قنفذ البحر؛ خوليو كورتازار

ترجمة: سماح جعفر

“لا أحد يستطيع أن يعيد سرد حبكة قصص كورتازار؛ فكل واحدة تتألف من كلمات محددة في ترتيب محدد. ولو حاولنا تلخيصها، سندرك أن شيئاً ثميناً قد ضاع”. (خورخي لويس بورخيس)

قنفذ البحر المكسيكي هو سمندل ذو شكل غريب برأس مسطح وأرجل مدببة، غير عادي لأنه غالباً ما يقضي معظم حياته في ما يسمى مرحلة اليرقات، مثل الشرغوف، دون التحرك مطلقاً إلى اليابسة. “إنه ينمو وينمو في نفس الهيئة، ولديه القدرة على الاستنساخ”، قال عالم الأحياء ارماندو توفر غارسا. “لا نعلم حقاً لما لا يتغير”. نظرته تبدو آسرة بينما تلمع خياشيمه ببطء. في قصة خوليو كورتازار القصيرة “قنفذ البحر”، الراوي مذهول – “لقد بقيت أشاهدهم لساعة ثم ذهبت، غير قادر على التفكير في أي شيء أخر” – مختبراً مسوخه الخاصة.

*مجلة نيويورك تايمز، 23 أكتوبر 2012

قنفذ البحر

كان هناك وقت فكرت فيه بشكل كبير في قنافذ البحر. ذهبت لرؤيتها داخل حوض الأسماك في حديقة النباتات وبقيت أشاهدها لساعة، أراقب جمودها، حركتها الخافتة. الآن، أنا قنفذ بحر.

لقد عرفتها بالصدفة في صباحٍ ربيعي بينما كانت باريس تنشر ذيلها الطاؤوسي عقب صوم شتوي. كنت متجهاً أسفل جادة بورت رويال، ثم أخذت طريق سانت مارسيل والمستشفى ورأيت شيئاً أخضراً وسط كل ذلك الرمادي، وتذكرت الأُسود. كنت صديقاً للأُسود والفهود، ولكني لم أذهب أبداً إلى ذلك المبني الرطب المظلم، وهو المتحف المائي. تركت دراجتي قبالة القضبان الشبكية وذهبت لألقي نظرة على الزنبق. الأُسود كانت حزينة وقبيحة وفهدي كان نعساناً. ذهبت إلى حوض الأسماك، نظرت بشكل غير مباشر للأسماك المبتذلة، وفجأة، رصدت ببراعة القنافذ البحرية. بقيت أشاهدها لساعة ثم ذهبت، غير قادر على التفكير في أي شيء آخر.

في المكتبة عند سانت جنفييف، راجعت قاموساً وعلمت أن قنافذ البحر هي مرحلة اليرقات (مزودة بخياشيم) عند أنواع من السمندل من جنس أمبيستوما. وأنها كانت من المكسيك وقد عرفت ذلك بالفعل من خلال النظر إليها، وإلى وجوهها الوردية الأزتيكية، وللافتة في الجزء العلوي من الخزان. قرأت أن بعض العينات قد تم العثور عليها في أفريقيا وهي قادرة على العيش في اليابسة خلال فترات الجفاف، والعودة لحياتها تحت الماء عندما يأتي موسم الأمطار. ووجدت اسمها بالأسبانية “ajolote” وذكر أنها كانت صالحة للأكل، وأن زيتها كان يستخدم (لم يعد يستخدم، ذكرت اللافتة) مثل زيت كبد القد.

لم أكترث لأمر البحث عن أي من وظائف الأجناس، لكن في اليوم التالي عدت إلى حديقة النباتات. بدأت أذهب كل صباح، صباح وظهيرة في بعض الأحيان. يبتسم حارس الحديقة بارتباك وهو يأخذ تذكرتي. اتكئ قبالة القضبان الحديدية أمام الخزان وأشاهدها. لا شيء غريب في هذا، لأنه بعد أول دقيقة عرفت أننا متصلين، وأن شيئاً أبدياً مفقوداً وبعيداً يشدنا إلى بعضنا. كان ذلك كافياً لاحتجازي، في ذلك الصباح الباكر، أمام صفحة من الزجاج، حيث ترتفع بعض الفقاعات خلال الماء.

