مراد القادري شاعر وباحث وناشط ثقافي من مواليد سنة 1965 بمدينة سلا المغربية (مواقع التواصل)
الشاعر مراد القادري للجزيرة نت: التحديات الكثيرة التي تواجه البشرية تتطلب المزيد من جرعات المقاومة الشعرية والفكرية

يرى الشاعر المغربي مراد القادري أن الشعر إما أن يكون أو لا يكون، وهو لا يكمن في طبيعة اللغة، من حيث انتسابها إلى الفصحى أو العامية، بل في مدى استطاعة الشاعر أن يستنطق هذه اللغة ويقولها ما لم يسبق لها قوله.

هذا، فضلا عن حرص البيت على تشجيع الوجوه الشعرية الجديدة، سواء من جيل التسعينيات أو شعراء الألفية الجديدة، بما باتت تحبل به نصوصهم من تحولات جمالية لا تعكس رؤى ذاتية، وإنما التغيرات التي طالت الكتابة الشعرية العربية.

وبما أن الشاعر المغربي مراد القادري أحد الوجوه، التي أضحت تتميز بها القصيدة الزجلية في المغرب، ثم بوصفه رئيسا لبيت الشعر، يظل الرجل حريصا على العناية بصورة البيت والكتابة الزجلية في آن واحد، ما جعله يراكم العديد من الدواوين الزجلية، ويغدو أبرز الوجوه، التي تؤسس مسار ووعي القصيدة الزجلية في المغرب.

عن أحوال مؤسسة بيت الشعر، أمام التحولات التي شهدها الشعر المغربي منذ بداية الحجر الصحي وبمناسبة صدر ديوانه الجديد “ومخبي تحت لساني ريحة الموت” (2021) أجرت الجزيرة نت معه هذا الحوار:

راهن الشعر

  • مراد القادري، أي صورة ترسمها لبيت الشعر في المغرب، أمام التحولات التي طالت المشهد الأدبي في الآونة الأخيرة؟

إذا أردت أن أرسم صورة لبيت الشعر في المغرب، فإنها ستكون، من جهة، بطعم ما يعيشه الشعر عامة. ومن جهة أخرى، ستكون مؤطرة بما عشناه جميعا في المغرب والعالم، منذ أن حلت جائحة كورونا بيننا.

التحديات الكثيرة التي تواجه البشرية تتطلب المزيد من جرعات المقاومة الشعرية والفكرية

فبخصوص المستوى الأول، لا أحد ينكر أن الوعي بضرورة حراسة المعنى الشعري، ما فتئ يتقلص ويتراجع أمام هيمنة البعد التواصلي والاستهلاكي للغة، في حين بتنا نعاين استسهالا كبيرا للممارسة الشعرية، وذلك بدعم من الثورة الرقمية والتكنولوجيات الحديثة، التي جعلت أراضي الشعر تستباح دون سند معرفي وفكري وخيالي.

بل إن الحاجة إلى الشعر، وما يمثله كصوت لمقاومة الفقد واستدامة السؤال الوجودي وصوغ معنى جديد للذات في علاقتها بالإنسان والكون، بدورها في تراجع مهول، على الرغم من أن التحديات الكثيرة التي تواجه البشرية تتطلب المزيد من جرعات المقاومة الشعرية والفكرية.

المؤسسة الثقافية المدنية المستقلة، كما هي حال بيت الشعر، لن تعود، بعد كورونا، كما كانت من قبل

أما بخصوص المستوى الثاني، فإن المؤسسة الثقافية المدنية المستقلة، كما هي حال بيت الشعر، لن تعود، بعد كورونا، كما كانت من قبل، فلقد أثر الوباء على المشهد الثقافي. اعلان

فقد توقفت الأماسي الشعرية، واللقاءات الأدبية التي كانت تحقق البعد المعرفي والإنساني، وتتيح نوعا من العلاقة التواصلية والحميمية بين الشعراء والجمهور.

كما وجدنا أنفسنا مضطرين للجوء إلى العالم الافتراضي من أجل أن تستمر جذوة الشعر وتستمر معها الحياة نكاية في كورونا وما أشاعته من ظلال الموت.

