الدكتورة نجاح العطار في حفل تأبين الشهيد خالد الأسعد

قيل في الشهيد

في قلب المتحف الوطني بدمشق الجامع للآثار السورية وفي قاعته الشامية، احتشد حضور رسمي وثقافي للمشاركة في مجلس العزاء الذي أقامته وزارة الثقافة لروح الشهيد عالم الآثار خالد الأسعد بعد أن قام تنظيم داعش الإرهابي بقتله في ساحة المتحف الوطني بتدمر مؤخراً.

كلمات التعزية

الدكتورة نجاح العطار، نائب السيد رئيس الجمهورية العربية السورية


يا خالد: تدمر أنت.. وأنت تدمر


الدكتورة نجاح العطار في حفل تأبين الشهيد خالد الأسعد

لا تجزعوا يا رفاق الشهيد..
خالد الأسعد..
أنت تدمر وتدمر أنت..
وكل ذرة رمل في تدمر تشهد على جهودك وما بذلت، تعرفك وتعرفها، وسيظل جرحك الطاهر نازفاً، يرعف في قلوب مواطنيك، ويظل عويل الرمال، في سمع الدُنا، شاهداً على إجرام المجرمين، وعلى براءة النبالة، في محياك.

حجّتك مكتوبة بالدم الموّار بالغضب، على المعتدين الآثمين، وكلماتك في عمق ما تؤديه، وما كتبت، خالدة خلود الحقيقة..
علّقوك، ويا للعار، على الأعمدة التي رفعتها، بالجهد والعرق، وبأبسط الوسائل، إلى أن تمكنت، وبمساعدة الأصدقاء، في البعثة اليابانية، من الحصول على رافعة، سهّلت عليك مواصلة العمل.

خالد الأسعد..
ليس بمقدورنا أن ننساك، أو أن ننسى حجم الهمجية والوحشية، في ارتكاب هؤلاء التكفيريين جريمة الذبح على اسم الدين، والدين منهم براء، والله أكبر على ما يرتكبون باسمه من آثام..

خالد الأسعد..
أنت لم تمت، أنت تحيا معنا، في ضمائر مواطنيك وفي ذاكرتهم، بين الأحبة الذين رحلوا عنا وما رحلوا، من الشهداء العظام الذين عطّروا أرضنا وسماءنا بكبير التضحيات..

لك تقدير الوطن، وقائد كفاح الوطن الرئيس بشار الأسد، ولك كل الإجلال من علماء الآثار في العالم، ومن رفاقك في العمل الأثري، ومن كل مواطن يعزّ عليه وطنه..

لقد صبرت وصابرت، لم تهن ولم تستسلم، وبقيت صامداً متحملاً صنوف الآلام، فالوطن كان عندك الأغلى، والحياة في سبيله ترخص.. عشت عزيزاً، ورحلت كريماً، مثل الميامين من أبطال جيشنا الباسل، وأبناء شعبنا المناضل..

خالد الأسعد..
الخلود لك ولهم، ما بقيت تدمر مملكة الخلود والخالدين.

 

الدكتور مأمون عبد الكريم، المدير العام للآثار والمتاحف

شهيد الإنسانية

تعلّقَ قلبي في تدمر كالكثير من السّوريين وعشّاق الآثار في العالم وظلّت عظمة تلك الأوابد الخالدة تُدغدغُ خيالي وأنا أدرس الآثار في بداية تسعينيّات القرن الماضي، وحين كنتُ أُحضّرُ أطروحة الدكتوراه عن مدينة حمص وعلاقتها مع تدمر خلال العصر الرّوماني، تعرّفتُ جيّداً على الأستاذ خالد الأسعد وجمعتنا لقاءات وحوارات عدّة كانت تتناول آثار وتاريخ تدمر.

كان الرّجل استثناءً في كلّ شيء بدءاً من سعة معلوماته وغنى ثقافته وكرمه وسماحته وصولاً إلى تواضعه الكبير وإنسانيّته الدافقة.

وفي عام 2002م أُتيحت ليَ الفرصة العمل في المديرية العامة للآثار والمتاحف، إضافةً لعملي في جامعة دمشق، وكانت تجربتي العمليّة الأولى مع الشّهيد خالد الأسعد والتي استمرّت لحين انتهاء خدمته الوظيفيّة واستمرّت علاقتنا وحواراتنا بما يخدم قضية الآثار والمتاحف في سورية، ولم يبخل يوماً بالرّأي ولا بتقديم المشورة والمعلومة في سبيل خدمة تراث سورية.

عاش حياته عاشقاً لتراث سورية ملتصقاً بتراب تدمر وأوابدها العظيمة فشارك بالعمل مع الكثير من البعثات الأثريّة التي نقّبت في تدمر وكان له جهوداً كبيرةً ومميزةً في الإشراف على أعمال الترميم وإظهار المدينة التي كان سفيرها في المحافل الدولية ولطالما تحدّث عن تاريخ تدمر وحضارتها وإبداع الإنسان فيها.

لم يكن الشهيد خالد الأسعد رجل علم فقط، بل كان واجهة تدمر والوجه السموح المشرق بالإبتسامة التي تستقبل الضيوف الرسميين والعاديين من روّاد المدينة الخالدة، وبحصيلة جهده الصادق وعطائه المستمر كُرّم بأوسمة عدّة من رؤساء دول وحاز على ثناءات شخصيات دولية هامة.