كانت قنافذ البحر تحتشد على ذلك السطح الضيق والبائس (فقط أنا أعرف كم هو ضيق وبائس) من الطحالب والحجارة في الخزان. كانت هناك تسع عينات، وأغلبيتهم يضغطون وجوههم قبالة الزجاج، ينظرون بأعينهم الذهبية لكل ما يأتي قربهم.

بارتباك، وبشعور يشبه الخجل، أحسست أنه من الفسوق النظر إلى هذه الهيئات الصامتة، الساكنة، المتكومة في أسفل الخزان. عزلت أحدها عقلياً، كان يتمركز على اليمين وبشكل ما كان بعيداً عن الآخرين، لأدرسه بشكل أفضل، رأيت جسداً وردياً صغيراً وشفافاً، (فكرت في تلك التماثيل الصينية المرسومة على كؤوس الحليب)، يبدو مثل سحلية صغيرة لا يتجاوز طولها الست بوصات، وينتهي بذيل سمكة دقيق بشكل استثنائي، أكثر الأجزاء حساسية في أجسادنا. على طول الظهر تمتد زعنفة شفافة تتصل بالذيل، ولكن كانت الأقدام ما استحوذ علي ، في ضآلتها الدقيقة، تنتهي بأصابع صغيرة بها أظافر بشرية دقتها متناهية.

ثم اكتشفت عينيها، وجهها. سماتها الخالية من المعنى، مع عدم وجود قسمات أخرى تحفظها، بدت الأعين كفوهتين، مثل دبابيسٍ مزخرفة، من الذهب الشفاف بالكامل، تفتقر لأي حياة سوى النظر، تاركين ذواتهم تُخترقُ بنظرتي، والتي تبدو وكأنها تسافر عبر السطح الذهبي وتضيع في السر الداخلي الشفاف. هالة سوداء رفيعة جداً تحيط العيون وتنحفر في اللحم الوردي، على حجر الرأس الوردي، كمثلث مبهم، لكن مع انحناءات وجوانب مثلثة منحته مع الوقت تشابهاً كاملاً مع تمثال برونزي متآكل. الفم كان محتجباً بالسطح المثلث للوجه، حجمه الكبير لن يتم تقديره إلا لو رسمت له صورة جانبية؛ من الأمام شق دقيق بالكاد يقطع هذا الحجر الهامد. على جانبي الرأس حيث يجب أن تكون الأذنان، نمت ثلاثة أغصان صغيرة، حمراء كالمرجان، ونموها نباتي، الخياشيم، أفترض. وقد كانت الشيء الوحيد السريع بخصوصها؛ كل عشر أو خمس عشرة ثانية ترتفع الأغصان بصلابة ومن ثم تهدأ ثانية. من حين إلى أخر تتحرك القدم بالكاد، وأرى الأصابع الضئيلة تتموضع باتزان على الطحلب. إن الأمر هو أننا لا نحب أن نتحرك كثيراً، والخزان ضيق جداً- نحن بالكاد نتحرك في أي اتجاه ونصطدم سوياً برؤوسنا أو أذيلنا- تنشأ صعوبات، قتالات، متاعب. يبدو الوقت وكأنه يقل عندما نجلس بهدوء.

في المرة الأولى التي رأيت فيها قنافذ البحر، كان سكونهم هو الذي جعلني اتكئ قبالتهم مفتوناً. بشكل غامض بدا وكأنني أفهم إرادتهم السرية، لإلغاء المكان والزمان بالجمود غير المبال. لاحقاً صرت أعرف بشكل أفضل، تقلص الخيشوم، الحركة المترددة للأرجل الحساسة على الحجارة، السباحة المفاجئة (بعضها يسبح بحركة موجية بسيطة للجسم) لإثبات أنهم قادرين على الهروب من ذلك الخمول المعدني الذي أمضوا فيه ساعات كاملة.

قبل كل شيء، أسرتني عيونهم. في الخزان، على الجانب الأخر منهم، أسماك مختلفة أظهرت لي الغباء البسيط للأعين الوسيمة المشابهة جداً لخاصتنا. لكن عيون قنافذ البحر تحدثني عن وجود حياة مختلفة، طريقة أخرى للرؤية.

