وحة من الفن الياباني الحديث

آفاق التواصل الثقافي بين العرب واليابان في المرحلة الراهنة
لقاء الشرق والشرق

د. مسعود ضاهر

تهدف هذه الدراسة إلى تقديم لوحة شمولية عن التعاون الثقافي بين العرب واليابانيين منذ الحرب العالمية الثانية، ورصد الآفاق المستقبلية لهذا التعاون في المرحلة الراهنة من القرن الحادي والعشرين. وهي تستند إلى ما توصلت إليه في الدراسات السابقة التي حللت فيها الأسباب العميقة التي ساهمت في ولادة وتطور الاستعراب الياباني، وتمايزه عن الاستشراق الغربي، والأسباب العميقة التي حدت بعدد كبير من الباحثين اليابانيين المهتمين بدراسات الشرق الأوسط إلى مساندة القضايا العربية، الوطنية منها والتحررية، ومواقفهم المتوازنة تجاه الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

قد تضمنت دراساتي السابقة إشارات مكثفة لتعريف بأبرز الباحثين اليابانيين ودراساتهم في مجال التاريخ العربي، والتراث الإسلامي. وتعزز بمقابلات شخصية مع عدد واسع من الباحثين اليابانيين المعاصرين، وتوصلت إلى بعض الاستنتاجات والدروس المستفادة عربياً. تطورت الدراسات العربية في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية لأسباب ذاتية وموضوعية. وقد تبلورت ضمن منهجيتين:

أ- تميزت أعمال جيل الرواد الكبار من المستعربين اليابانيين بشمولية البحث في تاريخ العرب والإسلام، والاهتمام الشمولي بالآداب والفنون والتاريخ العربي والإسلامي.

 

2- توجه الجيل الحالي منهم إلى مرحلة التخصص الدقيق في جانب محدد من الآداب أو الفنون أو التاريخ العربي والإسلامي، وتقديم رؤية متخصصة في بعض جوانب القضايا العربية المعاصرة دون اتخاذ موقف محدد على غرار ما قام به جيل الرواد. 

إلى جانب التوجه العلمي السليم لدراسات العربية الأولى في اليابان برز تعاطف ايديولوجي مع القومية العربية وحركات التحرر الوطني العربية. ثم تبلور لاحقاً نوع من الاستعراب الياباني المحايد وفق صيغ متعددة من الدراسات الأمبيريقية التي تحشد الكثير من المؤشرات العلمية لكي تبتعد بالكامل عن المقولات السياسية. فتمسك المثقفون اليابانيون الرواد بقضايا السلام، وانخرط بعضهم في محاربة كل أشكال العنف، والحكم العسكري، ورفض التمييز العنصري. وتعاطف بعضهم بقوة مع حركات التحرر الوطني في العالم، ومنها حركات التحرر العربية. وبرز لدى المستعربين اليابانيين نوع من التضامن الإنساني مع الشعوب العربية التي كانت تتعرض لأبشع أنواع الاستغلال والقهر عبر المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وضد الأحلاف الغربية التي تحاول السيطرة على شعوب منطقة الشرق الأوسط من طريق الاستخدام المباشر للجيوش الغربية، أو عبر الجيش الإسرائيلي. وتحت وطأة الأثر السلبي لقرار حظر النفط العربي للعام 1973 على الاقتصاد الياباني، تبنت الحكومات اليابانية المتعاقبة سياسة برغماتية أدت إلى زيادة الاهتمام بقضايا العرب، وتاريخهم، وآدابهم، وتراثهم، وبتعاليم الإسلام، ودراسة التيارات الإسلامية الأصولية المعاصرة، ومشروع الشرق الأوسط الجديد.

