السماء، جهنم والجحيم

الفكر الإسكاتولوجي للكنيسة الكاثوليكية مع مقارنته لبعض أفكار أوريجانس (3)

إعداد الأب الياس جانجي

روما، الخميس 15 يناير 2009 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي القسم الثالث من دراسة الأب الياس جانجي حول موضوع “الفكر الإسكاتولوجي للكنيسة الكاثوليكية مع مقارنته لبعض أفكار أوريجانس”.

* * *

ثالثاً: السماء، جهنم والجحيم

 

قبل أن نتكلّم عن السماء وعن جهنم لا بد لنا أن نعرف ما كانت نظرة الشعب اليهودي للعالم، لأنّه بدون معرفتنا لهذه النظرة، لن نفهم بطريقة صحيحة مفهوم السماء وجهنم في الكتاب المقدس.

تصور الكون عند الشعب اليهودي: كان الشعب العبراني يميزون بين نوعين من السماء: السماء التي نراها ويطلق عليها بالعبريّة إسم الجلد، وهي طبقات الجو العليا، والكمة جلد تعني شيئًا صلبًا لأنهم كانوا يظنون أن القبة السماويّة هي طبقة صلبة زرقاء اللون. وعلى هذا الأساس كانوا يعتقدون أنها تحتاج إلى أعمدة ترفعها. لذلك ظنوا أن الجبال هي تلك الأعمدة التي تنتصب عليها القبة السماويّة. على سطح هذه القبة، تصوروا أن النجوم والكواكب مثبتة عليها، ففي تصورهم كان من الصعب أن تحتفظ هذه الأجرام بوضعها دون أن تكون مثبتة بطريقة ما في القبة السماويّة. وفوق القبة يمر نهر مياه، ومن فوق هذا النهر نجد السماء الثانية وفقها نجد الإله الذي يتحكم في كل الكون. فإذا أراد أن ينـزل المطر على الأرض، ما عليه إلا أن يفتح حاجزًا بين النهر والقبة فتنزل المياه من ثقوب موجودة فيها في هيئة قطرات المطر. أما الأرض فهي مؤسسة على الغمر وهو المياه الموجودة تحت سطح الأرض، لأن الأرض هي انحسار المياه عن اليابسة. وأما الجحيم، فهو مقر الأموات وهو موجود تحت الأرض، بمعنى أننا لو حفرنا حفرة كبيرة في الأرض سنجد الجحيم[1].

من هنا فإن كل تعابير السماء والمطهر والجحيم وجهنم مأخوذة بشكل أو بآخر من مفهوم العصر لهذه الحقائق. فالكتاب المقدس يعطي عدة صور للتعبير عن السماء: الحياة، النور، وليمة العرس، خمر الملكوت، بيت الآب، أورشليم السماويّة، الفردوس. وأن الله يجمع ذويه في ملكوته، وبعد أن يكون شعب الله قد أنهى مسيرته سيكون معه، محيطًا بعرشه ومسبحًا إيّاه للأبد: فتكون إذ ذاك أورشليم السماويّة ويكون نورها نور الحمل ولن تكون له نهاية. ويستعمل العهد الجديد أيضًا مثل هذه العبارات: “سنكون مع المسيح”، و”سنراه وجهًا لوجه”، و”سأعرف كما أنا معروف”، و”سنراه كما هو” إلخ[2].

يعرّف كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة السماء بقوله أن “الذين يموتون في نعمة الله وصداقته، وقد تطهروا كليًّا، يحيون على الدوام مع المسيح. إنّهم سيكونون على الدوام أمثاله، لأنّهم سيعاينونه “كما هو” (1 يو 3/2) “وجهًا لوجه” (1 كور 13/12)[3].

فالله بسبب سمّوه، لا تمكن رؤيته إلا متى كشف هو نفسه عن سرّه لمشاهدة الإنسان المباشرة ومكّنه منها. هذه المشاهدة لله في مجده السماوي تدعوها الكنيسة “الرؤية السعيدة” أو “الرؤية الطوباويّة”. “سنراه كما هو” يعني أننا سنراه لا من خلال وسيط، ولا من خلال صورة ورسم وانعكاس، أي لا بشكل غير كامل، بل مباشرة.