حين سقطت مدينة تدمر بأيدي عصابات داعش الإرهابية استمر تواصلنا مع الشهيد خالد الاسعد في محاولة لإقناعه بمغادرة المدينة خوفاً على حياته وحياة أسرته لكنه رفض بشكل قاطع مغادرة المدينة التي ولد وعاش فيها ووهبها ثمرة عطاء وعمل سنوات عمره وقال يومها: (ولدت بجوار معبد بل وعشت أكثر من ثمانين عاماً بجواره ولن أتخلى عن تدمر في هذه الظروف، ولا أخشى هؤلاء ولا تهديداتهم).

قدّم الشهيد خالد الأسعد حياته قرباناً للعقيدة التي آمن بها وظل وفياً لمبادئه حتى آخر لحظة في حياته الزاهرة الزاخرة بالعطاء … الرحمة والمجد والسلام لروح شهيد الإنسانية خالد الأسعد.

 

وليد خالد الأسعد، ابن الراحل

حارس الأعجوبة وشهيدها


المهندس وليد الأسعد يرثي والده في حفل تأبينه

ولد الشهيد خالد الأسعد في رحاب التاريخ، مدينة تدمر، بجوار معبد بل بتاريخ (1/1/1934). نشأ وترعرع في بيئة ريفية، ضمن عائلة معروفة وميسورة الحال، تسود بين أفرادها علاقات مفعمة بالألفة والمحبة والروح الجماعية والإيثار، وتتبادل هذه القيم مع أفراد العوائل الأخرى في المدينة، وكانت جميعها تتقاسم الأفراح والأتراح، وتحل مشاكلها إذا ما ظهرت بالحكمة والمودة.

تلقى المغفور له دراسته الابتدائية في تدمر، ثم انتقل إلى دمشق التي أكمل فيها دراسته الإعدادية والثانوية بتفوق، ثم التحق بقسم التاريخ في جامعة دمشق ليحصل منه على الإجازة في الآداب وتبعها بنيله دبلوم التخصص في التربية. وبسبب عشقه الفطري لمدينته وآثارها، اتجه نحو العمل الأثري، وسنحت له الفرصة لتحقيق أمنيته، بعد نجاحه في مسابقة التعيين لدى المديرية العامة للآثار والمتاحف في دمشق عام 1962م، ثم انتقل مطلع عام 1964م للعمل في تدمر، حيث عيّن مديراً لآثارها وأميناً لمتحفها، وهي الوظيفة التي ظل يشغلها حتى عام 2003م. وقد عمل طوال تلك الفترة على تطوير المؤسسة الأثرية العاملة في تدمر علمياً وإدارياً للنهوض بواجب حماية موقع تدمر الأثري والحفاظ عليه، وكشف معالمه وترميمه وتقديمه بشكل حضاري يتناسب مع أهميته الفائقة، والعمل على نشر الأبحاث الأثرية والتاريخية المتعلقة بالموقع وإتاحتها للراغبين، والقيام باستقبال جميع الوفود الرسميّة والشخصيات الاعتبارية التي كان يقدم لها شرحاً وافياً عن تاريخ هذه المدينة العربية ومراحل الازدهار والتطور التي مرت بها، بأسلوب ممتع ناتج عن فيض عشقه لكل ذرة تراب ولكل حجر في المدينة الأعجوبة.

تزوّج الشهيد من المربية الفاضلة حياة الأسعد عام 1966م، وله منها ستة أبناء وخمس بنات هم على التوالي: زنوبيا، وليد، محمد، عمر، فيروز، هدى، عيسى، زكريا، طارق، رابعة، وراوية، عاش معهم كأب وصديق وأخ، كان يرعاهم ويبث فيهم روح الاعتماد على النفس وتكوين الذات باستقلالية بعيدة عن أي شكلٍ من أشكال الإكراه، ويحثّهم على طلب العلم والثقافة والتحلي بالأخلاق الحسنة واحترام الآخرين، يستمع إليهم باهتمام ويتابع تفاصيل حياتهم ويعمل على تلبية متطلباتهم وتذليل الصعاب ونزع الأشواك من طريقهم، وقد تخرج منهم ثمانية من جامعات دمشق وحمص وحلب، وكانوا ولا يزالون يعيشون أجواءً أسريّة يسودها الحب والوئام والتفاهم والأخوّة الصادقة والاحترام المتبادل.

كان الفقيد ذا شخصية تتصف بالطيبة والكرم و العلم والاعتدال الفكري والديني والتواضع ودماثة الخلق، وهذا ما جعله منذ البداية أحد وجهاء المدينة وأعيانها، ومرجعاً يلجأ إليه الناس، لحل الخلافات فيما بينهم. ولهذا نال ثقة واحترام جميع السكان، وزاده في ذلك تواضعه الشديد ومشاركته الناس، دون تمييز، في المناسبات جميعها. يقدم كل ما يستطيع من خير ومساعدة لكل صاحب حاجة دون انتظار شكر من أحد. ساعياً لتحقيقها بكل وسيلة، غير متأففٍ ولا عابس، يستقبل زواره بمودة واحترام، يجالس الفتية والشباب والكهول ويعمل على إشاعة أجواء المرح في مجالسه يتجاذب أطراف الحديث مع الجميع إضافة إلى استمتاعه بالإجابة على الأسئلة والاستفسارات التي يتلقاها في جميع مناحي الحياة، باحثاً عن إجاباتها في بطون الكتب.

كتب ذات يوم على صفحته الشخصية على الفيسبوك: « حبي لتدمر وعشقي لها لا يوازيه أي شيء في الدنيا، ولقد زرت معظم مدن العالم شرقاً وغرباً، ولو خيّرت بينها لاخترت تدمر، فعلى ترابها عشت ومن مائها شربت، وكل ما قدمت من أجلها من جهد وتعب أقل من الواجب».