تطور الوعي الثقافي لدى الباحثين اليابانيين عن العرب بصورة مضطردة وباتت لديهم رؤية علمية أكثر دقة موضوعية من كثير من الدراسات الاستشراقية الغربية عن تاريخ منطقة الشرق الأوسط، وتراثها، ومشكلاتها الموروثة والجديدة. وشكلت الجمعية اليابانية لدراسات الشرق الأوسط ومجلتها منبراً فاعلاً لتعزيز التعاون المباشر بين الباحثين اليابانيين والآسيويين، ومنهم العرب. وشهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين اهتماماً متزايداً من المستعربين اليابانيين بشؤون العرب وباقي شعوب منطقة الشرق الأوسط. وتنظم سنوياً سلسلة من المؤتمرات الثقافية بين الجانبين تتميز بالابتعاد عن المقولات الاستشراقية السائدة. وهي تقدم تاريخ شعوب الشرق الأوسط وثقافاتها بعيون يابانية وليس غربية. تحاول هذه الدراسة إبراز عملية التفاعل الإيجابي بين الباحثين العرب واليابانيين حول رؤيتهم، المتقاربة أحياناً والمتباعدة في معظم الأحيان، للقضايا العربية والشرق أوسطية في كل من العالم العربي واليابان، وتحليل موضوعاتها، واستشراف آفاقها المستقبلية.

التواصل الراهن

تعلم الرعيل الأول من الباحثين اليابانيين مبادئ اللغة العربية في اليابان، ثم وفدوا بأعداد قليلة إلى الدول العربية، وسكنوا فيها لسنوات عدة، وأقاموا صداقات وثيقة فيها، وكتبوا دراسات مهمة تنم عن احترام عميق لتاريخ العرب وتراثهم وثقافتهم ونضالاتهم الوطنية والقومية. وأسسوا لحركة ثقافية واسعة بنيت على أسس علمية واضحة، وتفاعلوا مع الباحثين العرب عبر مؤتمرات علمية مشتركة باتت دورية ومنتظمة وسنوية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وشهدت تلك المرحلة ولادة كثير من المراكز الثقافية التي تدرس اللغة العربية، والثقافة الإسلامية، والأديان المقارنة في كثير من جامعات اليابان، وتأسس المعهد العربي الإسلامي بطوكيو بدعم من المملكة العربية السعودية بالإضافة إلى مراكز إسلامية أخرى. وتكاثرت المشاريع البحثية اليابانية المشتركة في إطار تعزيز الحوار الايجابي بين العرب واليابانيين، وهي تساهم في بناء مستقبل أفضل للدراسات اليابانية عن العالم العربي.

في الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الأزمة النفطية للعام 1973 برز اهتمام كبير من جانب الحكومات اليابانية المتعاقبة بالدول العربية والإسلامية. فأنشأت اليابان معاهد متخصصة تلقت دعماً كبيراً من المؤسسات الرسمية والشركات الخاصة غير الحكومية لدراسة تاريخ العرب والثقافة الإسلامية. واستفاد الباحثون الرواد من فرض حظر التسلح الغربي على اليابان ومنعها من استخدام السلاح لغير الدفاع عن النفس، لتأسيس نمط جديد من الاستعراب العلمي يختلف جذرياً في مقولاته النظرية توجهاته العلمية عن نمط الاستشراق الغربي. وتأسس أولى المراكز اليابانية المتخصصة بدراسة التاريخ العربي، والحضارة العربية والإسلامية في اليابان. كانت الدراسات عن مصر، بجميع جوانب تاريخها وتراثها وقضاياها ومجتمعها، تحتل دوراً مركزياً في الدراسات العربية في اليابان. مرد ذلك على أن الرعيل الأول من المستعربين اليابانيين اتجاه إلى مصر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأقاموا فيها سنوات طويلة. ثم نشروا دراسات، فردية وجماعية، تبرز تملكهم لمعرفة عيانية دقيقة حول بنية المجتمع المصري دفعتهم لتعميمها على مجتمعات عربية أخرى.

