Portrait of American author and critic Susan Sontag (1933 - 2004) smiles broadly as she leans, arms crossed, against a bookshelf in the offices of her publisher, Farrar, Straus, and Giroux, New York, New York, January 23, 1978. (Photo by William E. Sauro/New York Times Co./Getty Images)

 

إذا كان الأدب، هذا المشروع الضخم الذي نُظم (في مجال اختصاصنا) منذ ما يقارب آلاف السنين يتضمن الحكمة - وأنا أؤمن بأنه يتضمن الحكمة وأنها في الأصل جوهر ضرورة الأدب لدينا - فهو يتضمنها من خلال عرضه لازدواجية طبيعة مصائرنا الشخصية والجماعية. سوف يذكرنا باحتمالية وجود التناقضات وأحيانًا النزاعات التي لا يمكن اختزالها بين القيم التي نعتز بها كثيرًا

سوزان سونتاغ: الكلمات أسهم عالقة في الجلد الخشن للواقع.

ترجمة: أشواق المطيري

إذا كان الأدب، هذا المشروع الضخم الذي نُظم (في مجال اختصاصنا) منذ ما يقارب آلاف السنين يتضمن الحكمة – وأنا أؤمن بأنه يتضمن الحكمة وأنها في الأصل جوهر ضرورة الأدب لدينا – فهو يتضمنها من خلال عرضه لازدواجية طبيعة مصائرنا الشخصية والجماعية. سوف يذكرنا باحتمالية وجود التناقضات وأحيانًا النزاعات التي لا يمكن اختزالها بين القيم التي نعتز بها كثيرًا

“تنتمي الكلمات إلى بعضها”، قالت فرجينيا وولف في التسجيل الصوتي الوحيد الباقي لها، وكتبت أورسولا لي غوين بعد عدة عقود في تأمل سحر الحوار الحقيقي: “الكلمات أحداث، فهي تحدث أشياء وتغير أشياء”. أما الشاعر ديفيد وايت فلقد أدهشه “جمال الكلمات الخفي والغاوي بغموضه”، في رحلته لاسترداد المعاني الأعمق للكلمات الاعتيادية.

لكن ماذا تفعل الكلمات حقًا؟ ما هي المسؤولية التي تحملها الكلمات تجاهنا وما المسؤولية التي نحملها تجاه الكلمات؟

هذا ما تتقصاه سوزان سونتاغ في خطابها المذهل لقبول جائزة القدس عام ٢٠٠١، الذي نشر تحت عنوان “ضمير الكلمات” في كتابها “في آنٍ واحد: مقالات وخطابات”. الكتاب الذي لا يستغنى عنه ونشر بعد وفاتها من مقتطفات أدبية مختارة أتاحت لنا مقالات عدة لسونتاغ عن الشجاعة الأخلاقية وقوة المقاومة المنضبطة للظلم والأدب والحرية والجمال مقابل الجاذبية، ونصيحتها للكتاب.

تبدأ سونتاغ بقياس مرونة اللغة وقدرة الكلمات على تضخيم المعاني بالقدر نفسه الذي يمكنها به تقليصها.

“نحن الكتاب تقلقنا الكلمات. تحمل الكلمات معاني وتشير إلى أشياء. الكلمات أسهم عالقة في الجلد الخشن للواقع. وكلما كانت الكلمات منمقة و متداولة، أصبحت تمثل فضاءات وأنفاقًا من الممكن أن تتسع أو أن تتداعى. يمكن للكلمات أن تحمل رائحة سيئة وغالبًا سوف تذكرنا بفضاءات أخرى حيث نفضل السكون أو فضاءات نظن فيها أننا بالفعل أحياء. من الممكن أيضًا أن تكون مساحات نخسر فيها فن الاستقرار وجزالته.

فماذا نقصد بكلمة “سلام” مثلًا؟ هل نقصد غياب الاضطراب؟ هل نقصد النسيان؟ هل نقصد الغفران؟ هل نقصد إعياء عظيمًا ومرهقًا أم هل نقصد التجرد من الضغينة؟ يبدو لي أن ما يقصده معظم الناس “بالسلام” هو الانتصار. انتصار جانبهم، هذا ما يعنيه لهم “السلام”، في حين أنه يعني الهزيمة للآخرين، يصبح السلام مساحة لا يعلم الإنسان كيف يستقر فيها.”

تتفكر سونتاغ، متأملة الاسم الكامل للجائزة التي أنتجت خطابها “جائزة القدس لحرية الفرد في المجتمع”، في علاقة الكاتب بالكلمات كأدوات تمثل الكاتب شخصيًا:

“ليس مهماً ما يقوله الكاتب، المهم هو الكاتب نفسه.

الكتاب – وأعني أعضاء الجماعة الأدبية – هم رموز للاجتهاد (وضرورة) للرؤية الفردية.”

ولكن لأن “هناك الكثير مما يبعث التناقضات في كل شيء” كما لاحظت سونتاغ بأسى قبل ربع قرن، هنالك جانب مظلم لمفهوم الرؤية الفردية. في نص يتناسب جدً اوعصرنا، عصر الانتشار الذاتي والهوية، سونتاغ التي عاشت خلال عصر الأنا كتبت:

“تبدو لي الدعاية الترويجية غير المنقطعة في عصرنا “للفرد” مشبوهة جدًا، فيما تصبح “الفردية” مرادفًا للأنانية. يصبح المجتمع الرأسمالي مهتمًا بتمجيد “الفردية” و”الحرية”، وذلك قد يعني  أن لهذا المجتمع حق أبدي في تضخيم النفس والحرية في التخزين والاستيلاء والاستغلال والاستنزاف حتى يندثر هذا المجتمع.

