في تجربة الفنان ياسر جرادي ..بالخط العربي المعاصر و التصورات الروحانية – بقلم : ابراهيم بن نبهان

الخط العربي المعاصر و التصورات الروحانية في تجربة الفنان ياسر جرادي
بقلم : ابراهيم بن نبهان

للوهلة الأولى يمكننا العودة إلى النظم الفنية و النظر في المقومات و المؤشرات المساهمة في تنوع المنتوج التشكيلي العربي المعاصر، عبر التدقيق في خصوصية التجربة و ما تحمله من رؤى مستوحي من عمق الثقافة التي تزخر بمخزون ثري، مكن الفنان العربي من تحديد مسار تشكيلي يندرج ضمن الأطر العالمية و يجاري التحديات و التحولات الثقافية المعاصرة، بما فيها من أبعاد استطيقية و امكنيات تكنولوجية متطورة. ليرنوا بالخروج من موضوع الوجهة التقليدية الكلاسيكية، لينتج وجهات معرفية و فنية حول خصوصية الفن العربي من منظور معاصر لإدراك القيم الجمالية المختلفة. لهذا كان الإبداع الفني في هذه الفترة المعاصرة ليس كرؤية مجهولة بل كرؤية تتجاوز قوانين المعتاد ما برز، كما هو اليوم، إلى تأسيس ميثولوجية فنية جديدة تتأقلم مع الواقع التكنولوجي. فالإبداع الفني ليس بذلك الانعكاس البسيط للواقع بل هو تجاوز له. فالفنان يعاني من التحولات المتسارعة في عالم الفن التشكيلي. و في هذا الصدد يؤكد كثير من الفلاسفة و النقاد المعاصرين، انه من الممكن مقارنة المقاربات الفنية المختلفة و تحديد التحولات الفنية المعاصرة في نطاق مفاهيمها الجوهرية.
الخط العربي المعاصر و التصورات الروحانية في تجربة الفنان ياسر جرادي
للوهلة الأولى يمكننا العودة إلى النظم الفنية و النظر في المقومات و المؤشرات المساهمة في تنوع المنتوج التشكيلي العربي المعاصر، عبر التدقيق في خصوصية التجربة و ما تحمله من رؤى مستوحي من عمق الثقافة التي تزخر بمخزون ثري، مكن الفنان العربي من تحديد مسار تشكيلي يندرج ضمن الأطر العالمية و يجاري التحديات و التحولات الثقافية المعاصرة، بما فيها من أبعاد استطيقية و امكنيات تكنولوجية متطورة. ليرنوا بالخروج من موضوع الوجهة التقليدية الكلاسيكية، لينتج وجهات معرفية و فنية حول خصوصية الفن العربي من منظور معاصر لإدراك القيم الجمالية المختلفة. لهذا كان الإبداع الفني في هذه الفترة المعاصرة ليس كرؤية مجهولة بل كرؤية تتجاوز قوانين المعتاد ما برز، كما هو اليوم، إلى تأسيس ميثولوجية فنية جديدة تتأقلم مع الواقع التكنولوجي. فالإبداع الفني ليس بذلك الانعكاس البسيط للواقع بل هو تجاوز له. فالفنان يعاني من التحولات المتسارعة في عالم الفن التشكيلي. و في هذا الصدد يؤكد كثير من الفلاسفة و النقاد المعاصرين، انه من الممكن مقارنة المقاربات الفنية المختلفة و تحديد التحولات الفنية المعاصرة في نطاق مفاهيمها الجوهرية.
و يكمن رهان الفنان في تحوله الإبداعي يتجاوز التحديات الثقافة و ذلك في إطار التجربة التشكيلية المتضمنة لقضايا فنية يندد بها و يرنو إلى إيصالها لكافة طبقات الجمهور لذلك يمكننا تسليط الضوء على إشكالية الفن بعد الثورة التونسية ليصبح العمل الإبداعي معبرا مستقطبا متجانسا مع روح اللحظة، وهنا يفقد الموجز البصري للصورة الثابت و يتحول الى رسالة تعبيرية تراوح بين المفهوم و الرؤية المستقبلية، ولكن عند الاضطراب و التداخل في الواقع اليومي يعود الموجز البصري التشكيلي إلى حضوره من خلال معانيه وتأثيراته، نتيجة الحضور الكلي للمقومات الإنشائية والخصائص التشكيلية ، التي ينفرد بها الأثر الفني.
و هنا نسلط الضوء على تجربة الفنان التونسي “ياسر جرادي” في معرضه الأخير الحب ديني و إماني، و كأننا بالفنان يتوجه في سكرة العشق و غمرة الوجد بما يتوجه به العبد إلى ربه في ديانات السماء ليشكل تمازج صوفي روحاني مع خصوصية الخط العربي المعاصر. فهو يتخذ نسقا فني يرنو به إلى إدراك الموجود للوصول إلى المنشود و في هذا السياق تظهر فلسفة ابن عربي الموغلة في التصوف حول ماهية المطلق و الخلق ” وفي نصوص ابن عربي توجد مستويات متنوعة من الخلق تستند إلى سلم معقد من التراتبات و التصنيفات الأفلاطونية يعد فيها نفس الرحمة أي نبض الخلق نفحة مستمرة، إعدام الخلق وتجديد خلق في كل لحظة ” بحيث يتحول الإبداع الفني إلى خلق نسق أو مراحل تأشر بتجلي الخط العربي بحيث تتحول قواعد العرض في تجربة ياسر جرادي و على حد عبارته”أنا بصدد تجاوز منطق عنوان لكل لوحة إلى منطق المراحل ، وكل مرحلة تمثل مفهوم وتكون متكونة من عدة لوحات أو تنصيبات، في هذا المعرض مثلا هناك ثلاث مراحل: البحث (او التيه) ثم التجلي وأخيرا بطن الحوت” (التنصيبة)
امتلك “ياسر جرادي” في معرض الحب ديني و اماني تلك النزعة الروحانية في التشكيل، يغمره ذلك التخمر التشكيلي لينتج جمالا خالدا معبودا يحس به في ثنايا الوجود يقدس اللون ويجعل من حركة الفرشاة تناجي اللوحة في كل ما تحتويه من عناصر تشكيلية، ليدخل الفنان في سكون مع الأبعاد الإنشائية لصيرورة العمل. يصغي إلى وحي الأفكار لينتج عمل فني يحمل هوية الذات المبدعة.فما هي التحولات الاستطيقية و التقنية التي يرنو الفنان “ياسر جرادي” لإدراجها ضمن فن التنصيبة installation خصوصا في تعامله مع فكر “ابن عربي” ؟ و كيف وظف خصوصية فن الخط العربي في بعده المفهومي و التشكيلي ضمن أعمال تشكيلية تنهل من فلسفة عميقة في التصوف؟
يستعمل الفنان تقنيات و أساليب معاصرة مكنته من تكوين صراع تشكيلي يتدفق من بواطن الأثر الفني ليبوح بذلك الجمال المثالي الذي يتجلى في عمق الخط لما يحمله من بعد بصري. إن الأعمال الأخيرة “لياسر جرادي” تتضمن مفاهيم الاحتواء مزيج من الذات المبدعة مع روح الخط الذي شكل في فضاء معاصر هو احتواء لكل صفات الروحاني و الصوفي و المجرد لتصبح احتواء للجمهور في حد ذاته. ليصبح الخط العربي نسيجا يراوح فيه بين المرئي و اللامرئي يحمل لغة تشكيلية فيها أرقى سمات الحضارة العربية. فنظرا إلى الأبعاد الذاتية التي يشكلها الفنان في العمل الواحد تظهر مظاهر التحول الاستطيقي و التقني في احتفالات خطية ذهبت إلى تلك الطقوس الفنية المعاصرة التي أنشأ لها الفنان ياسر جرادي هيكل أو معبد متمثل في التنصيبة يغمرها الخط العربي يربط الأسفل بالأعلى و كأننا بالفنان قد صلى في هيكل الحب مطبقا في ذلك فكر ابن عربي ليبرز لنا الخط في تركيبة تشكيلية يصعب فك رموزها المختلفة.

