم «لا…» أنه قادر على صياغتها. وهكذا راح مخرجنا، بين الحين والآخر، يحقق فيلماً جــــديداً من هذه الطينة. وهو بقدر ما كــان يتقدم في مثل هذا المجهود، كانـــت سينماه تتهذب وتبدو مصقولة أكثـــر وأكثر، بحيث أن في إمكاننا هنا أن نقول إن المتن السينمائي الذي حققه دي أوليفيرا خلال العقد ونصف العـــقد الأخيرين من حياته، يشكل عملاً متكـــاملاً لا يزال في الحقيقة في حاجة الى المزيد من الدراسة والتوليف النقدي بغية اكتشاف تلك الوحدة، المـــوضوعية أو الشكلية أو الإثنتين معـــاً، التي تسم هذا المتن الذي راح متــــسارعاً في تقديم أفلامه، ولا سيما في مهرجاني «البنــدقية» و «كان»، في وقت كان قد بات أشبه ببطل قومي في بلده وبظاهرة مستغربة في أوروبا والعالم. ففي الفترة بين سن الثانية والتسعين وسن الخامسة بعد المئة، أي قبل عامين من رحيله، حقق دي أوليفيرا عشرة أفلام أكثرها أعمال روائية تتسم بقدر كبير من الطموح التشكيلي، وبقدر أقل من الادعاء الأخلاقي الذي يسم المبدعين عادة حين يصلون الى أقل من هذه السن بكثير. ومع هذا، فإن فيلموغرافيا تلك السنوات لم تخلُ من أعمال يمكن النظر إليها اليوم على أنها أشبه بأن تكون وصايا مبدع يريد أخيراً أن يقول ذاته. فمن «بورتو طفولتي» (2001) و «الصندوق» عن مسقط رأسه، الى «فيلم ناطق» (2003) الذي يتطلع الى تصوير ما يمكن اعتباره تاريخاً للبشرية، الى «سأعود الى البيت» (2001) الذي يعالج إشكالية سن القدرة على الإبداع تحديداً، وصولاً الى «سفر الى آخر العالم»، الذي يصور لنا مخرجاً سينمائياً يعود الى الأماكن التي شهدت طفولته… عرف دي أوليفيرا كيف يقدم لنا، وغالباً بمشاركة ممثلين كبار من طينة جان مورو وكاترين دونوف وجون مالكوفتش وميشال بيكولي وميكائيل لونسدال، وحتى مارتشيللو ماستروياني (في آخر دور مثله قبل رحيله، في «سفر الى آخر العالم»)، عملاً سينمائياً يحفر عميقاً في الذات ويطرح أسئلة الإبداع والكينونة البشرية. غير أن الانصراف الى مثل هذه المواضيع التي تتسم بقدر كبير من الذاتية، لم يمنع المخرج من مواصلة طريقه الأخرى في الاقتباس، ولا سيما عن أعمال أدبية برتغالية، ومن النهل من التاريخ حيث قدم في «كريستوف كولومبوس… اللغز» حكاية مانويل لوتشيانو الذي يسعى منذ العام 1940، الى حلّ ما يعتبره لغز مكتشف أميركا. ولعلّ من اللافت في هذا كله أخيراً، أن دي أوليفيرا حقق آخر حياته فيلمين ربما يمكن اعتبارهما الأكثر شباباً، مع تباعد في الذهنية والموضوع بين الفيلمين لا يخلو من غرابة، ففي «حالة أنجيليكا الغريبة» (2010) حدّثنا عن مصوّر يُدعى ذات ليلة الى بيت أسرة ثرية لتصوير جثمان ابنتها المسجاة قبل الذفن. فيعيش المصور حالاً من الاستحواذ، إذ يجد أن الجثمان أمام كاميراه فقط تدبّ فيه الحياة. أما في الفيلم التالي «جيبو والشبح» (2012)، فإن ما لدينا – بتمثيل أخاذ من المخضرمين الثلاثة: ميكائيل لونسدال وجان مورو وكلوديا كاردينالي – حكــايـــة أسرة تتألف من محاسب عجوز وزوجته وكنّته، يعيشون في انتظار عودة ابن ذينك وزوج هذه الغائب في شكل غامض… لا يعرفون أين هو ولا لماذا غاب، لكنهم لسبب ما يعرفون أنه سيرجع… وهو بالفعل يرجع ولكن…. إذاً، عن عمر يماثل ضعف عمر أي مخرج كبير آخر من مبدعي السينما، رحل مانويل دي أوليفيرا قبل أيام مخلّفاً كل هذا المتن السينمائي، رحيلاً يقول لنا ببساطة إنه متن جدير بالاكتشاف.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.