كتب التشكيلي والأديب #صبري يوسف Sabri Yousef..مقالة بعنوان#كيف_ نقودُ_ الكونَ..

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‏نبات‏، ‏منظر داخلي‏‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‏شخص أو أكثر‏، ‏نظارة‏‏ و‏لقطة قريبة‏‏‏
كيف نقودُ الكونَ؟!

تقديم أحدث الطُّرق التَّنويريّة وتعميمها في كلِّ دول العالم،
كي تبقى في متناول جميع البلدان والأجيال الجديدة تباعاً
25
إنَّ أكثر ما يؤلمني ويدهشني ويثير قلقي ويزعجني حتّى النّخاع هو أنَ توجّهات إنسان هذا الزّمان، ومؤسّسات أغلب دول العالم والدُّول العظمى منها، لا تستفيد من تقنيات وتطوُّرات واقتصاد العصر لصالح البشريّة جمعاء، بل تذهب نسبة كبيرة من اقتصاد العالم هدراً في الكثير من الصّراعات والحروب والمنافسات والمواجهات غير المحمودة والمميتة فيما بين الدُّول والقارات، وبالتّالي لا تستفيد البشريّة من امكانيات وتقنيات وحضارة وتقدُّم العصر لصالح الإنسان، بل يذهب الكثير من اقتصاد العالم هدراً في الحروب والمنافسات والصِّراعات المدمّرة لكلِّ الأطراف المتصارعة، لهذا أرى من الضّروري أن يعيدَ الإنسان رأيه في انحرافات الكثير من الدُّول، وخاصّة العظمى منها فيما يتعلَّق بسياساتها الاقتصاديّة والتّكنولوجيّة والعلميّة، حيثُ يتمُّ تسخير القسم الأكبر من اقتصادها وآخر ما توصَّلت إليها تكنولوجياتها وعلومها في الحروب الخفيّة والمنافسات الضّامرة والصّراعات الظّاهرة، فيخسر الجميع خسائر فادحة، مقابل أن تتسيّد هذه الدّولة أو تلك في واجهة العالم، وقد نسى هؤلاءُ المتصارعون أنّ كل هذه الصّراعات لغير صالح البشريّة والدُّول المتصارعة نفسها، لأنّ الجميع يخسر بما فيهم الدَّولة المتقدّمة على غيرها، ولهذا يجب أن تتعاونَ الدُّول فيما بينها بعيداً عن لغة المنافسات والصِّراعات والحروب الضّمنيّة والعلنيّة، وتسخِّرَ الاقتصاد والتّكنولوجيا وكل ما يمتلكونه من تقدُّم وتنوير وحضارة وعلوم إنسانيّة في شتّى التَّخصُّصات لصالح تقدُّم المجتمع البشري ككل ولصالح كل دول العالم، بعيداً عن لغة المواجهات والتّحدّيات ولغة التّسيُّد على الموقف العالمي، لأنَّ لغة التَّحدِّي هي لغة عدائيّة وعنفيّة وحربيّة مقيتة، ولا تعود بالفائدة على أي طرف من الأطراف، واللُّغة الأدق في تعامل الدُّول مع بعضها بعضاً هي لغة التّفاهم والتّعاضد والتَّعاون، لغة بناء المجتمع البشري على أسس سلميّة ووئاميّة، لأنَّ هذا الأسلوب هو الوحيد الَّذي يرفع من شأن الدُّول والقارّات والكون وبموجب هذه التَّوجّهات يمكن أن تسير الحياة نحو الأفضل على كافّة الأصعدة ويسود السَّلام والأمان والتَّقدُّم بأرقى مستوياته في كافَّةِ أنحاءِ العالم، وتعمُّ الفائدة على الجميع، بما فيها الدُّول الفقيرة والنَّاهضة والَّتي في طريقها إلى النَّمو، ومن المهم جدَّاً أن يسخّرَ الإنسان الإمكانيات والطَّاقات المتاحة على كافّة الأصعدة لخير الدُّول، بتأسيس المزيد من المؤسَّسات النَّهضويّة والتَّنويريّة والفكريّة، وإعداد مراكز بحوث في عواصم العالم لاستخدام أرقى ما وصلت إليه التّقنيات التّكنولوجيّة الحديثة والعلوم الطّبيّة والهندسيّة والعلوم الإنسانيّة الفلسفيّة والفكريّة بمختلف التّخصُّصات، على أن يتمَّ تقديم أحدث الطُّرق التَّنويريّة وتعميمها في كلِّ دول العالم، كي تبقى هذه العلوم الرّاقية في متناول جميع البلدان والأجيال الجديدة تباعاً، لاستنهاض المجتمع البشري نحو أرقى مصاف التّقدُّم كي تصبح البشريّة بمثابة أسرة كونيّة متعاضدة ومتآلفة في العطاءات الخلَّاقة بين الدُّول!