يعترف المتصوفون بأن بعض القديسين يستطيعون الوصول، في هذه الحياة، إلى شيء من تلك الرؤية. ولكنها لا تكون إلا مؤقتة. من الواضح أن هذه الرؤية تتخطى على الإطلاق إمكانيات الطبيعة البشريّة. يستطيع الإنسان أن يرى جوهر الله أي الله “كما هو”. ولكن هذه الرؤية ليست جامدة ونهائيّة، بل هي تزداد وضوحًا باستمرار. فإن “الراحة الأبديّة” لا تنفي حتمًا أن يكون هناك إعجاب يتجدد دائمًا أمام بهاء الله.

ولقد عبّر هنري بولاد اليسوعي عن هذا الموضوع في كتابه “الإنسان والكون والطور بين العلم والدين”[4] بقوله أن «هناك نظريتان للجواب على هذا السؤال: الأولى تقول إننا سنصل إلى ملء قامة المسيح وسنستقر في الحالة إلى للأبد. وأما الثانية، والتي أنا أكثر ميلاً إليها، فهي تفترض أننا سنعيش بعد القيامة في انطلاق ونمو وتجدد لا حدود لها . فالحياة حتى تكون كذلك لا يمكن أن تتوقّف، وهذا الجسد في نظري سينطلق من تجديد إلى تجديد إلى ما لا نهاية. كما يقول القديس غريغوريوس النيصي. بمعنى أن النهاية ستكون بداية لانطلاقة جديدة، لأنني لا أستطيع أن أتصور الحياة في حالة سكون. يتصور بعضهم أن الأبديّة مجرد أن أشاهد الله فقط. كلا، الأبديّة كلها تجديد. يتصور بعضهم أننا في الأبديّة سنجلس أمام الله ونسبحه ونقدم له البخور إلى أبد الآبدين، وهو يستمتع بهذا المنظر، وأحيانًا ما نتصور الحياة الأبديّة على شكل مسرح كبير، والله على عرش في الوسط، والبشر يسجدون له وينمون بعض الترانيم. هذه الحياة مملة جدًّا، ولا أستطيع أن أتصوّر الأبديّة بهذه الصورة. لذلك أنا أحاول أن أجد حياة أبديّة فيها بعض التغيّر».

إن الكتاب المقدس يفرق بين الجحيم وجهنم . فالمسيح نـزل إلى الجحيم مقر الأموات، وأما الهالك فإنّه ينـزل إلى جهنم: إن هذين التعبيرين يشيران إلى فعلين متباينين، ويفترضان حالتين مختلفتين. إن أبواب الجحيم، حيث نـزل المسيح، قد انفتحت لتترك أسراها يذهبون في حال سبيلهم، بينما جهنم، حيث ينـزل الهالك، تنغلق عليه إلى الأبد. ومع ذلك فالتعبيران متقاربان، إذ أن الجحيم أسوة بجهنم هو مملكة الموت.

 

الجحيم :في إسرائيل القديم ، الجحيم أو الشيول (Shéol) هو مقر الأموات. كان الشعب العبراني يتصور أن بقاء الأموات في العالم الآخر أشبه بظل للوجود، عديم القيمة وبدون فرح. فالشيول أو الجحيم هو بالتالي الإطار الذي يجمع تلك الظلال. إنّه أشبه بقبر، فجوة، جب، حفرة (مزمور 30/10 حزقيال 28/8) في عمق أعماق الأرض (تثنية 32/22) حيث يخيم ظلام دامس (مزمور 88/16-17)، هناك ينـزل كل الأحياء ولن يصعدوا منها إلى الأبد. فليس بعد في مقدورهم أن يسبحوا الله أو أن يرجوا عدالته أو أمانته، إنّه التخلّي التام. في أي من نصوص الكتاب المقدّس ليس الجحيم رجاءً، لأن الأموات يعيشون فيه وجودًا ضعيفًا ومنعزلاً، لا يمكن تسميته “حياة”. الجحيم هو مكان مخيف (إشعيا 14/9-11) ومكان النسيان (مزمور 88/13) والمكان الذي لا تصل إليه يد الله (مزمور 88/6)، والمكان الذي لا يحدث فيه بمعجزات الرب وبأمانته (مزمور 88/12)، والمكان الذي ينتهي إليه كل حي (جامعة 3/20) أن يكون المرء في الجحيم يعني أن يكون مفصولاً عن الله وعن جماعة الأحياء[5].