الحكاية كلّ الحكاية أنه كان يعشق مدينته المعجزة وملكتها الأسطورية التي لم يلتقيها أبداً، لذا فقد قرر أن يزيّن أماكنها كلّها بضوء يراه العالم ويعيش على ذكرى حبه لها، وهاهو قد رحل وهو يحافظ على مقتنياتها الجميلة. لله درّك أيها الحب ماذا فعلت، فلا كلمات تقال، ولا عزاء يفي بعاشق أعجوبة الزمان وملكتها العظيمة.


الراحل خالد الأسعد يرافق الرئيس الفرنسي ميتران أثناء زيارته لتدمر

لقد كان لديه إيمان لا يتزعزع بأهمية حماية المدينة الأعجوبة وصون إرثها الحضاري والتاريخي الذي لا يقدّر بثمن، والعمل بإخلاص لخدمتها، فهو المرجع الأبرز فيما يتعلق بتاريخها والمؤتمن على الموقع الأبرز في الحضارة السورية، والمقصد لكل من أراد زيارة آثار المدينة والتعرف عليها، وهو المعروف بنشاطه المكثّف مع عشرات البعثات الوطنية والأجنبية طيلة ما يقارب نصف قرن، قضاه منقّباً ومرمّماً فيها حيث امتزجت قطرات عَرَقَه ودماءه بترابها وحجارتها حتى غدا الوجه الأبرز في المدينة والذي يستطيع تقديم تفاصيل تاريخها وحضارتها بشكل بسيط ومسهب ينقل المتلقي من خلاله إلى عوالم محسوسة تمنح للتاريخ بُعداً شاعريّاً ساحراً. يضاف إلى ذلك معرفته التامة بأسرار لغتها الآرامية تحدثّاً وكتابةً، وإسهامه كذلك في الكشف عن آلاف الوثائق التاريخية والأثرية، واللقى الفريدة التي سلّطت الضوء على جوانب حضارية عدّة في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والفنية. يضاف إلى ذلك ما أنجزه من كتب ودراسات وأبحاث متخصصة، أهلته للحصول على وسام الاستحقاق من رئيس الجمهورية التونسية، ووسام الاستحقاق بدرجة فارس من الرئيس الفرنسي، ووسام الاستحقاق بدرجة ضابط من رئيس جمهورية بولونيا، وأخيراً وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة من سيادة الرئيس بشار الأسد. وطالما كان يردد أنّ الإنجاز الأهم والأبقى هو عمله المخلص لنحو نصف قرن في تدمر، وما حققه للمدينة، مع زملائه السوريين والأجانب، في مجال التنقيب والترميم والبحث الأثري، الذي تناول جميع جوانب الحضارة التدمرية.

لم يشفع لخالد الأسعد، كل هذا التفاني في سبيل تدمر، ولم يشفع له عمره الذي بلغ ثلاثة وثمانين عاماً، وكرسه في عمل الخير وخدمة المحتاجين، فنال من جسده الجبناء، خوارج العصر وشذاذ الآفاق، في أبشع جريمة تقترف بحق مفكر لا ذنب له إلا عشقه لمدينته وانتمائه لوطنه.

لقد اختار خالد الأسعد أن يموت كالنخيل راسخاً في أرض تدمر التي ولد عليها وعاش وقتل وصلب من أجلها. وكان يدرك أنّ بقاءه ربّما يكون الفصل الأخير من رحلة الفارس الذي لا يغادر ساحة المعركة حتى ولو كان احتمال خسارتها قائماً. ولكنه كان يردد، من سيبقى إذا ما خرج الجميع؟. واتّخذ قراره بالتشبث في الأرض وعدم الرحيل هامساً بأذن ابنته الصغرى: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وياليتني ألقى وجه ربي شهيداً، وأنال الأجر العظيم».

اليوم وكل يوم سنردد: صباح الخير يا حارس الأعجوبة، وسلاماً لروحك التي أبت أن تفارق المدينة، واختارت أن تبقى محلّقة فوق المباني المعجزة لتحرسها من عالمها الروحاني كما كان الجسد وحتى اللحظة الأخيرة مدافعاً عنها بكل ما أوتي من قوة وثبات.

لك السلام يا أبتي حيثُ ولدت، وحيث كانت لك رسالة، وحيث واريت الثرى في بطاح معشوقتك تدمر الأعجوبة. طبت حياً، وطبت ميتاً… ستبقى ذكراك غصّة في حناجرنا بحجم تاريخنا المنكوب، وقهراً يعيش معنا حتى نهزم الإرهاب في كل مكان من أرض وطننا الحبيب.

إنك عند الله شهيد، والخزي والعار للقتلة والمجرمين.

 

الدكتور عفيف البهنسي، مدير عام سابق للآثار والمتاحف

في رحاب الجنة الخلد

خلال ما يقرب من عشرين عاماً كان الهمُّ الأول للمديرية العامة للآثار والمتاحف إعادة مدينة تدمر الأثرية إلى سماتها المعمارية، فلقد تركت لنا القرون الثلاثة الأولى من الميلاد أجمل المنجزات الفنية والعمائر التدمرية، محافظة على سماتها الشرقية السورية المتأثرة بالتقاليد الكلاسيكية الرومانية عموماً.

