لاريب عندي في أنَّ نجاحَ أيِّ مشروعٍ هو أمرٌ مرهونٌ بمدى قيمةِ فكرتِه، وقبل ذلك وبعده تكون الجدوى رهْنَ القدرة على توظيف الفكرة وتمكينِها.. العنوان هو معرض للتصوير الضوئي، يرافقه أمسية موسيقية.
وهذا عنوانٌ عاديٌّ تكرَّر ويتكررُ كثيراً في العديد من الأماكن المعنية ولفترات مختلفة، ولكنَّ من حضر النشاط الفني الذي نحن في صدده بنادي الأوركسترا في البيت العربي للموسيقا باللاذقية، لَعلَّهُ أدرك أنه يقرأُ تفاصيلَ تراث عريق ويستحضرُ عاداتٍ وتقاليدَ محليّةً حمصيّةً، بل هي ثقافة ذاتُ دلالاتٍ جمالية عبر صور ضوئية لثمانية عشر فناناً حمصياً، عرضوا عشرات اللوحات بأسلوب بسيط، لكنه مملوء بالإيحاءات التي تفتح ذائقة الخيال على مصراعَي عطرِ الحقيقة..
ثمَّة لوحةٌ لرجلٍ طاعنٍ في السن والحياة مؤتزرٍ بلباس البساطة والطيب، واضعٍ على رأسه سُلُكاً وعقالاً، مُراكمٍ في هيئته تجارب سنين بحُلوِها ومُرِّها، يبدو وهو يمشي الهوينى خارجاً من بيته العتيق للتوّ، يمشي واثقَ الخُطا والنُّهى، متوكّئاً على عصا عصيّةٍ على الانكسار، بِيدٍ، ويحمل سلّةً واسعةً من قش بيد، ولك، وعليك، أن تتخيَّلَ إلى أيِّ فضاءٍ رحْبٍ تقودك،قبل أن تقودَهُ،خُطاهُ المتوازنةُ المتزنة..؟
في لوحةٍ أخرى يطالعُك من فسحته بيتٌ ريفيٌّ قديم، وعلى مقربةٍ من أسفل الدرج العتيق، تجلس امرأةٌ حانية كسنبلة، على رحىً حجرية، وهي تمسك بمقبضٍ خشبي لتديرَ رحىً حجريةً رصاصية لتقبض بمسنناتها الناتئة على (كمشة) من الحنطة كانت قد أدلفتْها للتوّ في أتونها، وعلى يمينها طفلٌ بلَونِ سُمرة حنطتِها، ينظرُ إلى الأفق بعينين بجّاوين تجيدان صريحَ الكلام..
في موضع آخر من الجدار امرأةٌ من مروءة، تحضن جرّةً من فخّار، تتفقد اللبن في داخلها، وهي تنزع عن (تمّ) الجرّة تلك القطعةَ الرمادية من القماش، التي كانت تفرضُ على ثغر الجرّة عباءةَ الصمت، وتكادُ، وأنت تتخيَّلَ أو ترى بعينك، أن تشمَّ بأنفك، رائحةَ الرائب، وقد تجمعت حبيباتُه كقطرات ندى في فجرٍ ريفيٍّ عذب، على حوافّ الفخار، فكيف إن تسنّى لك أن تتذوّقَ أو تذوق بلسانك طعم زبدتها الأخَّاذ؟! وفي جدارٍ آخرَ ثمة من أمسكتْ بمدقاق تضرب فيه شاقولياً قعرَ جرنٍ آخر، لكنَّهُ جرنٌ عميق، لا يسمح لأفكارك أن تنالَ من أسراره، فيضطرك للعبث بالمخيلة والنزول عند رغبة الأذن في سماع موسيقا المدقاق الخشبي الذي دوّختْهُ يدٌ مجعّدةٌ فلم يعُدْ يعي، من أي شجرة بريَّةٍ موغلة في الظلال الوارفة تم قطعُه! المعرض الذي شارك فيه محترفون وهواة، فيه معالمُ تراثٍ وحضارة، فيه آثارٌ من قلاعٍ وحصون وعُمُدٍ بعيدٍ شأْوُها في العراقة، فيه ضيعةٌ من بيوت شُلِحتْ على أهدابِ مُنْبَسطٍ تارةً ومرتفَعٍ تارةً، وفي طيّات زواياها وعلى امتداد أزاهيرِ دروبِها تسرحُ أغنامُها وتمرحُ خرافُها. تطالعك في بعض معالمها شجرةُ وردٍ حمراءَ نبتَتْ على صخرة، تنظر إليهما بعين الرّيبة، فتحتار، أيهما تفيّأت ظلالَ الأخرى؟!
لقد نشأت بينهما ألْفةٌ، كما نشأَتْ بينهما فُرجةٌ تنفتح على أفقٍ قريبٍ بعيد.
هذه الصور حضرت في رؤى روّاد هذا المعرض، على وقع بيانو ماريا دريباتي، وفيروزيات وبعض من مقاطع عالمية مختارة، بصوت زارا الخيّر ونور فندي.