إن الرب يسوع عندما مات نـزل إلى مقر الأموات. فإن إثباتات العهد الجديد الكثيرة التي أوردت أن يسوع “قام من الموتى” تعني أنّه قبل القيامة أقام في مقر الأموات. هذا هو المعنى الأول الذي أعطته الكرازة الرسوليّة لانحدار يسوع إلى الجحيم: يسوع عرف الموت كسائر البشر والتحق بهم بنفسه في مقر الأموات. إلا أنّه انحدر مخلِّصًا معلنًا البشرى للنفوس التي كانت محتجزة فيه. إن الموجودين في الجحيم محرومون من رؤية الله: تلك هي حال جميع الأموات، في انتظار الفادي، سواء أكانوا أشرارًا أم أبرارًا. لم ينـزل المسيح إلى الجحيم لإنقاذ الهالكين بل لإعتاق الأبرار الذين سبقوا مجيئه. هذا هو المعنى الكتابي للجحيم. وباختصار نقول: أن عبارة نزول المسيح إلى مقر الأموات موروثة من العهد القديم، وهي تأكيد على حقيقة موت يسوع المسيح، وتعني أنّه اختبر الموت كسائر الناس. إن تساءلنا في أي مكان كان المسيح بين موته وقيامته، وكيف يجب تصور مثوى الأموات حيث أقامت نفسه، أثرنا مشكلة باطلة. يجب ألا نجهل مصطلحات اللغة الأسطوريّة المستعملة هنا للتعبير عن السر، وألا نفسر تفسيرًا ماديًّا وموضوعيًّا ما يجب أن نفهمه وفقًا لقواعد الرمزيّة حيث لا يعبّر تجانب الصور حتمًا عن تعاقب زمني ، بل يستخدم بالأحرى لتفصيل مختلف وجوه حقيقة معقّدة[6].

جهنم : لا نستطيع أن نتحد بالله ما لم نختر بحريّة أن نحبّه، ولكننا لا نستطيع أن نحب الله ونحن نرتكب خطايا ثقيلة ضد الله أو ضد قريبنا أو ضد أنفسنا. فالموت في الخطيئة المميتة دون التوبة ودون تقبل محبة الله الرحيمة، يعني البقاء منفصلاً عنه على الدوام باختيارنا الحر. وتلك الحالة من الإقصاء الذاتي عن الشركة مع الله مع الطوباويين هي ما يُدَلُّ عليه بلفظة “جهنم”.[7]

فلنبدأ ببحث الموضوع من خلال نظرة الكتاب المقدس :

في مأساة “جنة عدن” كانت نتيجة معصية الإنسان ، أي نتيجة “خطيئة المبادئ” أن طرد الإنسان من هذه الجنة التي كانت تمثل الألفة مع الله: “فأخرج الرب الإله الإنسان من جنة عدن ليحرث الأرض التي أخذ منها. فطرد الإنسان وأقام شرقي جنة عدن الكروبين وشعلة سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة “. فالذي عصى، لأنّه أراد أن يجعل نفسه كالله، فقد الألفة مع الله.” (تكوين 3/23-24). فطرد من الجنة ووضع خارجًا. فذكر جهنم مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالخطيئة. وكذلك نراه في العهد الجديد أيضًا. والكتاب المقدس يصور جهنم بأنها النار التي تحرق دون أن تفني إلى ألبد. فنار جهنم لا دواء لها وهي نار الغضب الحقيقيّة، عندما تسقط الخاطئ القاسي القلب. ولكن هذه النار – وتلك هي قوة الرمز – إذا لم تعد باستطاعتها أن تزيل الدنس (كما في المطهر) فهي لا تزال تسبك خبث المعادن (حزقيال 22/18-22). ويعبّر الوحي هكذا عما قد يكون حال خليقة ترفض أن تطهر بالنار الإلهيّة وتظل مع ذلك خاضعة لحروقها. وهذا أخطر مما نقله إلينا التقليد عن إبادة سادوم وعامورة (تكوين 19/24). ولعل الناس قد ارتكزوا على طقوس وادي إبن هنوم، المفعمة بالنجاسة (لاويين 18/12 ، 2 ملوك 16/3 ؛ 21/6 ؛ إرميا 7/31 ؛ 19/5-6) وتعمقوا في الصور النبويّة للحريق (إشعيا 29/6 ؛ 30/27-33 ؛ 31/9) وصهر المعادن، فذهبوا إلى تمثيل جهنم بالنار (إشعيا 66/15-16). وإن جثث الناس الذين عصوا الله “دودها لا يموت ونارها لا تطفأ” (إشعيا 66/24 ، مرقس 9/48). فيجعل الله لحومهم للنار والدود (يهوديت 16/21).

