الشاعر الفرنكوفوني صلاح ستيتية اللغة الفرنسية بروح مشرقية

Saturday, January 7, 2017

صلاح ستيتية، الشاعر والأديب والمفكر والكاتب اللبناني – الفرنكفوني (كاتب بالفرنسية) قامة شعرية وأدبية كبيرة، ملفتة ومميزة، فاعلة ومتفاعلة في واقعها ومحيطها الواسع، أغنت الثقافة الغربية والعربية بكثير من الأمور والأفعال الشعرية والثقافية والفكرية والفلسفية. يعتبر ستيتية من الرموز الشعرية الثقافية العالمية. شكّل حضوره في الثقافة الفرنكفونية علامة خاصة وفريدة، ذلك أنه كتب وأبدع باللغة الفرنسية، ووصل به الأمر إلى التربع على عرش الفرنكوفونية إلى جانب الأدباء الكبار في فرنسا والغرب. وإذا كان الشاعر الفرنكوفوني اللبناني الراحل جورج شحادة هو «ملاك الشعر والمسرح»، فإن صلاح ستيتية هو أيضاً ملاك الشعر والفكر.

وإلى جانب هذا الحضور الكبير للشاعر، فهو تبوأ مناصب ديبلوماسية وكان سفيراً لبلاده في معظم الدّول الغربية والعربية، وفي المحافل الديبلوماسية الواسعة.
يكتب الشاعر ستيتية القصيدة (الهائلة) أو الملتهبة، على حد تعبير الشاعر الفرنسي بيار دومنديارغ. أحدثت قصيدة ستيتية حركة محورية في الشعر الفرنسي، وتفاعلت مع محيطها الكبير. والأهم أن الشاعر الذي كتب بالفرنسية، بقي محافظاً على ثقافته المشرقية العربية، وعلى أصالة اللغة الأم التي نشأ معها، من دون أن يبتعد عن الجوهر، جوهره.
يعيش اليوم ستيتية في فرنسا، وهو هناك منذ أكثر من نصف قرن. وكانت منحته «الأكاديمية الفرنسية جائزة «سان سيمون» التي تعد واحدة من أرفع الجوائز الأدبية التي تمنحها الأكاديمية منذ عام 1957 في «ميدان الكتابة عن الذاكرة والحياة والشخصيات والأحداث» عن كتابه: (L’Extravagance) الصادر عن منشورات «روبير لافون»، والذي يروي فيه جزءاً كبيراً من ذكرياته وعلاقاته مع الشعراء الذين تعرّف إليهم طيلة مسيرته الكتابية. والجائزة تحمل اسم المؤرخ الكبير الذي كتب في عهد الملك لويس الرابع عشر. واستلم ستيتية الجائزة من يد الأمين العام للأكاديمية الفرنسية في  أيلول/سبتمبر الماضي في حفل رسمي كبير ضم 300 مدعو في قصر سان سيمون التاريخي.
في زيارته الحديثة إلى بيروت، التقيت بصديقي الشاعر صلاح ستيتية، كما هي العادة بيننا، وتحدث عن همومه الثقافية والأدبية والشعرية. وكان لي معه الحوار الآتي:

{صديقي، دعني أبدأ معك بالسؤال المستمر، والذي لا يغيب عن بالي كلما كنت بحضرتك، صلاح ستيتية شاعر عربي مشرقي يكتب باللغة الفرنسية، إلى أين وصل الشاعر بعد هذا الإبحار العميق في اللغة الفرنسية، هل اكتفيت بالبوح، وكيف استطعت التواصل مع جوهرك الأصيل. هل وصلت أو خرجت أو تراجعت أو تقدمت؟
تماماً. حقاً وبالفعل، إن ما تطرحه بسؤالك هذا يشكل استمرارية في السؤال، ولكن لكل مرحلة جواب عن السؤال ذاته. عندما يتوقّف الشاعر عن البوح يموت. الكتابة هي بوح مستمر. ولأختصر عليك وعلى سؤالك وما يترتب عليه من أجوبة أقول أنني لم أصل بعد. لم أصل إلى حيث أُريد وحيث تريد لغتي أن تصل، ويمكنني القول، الوصول هو شكل من أشكال الاختفاء أو شكل من أشكال النهاية أو الغياب.
إن أهمية الكتابة تكمن في أنها مستمرة وتلامس جوهر الإنسان والحياة، وهذا الجوهر لا تمكن مقاربته في شكلٍ نهائي. والكتابة بالنسبة لي هي محاولة مستمرة لملامسة هذا الجوهر الملتهب. ففي كلّ ملامسة، التهاب آخر، نارُ أخرى مفتوحة على حقول اللّهب. أما لغتي المشرقية، فهي مشرقية عربية بامتياز، واللغة الفرنسية التي أكتب بها هي شكل أو نوع من الاتصال الضّروري لبناء الوعي الشعري الذي يأخذني إلى النّور والظلّمة في آن واحد.
واستكمالاُ لسؤالك أقول نعم، وصلت وخرجت ورجعت وتراجعت وتقدمت، وسأكرر ما فعلته فور انفجار القصيدة في كياني، وسأتبعها بارتدادات على مقاييس أشعاري وأفكاري.