صورة عدد1 بطن الحوت

هذا الحب جعل الفنان يغوص في مفاهيم التصوف و الروحاني بحيث أصبح يدرك مضامين الخط وكيفية توظيفه ضمن أبعاد استطيقية معاصرة فبحبه لتشكيل الخط و أنغام الموسيقي يخلق “ياسر جرادي” تركيبة تكون مقدسة في هيكلها و في تشكيلها. استطاع الفنان أن يخرج من الموت إلى الحياة و أن يغير الوجود من وجود مدنس إلى وجود مقدس خصوصا بعد الثورة التونسية. بحيث تحولت التنصيبة الخطية إلى مجال من الرؤى المختلفة و سجال من الأفكار التي تغمر المتقبل إلى التفكير في أبعاد الخط في مستواه الرمزي و أبعاده الجمالية المعاصرة التي عانقت جسد الجمهور، هذا الأخير الذي يحيط النظر في سميائية العمل الإبداعي و كيفية الإحساس بحقيقة وجوده ” فالفن هو دوما أعجوبة، بمعني انه في الفن، وبفضل الآليات الدلالية و النفسية ، تنشأ حقيقة، رغم عدم وجودها في الحياة العادية “
في تأملات “ياسر جرادي” لفكر ابن عربي يبدع أعمال فنية تنهل من عمق الفلسفة الروحية التي جعلت منه ينظر إلى الخط بجميع عناصره التشكيلية، فأبدع فيه عضمة تراوح بين الطقوس الروحية و الأبعاد الوجدانية التي تمس الذات المتقبلة للعمل. فقد أخرج ذلك الجمال الباطني و الخفايا التي جعلت منه أمام صورة الإله، مبدعا تركيبة خطية في إطار نفس تشكيلي بديع و إيقاع خطي فيه ضرب من التجريد الحروفي المعاصر.
و يقف الفنان في حرم الخط المقدس يناجي روح الحرف و يصغى إلى الابتهالات الصوفية المستوحي من فكر” ابن عربي” ليجعل من المتفرج عنصرا مفكرا في مفاهيم العمل التشكيلي لإدراك الجمال الباطني و المعاني التي يبوح بها الأثر الفني، وعلى حد عبارة جورج جادامر ” ففي التمثيل الذي يؤسس العمل الفني ، لا يكون هناك مجال للقول بان العمل يمثل شيئا بخلاف ذاته، أي انه لا يكون مجازا بمعني انه يقول شيئا و يسلمنا إلى فهم شيء آخر. بل الأمر على العكس من ذلك، فان ما يفترض أن يقوله العمل يمكن التماسه فقط في باطنه”