وفي العهد الجديد، فإن يسوع، مع رفضه أن يقوم بدور الديّان، فقد أبقى سامعيه في ترقب نار الدينونة، مرددًا الكلام المألوف في العهد القديم. فهو يتكلم عن نار جهنم (متى 5/22) هذه النار التي تحرق الزؤان الذي يعطل الأرض (متى 13/40)، والأغصان التي تنفصل عن الكرمة (يوحنا 15-6) فجهنم نار لا تطفأ (مرقس 9/43-44)، بل هي أتون النار (متى 13/42،50). إحتفظ المسيحيّون الأولون بهذا الكلام مع تكييفه وتطبيقه على مختلف الحالات. فبولس الرسول يستخدمه في وصفه لآخر الأزمنة (2 تسالونيكي 1/8)  وتظهر الرسالة إلى العبرانيين ما سيكون من مظهر النار المريع، التي ستلتهم العصاة المتمردين (عبرانيين 10/27)[8].

أما كل هذه التصاوير من العهد القديم والعهد الجديد نعي أننا نواجه مشكلة وهي حجر عثرة للفكر المسيحي المعاصر. فمن جهة أولى يشق على متطلباتنا النقديّة أن نقبل بتلك الصور التي تصدم عقليتنا والتي تغذى بها سلفنا: صورة العذابات المفروضة على الهالكين، أو صورة تلك النار التي تحرق من دون أن تفني، وأن هذه النار وهذه العذابات ستبقى إلى الأبد. وكان الوعّاظ يجدون لذة في إقامة الدليل على أن خطيئة مميتة واحدة تستوجب تلك العقوبات الفظيعة، وهذا ما ترك في أجيال وأجيال آثار الهواجس النفسيّة. والنتيجة كانت أن موضوع جهنم صار من المواضيع المحرّمة، لا يجرؤ الناس على تناوله، أو أصبح موضوعًا مهملاً تمامًا في بعض كتب التعليم المسيحي الحديثة. ومن جهة أخرى، فهناك اعتراض أكثر أهميّة: وهو أنّه إذا كان الله محبة، كما علمنا العهد الجديد، فلا بد أن تكون جهنم مستحيلة. أو إذا كان الله رؤوفًا إلى أقصى درجة، فأحب العالم حتى إنّه أرسل ابنه ليخلصنا، كيف يستطيع هذا الإله نفسه أن يحكم بالهلاك الأبدي على مخلوقاته التي يحبها[9] ؟

إن المشكلة إذا طرحت على هذا الشكل، لا حل لها. فمن جهة يجب أن ننطلق من المفهوم الرمزي للصور المعتمدة في الأدب الرؤيوي في الكتاب المقدس. ومن جهة أخرى يمكننا القول بأنه إذا كانت جهنم حجر عثرة فإن هذه العثرة لا تأتي من الله، بل من الإنسان الذي يرفض الله ومحبته. ليست جهنم سر الله بل سر الإنسان، أو بالأحرى سر الشر. حتى إنّه يمكننا أن نتساءل هل الخطيئة وجهنم ليسا هما حقيقتين متطابقتين: فتكون الخطيئة صورة سابقة لجهنم وتكون جهنم الكشف التام عن تلك الحقيقة التي هي الخطيئة ؟ فوجود جهنم أبديّة هو حجر عثرة لا في نظر غير المؤمنين فقط بل في نظر الشعور المسيحي أيضًا. لقد تمنى بولس نفسه أن يكون ملعونًا في سبيل إخوته اليهود الذين لم يقبلوا رسالة الإنجيل[10]. ولم ينفرد بولس _ والكثير من القديسين بعده _ بالشعور بعثار الانفصال عن المسيح. فالمسيح نفسه شعر بالنفور من تلك الخطيئة التي تؤدي إلى الموت، حتى إنّه رضي بأن يكون ضحية أمير الظلمات، لمغفرة الخطايا. هو نفسه جعل من نفسه “خطيئة” من أجلنا. “ذاك الذي لم يعرف الخطيئة جعله الله خطيئة من أجلنا كيما نصير فيه بر الله “[11]. ولذلك شعر المسيح، وهو على الصليب، بأن أباه تركه[12]. هناك تيار لاهوتي في أيامنا يلفت النظر إلى اختبار “الترك” من قبل الله، الذي شعر به المسيح وهو على الصليب: ” صار لعنة لأجلنا”[13]. لم يمت فقط ، بل عرف “جوهر الموت الثاني”، وهو الموت الأبدي: “ما هو ملعون ومنبوذ نهائيًّا بعيدًا عن الله في الدينونة يسقط حيث يجب أن يسقط”. فإن هذا حجر عثرة أيضًا بحسب حكمة هذا العالم ” إننا نبشر بمسيح مصلوب، عثارًا لليهود وحماقة للوثنيين “.