{أعتقد أنك كتبت بالعربية، فكيف كان مردود النتيجة في داخلك وفي فكرك وشعرك؟
إن فكري وأفكاري وثقافتي بجوهرها هي من رؤية وأساس ووحي مشرقي عربي بامتياز ولا جدال فيها، لكن تفسير هذا الوعي الثقافي لم يكن بالأصل يستند إلى ثقافة أو دراسة عربية بلغة عربية. وأنت تعرف أن ثقافتي تكونت وبدأت باللغة الفرنسية واستمرت في هذا السياق حتى حاضرنا، ولم يعد بمقدوري  العودة إلى كتابة اللغة العربية، علماً أنني كتبت بلغة عربية وكانت نتيجتها مقبولة لدي. ثم لا تنس أن الأساس والبداية والانطلاقة كلها تحتم عليك التواصل مع ما بدأته وانطلقت به.

{صلاح ستيتية شاعر عربي يكتب باللغة الفرنسية، والسؤال الأهم هنا، هو سؤال سحر اللغة الفرنسية وجاذبيتها، فماذا عن سحر وجمالية اللغة التي تشدّ الشاعر أكثر وأكثر إلى خفاياها الصّافية والجميلة، علاقتك باللغة الفرنسية مميزة جداً؟
صحيح ما تقوله، وأستطيع القول أكثر عن هذا السحر. لا شك في أن للغة الفرنسية سحرها ورونقها وألوانها الخلاقة وإيقاعاتها الطربية المهمة. اللغة الفرنسية بطبيعة انسيابها هي فعل نشاط وحركة وإيقاع، ويمكن وصفها في كل أشكال الجمال. للغة الفرنسية قدرة على بناء الإيقاع الصوري من تلقاء ذاتها، فكيف إذا اعتمدت الشّعر والقصيدة والمعنى كأساس في هذا الإيقاع؟ إنها لغة متمكّنة من كلِّ شيء، فيها المعنى وفيها الشعر وفيها الإيقاع المستتر والمفاجئ والصور المتتالية.
أحب اللغة الفرنسية ومفتون بها إلى درجة كبيرة، هي المرآة للتعبير في قاموسي الشعري. إن علاقتي باللغة الفرنسية هي علاقة حب وغرام وواجب أيضاً. فعندما أكتب قصيدتي أو فكرتي بهذه اللغة، أشعر بأنني حققت الكثير مما يتوجّب علي في هذه الحياة. قلتُ وأقول دائماً، الشعر هو لغة اللغة، واللغة في هذا المعنى وفي هذا التفسير هي جزء مهم وأساسي من كيانية الشعر والقصيدة. إنني أُترجم الشعر إلى لغة والعكس بالعكس، وهذا هو الإنجاز الرائع الذي يمتد في أعماق الكلام الذي نكتبه ونكنّه في أعماقنا.