ومع ذلك، علينا الاعتراف، أننا وبقية المؤسسات الثقافية الأخرى، سنحتاج إلى وقت طويل لاستعادة تقاليد العمل الثقافي والشعري كما كانت عليه قبل مجيء كورونا.

تلك هي ملامح صورة بيت الشعر في المغرب.. مؤسسة تسعى، من جهة، لتعميق الوعي بضرورة الكلمة الشعرية، ليس في لحظة انتصارها للجماهيري، بل في لحظة قدومها من المستقبل. ومؤسسة تسعى، من جهة أخرى، لتكون مستجيبة لعالم جديد، سيفرض آلياته وصيغه الجديدة للعمل الشعري، وفي مقدمتها استحضار مساحات أكبر للتكنولوجيات الرقمية.

تعزيز أهمية الشعر

  • ما الذي حققته كمدير لبيت، وما الذي تطمح إلى تغييره والاجتهاد فيه أكثر، علما أن البيت أصبح يأخذ على عاتقه مهمة البحث وطبع الدواوين الشعرية والدراسات النقدية وإقامة ندوات؟

أول ما تجدر الإشارة إليه، أن ما تم إنجازه، خلال فترة رئاستي لبيت الشعر في المغرب، والتي بدأت في يوليو/تموز 2017، لم يكن من توقيع شخصي، بل هو ثمرة جهد جماعي، يعود فيه الفضل، لأعضاء الهيئة التنفيذية لبيت الشعر التي حرصت على تنزيل التوصيات التي أوكلها إلينا المؤتمر الأخير، والتي تستند على ما هو عام، كالحرص على استقلالية قرار المؤسسة، والعمل من أجل تعزيز حضور الشعر في الفضاء العام، وتشبيك البيت مع عدد من المؤسسات الثقافية والتربوية والأكاديمية داخل المغرب وخارجه.

وذلك من منطلق أن تنويع الشركاء وتوسيع دائرة الأصدقاء من مؤسسات عمومية وأخرى مدنية مستقلة، تتيح حضورا أكبر لفكرة الشعر وضرورته في حياتنا المجتمعية، وتؤكد أن مهمة النهوض به وتقوية وجوده وإشعاعه، من مسؤولية كل مكونات المجتمع، من مدرسة وجامعة وإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والأهلي.

وإذا جاز لي أن أتحدث عن ما حققناه، يمكن الإشارة إلى ما هو خاص في هذه الممارسة، كتنظيم سنة محمود درويش في المغرب، وعقد دورتين أكاديميتين، الأولى عن “الشعر والتربية” والثانية عن “الشعر والسينما”، وتوطين نشاط جديد هو “في الغرفة المضيئة”، ومنح جائزة الأركانة في 4 دورات، لكل من الشعراء محمدين خواد، ووديع سعادة، وتشارلز سيميك، ومحمد الأشعري، وذلك في إطار التعاون القائم بين مؤسستنا وصندوق “الإيداع والتدبير”.

وبخصوص ما أشرتم إليه في سؤالكم بخصوص انفتاح بيت الشعر على النشر، يمكن هنا الإلماح إلى حرصنا، خلال هذه المدة، على انتظامية صدور مجلة “البيت”، التي ظهرت منها أعداد مميزة، احتفت بشعريات عربية وإنسانية، كالشعر السعودي والبحريني والبرازيلي، مع مبادرة جديدة، تقضي بتخصيص أعداد كاملة لبعض التجارب الشعرية الكبرى، تقديرا وتكريما لها. وفي هذا الإطار أشير إلى العدد الخاص بالشاعر محمود درويش، والعدد الخاص بالشاعر أمجد ناصر.

في مجال النشر، واصل بيت الشعر، خلال الفترة نفسها، إصدار عدد من المطبوعات الشعرية والنقدية والترجمية، خاصة تلك التي تقدم أصواتا جديدة قادمة من المستقبل وتعد بوعد زاهر للشعر المغربي.