 

تميزت أعمال الرواد اليابانيين بشمولية الدراسات حول تاريخ العرب والإسلام، والاهتمام الواسع بالآداب والفنون والتراث العربي والإسلامي. ويعتبر البروفسور المتميز يوزو ايتاغاكي Yozo itagaki من أبرز المستعربين اليابانيين المتخصصين بتاريخ العرب الحديث والمعاصر. فقد درس تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وزار غالبية الدول العربية. وأصدر دراسات علمية مشتركة مع الباحث الياباني المتميز سان إيكي ناكاؤوكا san’eki nakaoka، المتخصص بتاريخ مصر الاقتصادي الحديث والمعاصر. فشكلت خارطة طريق مهمة للباحثين اليابانيين في دراسة مشكلات العالم العربي إنطلاقاً من موقع مصر المركزي فيه. وحللا القضايا القومية، والتحررية، والاشتراكية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية في العالم العربية من خلال الربط الوثيق بين مقولات تطور التاريخ المحلي ومقولات التاريخ العالمي الشمولي. وساهم الرائد الثالث، هاياشي تاكاشي Takashi Hayashi في تحليل القضايا العربية ذات الصلة باستيراد التكنولوجيا الحديثة وأثرها على بنية المجتمعات العربية إنطلاقاً من تجربة اليابان الغنية في هذا المجال.

ثم توسعت الدراسات العلمية اليابانية لتطول البنى الزراعية في المجتمعات العربية، والجماعات الريفية أو القروية في مصر، والتكنيك الزراعي، والتضامن الفلاحي، والأحزاب والتنظيمات السياسية والنقابية المصرية، والصراع العربي ـ الصهيوني، وغيرها من القضايا السياسية، والاقتصادية والاجتماعية. ودلت كتاباتهم على إحترام كبير للتراث الحضاري العربي بصفته تراثاً إنسانياً أصيلاً ساهم في بناء الحارة الكونية. وأولو اهتماماً خاصاً بالثورة المصرية وأثرها على حركات التحرر العربية الأخرى.

وكانوا من أشد المناصرين اليابانيين لقضية الشعبين الفلسطيني واللبناني، بالإضافة إلى اهتمامهم الدائم بالدراسات المقارنة بين الثقافات والحضارات اليابانية والإسلامية. وتخرج عليهم جيل واسع من الباحثين اليابانيين الذين ينظرون إلى تاريخ العرب والإسلام بعيون يابانية وليس غربية، وتركوا دراسات علمية معمقة عن المشكلات الكبرى في الاقتصاديات العربية.

تجدر الإشارة إلى أن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1965 حظي بحماس كبير من جانب المستعربين اليابانيين. بيد أن هزيمة العرب أمام إسرائيل في العام عام 1967 أحدثت صدمة كبيرة في أوساط القوى المناصرة لها في العالم. وجاء قرار حظر النفط العربي عن اليابان عام 1973 ليزيد من صعوبة التعاون بين العرب واليابانيين، مما أثر سلباً على الباحثين الداعمين للقضية الفلسطينية في اليابان، وتراجع ملحوظ في دور الباحثين اليابانيين المناصرين للقضايا العربية الكبرى. ثم تبعها احتلال إسرائيل لبيروت وأكثر من نصف لبنان وارتكابها لمجازر صبرا وشاتيلا وسط صمت عربي مريع. لكن الباحثين اليابانيين المناصرين للبنان والقضايا الفلسطينية تحركوا بفاعلية على الساحة اليابانية.

في هذا المجال، لابد من التنويه بالجهد الكبير الذي قام به المصور الياباني ذو الشهرة العالمية ريوشي هيروكاوا Ryuichi Hirokawa لدعم القضية الفلسطينية في اليابان. فكان أول مصور صحافي ساهم في الكشف عن مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبت في أيام 14 – 16 أيلول بعد احتلال إسرائيل لبيروت عام 1982. فالتقط الصور الأولى التي تداولتها وسائل الإعلام العالمية، وقام بعرضها أمام اليابانيين. فكان لعمله هذا أثر واضح في تحريك الرأي العام الديموقراطي في اليابان بقوة. فدعت مجموعة من كبار المستعرين اليابانيين باشراف الأستاذ المتميز إيتاغاكي للعمل على تشكيل محكمة دولية في طوكيو لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين. ونشرت أعمال المحكمة باليابانية وبالإنجليزية تحت عنوان: ITAGAKI, Yuzo, and others: the israeli invasion of lebanon, 1982: inquiry By the international People’s tribunal. tokyo 1983.