أمام برنامجنا الأثري في هذه الحاضرة الأثرية والتاريخية، كان خيارنا المفضل أن يتولى زميلنا الآثاري خالد الأسعد تنفيذ الخطة الأثرية الاستثنائية في تدمر، بدءاً من الحفريات الأثرية التي شاركت فيها البعثات الأثرية البولونية واليابانية وغيرها، ثم أعمال ترميم الأوابد الأثرية التي تحفل بها تدمر من معابد وساحات وشوارع وأعمدة وحمامات ومباني عامة، وكان تنفيذ هذا المشروع أعظم ما تحقق في تدمر من الناحية العمرانية والجمالية والوظيفة،،وبخاصة إعادة تأهيل الطريق الطويل لكي يؤمن سير المشاة والقوافل، ويسهّل الاتصال بين أحياء تدمر من معبد «بل» إلى معبد «نبو» وإلى الحمامات والمسرح والآغورا ومجلس الشيوخ ومعبد بعلشمين وهيكل حوريات الماء. ويحف بهذا الشارع رواقان عن يمينه ويساره ويصل بعدها إلى نهايته بمعسكر «ديوكلسيان» ومعبد «الربة اللات».

وفي هذا الشارع الطويل أشرف الزميل الراحل على رفع الأعمدة المتساقطة على ضفتي الشارع.كما أوضح معالم الآغورا المؤلفة من باحة مربعة مغلقة لها أحد عشر باباً.

ومن أبرز المباني العامة التي تم ترميمها، معبد «بل الكبير» ويعود بناؤه للقرن (الأول الميلادي) واكتماله إلى القرن (الثاني الميلادي) .ويتألف المعبد من ساحة رحيبة مربعة مغلقة ويتوسطها الحرم الأكثر اكتمالاً. وأمام مدخله كان ثمة تمثال ضخم يمثل الأسد الحامي للمعبد الآرامي القديم وكان سابقاً لمعبد «بل». ولقد تم ترميم هذا التمثال الضخم وإقامته في تدمر ونسخة منه في متحف دمشق.

ويقع معبد «نبو» غربي قوس الشارع الطويل، وفي الحي الشمالي من المدينة معبد «بعلشمين» ويعود للقرن (الثاني الميلادي).وثمة معابد أخرى، مثل معبد «اللات» وفيه تم اكتُشاف تمثال مرمري للربة اللات/أثينا، وتمثال أسد اللات. وفي المدينة عدّة معابد منها معبد «أرصو»، ومعبد «عشتار» ومعبد «يلحمون ومناة» … وغيرها.

كذلك تم ترميم الحمامات، والحمام بناء متميز ذو مدخل تتقدمه أربعة أعمدة غرانيتية، ويلحق بها باحة للرياضة والاجتماعات.

لقد تابع الزميل الراحل أعمال الترميم بنجاح وبأقل التكاليف. وكان مشروع إعادة واجهة المسرح وإعداده للقيام بوظيفته الفنية من أصعب المهام التي أنجزها. مما جعله موضع التقدير والتكريم في مؤتمر الآثار الرابع. وهكذا بدا المسرح على شكل نصف دائرة، تحفّ به مدرّجات أمام الأوركسترا حيث تقع منصة التمثيل.

كما أوضح معالم معسكر ديوقلسيان والأسوار ونبع أفقا الكبريتي، ولعل هذا النبع سبب نشوء مدينة تدمر وما زال مصدراً للخير في الواحة التدمرية.

ومن أبرز بنود الخطة الاستثنائية في مدينة تدمر ترميم قلعة فخر الدين وهي الأثر العربي الأبرز في تدمر، وتُنسب إلى الأمير فخر الدين المعني الثاني. وفي القلعة نشاهد بقايا الجسر المتحرك الذي أقيم فوق الخندق المحيط بالقلعة.

وانتقل الاهتمام إلى المدافن التدمرية ومن أقدم نماذج هذه المدافن «المدفن البرج»، وأشهرها مدفن «إيلابل»، ويبدو مظهره الخارجي مربعاً تماماً مؤلفاً من أربعة طوابق وبارتفاع يصل إلى عشرين متراً ويتسع لمئات من القبور. والمدافن البرجية هي أقدم أنواع المدافن وتعود للقرن (الأول قبل الميلاد)، وأجمل نماذج المدافن البرجية عدا مدفن «إيلابل»، مدفن «يمليكو، وكيتوت».

لم يبق من آثار النحت المجسم نماذج كثيرة، فأكثرها كان قائماً على حاملات التماثيل في الشوارع والساحات، والكثرة الساحقة من المنحوتات التدمرية نراها في المدافن التدمرية التي تعد متحفاً لفن النحت التدمري انتفل أكثرها إلى متحف تدمر، مصنوعة من الحجر الناصع تمثل الراحلين متكئين على الأرائك في جوار حميم.

كان من اهتمام دائرة الآثار والمتاحف في تدمر والتي تولاّها الزميل الراحل وزملاؤه الأكفاء، إنشاء متحف لتراث البادية السورية ، وتطوير المتحف الآثاري وتزويده بتحف منقولة من قصر الحير الغربي. وبهذا تكتمل تدمر كواحدة من أشهر وأهم المدن التاريخية في العالم واضحة المعالم العمرانية وشاهدة على الحضارة السورية، زارها بلهفة وإعجاب الملايين من السياح.

لقد هزت جريمة مقتل الزميل خالد الأسعد الشعب السوري عامة والمحافل الأثرية في العالم، وكان من واجبنا أن نشارك في تأبين هذا الشهيد البطل، في عرض مآثره وإنجازاته في حماية هذه الحاضرة الشهيرة التي تتعرض اليوم لأعنف هجمة بربرية وحشية.