  • رغم المكانة التي أصبحت تتنزلها مؤسسة بيت الشعر في المغرب على مستوى إصداراتها السنوية، ما يزال بعض المثقفين المغاربة لا يعيرون البيت اهتماما كبيرا كمؤسسة تهتم بالشأن الشعري المغربي، مع أن اجتهادات البيت واضحة المعالم والرؤى؟

قد لا أتفق معك بخصوص الشطر الأول من السؤال، فبيت الشعر يحظى بمكانة معتبرة داخل النسيج الثقافي المغربي، ولدى شرائح واسعة من الشعراء المغاربة من مختلف الأجيال والتجارب والحساسيات الشعرية واللغوية.

بل هو اليوم المؤسسة الشعرية التي تملأ فراغا كبيرا في المشهد الثقافي المغربي، ليس فقط لكون برامجها ومبادراتها منتظمة وذات نفَس متواصل فحسب، ولكن لكون هذه البرامج والمبادرات تحتكم إلى تصور ثقافي منفتح على المعارف الإنسانية وعلى البعد الكوني، الذي فيه يتقاطع الشعراء ويتحقق لهم اللقاء الكبير الذي يسعد باختلاف الجغرافيات.

ما يوجه أنشطة بيت الشعر ليس فقط الحضور المغربي، بل هو الحضور العربي والكوني

بهذا المعنى، فإن ما يوجه أنشطة بيت الشعر ليس فقط الحضور المغربي، بل هو الحضور العربي والكوني، وهو ما يمكن تلمسه سواء في ما تقوم به مؤسستنا في شقه الأكاديمي المجسد في الدورات والندوات الأكاديمية أو في أبواب مجلة “البيت” ومنشوراته وإصدارته التي انفتحت بشدة على الترجمة لما تمثله من معاني الاستضافة، وكذلك بالنسبة لجائزته “الأركانة” التي ما فتئت تعانق الشعريات العالمية وتتحاور معها.

الاهتمام بالجيل الجديد

  • ما مدى حضور الشعراء الجدد وأعني من الألفية الثالثة داخل البيت، ليس فقط كمساهمين داخل المجلة وإصداراتها، وإنما كفاعلين من داخل البيت على مستوى التنظيم وطرق التسيير واختيار الموضوعات وبلورتها؟

فعلا، الجيل الجديد من الشعراء، كما يشير إلى ذلك سؤالكم، حاضر بقوة على مستوى المشاركة في كافة الفعاليات الثقافية والشعرية المنظمة، وكذا على مستوى النشر في مجلة “البيت”، سواء أكانوا أعضاء أم لا. ويمكن لك أن تتأكد من ذلك بالعودة إلى برامجنا وأنشطتنا ومعاينة من ينشر في مجلة “البيت” أو يستفيد من حق الطبع ضمن منشوراته، ستكتشف أن ثلثي هؤلاء ليسوا أعضاء في البيت، ولا تربطهم به أي علاقة نظامية أو انخراط.

أما بخصوص المشاركة في التدبير الثقافي، فتكفي الإشارة إلى أن الهيئة التنفيذية لبيت الشعر تضم في عضويتها طيفا واسعا من التجارب الشعرية المغربية، من الجيل الشعري الأول كمليكة العاصمي، وجيل السبعينيات ممثلا بالشاعر رشيد المومني، وجيل الثمانينيات ممثلا بالشاعرين نجيب خداري وحسن نجمي، وصولا إلى جيل التسعينيات ممثلا بنبيل منصر، وصولا إلى شعراء الألفية الثالثة كمنير سرحاني ونسيمة الراوي.

رائحة العزلة

  • صدر لك قبل أيام قليلة عمل شعري بعنوان “ومخبي تحت لساني ريحة الموت”(2021) وهو عملك الشعري الخامس.. كيف جاء التفكير في كتابة هذا العمل؟

هذا العمل الشعري، يأتي ضمن ممارسة شعرية انطلقت في ثمانينيات القرن الماضي، وبدأت مع ديواني الأول “حروف الكف” (1995)، ليعقبه “غزيل البنات” (2005) و”طير الله” (2007 ) ثم “طرامواي” (2015). خلال كل هذه المحطات، حرصت على الانتصار للشعر من موقع اللغة الدارجة، بما هي لغة الأم والحلم، لتأكيد شعريتها وقدرتها على منحنا ما يسعفنا على فهم الذات والعالم، وما يميز الديوان أنه احتفاء بالغياب.

