مفهوم الأنا والآخر والمسؤولية الثقافية

تثير مسألة الأنا والآخر إشكالية سردية ترتبط باختلاف وجهات النظر أو الزاوية التي ينطلق منها الروائي في إبرازها بصورة قد تكون معقدة وشائكة نوعاً ما، وربما تظهر الأنا مفردة بصورة أكثر وضوحاً فيما لو اقترنت بالآخر، ولا سيما إذا كان هذا الآخر هو العدو بحدّ ذاته، حيث يضع الأنا في موقع تصادمي وصراعي على الدّوام، وهو ما يؤسس إشكالية العلاقة، التي تحكمها أسس ثقافية وفكرية وفلسفية وسيكولوجية وأيديولوجية، تنهض بصناعة طبيعة العلاقة وكيفيتها على عدّة مستويات.


نبيل سليمان

ويتم بناء صيغة العلاقة وتلقّيها عبر المقابلة بين صورة الذات (أو «الأنا»، أو «النحن» العربية) وصورة «الآخر» الحضاري الغربي، مع فروق في الطرح تحددها مواقف ورؤى المفكّرين والأدباء. وقد تعاملت الرواية العربية منذ تجاربها المبكّرة مروراً بكل التحولات والثورات التي مرت بها حتى الآن مع هذه الإشكالية التي صارت ثيمة محورية في الخطاب الروائي العربي، واشتملت على طروحات ورؤى، حتى باتت أشبه بموضة طالت مشاغل أكثر الروائيين العرب، إلا أنها جاءت على مستوى عال من المسؤولية الثقافية والإبداعية عند الروائيين المخلصين لمشاريعهم، حيث تخلّصوا من سلطة التقليد وعالجوا القضية بوعي فنّي وفكري وتقاني متميز، انعكس إيجابياً على تجاربهم وأصبح قضية مركزية من قضاياهم الرّوائية.

 

فوضع الحدود الفاصلة للمفاهيم واجتراحها، هي النقطة الأهم والأشمل، خاصة إذا تعلق الأمر بالآخر، ذلك أن هذا الآخر لا يبقى على وتيرة واحدة وشكل واحد ورؤية واحدة وحساسية واحدة بمرور الزّمن، كما هو الحال في «مدارات الشرق».

إن نقطة الالتقاء بين الأنا والآخر هي التي تشكّل المادة الأساس لمشروع السّرد الرّوائي: «أنا النص والآخر، منتجاً جملة من الإحالات اللغوية والنفسية والفكرية، التي غالباً ما تكون في خصوصية المعنى، تعبّر عن أنا وآخر في الوقت نفسه، فالسّرد بوصفه التّوليفة المحايثة لتوظيف كل منهما في تركيبة الوعي، كرغبة إرادية تمتحن صيغ التعايش الممكنة بينهما، وتجعل من الآخر مرتدّاً في حيّز الوجود إلى الأنا في إطار الكينونة».

فنحن إذن أمام تعدّد الآخر وتنوّعه ـ في الشكل والهوية والمشروع والمنهج والفكر ـ فيما تبقى بالمقابل، الذات العربية، الأنا الفردية، والأنا الجمعية واحدة لا تختلف عبر مرّ العصور وإن اختلفت وجهات نظرها وتطلّعاتها وآمالها، على النّحو الذي يخلق إشكالاً تفاعلياً بين حركة الآخر في تغيّره المستمر وثبات الأنا في استمرارها النّمطي على حال شبه مستقرّة.

تتموضع الأنا والآخر إذاً في مكان واحد وفضاء عملي واحد، فلا يمكن الحكم على الآخر بأنه الآخر، ما لم يكن هناك صلة تربط الاثنين ببعضهما، يتحرّكان في فضاء مكاني وزماني واحد، ففي إطار هذه المفاهيم تتكوّن «فكرة الآخرية من حجم الصّراع بين الإنسان والإنسان، وكل صراع بين إنسان وإنسان يبتدئ من تموضع كلا الطّرفين في حيزيّ الآخرية، فلا يمكن أن يحدث بينهما صراع ما لم يكن كل منهما آخر بالنسبة للآخر، على المستويين الفردي والجمعي، والآخر هو الكلية المزدوجة للكينونة الذاتية وتقويضها في الآن نفسه».