نقف اليوم باحترام لتأبين خالد الأسعد الآثاري الزميل الذي ولد في تدمر من سلالة تدمرية عربية تنتسب إليها الكثرة الساحقة من سكان تدمرالعرب الذين احتفظوا بتقاليدهم العربية، وبنظامهم الاجتماعي، وكان أجداده التدمريون يستخدمون في كتاباتهم اللغة الآرامية التي أتقن قراءتها.

 

ناديا خوست

خالد الأسعد متصوف تدمر

في مقالع حجارة في قمة جبل في القارة الأوروبية، بعيداً عن السياسة الغربية التي سلحت جيوش التدخل في سورية، قدم فنان ذواقة عرضاً ضوئياً عن لوحات رفائيل وتماثيل ميكيل آنج. عرضاً يذهل بقدرة الإنسان على الإبداع، والكشف للمعاصرين عن التراث الإنساني الفني. نستطيع بمثل ذلك العرض في الطرقات التي تهدأ في المساء، ومقالع الحجارة التي نبشت الجبال، نشر فنون الحضارة السورية وتأمل المنحوتات التدمرية، وكمال الرؤية التي خططت إلى المدينة، والحرص الدؤوب على تجسيد الجمال.

لكن المتوحشين أعدموا المختص الكبير باللغة التدمرية، الحارس المتصوف الذي جعل تدمر محور حياته، هواه وهاجسه، ابنته وحبيبته! طوال نصف قرن رافق خالد الأسعد الزوار والمنقبين، وكان يعدي زوار تدمر بهواه، يأخذ بأيديهم ليطلعهم على ما شفّت له حجارتها، ويزداد تعلقاً بها كلما توغل في معرفتها. لذلك لم يكن رفضه الرحيل من تدمر مفاجأة. مع أنه خمّن مصيره. شعر بأن تدمر في لحظة الضيق تحتاجه.

ألا تعبر صورته التي نشرتها صحيفة عالمية أمام منحوتات مدفن تدمري عن ذلك الهوى؟ وما الحياة دون تدمر للعالم المولع بها! ليست تدمر بالنسبة له ما يفتن السائح في المنحوتات والأعمدة والتيجان والأبراج! فالشخصيات المنحوتة على المدافن أصحابه، وأزمنة تدمر التي يستحضرها أو يستشفها حياته. يتجول في محطة عالمية بين البحر المتوسط والخليج أذهلت بعمارتها وأناقتها قوافل طريق الحرير القادمة من الصين، يسمع هدير ألوان قوافلها، تفوح عليه التوابل، ويخفق أمامه الحرير والسجاد، يتفرج على عروض مسرحها، ويحضر جلسات مجلس شيوخها، وفي الليل تبدو له من معبد بعل وفي طريق الأعمدة الشاهقة هيبة نجومها. من غيره يتصور تدمر حية، أعمدتها قائمة، والمبتهلون في معابدها، وكتّابها ينسخون العقود باللغة التدمرية! لو كان كل منا مثله يَهِبُ روحه وعمره للدفاع عن غابة أو نهر أو عمارة، لو كان كل إنسان يورث هواه وتصوفه مثله، لتلألأت هذه البلاد الثمينة كالجوهرة!

كمتصوف ومختص أعجب إعجاب العارف بزنوبيا، ونشر مع عالم دانمركي كتاباً عنها. لامس مواكبها، ومشى معها إلى مصر وأنطاكية، واجه معها الإمبراطورية الرومانية في لحظة مضطربة قدرت أنها مناسبة لإعلان استقلالها. كتب: «لم يكن حسها السياسي أكثر من ثقافتها، فكانت متفتحة العقل تتكلم بطلاقة التدمرية واليونانية والمصرية، وضمت إلى بلاطها الفيلسوف اليوناني لونجين وأسقف أنطاكية بولس الشميساطي، وكانت تحب علم التاريخ». ونقل ما كتبه عنها مؤرخون رومان: «كانت سمراء لوّحتها الشمس، سوداء العينين يشع منهما بريق رائع، أسنانها كالآلئ، وتتكلم بصوت رنان قوي، وتخطب في جنودها معتمرة الخوذة، وكانت تركب العربة الحربية وقلما تعتلي السرير المحمول، لكنها تمتطي الجواد أغلب الأحيان». في كتابه، فتح التخمين كمن يفهم أن مثلها يفضل الموت على مكان أسيرة في موكب الفاتح أوريليانو.

ربما عاش هذا العالم سعادة لا يعرف مثلها إلا من نسج عمله بروحه، وهو يمشي في الفجر وفي الغروب متسائلاً عما تخفي الأرض مما لم يكشفه بعد، مخمناً روعة مفاجآتها. يحاور التماثيل الغائبة، ويجول في رواق الأعمدة تحت السماء التدمرية المرصعة بالنجوم. يتأمل بحث الإنسان في الحياة والفناء والتوق إلى الخلود، البحث الذي طرز العالم بفنون المعابد وصاغ الملاحم. ويفهم التدمري القديم الذي هدأ قلقه بالإيمان بقوى أعظم منه، كلما شعر بأنه ذرة صغيرة عابرة، ووصل من بعلشامين إله السماء، والآلهة التي اختالت طوال قرون، إلى الإيمان بإله واحد «هو الذي اسمه مبارك إلى الأبد، الإله الرحيم الخيّر».