ملصقاً وجهي بالزجاج (يكح الحارس بعناية بين الحين والأخر)، حاولت أن أنظر بشكل أفضل لتلك النقاط الذهبية الضئيلة، التي دخلت للهدوء اللانهائي وتحكمت بعالم هذه المخلوقات الوردية. كان عبثاً، الطرق بإصبع واحد على الزجاج مباشرة أمام وجوههم؛ لأنهم لا يظهرون أي تفاعل. العيون الذهبية واصلت اللمعان بضوئها الناعم الرهيب، وواصلت النظر إلي من عمق لا يسبر غوره مما جعلني أصاب بالدوار.

ومع ذلك، فقد كانوا متقاربين. عرفت ذلك مسبقاً، قبل أن أصبح قنفذ بحر. عرفت ذلك في اليوم الذي اقتربت منهم لأول مرة. السمات الأنثروبومورفية لقرد تظهر عكس ما يعتقد معظم الناس، المسافة التي تفصلهم عنا. انعدام الشبه مطلقاً بين قنافذ البحر والبشر يثبت لي أن إدراكي كان صحيحاً، وأنني لا أدعم نفسي بمقارنات سهلة. فقط الأيدي الصغيرة … ولكن صغير السمندل، السمندل الشائع، له نفس اليدين أيضاً، ولكننا غير متشابهين أبداً. أظن أنها رؤوس قنافذ البحر، ذلك الشكل الوردي الثلاثي مع الأعين الذهبية الصغيرة. التي رأت وعرفت. التي وضعت الاعتقاد. أنهم ليسوا حيوانات.

سيبدو سهلاً، واضحاً تقريباً، الانخراط في الأساطير. بدأت أرى في قنافذ البحر مسوخاً لم تنجح في إبطال إنسانية غامضة. تخيلتهم مدركين، عبيد لأجسادهم، يدينون باللانهائي إلى صمت الهاوية، إلى التأمل اليائس. نظراتهم العمياء، القرص الذهبي الضئيل الخالي من التعبير والذي رغم ذلك، ساطع بشكل رهيب، يعبر خلالي كرسالة: “أنقذنا، أنقذنا”. رصدت نفسي أتمتم كلمات نصح، أنقل آمالاً صبيانية. تابعوا النظر إلي، بجمود؛ من وقت إلى أخر تتصلب الفروع الوردية للخياشيم. في تلك اللحظة شعرت بألم كتيم؛ ربما كانوا يرونني، أجمع قوتي لأتسلل لشيء منيع في حياتهم. لم يكونوا بشراً، ولكنني لم أجد تلك العلاقة العميقة بذاتي مع أي حيوان من قبل. كانت قنافذ البحر مثل شهودٍ لشيء ما، وأحياناً مثل قضاة مروعين. شعرت بالضعة أمامهم؛ كانوا مثل نقاوة مرعبة في تلك الأعين الشفافة. كانوا يرقات، لكن اليرقة تعني التخفي والشبحية. خلف تلك الوجوه الأزتيكية، دون تعبير سوى الوحشية العنيدة، أي مظاهر كانت تنتظر ساعتها؟

كنت خائفاً منهم. أعتقد أن هذا لم يكن شعور الزوار المارين قربهم أو الحارس، لا أظن أنني سأمتلك الجرأة الكافية للبقاء معهم بمفردي. “أنت تأكلهم أحياء بعينيك”، قال الحارس، ضاحكاً؛ من المرجح أنه اعتقد أنني مدمن صغير. ما لم يلاحظه هو أنهم كانوا يلتهمونني بأعينهم ببطء، بأكلة لحوم بشر ذهبية. على أي مسافة من حوض الأسماك، لم أكن أفكر سوى فيهم، كما لو أنني كنت أتأثر من مسافة بعيدة. وصلت إلى مرحلة الذهاب إلى هناك كل يوم، وفي الليل أفكر، أنهم جامدين في الظلام، ببطء يخرجون يداً تصطدم مصادفة بأخرى. ربما تستطيع أعينهم الرؤية في ظلمة الليل، وبالنسبة لهم النهار يمتد إلى ما لا نهاية. أعين قنافذ البحر ليس بها جفون.

أعرف الآن أنه لم يكن هناك شيء غريب، ولا شيء ليخطر على البال. متكئ أمام حوض الأسماك كل صباح، كان الإدراك أعظم. كانوا يعانون، كل الألياف في جسدي امتدت نحو ذلك الألم المكتوم، العذاب المتيبس أسفل الخزان. كانوا مستلقين بانتظار شيء ما، سيادة تدميرية مسيطرة، عصر من الحرية عندما يكون العالم لقنافذ البحر. ليس من الممكن لمثل هذا التعبير الرهيب الذي كان يحقق الهزيمة للتبلد القسري في وجوههم المتحجرة أن يحمل أية رسالة سوى الألم، برهان على ذلك الحكم الأبدي، على ذلك الجحيم السائل الذي يخضعون له.