فالصراع بين الطرفين يبدأ عندما يحس عامل الأنا، بأن رغبة الآخر تشتغل للاستحواذ على الفضاء الخاص به وتحييده وتهميشه وإقصائه، وممارسة إكراهات معيّنة على رصيده الأنوي المستقل.

 

أشكال الأنا:

يتدخّل الراوي دوماً في إقحام ذاته، بين «الأنا» و«النحن»، وبالتالي يصبح ضمير الغائب هو الفاعل والمسيطر على هذا التلاعب في الضمائر، وذلك إنما يعود إلى أسلوب خاص يتبعه الرّاوي في التّحديدات الضمائريّة، وهي تحديدات تعلن مسبقاً عن مهارة الراوي وبراعته في التلاعب وقدرته على إدارة دفّة السّرد والتحكّم بمجرياته: «كان ميتاً بحق، على الرّغم من أنه قد طاف في ساحة البيت، وحوله، ثم حول النّهر، يتحاشى أن يصادف أحداً ممّن يعرف أو لا يعرف، يتلمّس الجنيه الذي أودعتَه في جيبه هذا الضّحى المشمس. وبعد المغيب يتسلّل إلى المحطة، يقعي في زاوية قذرة ومعتمة حتّى يأتي القطار، فيتسلّل إلى جوفه، ويدفن نفسه هناك.
أيّهما كان أكثر عجزاً: ذلك الشّاب الذي خلف شماً وراءه بلا عنق، أم هذا الكهل الذي خلف نجوم وراءه بلا سروال؟ أيّهما كان أكبر هزيمة؟ هل كان ما فعل رصاص الفرنسيين في الكهل أقتل مما فعلت سكاكين الخيالة في الشاب؟ شخصيةة العم حاتم أبو راسين من الشخصيات المثيرة حقاً في الرواية، تنمو وتتطور مع الأحداث على الرغم من إنه يتحرّك في نطاق مكاني ضيّق، ومع محدوديّة الدّور الذي يلعبه ـ إذ ينتهي هذا الدّور مع نهاية الجزء الأول ـ إلا أنه استطاع أن يترك بصماته على الأحداث، سواء أكانت الأحداث الماضية التي يعود إليها بذاكرته عبر تقانة الاسترجاع أم الأحداث الراهنة التي يعيشها في الحاضر، إذ يمكن اعتباره رمزاً، وانعكاساً فنّياً لمعاناة الإنسان المقهور في المجتمع الاستبدادي الشرقي المتطلع إلى الحرية والتقدم».

 

 


رواية سمر الليالي

 

وبفعل الروح الوطنية التي يحملها، فإنه يتحطم إنسانياً بفعل الضربات الموجعة التي تلحق بروحه وجسده وحلمه هزيمة ساحقة، هذه الهزيمة التي تترك أثرها في علاقته بنجوم، ومن ثم يبرز الهروب بوصفه بديلاً أو وسيلة للتخلّص من عقدة الذنب التي يحسّها، هذه العقدة التي نشأت لديه بعد أن ترك شمّا تُذبح أمام عينيه وهو ساكن وعاجز لا يتحرّك ولا يتمكّن من فعل شيء. هنا تتحول الشخصية التي عرفناها في بداية الرواية ـ مرحة، ثورية، فاعلة ومتفاعلة مع الآخرين، محبّة ـ إلى شخصية أخرى محطّمة، منسحقة، فيثور، وتبرز هذه الثورة في نقمته على نفسه، والتمرّد عليها، إذ ينشأ الصراع داخليا وذاتياً أكثر مما هو خارجي، وبفعل الضّغوط والمواجهة الحادّة مع النّفس تتشكّل رؤيته الخاصة لذاته ولشخصه ككيان يحمل في داخله آثار الدّمار والعجز ومحاولة إفناء الآخرين من غير تعمّد.