كان خالد الأسعد يعرف تدمر أكثر مما يعرفها أي إنسان آخر. مع ذلك، كم سحرت غير المختص! بأصالة الفن السوري، ومخطط المدينة العالمية الشرقية، ومئات التفاصيل.. ورق الدوالي المنحوت في الحجر، الخطوط التي صاغ منها الفنان التدمري لوحة، نساء المنحوتات بملاءتهن التدمرية التي تكشف تموج الشعر ونضارة العنق والحلي ورهافة الأصابع وتذكر بملاءة المصريات ونساء دير الزور ومابين النهرين. قال لي صلحي الوادي: «أذهب أحياناً إلى تدمر لأراها من القلعة في وقت غروب الشمس. هل يخطر لك أي جمال مذهل يملأ الروح وقتذاك»؟ يقطع أكثر من مئتي كيلومتر ليمسك بلحظة! قبله، سحرت تدمر نساء بريطانيات تحدث عنهن المختص الآخر في تدمر، الدكتور عدنان البني: ليدي ستانهوب وجين ديغبي وبلنت وبورتون، والمعاصرين الذين ملأت عيونهم مدينة وردية في الغروب، لا مثيل لها في العالم، تجمع جلال الآثار بالواحة.

ذكر خالد الأسعد في نسخة من كتابه كرمني بإهدائه، «زيارة تدمر». كان يتمنى أن يستقدم السوريين جميعاً إليها. قال ونحن نتجول في المتحف: يحتاج هذا المتحف ضعف موازنته! هل كان يقدر أن الآثار في بلد حضارة عظيمة يجب أن تكون في مستوى الدفاع الوطني؟ وأنها أولا لورثتها، ليعرفوا كنوزهم، ويربوا بفنونها، ويستلهموها. وليحتاطوا بتلك التربية من الجهل الذي يصور أنها أصنام شعوب أخرى. وليؤمنوا بأن النحت يبعد عن العمارة التجهم، ويحيي خضرة الحدائق. ويتذكروا أن النحت العالمي أجرى بعد ربة الينبوع السورية الماء من منحوتات نوافيره.

ولد النحت في بلاد الشرق ممزوجاً بالعمارة. تطلعت فيها الأعمدة المزينة بالتيجان والتماثيل إلى السماء. لا مثيل لهذا التراث السوري! فَقْدِ أي قطعة منه كارثة تضيّع على الإنسانية مقطعاً من ذاكرتها وفنونها. ما حضارة السوريين غير هذا الكنز من الأساطير والملاحم والرقم والمعابد والمنحوتات التي أبدعها السوريون قبل ألفي سنة؟ ألا نتساءل لماذا تتلهف مافيات الآثار عليه، ولماذا يتسرب بعضه إلى إسرائيل؟

لا يستطيع أي مصطلح فكري يتناول النحت أن ينسينا الجوهر السياسي: يتضمن الصراع العربي الصهيوني صراعاً على الهوية التاريخية، ومن شواهدها النحت، ولا نستطيع أن نهمل أن العقل الذي يعادي منحوتات الحضارة منع تزيين بلادنا بمنحوتات حديثة، ومن خرج عليه استولد كتلاً رمزية من دون ملامح إنسانية!

لذلك التراث التدمري العظيم وهب خالد الأسعد عمره، ثم افتداه بحياته. من يقرأ كتبه يلمس إيجاز العالم، دقته وإحاطته، وروح المحب الخفاقة، وها هو كالمنحوتات التدمرية التي زينت أعمدة مدينته، لكنه إلى ذلك أضاف مثلاً نحتاجه في هذه الأيام العربية الكالحة، مثلا على التفاني في حب مدينة، والإخلاص حتى الموت لقضية، والرد النقي على بؤس الثقافة!

 

ميشيل المقدسي

ورحل الخالد

قليلون هم الرجال في تاريخنا المعاصر الذين ولدوا ليؤكّدوا لنا ضرورة تلاقينا كمجتمع عربي وإنساني مع تاريخنا، بدعوتنا إلى قراءة هذا التاريخ من خلال تراثنا الأثري، ولحسن الحظ أن الأستاذ خالد الأسعد كان أحد هؤلاء الرجال.

إنّ الرسالة التي حملها خالد الأسعد وكان يبشّر بها العارفين من أبناء وسطه الأثري، تتلخص بعبارة: كيف لنا نحن الآثاريون أن نتحمل المسؤولية المعنوية لهذه الرسالة؟

إنّ قيمة علم الآثار تكمن دائماً بارتباطه بأركانه وأهدافه، ومن أجل هذا فإن الأستاذ الأسعد كان على يقين دائماً أن هذه القيمة تتطلب أعظم التضحيات، وبهذا فإن رحيله بالشكل الذي كان عليه، إنما هو من أجل قضيتنا الأثرية التي حملها بشكل دائم وأنهى بها مسيرة حياته المهنية الجميلة. إنّ هذه التضحية التي قدمها بنفسه تمثل التعبير الصادق للصراع اليومي الذي يقوده علماء الآثار السوريين في هذه الحقبة السوداء.

سنبقى نردد مع خالد الأسعد ما كان يتمنى دائماً: « لنحترم القيم النبيلة لأجدادنا بالعمل على تحقيق إرادتهم»، وقد قالها للعالم أجمع قبل أن يموت وحيداً على أرض أجداده الغالية جداً.

 

تحسين خلف

زنوبيا.. اصرخي أكثر عسى أن يسمعك من به صمم

زنوبيا.. أسمع أنينك وعويلك هنا في الشام، وأشاركك دموعي ونحيبي على أبناء مدينتك المنكوبة.. أعرف أنك لم تصرخي عندما اقتادوك مكبلة بالحديد، إلا أنك اليوم تصرخين غاضبة، أسمعك، نعم أسمعك..

