ميموزا العراوي

أسامة بعلبكي يؤسس بالضوء صورا بيروتية موحشة

تقدم صالة “أجيال” معرضاً للفنان أسامة بعلبكي، معرضا يؤكد من جديد شغف الفنان برسم تحولات الواقع مجبولة برؤاه الشخصية.

وإذا كانت اللوحات التي قدمها في معرضه السابق الذي حمل عنوان “خيالات الواقع” منضوية تحت يافطة الواقعية التعبيرية، فأعماله المعروضة الآن في صالة أجيال بعنوان “مرافعات للضوء” هي أقرب إلى الواقعية السحرية، واقعية امتصت رحيقا ضوئيا بالغ الحسية من أزهار الفنان الداخلية التي لم تكفّ يوما عن النمو بصمت لا تغادره الابتسامة، ودائما على حافة ما بين الذاكرة الغارقة في الحنين والحاضر “المُتفرّج” على تحولاته بعطش لا ينضب.

يُذكر أن بعلبكي من مواليد سنة 1978. تخرج من كلية الفنون في الجامعة اللبنانية وقد شارك في عدد كبير من المعارض داخل لبنان. كما شارك في معارض فنية في دبي، ولندن، ونيويورك، وميامي، وميونيخ وواشنطن. وله معارض فردية تتبع نبضا داخليا يربط ما بينها ليأخذها إلى ولادات لأفكار جديدة لمعارض وأعمال جديدة من رحم الأعمال السابقة.

من معارضه الفردية نذكر عناوينها التي تمسك بيد المُشاهد لتقله إلى عالم محدد المعالم ومفتوح على التأويل في آن واحد. نذكر “لوحات بالأسود”، “مشاهد من العزلة” و”دخان أقل، وأكثر”، وأخيرا “خيالات الواقع” وهو عنوان المعرض الذي سبق معرضه الجديد هذا.

طريقة الفنان في النظر وتأنيه في الكلام، يعثر عليهما المُشاهد في أعماله الفنية الجديدة أكثر من أية أعمال سابقة له. صدق الفنان مع ذاته صدق صاعق يندر وجوده لدى الفنانين التشكيليين المعاصرين ويتبدى ذلك في تأنيات تشكيلية شبه غازية منشورة على وسع لوحات ذات أحجام كبيرة ومشغولة بمادة الأكريليك.

يؤسس بعلبكي ويبني صورا لواقع بيروتي مشبوه، مشبوه نتيجة الشك، شك الفنان أمام الواقع وإعادته النظر إليه، إن كان متمثلا بمشاهد طبيعية أو مدينية، هو شك دائم ولجوج لا ينفك ينقذ الفنان من نقمة التكرار.

لوحات أسامة بعلبكي على الحافة ما بين الذاكرة الغارقة في الحنين والحاضر “المتفرج” على تحولاته بعطش لا ينضب
كما عمد أسامة بعلبكي إلى توظيف مادة الأكريليك، الجديدة نسبيا، بأسلوب خاص جدا بمادة الألوان الزيتية العريقة. كذلك استقدم الواقع “الصارخ” إلى لوحاته في رسمه لشوارع من منطقة “الصنايع” و”الحمرا”، ولكن ليس من دون أن يدس محلولا سحريا، ركّبه في محترفه الفني، في أجوائه الليلية وما قبل مغيبية، أجواء تحولت تحت أصابعه آثرة ونابضة بالروح المُثقلة برطوبة جوّ بيروت وبتلبد ذاكرتها “بوعكاتها”، إن صح التعبير.

من يعرف أسامة بعلبكي يعرف أن هذا الفنان يعشق مدينة بيروت التي تغضبه أحيانا. أعماله الجديدة تفضح هذه الخلطة وتعيد إقامة التوازن ما بين ما يريد الفنان أن يراه وما يراه فعلا. لا يخرج الزائر من معرضه إلا مبتسما وراضخا لسطوة تحويل الفنان للواقع على هوى ضوء قمر عنيد أو شمس عصر ذابت حينا وتصدّعت حينا آخر في كبد السماء.

زرع الفنان في معرضه السابق نواة الإضاءة الاصطناعية، دون أن يستخدمها فعلا، في لوحاته برزت ألوان فوسفورية لا يمكن الفرار من مغناطيسيتها، تحض المُشاهد على التفكر طويلا حول ما يفصل الواقع الطبيعي عن الاصطناعي في تمازج آثر. أما في معرضه هذا فقد عاد الفنان إلى الضوء الطبيعي مُشبعا إياه بعنف شعري جديد يحار الناظر إليه إن كان يريد للمدينة أن تظهر بغيره.

في الكتيب الصادر بمناسبة المعرض تطرح نتاشا غاسباريان سؤالا جوهريا تراه حاضرا بقوة في معرض بعلبكي، “ما هو مكان اللوحة بعد الفوتوغرافيا؟”، ربما الفنان في أعماله لا يكتفي بطرح سؤال بهذا الحجم بل يجيب عنه. مكان اللوحة بعد الفوتوغرافيا هو العودة إليها وهي في خامتها الأولية. بالرغم من أن لوحات الفنان هي لوحات تشكيلية واضحة المعالم غير أن فيها نفحات من التجريدية “الشعورية”، إذا صح التعبير، تجريدية تقيم المعنى شفافا من خلف أشكال واضحة وواقعية جدا.

نظرة بعلبكي إلى الواقع خاصة في اللوحات التي تغلب عليها الزرقة تكاد تكون أكثر صدقا من الواقع ذاته لأنها نافذة على ما يُشاكلها من داخلها وليس من ظاهرها. يشدّنا الفنان إلى أن نحيا المدينة في ذهننا قبل أن نراها أمامنا. وما أحوجنا إلى هذا الاندفاع الذي يفتح النظر إلى ما بعد النظرة، أي إلى الرؤيا. ويبقى هذا النزوع إلى إدخال الأشجار بأحوالها المُتبدلة إلى قلب المدينة من أبرز ما يميز نص الفنان أسامة بعلبكي. وهي في لوحاته الحالية مُعرات أحيانا من أوراقها تحت وطأة هموم المدينة أو الأذى الذي لا تنفك المدينة تُلحقه بها. غير أن أجمل ما في حضور هذه النبتات والأشجار هو هذا التعايش على حافة الانهيار والذي يصنع جزءا كبيرا من مشهد المدينة.

يبزغ قمر المدينة في عدد لا بأس به من اللوحات ليس كعنصر طبيعي مُجمل للمشهد بل يظهر كخطاب. يظهر ليعلن سلطته المطلقة على كافة المشهد المديني، فيقول مؤكدا لسكان المدينة ولسكان اللوحات “أنتم ضيوف عندي. الكلمة الأخيرة كانت، وستظل لي”. ربما لأجل ذلك تبدو تلك المشاهد الليلية “بيروتية” بامتياز ولكن يمكن أن تكون لأي مدينة أخرى حتى تلك التي ليس لها وجود على أرض الواقع ولا تسكن إلا خيالنا. وفقا لما نشر بصحيفة العرب اللندنية.

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.