صورة عدد2 المعلقات

و في نفس السياق التشكيلي ضمن عمل يحمل أوتار الحروف و أبعاد أخري فيها من التشكيل العربي المعاصر و الرموز المستوحي من الإرث الصوفي، تجعل منا نتأمل من جديد خصوصية النسق الفني الذي يحدثه الفنان “ياسر جرادي” في هذه التنصيبة التي أصبحت مدينة من الحروف المعلقة بحيث نلحظ المخاض الذي يعيشه الفنان في ازدواجية تنهل من عمق الثقافة العربية ليعيد تشكيلها في هيكل فني معاصر باستعمال الوسائط التقنية الكضوء و غيرها. فالمتأمل في هذه التتنصيبة”، يدرك أن الفنان يحاول أن يرجعنا إلى التفكير في هيئة المعلقات السبع و في ذات الحين ينطق هذا العمل بخصوصية التجربة حيث أصبحت الحروف و الكلمات و التركيبة في حد ذاتها مع الضوء و الظل الذي ينعكس على الأرضية تحمل دلالاتها و رمزيتها فهو يتخطى حدود الموجود جاعلا من كل هذه العناصر الفنية رسائل صوفية روحانية تشكيلية، و لإدراك ماهية الضوء يمكن لنا الرجوع إلى هذه المقولة “فان سيمياء المرئي تسعى إلى تحديد حالات الضوء من بريق و لون و إضاءة و مادة. و حالات الضوء هذه ليست خصائص للصورة فحسب، بل إنها تبدو هنا بوصفها حالات تتنازع على صدارة المشهد الحسي و ذلك بوجود عتبتين متجاورتين، عتبة الانبهار و عتبة الإظلام” إذن فدلالة الضوء ترجعنا إلى خصوصية النور المسلط على الأرض فالضوء له رمزيته الإلهية فهو يشير إلى انعكاس الذات العليا في الأرض موغلا في الجانب الدلالي و خصوصا انعكاسات الحروف و الكلمات التي تقع على جسد الجمهور ليصبح الخط جزء بين المرئي و اللامرئي.
تظهر لنا هنا الأبعاد الاستطيقية التي شيدت عبر فاعلية المكان على حساب الخصائص الحسية الاخري أن الأمر هنا لا يتعلق بذلك العمق الهندسي المنظور الحسابي و انما يتعلق بخصوصية الحرف و ما له من أبعاد وظيفية، لان ما يحدث اثر العمق في هذه التنصيبة أي تحديد الأبعاد الزمنية و المكانية للفضاء ليصبح الخط عمقا و بعدا من خلال خاصية انعكاس الظل، و هنا يمكننا اخذ هذه المقولة ” ان “تانيزاكي” يعكس هنا بشكل كامل العلاقة العادية بين الظل و الضوء. ففي عالم الحس المشترك تكون كثافة الضوء موجودة بين عتبتي الحساسية، و تكون الشفافية شفافية للضوء، أما العقبات فهي تحرض الظل أمام الشفافية”
و بالتالي فان ظاهرة التصوف تظهر لنا في روح تشكيلية معاصرة فالفنان يحاول ان يحرر الخط العربي من سجن المعني اللغوي الذي يحمله ليصبح الخط و الحرف قائم الذات في نسق من التجريد التشكيلي الذي يندرج ضمن النظم الفنية المعاصرة في إدراج الخط في نطاق التحولات التقنية و الأسلوبية و إدراجه كعنصر فعال و مؤثر في فن التنصيبة.
المراجع:
• الموند ايان ترجمة و تقديم حسام نايل ،التصوف و التفكيك درس مقارن بين ابن عربي و دريدا ، المركز القومي للترجمة 2011 ص 45 -46
• روزين فاديم ترجمة نزار عيون السود ، التفكير و الإبداع ، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب وزارة الثقافة ،2011، ص 302
• جادامر هانز جورج تجلى الجميل ، المجلس الأعلى للثقافة 1997 ص 123
• فونتاني جاك، سيمياء المرئي، دار الحوار الطبعة الأولى 2003، ص 6-7.

إبراهيم بن نبهان باحث في الفنون التشكيلية تونس 22 جانفي 1987

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.