ها هي الهمجية تعود إلى مدينتك الخالدة.. اصرخي أكثر يا زنوبيا عسى أن يسمع العالم الذي يدّعي أنه حضاري، ليرى ما يحدث بالحضارة. وبصنّاع الحضارة..

زنوبيا. لقد ازدان اليوم طريق الاحتفالات باللون الأحمر القاني. سينبت شقائق النعمان في صحراء تدمرك من جديد. اليوم تعمد شارعك بالدم الظاهر كما تعمد مسرحك بدماء طاهرة زكيّة شريفة قبله..


الأستاذ خالد الأسعد يرثي الدكتور عدنان البني في حفل تأبينه

هل أخبرك العرّافون أن قدر مملكتك مواجهة الهمج والسفلة والبربرية بكل الأزمان؟ وهل أعلمك العرّاف أن تراب مملكتك لا يرتوي أبداً من دماء أبناء مدينتك البررة؟ وهل روى لك الفلاسفة والعلماء قصة طائر الفينيق؟

زنوبيا زيديني بكاءً، زيديني حزناً.. فلن يحرق الهمجية إلا أحزاننا عندما تتحول إلى الغضب الساطع، لنعيد مجدك، وألقك ونحافظ على ما بقي من حضارتك التي يدمرها مدّعي كاذب فاجر جاهل قاتل مأجور.. لابد أنه زائل وأنت وأنت الباقية.
الرحمة لروحك الطاهرة.. أستاذ خالد الأسعد، وليبقى ذكرك مؤبداً.

 

طوني جرّوج

لقد فعلتَها يا استاذ خالد (رحمك الله)

يسألني أصدقاؤنا في أوروبا: “لماذا لم يغادر من ‫‏تدمر‬ مع عائلته لينجوا بأنفسهم كما فعل الكثيرون من السوريين عند قدوم وحوش ‫داعش‬ إلى مناطقهم؟”!!

منذ إعلان الخبر، لم يكن لأفكاري أن تجد الجواب، فقد كنت أهرب إلى شاغل ما يصرفني عن فرض الجواب، كأني لا أريد أن أعالج حقيقة ما حصل. بعد أيام من ذلك “الثلاثاء” الأسود لنا، والأحمر كما أراده الوحوش، لكنه الأبيض (نعم أبيض) كما أراده الراحل ‫خالد الأسعد‬، أصبحتُ قادراً على الإجابة:

لقد فعلها خالد الأسعد، وأراد في مماته أن يتألق كما في حياته. لقد أراد ألا يترك أرضه وتاريخ عائلته وذكرياته خوفاً من أن يرحل عن الدنيا دون رؤياها ثانية. لقد اختار أن يموت فيها ويجيب عن كل أسئلتنا، المريضة منها والسليمة:

١. علمنا أن أبا وليد ووليد الأسعد وعائلتيهما قد اختاروا البقاء في تدمر عندما سنحت لهم الفرصة بالخروج، وبدأنا نسمع: “بكره رح يتأقلموا ويبايعوا.. متلهم متل غيرهم بمناطق داعش”. بموتك يا أبا وليد أجبتَهم: “يا لكم من تجار كلمة رخيصين، وخسارة هالوطن فيكم”. منذ شهور، وعند اقتحام داعش ل‏مخيم اليرموك‬، سمعت على هواء “‫# ‏شام اف ام‬” سيدة من داخل المخيم تقول: “لسنا بيئة حاضنة، ولسنا متقلبي الهوى، ولسنا نبايع من يأتي.. إننا في دارنا وبين ذكرياتنا، لن نتركها مهما اشتدت الصعاب”.

٢. علقوا جسدك على عمود كنتَ قد فككتَ شيفرته في الماضي، وها أنتَ تقوم بفك شيفرة وطنية حقيقية وصلت إلى العالم كله، لتقول: “أنا ابن تدمر، أخو ‫زنوبيا‬، أخو الشرفاء الذين لا يهابون الموت”. أبناؤك في المتحف وأهل تدمر تعلموا منك في السابق والآن ألاّ يهابوا الرصاص بينما كان مسلحو داعش يقنصونهم واحداً تلو الآخر، ومع ذلك تابعوا في إفراغ المتحف في تدمر ونقله إلى مكان آمن رغم إصابة ثلاثة من التدمريين. لقد أعطيتمونا درساً بالإيمان بهويتنا، والتصالح مع ماضينا، والتفاؤل بمستقبلنا. فهل نتعلم؟

٣. بموتك يا استاذنا، أخجلت الجميع من الغرب والشرق. جعلتَهم يُنزِلون أعلامهم احتراماً لموتك، ويسمون احتفالاتهم باسمك، ويشجبون ويعزون.. لكن هل سيعملون ليجعلوا من داعش ملعونة قولاً وفعلاً؟!

٤. اعذرنا يا صديقنا الحي بموتك كما ‫‏طائر الفينيق‬، فما زال كثيرٌ من السوريين تحت خط الندب والشجب والنواح. يلعنون داعش وأخواتها، ويبحثون عن أدلة تثبت وحشيتهم. سامحنا فنحن قوم نجيد ذلك فقط، غاب عنا الفعل والمبادرة وحسن تقدير الشهداء من أمثالك. نرجوك أن تسامحنا، ولسنا أهل بذلك، لأنك بفعلك فعلت ما لم يفعله ملايين السوريين.