فجهنم إذًا هي اللامعقوليّة بالذات، والمأساويّة المطلقة. إنها عنف تستطيع الحريّة أن تفرضه على نفسها، عنف يخالف الطبيع، لا يريده الله ولن يريده أبدًا. ومن هنا توصف جهنم اللامعقولة في الإنجيل بمظهر الممكن الذي قد ينعت بالممقوت والذي لا يبدو متسبعدًا تمامًا.

ليس إذًا عثار جهنم في الله، بل في الذي رفض محبة الله وسار خلافًا لطبيعته، لأنّك “جعلتنا لك يا رب، ولا يجد قلبنا الراحة حتى يرتاح فيك” (القديس أغوسطينوس) . فإن الله في المسيح لم يهمل شيئًا ليحفظنا. إن نصوص العهد الجديد في موضوع جهنم ليست تهديدًا بل تحذيرًا. فالتصريح بعمق الأشياء حين يُنبَذ المسيح للأبد بسبب رفض الإنسان، ليس هو إعلانًا عن حتميّة، بل تنبيه القلوب إلى جدّية الملكوت. وإذا كلمنا المسيح في الإنجيل على هلاك ممكن للإنسان بسبب رفض المحبة، فلا يعني ذلك أن هذا الهلاك أمر واقع، بل لكي يبعد عنه.

وبالتالي، فمن خلال هذا السر اللامعقول، سر جهنم، كما عرضناه، يظهر الله، على وجه أفضل، ما هو، أي محبّة للبشر. فإن هذه المحبّة، التي تبذل نفسها، تحترم شريكها وحريته، لا بل رفضه، مهما كان غير معقول، بسبب الجديّة والاحترام اللذين تعتبر بهما البشر. فإن محبة الله لا وجود لها كمحبة إلا نحو حريّة لا يستطيع الله أبدًا أن يحل محلها أو يلاشيها. فليس بإمكان الله أن يتغلب على حريّة انغلقت على نفسها، حتى إنها كلما ظهرت المحبة المبذولة لامتناهية، أراد الرفض لها أن يكون تامًا. وحتى إن رفضت هذه المحبة فإن الله المحبة يبقى مقدَّمًا ومُحِبًّا، إذ لا يمكن أن يكف الله عن أن يكون محبة “لا يمكنه أن ينكر ذاته”.

[1] الأب أوغسطين دوبره لاتور، المرجع السابق، ص 48.

[2] تيودول ري- مرميه ، المرجع السابق، ص 456 – 458.

[3] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، ف 1023.

[4] الأب هنري بولاد اليسوغي، الإنسان والكون والطور بين العلم والدين، دار المشرق بيروت، ص 308-309.

[5] الأب أوغسطين دوبره لاتور، المرجع السابق، ص 106.

[6] الأب سليم بسترس، المرجع السابق، ص 347.

[7] التعليم السيحي للكنيسة الكاثوليكيّة عدد 1033

[8] الأب سليم بسترس، المرجع السابق، ص 349.

[9] تيودول ري- مرميه ، المرجع السابق، ص 458.

[10] روما 9/2-5

[11] 2 كور 5-21

[12] مرقس 15-34

[13] غلاطية 3-13

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.