عارف الريس.. تلميذ الاستجابات السريعة

محمد عبيدو
(سوريا)

يعتبر الفنان عارف الريس من ابرز الرسامين العرب، وله شهرة عالمية بسبب إلحاحه في أعماله الفنية على الاستحياء من الجو الشرقي والتراث العربي، وتضمينه المفاهيم الفنية الحديثة.
ومنذ خمسين عاما وعارف الريس يرسم وينحت ما تصادفه عيناه، فهو كتلميذ لاستجاباته السريعة لايزال يتعامل مع اللون والحجم انطلاقا من الخواص الديناميكية المتحركة للخارج. انه يشعر المراقب دائما بحضور عارف العائش ضمن عالم متوتر العلاقة، ويستمد ارتجافاته من إيقاع رقصة افريقية ما برحت تتلبس ذهن هذا الفنان منذ أن كان مغتربا مع والده، حتى حين قرر، فترة ما من حياته، أن يكون راقصا إيقاعيا في إحدى مدارس باريس، إن فن عارف الريس ليس الحركة بل روح الحركة. وحالة ارتطامها الدائم بما يحيط بها من سواكن. فهو فنان يقدم كل مرة صدمة جديدة للعين لا تطرح مجددا إلا جانبا آخر من جوانب هذا الباحث المستمر عن علاقة الأشياء.
بين الولادة في عالية بلبنان (1928) واليوم، مشوار سبعين عاما ونيف من رحلة الفن لم يبدأ زمانها واضحا. حياة معجوقة بالمعارض والمشاريع والرحلات والطموحات والأحلام.
في 1947 أقام، وهو فتى يافعا معرضه الأول، وفي العام نفسه انعقد في بيروت مؤتمر الاونسكو فزار المعرض رئيس بعثة الأمم المتحدة ولشدة إعجاب الرئيس بالأعمال، أعطى الفنان الشاب بطاقة تخوله حضور جميع احتفالات المؤتمر، وطلب نقل اللوحات إلى قصر الاونسكو فكان ذلك، وعرضت أعمال الشاب إلى جانب (الكبار) يومها: فروخ، الإنسي، الجميل.. ولكن الظروف شاءت أن يسافر إلى السنغال ملتحقا بأشغال والده وأقام هناك، إلى أن اقنع والده بضرورة السفر إلى باريس مدينة الفن، فكان له ما أراد في باريس، ضاع الفتى الجامح بين تيارات الفنانين الكبار الذين كانوا يبحثون عن هوية الإنسان الجديد بعد الحرب.
وحين شعر بأنه خرج من البلبلة والتشويش، عاد عام 1957 إلى لبنان، منتشيا بما اشتاق إليه فيه من نور وهواء، وما كاد يؤسس لاستقراره حتى اندلعت أحداث 1958، فانسحب إلى المختارة مفيدا من مركز للمحترف وضعه في تصرفه الزعيم كمال جنبلاط. وبدأ يعرض في بيروت أعماله، فاتسعت شهرته، وذات يوم من عام 1959 نظم له المركز الثقافي الايطالي معرضا أحرز له منحة إلى ايطاليا فلبى وعاش في فلورنسا سنتين، ومن ثم إلى روما فإلى لبنان محطة استراحة وانطلاق إلى الولايات المتحدة، ومن هناك إلى المكسيك.
وحين عاد بعد سنتين ساهم في إنشاء معهد الفنون في الجامعة اللبنانية، بعدها، أرهقته ظروف الحرب وندهته الفرصة إلى المملكة العربية السعودية، فشد رحاله إليها مخرجا روائع في النحت.
وبعد غياب اثنتي عشرة سنة، يعود إلى البقعة الأم، إلى (عاليه) واختار له فسحة جميلة ل (المحترف) عاش في أمكنة متعدد ومتفارقة الصحراء والغرب وأفريقيا وأوروبا. عن الترحال وما قدمه له يقول عارف الريس: (الترحال وضح لي أهمية الارتباط بالذات، ومن ثم ربط التراث بالظاهرة العالمية للفنون التشكيلية وخاصة الاعتماد على الإلهام الذاتي مهما تنوعت، وخاصة المواضيع من مرحلة إلى مرحلة ضد ما يسمى بالأسلوب التقني المرتبط بالتعليم الأكاديمي.
وبناء عليه طورت تقنياتي حتى أتمكن من الأداء الجمالي الذي يفي بالموضوع الذي أتطرق إليه.