إلى صديقي ‫وليد الأسعد‬، وعائلتيه الصغيرة والكبيرة.. إلى شرفاء تدمر: لا تحزنوا أبداً فإن رسالة أبي وليد مستمرة، وبقتله وتعليق جسده استطاع ‫الداعشيون‬ ايصال تلك الرسالة إلى العالم، وهذا فخر لكم ولو صنعوا بجسده ما يشاؤون. أرجوكم اقبلوا تعازينا بوفاته، وسامحونا على ما بدر منا من تقصير.

 

موسى ديب الخوري

عاشق تدمر وشهيدها

اقترب مني بلطف والابتسامة تعلو وجهه. كان برفقة زميلين له من المشاركين في مؤتمر «سورية الوسطى، من البحر إلى البادية» الذي عقد في حماة عام 1999، وبادرني بالقول: «كنا نتحدث عن ترجمتك الفورية الجيدة التي تشير إلى تمكنك من اللغة الفرنسية»… وقبل أن أرد عليه بكلمات الشكر كان قد عرّفني بنفسه بتواضع أصيل: «أنا خالد الأسعد، ويسرني التعرف بك أستاذ موسى».

كنت أعرفه بالاسم، ولم يسبق لي اللقاء به. وسرعان ما تحوّل التعارف إلى حوار حول مواضيع الترجمة وأهمية نقل الدراسات التي تصدر باللغات الأجنبية عن سورية إلى العربية ليطلع عليها الطلاب والباحثون. وخلال هذا الحديث سألني إن كان لدي الاستعداد لترجمة كتاب جديد له بالمشاركة مع باحث فرنسي حول كتابات تدمر. رحّبت بالفكرة وبقينا على موعد ليتصل بي ويرسل لي نسخة الكتاب الفرنسية.

هكذا بدأت معرفتي لإنسان لم تكن تنتهي محبته لتدمر التي كانت تمتد بالنسبة له أبعد من المساحات وأعمق من التاريخ وأوسع من الآثار… فتدمر كانت تسكنه كما كان يسكنها، وتحبه كما كان يحبها، وتنهض به كما كان ينهض بها… لم ألتق به مرة إلا وحدثني عن أبحاثه الجديدة في تدمر واكتشافاته فيها وأعمال الترميم التي يشرف عليها. لم يكن يتحدث عن الصعوبات، بل كانت روح العمل والمثابرة والثقة بأن تدمر غنية كريمة وأصيلة وأنه لا بد من متابعة العمل فيها لإبراز جمالاتها وفتنتها وعظمتها ورقيّها وتفردها.

أنهيت العمل على ترجمة كتابه المشترك مع «جان باتيست يون» حول «الكتابات اليونانية واللاتينية في تدمر» خلال أشهر قليلة. وخلال عملي على الترجمة كان خالد الأسعد يتصل بي من تدمر ليطمئن أن العمل يسير دون صعوبات. ومع نهاية الترجمة أرسلت له نسخة منها ليراجعها ويدقق المصطلحات. وهذا ما كان. لكن المركز الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى الذي أصدر الكتاب بالفرنسية اعتذر عن نشره بالعربية. ولا شك أن انشغالات خالد الأسعد الكثيرة كانت تنسيه ضرورة الاهتمام بنشره، فكان يتصل بي من وقت لآخر، يدعوني إلى تدمر، أو كنا نلتقي في مناسبات مختلفة أو في مديرية الآثار، ويتذكر فجأة الكتاب، ويقول لي إنه سيحاول نشره قريباً. وقد قمنا بمحاولات عدة لنشر الكتاب، إنما دون أن تكلل آمالنا بالنجاح.

بقي الكتاب طي ملفات الحاسوب لدي، إلى أن سمعت الخبر المفجع، خبر استشهاد رجل العلم والتنقيب، رجل تدمر وآثارها، بعد تعرضه لصنوف التعذيب على يد الإرهابيين والتكفيريين في تدمر.

أتذكر خالد الأسعد بلباقته وشخصيته القوية ولطفه وسعة صدره ومحبته لتدمر وآثارها، وأفكر، كم كان سيسعد لرؤية كتابه هذا منشوراً ومتداولاً…لقد أصر على البقاء في تدمر مدركا للخطر الكبير الذي يهدده شخصيا ويهدد تدمر وأبناءها. فعلّمنا بذلك درساً في محبة الوطن والإخلاص له. لم ينقسم خالد الأسعد على نفسه ولم يتلون بألوان التخاذل أو المصالح أو الأنانية، بل حافظ حتى اللحظة الأخيرة على ثقته بالفكر العلمي الذي مارسه طيلة عقود وبالانتماء الإنساني لمجتمعه ومدينته.

خالد الأسعد، لقد عزّزت في قلوب السوريين الوطنيين لحمة التعالي فوق انتماءاتنا الصغيرة إلى انتمائنا الكبير الذي ليس له سوى اسم واحد: سورية… إن رجاءنا كمتابعين لرسالتك في محبة تدمر والمواقع الأثرية السورية كلها، أن نكون قادرين على إعادة الحياة إلى هذه المواقع تنقيباً ودراسة ونشراً فنكون قد أضأنا ابتسامة في روحك الباقية معنا، رغم كل هذا الألم الذي يعتصرنا بفقدك وفقد جواهر نادرة من حبات طوق تدمر الفريد.

وإن كان الحزن يغمر قلوبنا، لكننا نجد المثال في شجاعتك ونبلك وإخلاصك لعروس الصحراء السورية، تدمر التي ستظل في قلوبنا شعلة لا يمكن لأحد إخماد نورها ونارها.

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.