شكل انعقاد المحكمة بحد ذاته وبالأبحاث والشهادات التي قدمت إليها ثم بالكتاب الذي صدر عنها باليابانية والإنجليزية، وثيقة مهمة ساهم في توليد تيار قوي من المستعربين اليابانيين المساندين للقضايا العربية التحررية، داخل اليابان وفي المحافل الدولية. وقد أدانت محكمة طوكيو الدولية جرائم إسرائيل في لبنان، وتضمن الكتاب الوثائقي الصادر عنها بعض الصور التي التقطها هيروكاوا عن تلك المجزرة، لكن المؤسف أنه لم يترجم إلى العربية ثم قدم هيروكاوا محاضرة في بيروت بتاريخ 13 آذار 2008، إلى جانب عرض فيلمه “النكبة: فلسطين 1948”.

وأشار فيها إلى أن مكتبته تضم أكثر من ألف ساعة تصوير عن نكبة الفلسطينيين في جميع قراهم، ومنها قرى مدمرة بالكامل. وهي تشكل سجلاً وثائقياً بالغ الأهمية للمطالبة بحق الفلسطينيين في العودة إلى أراضيهم التي هجروا منها قسرياً. لكن هذا العمل الوثائقي المتقن بحاجة إلى التعميم في وسائل الإعلام العربية والعالمية، وعلى طلاب المدارس الثانوية والجامعات في مختلف دول العالم. وما زال يلاحق الأعمال العدوانية الإسرائيلية في كل من فلسطين ولبنان، وينقب في تاريخ القرى الفلسطينية المندثرة، ويجري لقاءات مع من تبقى من الذين عايشوا النكبة، داخل فلسطين وفي مخيمات الشتات.

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتراجع النظام الاشتراكي ومقولاته الثقافية على المستويين العربي والعالمي، برز تيار جديد من الباحثين اليابانيين الجدد الذين تأثروا بمقولة سقوط الأيديولوجية. ومنهم من نشر أبحاثاً ميدانية ذات طابع أمبيريقي مغلف بستار من الواقعية التي تساوي بين الجلاد والضحية، وبين المحتل والخاضع للاحتلال. كما زن دخول منظمة التحير الفلسطينية في مفاوضات سلام فاشلة مع إسرائيل على قاعدة مؤتمري مدريد وأوسلو، وتقديم تنازلات غير مبررة، وكثرة النزاعات بين الفصائل الفلسطينية المتناحرة، أفقد القضية الفلسطينية زخم التعاطف الكبير من جانب قدامى الباحثين اليابانيين.

برز جيل جديد من الباحثين الشباب الذين زاروا إسرائيل مراراً، وباتوا يظهرون تعاطفاً واضحاً مع مواقفها المعلنة تجاه مبادرات السلام العربية. ومنهم من لا يظهر أي رد فعل على رفض إسرائيل مبدأ حق العودة للفلسطينيين، أو تلويح بعض قادتها مؤخراً بتهجير من تبقى من الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي وبناء دولة إسرائيل اليهودية وعاصمتها القدس بعد طرد جميع العرب منها. ولا يمكن فهم تلك المواقف السلبية أو الباردة لعدد متزايد من المستعربين اليابانيين تجاه الصراع العربي ـ الإسرائيلي في مرحلته الراهنة إلا على ضوء التراجع العربي أولاً في مجال دعم القضية الفلسطينية والتخلي عن وصفها بأنها قضية العرب الأولى، أو رأس الحرية للمشروع الاستيطاني الصهيوني ضد الأمة العربية. شكل تراجع العرب عن دعم قضاياهم في المحافل الدولية، والميل المتزايد إى تقديم مساومات مجانية لإسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة معها قبل انسحابها من الأراضي العربية المحتلة نقطة تحول أساسية في تراجع الدراسات اليابانية المساندة للقضايا العربية. يضاف إلى ذلك أن غياب الديموقراطية بكل أشكالها، وهيمنة الوراثة السياسية في الدول العربية، الملكية منها والجمهورية، وزيادة حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وتراجع ثقافة التغيير لصالح ثقافة التبرير، والهجرة الكثيفة للأدمغة العربية إلى الخارج وغيرها ساهمت مجتمعة في تراجع اهتمام عدد كبير من المستعربين اليابانيين بقضايا التغيير في العالم العربية والانصراف إلى الدراسات الفرعية ذات الطابع الأمبيريقي.