«أيقن عمر وهو يخرج من اللجة، ويلتقط أنفاسه، إنه قد جبل من طينة أخرى، ليست مثل طينة أحد ممن عرف حتى اليوم، وإذ راوده ذلك فيما بعد، لام نفسه على غرورها. فعمر التكلي هو على الأقل ابن الحاج المرحوم، شقيق هولو وخديجة. ولكن نفسه تأبت على هذا النّسب، استصغرته بالأحرى، كما لم تشأ أن تقترن إلى سليم أفندي ولا الباشا ولا الخواجة ثابت، بل أنها زينت له أن أولاء جميعاً قد يكون فيهم ما ينسبهم إليه، ولهم على أية حال أن يكونوا من طينة أخرى إن شاؤوا. أما هو، فله أن يشمخ عالياً، يبتدع أصلاً وفروعاً، ولذلك تكون النسبة إليه. وبقدر ما يقترب الآخرون منه يكونون من طينته، لا فرق بين طه اليتيم أو الباشا أو أمه العجوز أو أي كان. فسوى ذلك ليس ثمة إلا المساكين والحمير، سواء أكانوا باشوات أم خدماً، خواجات أم أمراء، فلاحين أم بدواً أم تجارا، فرنسيين أم سوريين. إنه عمر العمر، لا عمر التكلي، ولو أمكن لجعل الناس جميعاً ينادونه بهذا الاسم الجديد العتيد».

من خلال شخصية عمر التكلي نقف على نشأة البرجوازية الحديثة في الشرق العربي، واهتمامها بمصالحها الشخصية، وتحيّنها الفرصة للصعود، فهي شخصية نرجسية، تعيش في عالم آخر أكثر ثراء من العالم الذي تركته خلفها، فهاهو عمر مزهواً بذاته، متملّقاً حتى في أبسط الأمور، انتهازياً بكل معنى الكلمة، ونرجسيته هذه تجعله ينظر إلى نفسه بمنظار آخر إذ يحتفي بذاته ويتمركز حولها تمركزاً شديداً.

كذلك شخصية فيّاض العقدة الذي أحب نجوم الصوان، ورغب الزواج منها، وبعد أن خطبها وحدث احتلال مرجمين، أُصيب فياض وتشردت نجوم بعد أن قُتِل أبوها وماتت أمها، تلتقي بعزيز فيأخذها إلى العم حاتم أبو راسين ويغيب عنها، تتزوج نجوم من العم حاتم، في أثناء ذلك يستطيع فياض الهرب من المستشفى والبحث عنها، يلتقيها هناك في بيت العم حاتم بعد أن يكون قد استشهد وتركها أرملة.

يتحوّل فياض إلى شخصية انتهازية وجشعة، نرجسية، يتنكّر لأصدقاء الأمس بغرور، يحاول السيطرة على الآخرين، محاولاً الاستحواذ على كل ما يمكنه الاستحواذ عليه في سبيل الإعلاء من شأن وجوده الشخصاني، وكأنه يعاني من «مركب النقص» ذلك أن إحساسه بفقدان الكثير مما كان يأمل الحصول عليه قبل الاحتلال، نمّى لديه شعوراً قويا بالعقدة – لاحظ التسمية المقصودة في اسمه – وهذه العقدة تدفعه إلى التعامل مع الآخرين بقوة مزعومة، فيتعامل مع الفرنسيين ويضطر الثوار إلى قتله.

أما شخصية فؤاد، فهو مثقف أولاً، عاش في الغرب مدة من الزمن، تنتمي عمته إلى إحدى الدول الغربية التي عاشت فيها وتزوجت هناك من المستر بيجيت، ينتمي إلى أسرة عريقة فأبوه الباشا شكيم أحد باشاوات سورية، له صلة بالإنكليز، عاش حياة مترفة، متنقّلاً بين الشرق والغرب. يتجاذبه طرفان، الغرب من جهة، والشرق من جهة أخرى، ومع هذا الانتماء فإنه لا يحس بانتمائه لأي جهة منهما، بل ينتمي إلى وطنه ويسمّي عشيقاته بسورية. ويتجلى أنموذج الأنا من خلال عنصر الشخصية، حيث تتمادى في أنويتها على حساب الذوات المجاورة مما يكسبها حسّاً فاعلاً بوجوب حصولها على استحقاقات إضافية ليست لها في الأصل.

 

إشكالية الأنا/الآخر:

تغدو الأنا في علاقتها بالآخر المحور المهم في توجيه الصراع الدائر ووضعه على طاولة المفاوضات الثنائية التي لا تجد مفراً سوى الرضوخ لهذه الثنائية وبالتالي التماهي بين الاثنين، وإن كانت النتيجة تحسم دوماً في صالح الجانب الآخر بوصفه الحلقة المسيطرة في عمليات الصراع ودينامياته.

