trong (1)

ترانغ كيوك تشكيلي فيتنامي يقدم مغامرة فنية بين الابتكار والتقليد

   ترانغ كيوك تران   Trung Quoc Tran

عرف الفن التشكيلي الفيتنامي الحديث حركة تطور وانفتاح على الفنون العالمية دون أن ينفصل عن خصوصيته ومميزاته التي اندمجت بفنية ابتعدت عن التقليد الشكلي الظاهري لتهتم بالتفرد والمميزات الحسية والتطوير المعالج للفكرة وفق الخامات المتوفرة والمتماسكة مع العادات والملامح التي تميز فيتنام بكل تفاصيله المندمجة مع تعقيدات الواقع وتلون التاريخ وبساطة الطبيعة.

يتميز فيتنام بالتنوع الاثني البشري والتلون الثقافي والديني ما خلق تمازجا وتماوجا في العادات والاحتفالات والألوان التي تجلت في التعبير الثقافي الذي اخترق المجالات الفنية الموسيقى والأدب والشعر للاحتفال بالطبيعة وبمواسمها الصاخبة بالفرح الملون كما تجسد قصائد الشاعر التاريخي لفيتنام الملقب “بجوهر الربيع” “هو كسيان هيونغ” الذي أثرت أشعاره في الحركة التشكيلية والفنون عموما.

كما تأثر الفن التشكيلي في فيتنام  بالفن الصيني والفرنسي ما منحه تنوعا في القواعد سواء تلك التي انبنت على الفلسفة الصينية أو المدارس الفرنسية الكلاسيكية والحديثة في الفن دون إهمال لهوية فييتنام  وهو ما وضع الحركة التشكيلية في مسارا مختلف من حيث التعبير، فالواقع السياسي الذي مرت به هذه المنطقة كان له تأثيره بشكل كبير على طرق ووسائل التعبير الفني بتوجيهها نحو المقاومة والمحافظة على كل خصوصيات المنطقة وتاريخها وعاداتها وهو ما دفعها لخلق بصمة حافظت على القيم التقليدية دون المبالغة في تقديمها كفلكلور بل كفن حديث وله مدارسه التي انفتحت على العالم وعرضت وأبهرت بكل ما تحلت به من تفرد ميز الروح الفنية الفيتنامية فحين عرض فنانو فيتنام في بداية التسعينات أعمالهم في أوروبا انبهر النقاد بالإتقان والابداع والفكرة والخامات والصياغة والرمز سواء الأعمال المنجزة على الحرير أو القماش الخزف الورق والخشب إضافة إلى الجداريات التي ميزت هذه الحركة الفنية  فقد اختار عدة فنانين تصميم لوحات ضخمة ذات مساحات واسعة عبرت عن الجغرافيا والأرض مثلما قدّم الفنان التشكيلي  الفيتنامي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية ترانغ كيوك تران.

 

trong 2

 

ولد ترانغ كيوك تران بالفيتنام سنة 1961هاجر إلى الولايات المتحدة الامريكية وعمل واستقر فيها دون أن ينفصل عن وطنه، له أسلوبه ورؤيته الفنية الحديثة أعماله تبرز توليفة زاخرة بالأفكار والابتكار والفلسفة القائمة على الطبيعة والإنسانية حيث ارتكزت لوحاته على بعدي الضخامة التي تطغي فكرة الحضور الصارخ في ترتيب المحتوى العميق لما يريد تقديمه والرموز الدلالية التعبيرية المستوحاة من تفاصيل الحياة في فيتنام.

يقدم لوحات ضخمة الحجم على القماش معتمدا على الألوان الزيتية التي تعيده إلى أرض وطنه فيرصد تاريخه وحضارته وحضوره ويواكب تطوره وأبرز ملامحه من خلال الشخوص والأمكنة والطبيعة وفق أسلوب تعبيري تجريدي ورمزي ينتقل بالمشاهد نحو تلك المساحات البصرية الجديدة ليثير داخله فضول البحث والاكتشاف من خلال ما تحمله اللوحة من ألوان تحاكي تفاصيل وطنه برقة دقيقة.