تقدم تجربة المستعرب الياباني الكبير نبوإكي نوتاهارا Nabueki Nutahara، نموجاً بالغ الدلالة في هذا المجال. فهو أكاديمي متميز، ومن أكثر المستعربين اليابانيين معرفة بالعالم العربي. زار الدول العربية مرات عدة، وأقام صداقات حميمة مع نخبة واسعة من أبرز المثقفين العرب، وترجم روايات عربية ذات شهرة عالمية من مختلف الاتجاهات الأدبية.

كان نوتاهارا من أكثر المناصرين للقضايا العربية والمدافعين عنها في الأوساط الثقافية اليابانية لسنوات طويلة. ومن موقعه هذا كصديق حميم للعرب، نشر كتاباً مهماً بالعربية تحت عنوان: “العرب، وجهة نظر يابانية”، صدر عام 2003 وأثار تعليقات كثيرة من جانب الباحثين العرب بسبب مواقفه النقدية الجريئة تجاه القوى الحية في المجتمعات العربية. فقد حلل بعمق الأسباب الشمولية وليس السياسية فحسب التي جعلت اليابان تنجح في نهضتها الأولى وتعيد تجديدها بعد الحرب العالمية الثانية، في حين فشل العرب في بناء نهضتهم.

نخلص إلى القول أن الحكومات اليابانية المتعاقبة حولت الأثر السلبي لقرار حظر النفط العربي على الاقتصاد الياباني ومعاملة اليابان كدولة غير صديقة للعرب إلى ع امل ايجابي ساهم في تطوير الدراسات العربية في اليابان وفي إقامة سلسلة مستمرة من الندوات والمؤتمرات المشتركة بين الجانبين. وقد رصدت موازنات متزايدة لدراسة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأنتروبولوجية في جميع دول الشرق الأوسط، وكان للعرب نسبة كبيرة منها. كما أن نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وأحداث 11 أيلول 2011 في الولايات المتحدة، والغزو الأميركي للعراق، وصعود التيارات الأصولية الإسلامية في الشرق الأوسط وغيرها، ساهمت بدورها في تعزيز سياسة اليابان البراغاماتية مع العالم العربي لضمان مصالحها الاستراتيجية. فزاد اهتمام الباحثين اليابانيين بقضايا العرب، وتاريخهم، وآدابهم، وتراثهم، وبتعاليم الإسلام، ودراسة التيارات الإسلامية الأصولية المعاصرة، ومشروع الشرق الأوسط الجديد، وغيرها. وبات تمويل نسبة كبيرة من الدراسات العربية في اليابان أسير سياسة اليابان الرسمية تجاه منطقة الشرق الأوسط. وهي سياسة شبه ثابتة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وترتبط مباشرة بالسياسة الأميركية تجاه هذه المنطقة وموقفها الدائم والثابت بدعم إسرائيل.

وتكاثر عدد المهتمين بالدراسات العربية في إطار الدراسات الشرق أوسطية في اليابان، منهم نسبة كبيرة من الباحثين المتخصصين بالقضايا العربية، الفرعية منها أو الشمولية. بالإضافة إلى نسبة أقل من المهتمين بدراسة إسرائيل، وتركيا، وإيران، ومؤخراً دول القوقاز وفي آسيا الوسطى. وترجموا الكثير من المصادر العربية التاريخية والروايات العربية إلى اليابانية. وشكلوا تياراًَ واسعاً من المستعربين اليابانيين الذين يتوزعون على مؤسسات ومشاريع ثقافية يابانية تحمل عناوين أربعة: الدراسات الإسلامية، والدراسات الشرق الأوسطية، والدراسات العربية، والدراسات المتوسطية. لذلك يصعب تصنيف الباحثين اليابانيين في أي منها بسب بالطابع العام الشمولي للدراسات اليابانية حول تاريخ منطقة الشرق الأوسط، وتراثها، وثقافاتها، ومشكلاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية والتربوية والبيئية وغيرها. بالإضافة إلى انتظام المؤتمرات الثقافية التي تعقد سنوياً منذ العام 2011 بين الباحثين العرب واليابانيين طوال العقد الأول من القرن العشرين، وقد تضمنت موضوعات وأبحاث متنوعة.