التجوال يوسع لك عدسة مخيلتك، خاصة بتعدد المذاهب والأساليب التعبيرية المعاصرة فيشعر الفنان بأن رده الوحيد في مخيلته وموضوعيته بالنسبة لمشاغله الفكرية والوطنية وارتباطه الحضاري في أفريقيا والسعودية عشت الاطمئنان، وكانت حياتي مستقرة وهادئة وصافية، وهي حياة مختلفة كليا عن لبنان. في أفريقيا تعيش وسط بشر عراة تماما، يرقصون حتى الفجر ويعشقون الألوان الزاهية، ويعتبرون أجسادهم جزءا من الجمال. المرأة لا تخفي جمالها، هذه القوانين البدائية عشتها بانسجام. أما في باريس فعشت الفحش الطويل (1948 1957).
وأيضا عشت في مناخات الأدب والفكر والفن وقضيت فترة غنية جان بول سارتر ومع معظم الفنانين الذين برزوا في تلك المرحلة.
استمعت إلى أحاديثهم والى مفاهيمهم النقدية. كانوا أيضا يثيرون أسئلتهم حول المرحلة وقلقها. عاشوا القلق وقاموا بثورة على تراثهم الطويل).
وعن العلاقة بين النحت والرسم يضيف الريس:
(الرسم يصل بالفنان إلى التصوير والنحت إذا توفرت الموهبة. ويبقى التصوير أصعب وأدق من النحت لأنه يعتمد على الغش البصري بالتعامل مع المسطح كمساحة المربع والمستطيل فاللون يحمل مهارة الخداع التشكيلي أما النحت فيدخل في صفاء الهندسة المعمارية التشكيلية، وهذه الهندسة الجمالية تحمل مساحات وأحجام وتقاسيم تشغل بصر الناظر إليها بطريقة أنها تبقى لغزا لا يمكن الدخول إلى صميم بنائيته فيبقى موضع التساؤل حول حركته وثباته ومعانيه وهذا عكس جمالية العمارة التي تخضع إلى القواعد الهندسية المعمارية ولكنها تقدم المسكن في داخليتها لحياة عائلية وفردية. لذلك النحت المعاصر يدخل سر من أسرار الهندسة الجمالية المجسمة فهذه الكلمات بحد ذاتها تبدو تجريدية طالما لم نضع شاهدا تجسيديا لتدور حوله التعريفات اللفظية، وهذه هي قدسية الكلمة).
(اللوحة البيضاء تخضع إلى تصوري وحالتي النفسية والحديثة التي تفرض مسيرة من الألوان والتفاصيل متناقضة تشكيليا).
وحول الفنان وعلاقته بقضايا وطنية يضيف الريس.
(الأجواء التي تعيشها تتجسد في مخيلتك وتوحي إليك بكيفية معالجة الموضوع الذي يشغل كل حواسك. قضايا وطنية ومصيرية لا يمكن أن تمر بدون التنبه لأهمية التعبير عنها، مثل مرحلة معارضي (دماء وحرية) و(فصول من واقع العالم الثالث)، و(طريق السلم) هذه كلها قضايا مصيرية تشغل كل واحد منا فلا يمكن للفنان أن يهرب مما يتمسك بمخيلته ومعاناتنا كبيرة في هذه المنطقة من العالم). ويضيف (شخصيا الفن عندي يخضع إلى مشاغلي الشخصية والعامة اجتماعيا وسياسيا. قلما جربت الفن للتجريد الفني الصرف، لأن الحياة عندي مترابطة ومتكاملة نظريا وتطبيقيا. وفي هذا الالتزام معاناة تحرمني من التمتع المنفلت جماليا من الموضوع).
كل الفنانين يعانون من كيفية تدبير حياتهم المادية. حظي كان كبيرا لأن والدي يرسمان، وساعدني والدي مساعدة كبيرة لأستمر في إنتاجي، فحل محل الدولة، إنما في كل حياة الفنانين معاناة مزدوجة. فالإبداع عملية صعبة، وتأمين الحياة أصعب وجميع العواصم التي عشت فيها بأوروبا وأمريكا والبلاد العربية وجدت نفس المعاناة ونفس الهموم والمشاكل.

البيان الثقافي
الامارات- لأحد 21 رمضان 1421ه 17 ديسمبر 2000

****

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.