 

فشعور العربي بتفوق الغرب عليه، في كافة المجالات خلق لديه هاجساً مريراً، فنشأ الصراع بين «الأنا والغرب» مع الأخذ بعين الاعتبار عدم تساوي كفتي الصراع. فصورة الآخر المتفوق والمهيمن والمركزي والمتسلط والصانع للحضارة دوماً، تجعل العربي يظهر بمظهر المهزوم، المضطرب والضعيف ويندرج ضمن هذا المحور عدة أقانيم تحدد شكل العلاقة وتفسّرها.

 

الآخر/الإنساني، وفيه:

الآخر/العربي. الآخر/الغربي. الآخر/الصهيوني. الآخر العربي في نظر الأجنبي. الآخر الغربي في نظر الأجنبي. الشرق/الغرب.

 

وتظهر صورة الآخر/العربي بكل قسوته وجبروته وطغيانه ضد الأنا/العربية المستضعفة والمقهورة التي لا حول لها ولا قوة. فشخصية عزيز اللباد في نظرته السلبية والدونية إلى عبود بك، مقابل نظرة هذا الأخير الفوقية المتعالية إلى عزيز، ورغبة الأخير في الإبادة التامة التي يمارسها على كل من يحاول الخروج عن الطاعة. أما القوة، العزوبية، الهدوء، الأمانة، عفّة النفس، فهي صفات يحملها القطب الآخر، المواجهة لعبود بك، الصفات التي يفتقدها ويبحث عنها عند الآخر، وتمسكه بعزيز وحرصه على بقائه معه، إنما يأتي من باب التمسك بهذه الصفات.

«لقد استهواه عمر منذ البداية، ومليا فكّر من بعد فيما ينطوي عليه ذلك الشاب من قدرات فيما يجذب الناس إليه، في ألغازه وتناقضاته. كان عمر يبدو لراغب ضعيفاً وساذجاً، يقدر أن يلعب بعقله مثل الطفل، حتى إذا همّ بذلك، تكشف عن رجل صلب ومحنّك، عن خبيث بخاصة. وأياً كان لا تنقصه القوة. كان راغب يشفق على ما يخيل إليه من تردد عمر وجهله، يودّ لو يأخذ بيده فإذا بعمر، حيث ينبغي أن يكون، خبيراً وصارماً، لا هو بابن الحرزة التي استهاب راغب بأصله، ولا هو مثل من عهد أو عرف من الوكلاء أو التجار…».

يظهر عمر في صورة شخصية مركّبة، قلّما يستقر على حال واحدة، انتهازية نشأت مع الطبقة البرجوازية، ينمو مع الأحداث ويتغيّر معها، تارة يكسب أعداء كثيرين، وقلما يحتفظ بصداقاته مع الآخرين إلا بما يخدم مصلحته الشخصية الضيقة، وفي نظرة راغب إليه تتكشف هذه الحقيقة السردية التي تفصح عن نفسها في مونولوج يرصده الراوي بصيغة الغائب الذي يعبر عن مكنونات النفس الداخلية وما يحاول راغب التعبير عنه. وعلى الرغم من أن ضمير الغائب هو المهيمن على النص، إلا أنه يتناوب في الانتقال من شخصية إلى أخرى، فالضمير الغائب الموجود في «استهواه، بعقله، إليه، يود، ينقاد، نأى، يفكر، يقرأ، سره، يميل» يعود إلى راغب. فيما يعود الضمير نفسه في الأفعال الأخرى إلى عمر، والنص مسرود عن طريق الراوي كلي العلم، حيث السرد الموضوعي هو الطاغي على مجريات القول الروائي، حيث يبرز الصدام بالوعي الثقافي المغترب، في النظرة إلى هذه الثقافة التي تؤطّر نفسها داخل أسوار البيئة التي انبثقت منها، فيما تتحرر من هذه الأسوار بمجرد ما تنفتح على الخارج وتدخل في حوار مع ثقافة أخرى، فالمثقف الشامي، والعربي عموماً، يكبر بمجرد ما يهاجر. هنا يصبح الانفتاح على الآخر انفتاحاً تحررياً يدعم حرية الذات وصيرورتها على نحو ما، فالذات العربية عندما تجد نفسها في بوتقة ما محاصرة حصاراً ضيقاً يصل إلى حد صعوبة التنفس، تحاول التمرد والخروج على قوانين الأسوار المحيطة بها، ويستغل الآخر هذا التمرد والخروج على القوانين فيعمل على تلبية كل المطالب الممكنة لهذه الذات المتمردة، ليس بدافع التعاطف معها، بل إن ثمة دافعاً حقيقياً وراء هذه الاستجابة غير المشروعة. فهو وبكل بساطة يريد من هذه الذات أن تكون بوقاً أو أداة دفاع تم إعادة إنتاجها وفق صياغات هذا الآخر من جهة، ومن جهة أخرى يعمل على إذلال الآخر/العربي وعزله عن طريقه بوساطة مشاريعه الرامية عادة إلى استغلال الآخر/العربي على المستويات كافة، إذ يعطي الغرب حرية كافية للتغيير في محاولة منه لجذب الآخر/العربي إليه وإيهامه بحلم الخلاص والتغيير الذي يلوح أمام شخصيته، وهنا يكمن سر الهجرة وتكمن سرّ الإشكالية التي تحكم هذه العلاقة. يجد المثقف نفسه دوماً مقيداً محاطاً بمجموعة من التابوهات غير المسموح بتجاوزها (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية)، وربما كانت السياسة والجنس أكثر هذه التابوهات قبولاً.