آفاق التعاون

خلال العقدين الأخيرين تزايد عدد المؤسسات الثقافية اليابانية المهتمة بالعالم العربي. فتوسعت دائرة اهتمام المستعربين اليابانيين في دراسة القضايا العربية، وتزايد عدد الباحثين اليابانيين المتخصص بشؤون الشرق الأوسط بشك لعمودي. فكان عددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة في نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم باتوا يعدون بالعشرات بعد الرد على الحظر النفطي العربي بدعم المراكز البحثية التي تهتم بالقضايا العربية والإسلامية في اليابان، إلى أن وصل عددهم إلى قرابة الستمائة في نهاية العام 2005. وقدر عددهم بأكثر من سبعمائة في نهاية العام 2009. وهم يتوزعون على اختصاصات فرعية أو شمولية، ويهتمون بقضايا الإسلام، والأصوليات الدينية، والأديان، والقوميات، والأنطروبولوجيا، والجغرافيا، والتاريخ، والفلسفة، والأدب، والترجمة، والأطفال، والموسيقى، والفنون، والمسرح، والمدن، والأرياف، والبداوة وغيرها الكثير من المظاهر الثقافية والبحثية في المجتمعات العربية المعاصرة. وبات لدى اليابان عدد متزايد من المتخصصين الشباب المهتمين بمشكلات المشرق العربي، والمغرب العربي، ووادي النيل، والجزيرة العربية، بالإضافة إلى الدراسات العربية والإسلامية. وتزايد عدد المراكز الثقافية والجامعات والمعاهد اليابانية التي تدرس اللغة العربية، وآداب العرب وتاريخهم وتراثهم وفنونهم، ومبادئ الإسلام، والنظم الإسلامية، والقضايا الإسلامية الكبرى، والحركات الإسلامية، القديمة منها والمعاصرة.

تتميز المرحلة الراهنة من الدراسات العربية في اليابان ببروز نخبة واسعة من المستعربين اليابانيين الأحياء من مختلف الأعمار، بالتخصص الدقيق في جانب محدد من الآداب أو الفنون أو التاريخ العربي والإسلامي. وكانت لهم مواقف متنوعة في القضايا العربية تحتاج إلى دراسة مطولة. وتخصص عدد كبير منهم بدراسة قضايا عربية محددة. ونشرت دراساتهم العلمية باليابانية أو بالإنجليزية أو بالفرنسية، ومنها أيضاً بالعربية. ومنهم من أتقن عدداً من اللغات الحية بالإضافة إلى اللهجات العربية. فهناك اليوم كوكبة من الباحثين اليابانيين الذين يكتبون باليابانية وبالإنجليزية أو الفرنسية أو غيرها من اللغات العالمية. وهم يتمتعون بسمعة عالمية في مجال الدراسات العربية والشرق أوسطية والإسلامية من أمثال موكوتو كاتاكورا، وياسوماسا كيرودا، وتسوغيتاكا ساتو، وهيروشي كاتو، ومياكو مياجي، وساسومو فوجيتا، وإيجي ناغاساوا، تورو ميورا، وكائيكو ساكاي، وكيئيكو تاكاكي، كوهي ماشيموتو، ياسوشي كوسوغي، مانابو شيميزو، يوشيكو كوريتا، وهيديمتسو كوروكي، وأكيكو سومي، وعشرات غيرهم. وقد توزعت دراساتهم الميدانية في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية كالأنطروبولوجيا، والتاريخ، والآثار، والفنون، والآداب، وغيرها. وطالت أعمالهم مناطق مصر، والسودان، والجزيرة العربية، ودول المشرق العربي، ودول المغرب العربي. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نشر كيرودا، أكثر من عشرين كتاباً ودراسة باللغة الإنجليزية تناولت قضايا عربية معاصرة، خاصة قضية فلسطين والصراع العربي – الصهيوني. بالإضافة إلى دراسات كثيرة لباحثين يابانيين في غاية الأهمية، منشورة بالإنجليزية أو الفرنسية عن قضايا عربية سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وتاريخية، وأدبية، وانطروبولوجية معاصرة دون أن تترجم أي منها إلى اللغة العربية.

