جداريات ترتب اللون في فوضى التناقضات الشكلية لتلامس منافذ الفرح الملونة

يعتبر الفنان التشكيلي الياباني ساتشيو ياماشيتا (1933-2009) واحدا من أبرز الرسامين العالميين الذي تفننوا في تقديم فن الجداريات باعتماد الأسلوب التجريدي الذي أخضع الفكرة إلى تراتيل اللون وانعكاسات الخيال المفعم بالتلاوين المختلطة حيث تنقل بين جامعات الولايات المتحدة الامريكية وتواصل مع الناس وحاول إخراج فكرة الفن من الجدران الضيقة إلى الجدران المفتوحة على الحياة اليومية التي تحاكي الواقع وترحل بالمخيلة نحو العمق.

هاجر ساتشيو ياماشيتا إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1968 حاملا معه إرثا فنيا تشكيليا عريقا لم ينفصل عن وطنه بل اندمج في انفعالاته التي استقبلت ثقافة مختلفة ولغة جديدة ووجوها تنوعت لتبعث فيه روح البحث والتنقيب عن منافذ تمكنه من ابتكارات تشكيلية تصل به إلى المتلقي فقد ساعدته تنقلاته ومرونته في التواصل على بعث أعمال ميزته ورسخت اسمه كفنان ياباني-أمريكي مزدوج الهوية والانتماء وجعلته يتفاعل مع تلك الثنائية بشاعرية غارقة في عمق الانسان والطبيعة والروح التي تؤلف بين العلاقات الحسية والفكرة المؤسسة لخلود الإبداع متجاوزة حواجز الأمكنة، فقد خلق روح التواصل مع أعماله ومكّنها من أن تستشف جماليات اللون والمعنى داخل مساحاتها مستلهمة جمال الطبيعة ورقة الأحاسيس التي فجرها في تلك الألوان ومنحها انطباعا حيويا سكن الريشة وانطلق في تشكيل الخطوط ومراقصة الفكرة التي انبعثت من الأمكنة والأخيلة لتركز مكانها ومكانتها في المساحة المتاحة من الحلم المنجز فالفكرة عنده تشبه المواسم في تلونها ونكهاتها تتساقط بشفافية لتعبر عن اليابان كروح لم ينفصل عنها ولم ينكرها رغم أسفاره معتبرا أنها نقطة انطلاقه نحو العالم  ليعبر نحو الإنسانية وينشر الألوان في جدارياته الضخمة التي تمنح اللون حضوره الكامل والمكتمل أو في ما أنجزه من جرافيتي على جدران المباني بشوارع شيكاغو التي حوّلها وكما يقول “من شوارع كئيبة ورمادية خالية من اللون إلى شوارع ملونة بالحياة والطبيعة والفرح الإنساني”.

يتميز ياماشيتا بقوة ترويض اللون وتسطيحه وإثرائه بالمعاني وبدقته في اختيار كوامن النفس وسبر أغوارها من خلال عمق اللون الذي أكسب أعماله التجريدية المؤثرة مصداقية في الخطاب المرئي وإبتداعا في نبش اللامرئي الذي لم يقتصر على حركة الريشة والفرشاة بل تعداها بخلق منافذ مكنته من  ترتيب الحواس والمفاهيم

فقد أنجز قرابة 100 جدارية معروضة حاليا بعدة متاحف عالمية واقتنتها عدة جهات من بينها “متحف فرحات للأعمال الإنسانية” كما قدّم لوحاته في عروض فنية وضمن أداء خاص حيث حوّل الفن التشكيلي من الأروقة الضيقة إلى الفضاءات المنفتحة على المشاهد وانطلق بأعماله من القماش وتصميم اللوحة إلى الأمكنة العامة الواسعة في جدارياته وفي تنفيذ أعماله على جدران المباني القديمة وداخل الأحياء الشعبية أو المهمشة حمل فكرة الفن كمشروع إنساني شعاره “الفن والروح” كما يقول “يجب على الفن أن يعبر الحدود ويحقق التواصل مع كل الفئات دون حواجز أو عنصرية أو تطرف في امتلاك هذا العالم والاستحواذ على جمالياته”.

ياماشيتا 9

قدم ياماشيتا أعمالا جدارية ضخمة تبدو فيها رؤيته الفنية واضحة بعمقها الفلسفي الذي حاكي التوازن في الطبيعة مع مراعاة التناقضات لأنه يرى فيها ميزات كونية قوتها الحقيقية تكمن في التوازن الذي يمنع الصدام ويجنب الاختلافات كما في عمله “توازن القوى”، فهو في لوحاته الجدارية يتماهى مع الطبيعة في تفجرها بالألوان وتفاعلها مع الضوء والنور وأشعة الشمس وانعكاساتها التي تثير عنده طاقة وتستفزه لاكتشاف ألوان أخرى من الطبيعة ومن قوس قزح حتى تنبعث منها فكرة الوجود مثل عمل “شروق الشمس”.

يزاوج ياماشيتا في جدارياته بين الكتلة والفراغ بين الخامات والأفكار بين ترتيب المفاهيم وهندسة فوضى الحواس بين خطوط العرض والطول والأشكال الهندسية تاركا لعناصر الطبيعة الفرصة في مداعبة الضوء واحتكار اللون وتجديد الحيوية حيث يسكنها داخل خياله ويرتبها مع رذاذ الماء لتنساب برقة تتآلف وتنسجم وتتمرد في البحث في عمق الفضاء عن بؤر جديدة يلطخها بعشوائية وانفعال لتنجب اللون المخفي في رحم الطبيعة المتخيلة وهذا ما مكنه من ابتكار صورة جمالية حديثة من خلال تعدد الخامات والتجريب التي تخلق لها التكامل في البنية التشكيلية ما يثري التعبير الفني ويمنح اللوحة خصوصية الدهشة الجمالية في ملاحقة اللون الذي يوقع عين المشاهد في متاهة بحث داخلي.

ياماشيتا

لياماشيتا تراكيب تقنية في بلورة المعنى اللوني بترتيب تعقيداته وتداخله وتفاعله مع الأشكال بين الخطوط والدوائر، فهو يوغل في التجريد ويتسرب نحو العمق في تفاعلات اللون الصاخب بالإحساس الدفين الذي يفجره عند كل انحناء وداخل كل خط مكسور بالمعاني فنجده أحيانا يغرق في لون واحد ويتمسك به ويتلاعب بدرجاته بين التصعيد والتخفيف ليحيل على مزاج بعث ذلك اللون وأحيانا يراكم الألوان بتكثيف فوضوي يحاول أن يتوصل للترتيب لكن دون ابتذال أو تصنع يندمج مع التناقضات التي تجمع الألوان الحارة والباردة الألوان الفاتحة والداكنة وكأنها تتصارع معا لتعبر عن الطبيعة عن الفن والروح من خلال احتفالات البقاء التي تراوغ صدامات الواقع النفسية والاجتماعية برقة.

ياماشيتا1

فالواقع عنده يتماهى بتوظيف الفلسفة الجمالية التي تبتكر علامات بصرية تجمع الحقيقة والخيال وتقلب قواعد الرسم لتؤلف معان صاخبة وزاخرة تستدرج المتلقي لقراءتها ما يمنحه فرصة التوفيق والموازنة بين التناقضات، فهو رغم محاكاته للتجريد إلا أنه لا يعقد الصورة بقدر ما يراوغ المعاني في توليفة موسيقية هادئة تحاول أن تمتص الصخب في شغف التمازج اللوني.

 

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collection

 

ياماشيتا 01ياما
ياماشيتا 5

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.