أنا لا أؤمن بأن لتهذيب النفس قيمة وراثية وأعتقد أنه ليس هنالك حضارة (أستخدم هذا المصطلح بشكل معياري) لا تملك مقياسًا للإيثار والاهتمام بالغير. أنا أؤمن بأن هنالك قيمة متأصلة في تعميق وعينا بما يمكن أن تكون عليه الحياة الإنسانية. إذا خاطبني الأدب باعتباره مشروعًا، بوصفي قارئة أولًا وكاتبة ثانياً فما هو إلا امتداد لتعاطفي مع أنفس ومجالات وأحلام وكلمات واهتمامات أخرى.”

في رؤية متضادة ثقافيًا اليوم كما نرى، تبنى مهن على أفكار معلقة متراكمة ، تولي سونتاغ اعتبارًا لمهمة الكاتب الحقيقية:

“على الكاتب أن لا يكون آلة آراء.. مهمة الكاتب الأولى هي قول الحقيقة لا امتلاك الآراء. يجب عليه أن يرفض مشاركة الأكاذيب والتضليلات، فالأدب هو بيت التباين والفروق الدقيقة ضد أصوات التبسيط،  ومهمة الكاتب أن يجعل تصديق لصوص الفكر صعبًا. إن مهمة الكاتب هي السماح لنا برؤية العالم كما هو مليئًا بالكثير من الادعاءات والأجزاء والتجارب المختلفة.

إن مهمة الكاتب هي تصوير الحقائق: الحقائق المنحلة وحقائق الفرح. هذا هو جوهر الحكمة الأدبية (تعددية الإنجازات الأدبية) مساعدتنا على فهم أن ما يحدث الآن يحمل في طياته حدثًا آخر.

تثير كلمات سونتاغ إدراكًا مؤلمًا لنزعتنا المعاصرة في بناء آراء سريعة وخاطئة؛ آراء مبنية على المعرفة بما هي أساسًا أصداء لردود أفعال أخرى.

تلاحظ سونتاغ: “من الفظاظة إشاعة آراء للعامة لا يملك الشخص فيها معرفة مباشرة عميقة.  إذا تحدثت عما لا أعرف أو عما أعرف باستهتار فإن هذا مجرد تسويق للآراء.

مشكلة الآراء هي أن الشخص يعلق فيها. وكلما تصرف الكتاب بوصفهم كتاب فإنهم دائمًا يرون أكثر.”

وتوثيقًا لقوة الأدب في ضبط الفوارق البسيطة للمعنى واحتفالًا بما تسميه الشاعرة إليزابيث ألكسندر “تعددية المعاني والأصوات والمتحدثين”، تضيف سونتاغ:

“إذا كان الأدب، هذا المشروع الضخم الذي نُظم (في مجال اختصاصنا) منذ ما يقارب آلاف السنين يتضمن الحكمة – وأنا أؤمن بأنه يتضمن الحكمة وأنها في الأصل جوهر ضرورة الأدب لدينا – فهو يتضمنها من خلال عرضه لازدواجية طبيعة مصائرنا الشخصية والجماعية. سوف يذكرنا باحتمالية وجود التناقضات وأحيانًا النزاعات التي لا يمكن اختزالها بين القيم التي نعتز بها كثيرًا.”

تنشأ من هذا الإدراك بالتعددية والتكامل أرفع مهة للأدب وأعظم جزاء. تكتب سونتاغ بعد قرون من رحيل واحد من أعظم المؤثرين بها وهو الفيلسوف هيغل، الذي حذر من خطورة الآراء الثابتة:

“الحكمة في الأدب معاكسة لامتلاك الآراء.  تَوْرِيد الآراء، حتى الآراء الصحيحة – عندما تطلب – يرخص من قيمة ما يقوم به الشعراء والروائيون على أكمل وجه، وهو مناصرة التفكر واستكشاف الغموض.”

في رؤية مرتبطة ارتباطًا استثنائيًا بالمحرض، فيما يتزايد كفاحنا للعيش مع الحكمة في عصر المعلومات، تردد سونتاغ صدى أفكار بطلها والتر بنجامين الأبدية عن الفرق الجوهري بين المعرفة والتنوي، وتقدر مهمة الروائي المطلقة:

“لن تستبدل المعرفة التنوير أبدًا. دع المشاهير والسياسيين يتحدثون معنا بدونية ويكذبون. لو كان من الممكن أن يرمز أن كونك كاتبًا وصوتًا عامًا إلى ما هو أفضل فإن ذلك سيكون اعتبار عملية تكوين الآراء والأحكام مسؤولية صعبة.

هناك مشكلة أخرى مع الآراء هي أنها من محركات شل الحركة الذاتية. ومن المفترض أن ما يفعله الكتاب باستطاعته أن يحررنا ويهزنا. وأن يسمح لنا بأن نتذكر أنه من الممكن أن نطمح في أن نصبح مختلفين وأفضل مما نحن عليه. أن نتذكر أننا نستطيع أن نتغير.”

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.