نشير أيضاً إلى بعض المشاريع الثقافية اليابانية حول منطقة الشرق الأوسط التي تضم نسبة مهمة من العالم العربي. فقد أشرف الأستاذ إيتاغاكي على إنجاز مشروعين كبيرين هما مشروع “الإسلام في مواجهة التحديث” Islamzation versus modernization الذي بدأ الإعداد له في النصف الأول من عقد الثمانينيات. وقد اقتصر على مجموعة قليلة من الباحثين بسبب ضعف الدراسات اليابانية عن منطقة الشرق الأوسط، ومشروع: “التطور المديني في الإسلام Urbanism in islam، ونشرت أعماله في خمسة مجلدات باليابانية والإنجليزية، وشاركت بمقالة عن تطور مدينة بيروت في المجلد الخامس منه. وأشرف تسوغيتاكا ساتو، أستاذ الدراسات المملوكية في جامعة طوكيو، على انجاز مشروع: “الدراسات الإسلامية المناطقية وقد استمرت فترة الإنجاز خلال سنوات 1997 – 2002، ونشرت أعماله باليابانية، كما صدر منها خمس مجلدات كبيرة باللغة الإنجليزية. وفي عام 2006 حصل الأستاذ ساتو على تمويل جديد للمرحلة الثانية من المشروع، وتمتد لمدة خمس سنوات، بدءاً من العام 2007. وأشرف الأستاذ هيروشي كاتو أستاذ تاريخ مصر الاقتصادي والاجتماعي في جامعة هيتاتسوباشي، بضواحي طوكيو على تنفيذ مشروع كبير يمتد تنفيذه ما بين 2007 إلى 2012، وهو بعنوان: “الشرق الأوسط في إطار آسيا: القضايا الحقوقية والاقتصادية”:

شهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تزايداً مضطراً في عدد المؤسسات الثقافية اليابانية المهتمة بالعالم العربي، وإتسعت معها دائرة اهتمام الباحثين العرب في دراسة الثقافة اليابانية من مختلف جوانبها. وهنا اليوم عدد كبير من الباحثين اليابانيين المتخصصين بشؤون الشرق الأوسط، منهم قرابة مائة وعشرين باحثاً متخصصآً بالقضايا العربية منتشرون في أكثر من أربعين مركز أكاديمي في الجامعات والمعاهد اليابانية التي تدرس اللغة العربية، وفي مؤسسات ثقافية أخرى معنية بالثقافة العربية.

بالمقابل، بدأ عدد الباحثين العرب المهتمين بالثقافة اليابانية يتزايد بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة بحيث لم يمر عام واحد دون تنظيم ملتقى ثقافي عربي يدعى إليه أكثر من باحث ياباني. وبدأت بواكير ترجمات عربية مباشرة عن اللغة اليابانية بعد أن كانت الغالبية الساحقة من ترجمة الدراسات العلمية والأدبية والفنية والأعمال الأدبية تترجم عن لغات غير اليابانية، خاصة الإنجليزية والفرنسية.

ويحضر عشرات الباحثين اليابانيين والعرب دراسات أكاديمية نوعية عن المجتمعات العربية وعن اليابان في حقول التاريخ، وعلم الاجتماع، والتربية، والفنون، والآداب، وغيرها. وخلال العقدين المنصرمين شهدت الجامعات والمعاهد والمؤسسات العربية واليابانية زيارات متبادلة لعدد كبير من الباحثين العرب واليابانيين. وحفلت المؤتمرات والندوات الثقافية العربية بعدد متزايد من الباحثين اليابانيين من مختلف الأعمار والتخصصات الفكرية. ومنهم من أتقن العربية واليابانية بشكل جيد، وأمضى سنوات طويلة في العالم العربي، وزار الكثير من مدنه وقراه، وتعلم عدداً من اللهجات السائدة في بعض المناطق العربية التي يزورونها بشكل سنوي منتظم.

* محاضرة ألقيت بدعوة من المركز الثقافي الإعلامي لسمو الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.