ففي كل قصيدة ثمة شيء غائب أو منذور للغياب. على أن هذا الغياب، وهو يندحر داخل ذوات مجروحة وهشة، يظل مشدودا إلى أثر صغير يتركه خلفه. أثر يبدد الفقد ويعوض الخسارات ويزيح ظلال الموت. بهذا المعنى، فالديوان احتفاء بالغياب لحظة اندحاره تحت أقدام الأثر.

الديوان احتفاء بالغياب لحظة اندحاره تحت أقدام الأثر

انكتبت غالبية قصائد هذه المجموعة الشعرية، خلال فترة الحجر والوباء، لذلك، فقد جاءت ممهورة برائحة العزلة والضعف الإنساني، مستغلة لحظات الهشاشة والموت.

دكتوراه حول أحمد لمسيح

  • لم تتوقف في تجربتك عند حدود القصيدة الزجلية إبداعيا، بل حررت أطروحة دكتوراه حول الزجل.. ما الملامح الفنية والجمالية، التي ترسمها لهذا النوع من التعبير الذي يعتمد على البوح الوجداني أكثر من التفكير؟

فعلا، ارتأيت أن أخص هذا المتن الشعري المتأصل في الممارسة الشعرية المغربية بأطروحة دكتوراه عن تجربة الشاعر أحمد لمسيح. وقد أردت بهذا الاختيار، إعادة الاعتبار للقصيدة العامية من داخل الشعر ذاته، وذلك عبر تحويلها إلى مادة للأسئلة الأكاديمية، أي الأسئلة النظرية والمعرفية، التي تضيء إشكالات الممارسة النصية.

وسبب هذا القول إن هذه الممارسة الشعرية، رغم الانتباه الذي حظيت به في العقود الأخيرة، لم تتم استضافتها في محفل السؤال النظري والنقدي الأكاديمي، وذلك على الرغم من الأسئلة المعرفية الكثيرة التي تصل هذه القصيدة بالكثير من القضايا اللغوية والثقافية والشعرية.

الشعر إما أن يكون أو لا يكون، وهو لا يكمن في طبيعة اللغة، من حيث انتسابها إلى الفصحى أو العامية، بل في مدى استطاعة الشاعر أن يستنطق هذه اللغة ويقوّلها ما لم يسبق لها قوله

وقد تعززت هذه الرغبة بحكم صلتي بالقصيدة العامية المغربية، ليس كمساهم في إثراء متنها فحسب، بل وكمتتبع لما يعتمل في دواخلها من أسئلة نظرية ونقدية يتقاطع فيها الثقافي بالشعري.

أما عن روافد هذه القصيدة وما يعتمل فيها، وهل هي بوح وجداني فقط، كما أشرتم في السؤال، فأود أن أقول إن هذه القصيدة ليست نظاما بسيطا وعفويا يجري بالبديهة على الألسن، ويعتمد على الذاكرة، بل هي ممارسة نصية، فيها الكثير من الجهد والكد الشعريين.

إنها كتابة لا تختلف عن الممارسة الشعرية كيفما كانت، هنا أو هناك، فالشعر إما أن يكون أو لا يكون، وهو لا يكمن في طبيعة اللغة، من حيث انتسابها إلى الفصحى أو العامية، بل في مدى استطاعة الشاعر أن يستنطق هذه اللغة ويقولها ما لم يسبق لها قوله، وذلك بنقلها من حال الوضوح إلى حال الإشارة. وبالعودة للعديد من نماذج هذه القصيدة، سنكتشف أن الفكر والسؤال حاضران ليعكسا قلق الذات والوجود.

المصدر : الجزيرة

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.