{تتبلور قصيدة الشاعر صلاح ستيتية بجوهرها «الملتهب»، وتجربتك الشعرية الطويلة والباذخة بالأسئلة العميقة، مستمرة ومتفاعلة أكثر، في قصائدك القديمة، والحديثة. ما هو الشعر اليوم بالنسبة لك، ماذا يقول الشاعر صلاح ستيتية عن قصيدته وعلاقته بها. كيف يُعرّف الشّعر اليوم، ولماذا يستمر بالكتابة، ما هو الشعر اليوم لديك بعد تجربتك التي واجهت الكثير في الحياة وداخل ذاتك؟
إن هذا السؤال هو سؤال الوعي الجميل. سؤالك الكبير هو أطروحة كاملة نحتاج إلى مناقشتها والتوسّع بها، وساحاول الاختصار والقول: الشعر هو حركة تخرج من الذّات في أشكال مختلفة. قد تكون حركة لولبية أو حركة موج هادر أو حركة سكون وصمت. لا يمكن تعريف الشعر ضمن إطار ثابت ومحدد، الشعر حركة مفتوحة تنطلق وتمتد، وترسم شكل حضورها حسب قوة حركتها ومفعولها، وهي لا تتكرر، بل تستمر إلى ما لا نهاية، وعلى الشاعر أن يكون على أهبة الاستعداد لمواكبة هذه الموج الشعري أو هذه السّكينة التي تبلور القصيدة. والجواب الأهم في هذا السياق هو أن مواكبة القصيدة هي أيضاً فعل إنتاج وإبداع وابتكار. الشاعر يواكب قصيدته باختراعها وإنتاجها وتحويلها في مساحة تساعده على العيش والموت في لحظة مستمرة. تساعده على رؤية الأمر الطارئ ببصيرة حادة.
إن الجوهر الملتهب الذي يؤجج الوعي في قصيدتي، قد يكون هو الجزء الأهم من الحريق الشّامل الذي ننتظره في لحظة ما من الحياة. والشعر هو كلّ هذا الوعي وكلّ هذا الحريق. وعندما أقول هذا لا أظن أنني وصلت إلى التعبير النهائي إلى معنى الشعر الذي أخذني إلى متاهات وعذابات. يبقى الشعر مسافة مفتوحة لا يمكن اكتشاف نهايتها، مهما حاولنا.
أما لماذا أستمر في الكتابة، وماذا أكتب أو ماذا سأكتب، فإنني لا أقوى على الجواب إلا بتعبير واحد، وأقول فيه الآتي: إن الكتابة هي حاجة ماسّة تُعادل حاجتي إلى الهواء والأوكسجين كي أتنفّس.

{ما لون أو طعم أو شكل المعاناة التي وصلت إليها، هل وصلت إلى مساحة أخرى هادئة وصافية، بعيدة من القلق؟
لا شك في أن القلق مستمر، لا يتوقف. لا شيء يوقف هذا القلق، القلق الذي يأخذني إلى بالغ القلق، وقصيدتي تعبّر جلياً عن هذا القلق. سؤالك يضعنى على المحك، محكّ المتاهة والصفاء في آن واحد. أنا رجل قلِق، نعم قلق، كلّ ما يُتعبني وكلّ ما يفرحني يقودني إلى القلق. وأكثر ما يقلقني هو هذا النشاط الهائل الذي تنعم به البشرية اليوم، نشاط أو قلّ الاستثمار في الموت! كيف يمكن شاعراً أو أي إنسان أن يقرأ ويتعامل مع مشاهد الموت المجانية والتي تأتي بأمر من الإنسان! من هو إنسان هذا اليوم الذي يقرّر موت إنسان آخر؟ أطرح هذا السؤال ولا ألوذ بالصمت، بل أواصل سؤالي بأعلى صوت، وهو طبعاً صوت القصيدة التي تقول وتشرح وتعترض وتبني مداخل الحياة الأجمل.

{هل تعتبر أن لا مكان للأمل أو للسعادة في دائرة الشاعر وظلاله؟
دعني أقل، إن وعي الحياة هو أن يعي الإنسان أسباب عذابه وهو ذورة الأمل، وربما تكون السعادة وراء باب هذا الكلام وهذا الشعور. عندما تهجم الحيرة والعذاب والألم، وعندما تطبق العتمة على الروح، يولد نورٌ خفيّ في الذات، وكم تلقّفتُ هذا النّور وتلقّفني، وكانت قصيدتي هي كل هذا النشاط العظيم الموجه لخطواتي.

{في كتاباتك وفي أسئلتك الكثيرة عن النهايات والموت ما يستدعي سؤالك مجدداً عن حالة القلق الذي وصلت إليه، هل أنت خائف وتعيش هاجس الموت؟
حتماً، لا مفرّ من الموت، كلنا إلى الموت، عاجلاً أم آجلاً، ولا أقول جديداً بهذا الكلام، لكن السؤال الأكبر هو: كيف نواجه فكرة الموت قبل حلول الموت؟ وهل يستطيع الشاعر أن يحمي روحه من العذاب الكبير الذي يصارعه كلما تواردت لأيامه صور الموت؟ بالنسبة لي، ربما أعيش مع فكرة الموت بقلق كبير وعارم، وربما أرى نفسي تعيش على قارعة الانتظار والتعب والعذاب. فكرة الموت لا تخيفني بالمعنى البيولوجي، هي نتيجة طبيعية لحياة الإنسان، لذلك لا نخاف منها.