 

الآخر/الغربي:

إن الاعتراف بالهزيمة، هزيمة الذات العربية ينطلق من الإحساس الفاجع بأن الذات العربية هي مصدر البلاء وأساسه، ولولا ضعفها واستسلامها لما كان للعدو أن يمزق جسد الأمة العربية على هذا النحو المرعب، يصول ويجول فيها ويتلاعب بمقدرات الذات العربية كيفما يشاء، فالعرب منهمكون دوماً في نواح مستمر وبكاء وجلد للذات على إحساس دائم بالانكسار والهزيمة لا ينتهي.

 

«إذا بقي الانكليز يحلبون الشام مثلما كان من قبلهم يحلبها. وكما لم يخرج من قبلهم إلا بالقتال، ظني أنهم لن يخرجوا إلا بالقتال. ولن يكون الحال أفضل مع الفرنسيين. هاهو الساحل كله أمامك، ألا تسمع بما يجري هناك؟ قل يا راغب بربّك: لماذا تطمع الدنيا ببلادنا؟ بل لماذا تطمع الناس ببعضها؟ ماذا يضرّهم لو تركونا نعيش بسلام؟ هل كتب الله علينا ذلك؟ مرة الأتراك ومرّة الإنكليز، ومرة الفرنسيين، وهاهي فلسطين تبتلى بالصهاينة!! شيء يحيّر! شيء يقبض القلب. لو كنا أقوى فهل تظن أن الآخرين كانوا يتطاولون علينا هكذا؟».

وتبرز روسيا ـ بوصفها مرحلة أخرى من مراحل النكبة التي شهدتها سورية ـ مبعثاً للوباء الشيوعي المستشري فيها، وبمقطع صحفي نقف عند نظرة العرب إلى الشيوعية: «وفي اليوم التالي جاءني بجريدة حلبية وقال لي: اقرأ. قرأت على قدر ما أستطيع، وحفظت وطار صوابي. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إليكم أيها العمال، أيها الفلاحون المغرورون بمحاسن المذهب الشيوعي والآخذون بدعاية رسل السوفييت وأضاليلهم. إليكم يا بني وطني هذه الصفحة السوداء عن روسيا الحمراء مبعث الوباء الشيوعي. والصفحة يا هولو حديث ليهودي روسي هارب من هناك، الشيوعيون ملحدون، يحاربون كل مؤمن، مهما كان دينه، يمنعون المسلم والمسيحي واليهودي من العبادة. الشيوعيون فجّار، يركبون بعضهم مثل البهائم. لا يحللون ولا يحرّمون، وروسيا مثلها مثل كل البلاد فيها الصالح والطالح، ولكنها تحاول أن تكون أفضل. ولم تمش مع الأبالسة الذين يقهرون الشعوب ويحلّلون دمها».

وبهذه السلبية تظهر فرنسا في نظر العرب، فزين العرب يعقد مقارنة بينها وبين غيرها من الدول الغربية وفيها تظهر إشارة إلى أصالة الأمة العربية وكيف يعمل العربي على الإعلاء من شأن أمته على الرغم من السلبية التي ترزح تحتها، وتظهر هذه المقارنة عبر أصوات عديدة تحاول الكشف عن همجية فرنسا والدول الغربية.

 

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.