 

SAMSUNG CSC

 

تتميز أعمال ترانغ بتنوع فريد في الألوان حيث يخلق توليفة مع الرموز والمعاني والأفكار التي تطرح حنينه وشغفه من خلال التعايش مع الشخوص في علاقاتها المفتوحة على الحياة ببساطة تستفز الذائقة لملامسة الجوانب الجمالية في اكتشاف المساحة البصرية المجهولة داخل مسطح اللوحة، وهو ما يقود للمعرفة ويستثير الدهشة في البحث عن مفاهيم لتلك الدلالات في توظيف عناصر الطبيعة والأمكنة المشحونة بفكرة الأبدية التي تسرد قصص العابرين والمزارعين والكادحين على الأرض والتي تعيده لجذوره، فهو يوظف علامات بصرية تحيل على المكان السوق الحقل الصيد، والملبس الزي الشعبي الفلبيني القبعات والعادات اليومية والملامح المفعمة بالحركة والتنوع داخل تلك المساحات الشاسعة التي تمنح ذاكرته فرصة استعراض مشاعره المنعكسة ببساطة ألوانا وأضواء تتماهى مع كل تلك المظاهر الحياتية.

خلق ترانغ فكرته الفنية الخاصة منطلقا من وطنه والطبيعة والبيئة وأسطورة البقاء والخلود محمّلا هذه العناصر انفعالاته وأحاسيسه ليشير إلى هويته من خلال الحركة ومراقصة الفرشاة وترويض ضرباتها لتكسب الصور شاعرية ملونة ومتدفقة بانسياب مع عواطفه وفكرته وكأنها في رحيل يعيده إليه فالألوان والأضواء والحركة والأشكال كلها تسترد ملامحها من ذاكرة تتمازج لتروض الألوان وتندمج مع الحالة النفسية والشاعرية لتنجب ألوانا جديدة في انبعاث الضوء “تعلمت في كلية الفنون كيف أتعامل مع اللون أكاديميا وتقنيا كي أحوّل حضوره إلى معنى يعبأ مساحة الفكرة ويخلق حركة الشكل ولكن فيتنام علمني كيف أمنح اللون روحا وإحساسا ممزوجا بعمق الطبيعة التي تعيدني إلى هناك”.

 

ترانغ7

 

يوغل الفنان في التجريد ويجادل الشخوص بالرمز فيمحو الأشكال في تراتيل ذاكرته الموزعة بإحكام بصري على جماليات الحضور بحيوية تتوافق مع رؤيته اللونية تتناغم مع موسيقى الروح والجسد داخل الفضاء فمن خلال المزج بين الشكلي واللوني تظهر اشتقاقاته الهندسية المترادفة التي تغرسه كذات لها انتماؤها في الطبيعة ليتقمصها بأحاسيسه داخل ذلك الفضاء.

تمازج الأزمنة والعلاقات داخل اللوحة يتجاوز أطر مساحتها لأن ترانغ يوظفها لمحاكاة التفاصيل اليومية والتفاعل معها بتفجير طاقة البحث عن اللامرئي لابتداع الألوان حين يتراكم مع حواسه العنف الجمالي في مخيلته المتنقلة في تفاصيل اللوحة ومساحاتها ما يحيل على تداعيات البحث المكثف لاستبصارها في سرده اللوني وإيحاءاته الرمزية وتجاذبات الضوء المعلنة والمتراكبة داخل اللوحة حتى تراوغ العتمة واللون الداكن فتفتح بؤر النور التي تلامس الروح وغموض التفاعل المقصود بين الرسام ولوحته بين حنينه والمشاهد، بين الشخوص والتنوع الحركي.

تبدو المرأة أيقونة ذات حشد رمزي في حضورها تتلاون الأنوثة والخصوبة مع الطبيعة والأرض للدلالة على تنوع دورها بين التربية والعمل والمجتمع تمازج يستبطن ذاتها داخل الهموم اللونية الفاتحة والداكنة ما يحيل على فلسفة صارخة بالحياة وبتمازج يكمن في النور والنار في الجسد والروح والرغبة والتوازن.

كما يبدو لنا في عمله “امرأة من شمال افريقيا بالنقاب”(مجموعة متحف فرحات) التي مزج فيها بين الثقافات وأضاف رمزية التداخل والتمازج البشري حيث ألبسها ملامح فيتنامية وأكسبها خصوصية الانتماء.

أنتج ترانغ في لوحاته خصوصية تشبه مكنونه ودواخله التي تراءت في صياغات اللون لتكسب الأعمال شعرية مرتبطة بالمكان وبالإدراك البصري الذي لم ينفصل عن ما يدور في المخيلة المكثفة بالمشاهد، وعن تدافع الأمكنة وتراكم الصور لتكوّن نصا مفتوحا له علاقة مع التكوين المرئي والعلامات المرتبة برمزية تكشف المساحات اللامرئية التي تتفجر في عمق التفاعل مع تلك الأمكنة وهو ما يقود لحياكة الأسطورة التي تجادل الطبيعة في ترتيب جماليات الوهم والخيال والتعقيد والحقيقة.

 

ترانغ 8

 

*الأعمال المرفقة

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collection

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.