بشكل يائس، أردت أن أثبت لنفسي أن حساسيتي كانت تبرز وعياً غير موجودٍ عند قنافذ البحر. أنا وهم، كنا نعرف. لذلك لم يكن هناك شيء غريب في ما حدث. وجهي كان ملصقاً بزجاج حوض الأسماك، عيني كانتا تحاولان مرة أخرى اقتحام سر تلك الأعين الذهبية، دون قزحية، دون بؤبؤ. رأيت من مسافة قريبة جداً وجه قنفذ بحر جامد بالقرب من الزجاج. بلا تحول أو مفاجأة، رأيت وجهي مقابل الزجاج، رأيته خارج الخزان، رأيته في الجانب الأخر من الزجاج. ثم انسحب وجهي إلى الوراء وفهمت.

شيء واحد فقط كان غريباً: لتقريب الصورة لك، لتعرف. إدراك ذلك، لأول لحظة، يشبه رعب دفن رجل حي، وهو يدرك مصيره. خارجاً، كان وجهي على مقربة من الزجاج مرة أخرى، رأيت فمي، الشفاه تنضغط مع الجهد المبذول لفهم قنافذ البحر. لقد كنت قنفذ بحر وعرفت الآن على الفور أن لا تفاهم ممكن. لأنه كان خارج الحوض، وتفكيره كان تفكيراً من خارج الخزان.

بالتعرف عليه، بأن أكون هو نفسه، كنت قنفذ بحر وكنت في عالمي. بدأ الرعب- علمت في نفس اللحظة- بمعرفة أنني كنت سجيناً في جسد قنفذ بحر، مُسخت إلى قنفذ بحر مع عقلي البشري السليم، دفنت حياً في قنفذ بحر، مجبر على الحركة بعقلانية بين كائنات لا واعية. ولكن كل ذلك توقف عندما خدشت قدم وجهي، عندما انتقلت قليلا إلى الجانب الأخر ورأيت قنفذ بحر بجواري يحدق بي، وفهمت أنه أيضاً عرف، أن لا تواصل ممكن، ولكن بوضوح كبير. أم أنني كنت فيه أيضاً، أم أننا جميعنا نفكر مثل الإنسان، لكننا نعجز عن التعبير، مقتصرين على البهاء الذهبي لأعيننا وهي تنظر في وجه الرجل الملتصق قبالة الحوض.

كان قد عاد عدة مرات، ولكنه مؤخراً لم يعد يأتي كثيراً. تمر أسابيع دون أن يظهر. رأيته بالأمس، تطلع في وجهي لفترة طويلة ثم مضى بخفة. بدا لي وكأنه لم يعد مهتماً بنا بعد الآن، أنه كان يتخلص من عادة. وحيث أن لا شيء أفعله سوى التفكير، كان بإمكاني التفكير فيه طوال الوقت. بدا لي أننا في البداية استمررنا في التواصل، لأنه شعر أكثر من أي وقت مضي بالتوحد مع السر الذي كان يدعيه. لكن الجسر تكسر بيني وبينه، لأن ما كان هوسه أصبح الآن قنفذ بحر، غريب على حياته البشرية. في البداية ظننت أنني سأتمكن من العودة إليه بطريقة محددة- أه، فقط بطريقة محددة- والحفاظ على رغبته متيقظة في معرفتنا بشكل أفضل. الآن أنا قنفذ بحر للأبد، ولو كنت أفكر مثل رجل فذلك لأن كل قنافذ البحر تفكر كالرجال داخل مظهرها الوردي الحجري. أعتقد أن كل ذلك النجاح في إيصال شيء، له، في الأيام الأولى، كان لأنني كنت هو.

وفي هذه العزلة النهائية التي لم يعد يأتي إليها بعد الآن، أعزي نفسي بأنه ربما سيكتب قصة عنا، ومؤمناً بأنه سيكتب قصة، فإنه سوف يكتب كل شيء حول قنافذ البحر.

خوليو كورتازار (1914-1984.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.