{لكن كتاباتك تستحضر الموت وتكاد تحدد مكانه وتوقيته.
استحضار الموت لا يعني تحديد موعد حدوثه. إنني أنتظر الموت، وهذا أمر طبيعي جداً، ربما أكون على انتظار يومي، أنتظر الموعود الذي لا أعرف موعد قدومه. وفي هذا الانتظار يكمن كلّ القلق، لكني بالتأكيد لستُ خائفاً من حقيقة جاثمة في الوجود اسمها الموت.
الموت ليس مصادفة تحدث، إنه أمر محتوم، وحقيقة راسخة في حياة الإنسان. ولكن أيضاً، الموت هو مرادف للحياة، لولا الموت لما عرفنا معنى الحياة. حلول الموت أمر طبيعي وحتمي لكنه يبثّ، حين نراه ونتحسسه، رياحاً جبّارة وعنيفة، تصعب مواجهتها أو تجنّب نتائجها القاسية والصعبة، والمهلكة في أغلب الأحيان، لذلك نشعر بالقلق الرهيب مع فكرته وإمكان حدوثه.

{ماذا عن طقوس الكتابة في حياتك؟
الكتابة هي واجب وضرورة في حياتي. إنني أكتب في شكل يومي، وفي أغلب أوقات الليل أو النهار. موعدي مع الكتابة ليس له ما يحدده من تاريخ أو وقت معين. الحالة هي التي تحدد الموعد. تولد الأفكار والمفردات والأسئلة فجأة، فأسرع إلى تدوينها وتحويلها إلى صور مكتوبة. قد تكون في قالب شعري، قصيدة، وقد تكون أفكاراً في أشكالٍ أخرى من الكتابة، والفنون.

{هل تتخيل نفسك خارج الشعر، ربما تعتزله؟
الشّعر كما قلت، حاجة وضرورة في حياتي، ومن المستحيل العيش خارج هذه الحاجة. الشعر بالنسبة لي هو حاجة ماسة لي، وهو من أعذب الفنون وأرقاها، لذلك هو في متناول القلّة من أبناء البشر. صحيح أن في كل شخص تكمن الشعرية لكنها، تبقى ضمن حدود معينة، إلا أن الشاعر الحقيقي والأصيل هو الميزة والاختلاف بين أبناء الحياة.

{كيف ترى ما يحدث اليوم في الغرب من عنف وإرهاب على أياد لا ترحم الإنسان بأبسط ما يعتقده؟
المعاناة كبيرة اليوم على مستوى الوعي. والإرهاب الذي يضرب الشرق والغرب اليوم بهذه القسوة والوحشية، هو نتاج تلك الفوضى التي أسست لغياب العقل مكان الوعي والثقافة المنتجة. وأرى أننا نتجه إلى الأسوأ في هذا السياق الأعمى، إذا ما استمرت هستيريا التخلف على منوالها المخيف.

الثقافة الحقيقية هي في الأصل فعل ونتيجة يتناوبان على الوعي وتنظيم الوعي بما يضمن تطور الحياة والإنسان، ومن الواضح أننا اليوم نعيش في مرحلة فقدان الوعي والثقافة، وكما ترى ونرى النتيجة، إرهاب وقتل وموت وإلغاء الآخر، وتدمير الأوطان…

{في رأيك، إلى أين يسير المجتمع العربي في ظل هذا الموت الكبير الذي لا يوفر الإنسان والمكان من الإبادة والاندثار؟
لا يسير بقدر ما يتراجع. لا مسير في الأمر، بل مراوحة تحفر الأسفل، وإذا استمر هذا الخراب، سيصل إلى أسفل السافلين.

{كيف يمكن البشرية أن تتخلص اليوم من هذا الموت اليومي، أو هذا الجهل القاتل؟
الثقافة. العلم. المعرفة… الوعي المفتوح على تفسير الحياة يساهم كثيراً في تحويل مسار الإنسان، وليس مستحيلاً أن يشكل الوعي مساراً مختلفاً يخالف ويحذف كل هذا التخلف والجنون الممتد على أرض الإنسان والحياة.

 

 

كتابة : إسماعيل فقيه – (بيروت

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.