صبري يوسف

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‏شخص أو أكثر‏، ‏نظارة‏‏ و‏لقطة قريبة‏‏‏
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‏نبات‏، ‏منظر داخلي‏‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏نبات‏ و‏منظر داخلي‏‏‏
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏نبات‏ و‏منظر داخلي‏‏‏

نتابع تجليات خيال المبدع الأديب و التشكيلي السوري #صبري_ يوسف Sabri Yousef..عن المبدع الفنَّان التَّشكيلي#عنايت_ عطّار ..الذي يعتبر جموح لونه منساب بمروج المرأة..– من كتاب تجليات الخيال – الجزء الأول..

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏‏نبات‏، ‏منظر داخلي‏‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏نبات‏ و‏منظر داخلي‏‏‏

 

الفنَّان التَّشكيلي عنايت عطّار

جموح لوني منساب بمروج المرأة

عنايت عطَّار

(16)

 تبرعمَ الفنّان التّشكيلي عنايت عطّار في إحدى قرى “عفرين”، مقمَّطًا بأزاهير فوّاحة تعبق بأريج الفرح والطَّبيعة الخلَّابة، وترعرعَ في ألق الطّبيعة الممراحة بأزهى تلاوين الجمال، وراح يسوح في أعماق البراري منذ أن خَطَا خطوات الطُّفولة، فاستقبلته زقزقات العصافير وألق المروج الفسيحة، مبهورًا ببهاء الفراشات والأزاهير البرِّيّة المعبّقة بنضارة الأعشاب واخضرار السّنابل، وتشرّبَ من بهاء الطَّبيعة بهجة الأنوثة ووهجِ الخصوبة والعطاء، وكأنَّ الطَّبيعة أنثاه الأزليّة، فرأى من خلالها جمال المرأة والحياة والعشق والفن والشِّعر وانبلاج شهقات الطُّموحِ، فأسقط على المرأة بكلِّ روعتها، شغفه من خلال الألوان الّتي تغلغلت إلى أعماقه عبر صداقته الغامرة مع جمال الطَّبيعة والحياة الّتي قمّطته بين أحضانها منذ أن فتح عينيه على وجه الدُّنيا، كأنّه جزء من أهازيج هذا الجمال البديع، فأصبحت الألوان شغفه وحنينه الأشهى، وأسبغها على جمال المرأة وبهاء المرأة وعشق المرأة، وكأنّه يرسم رعشات الطَّبيعة ومرامي روعتها من خلال وجنة المرأة وشعرها المنساب على كتفها مثل شلّالات الفرح، وأصبح القمر من منظوره بمثابةِ سطوع بسمة المرأة، وإشراقة الشَّمس كأنّها بهاء عيني المرأة، وشموخ الجبال يتماهى مع قوامها الممشوق كأريج الدِّفءِ المندلق من خاصرات الجبال. لِمَ لا، أليست أمّه وأخته وحبيبته امرأة، أليست المرأة مَنْ أنجبتنا للحياة؟! هل هكذا تساؤل راود الفنّان وهو يغوصُ في مرامي ينابيع المرأة، فرسمها مزهوَّةً بكلِّ جمالِها وعطائها وعشقها وتجلِّيات حبور روحها عبر ألوانه المنسابة مع حبقِ النَّسيم المندَّى بألقِ الصَّباح، وهي في أشدِّ الشَّوقِ لحصادِ بهجة الأيّام مع حبيبٍ يزدادُ شوقًا إلى دنياها المتناثرة فوقَ قبّةِ أحلامه الوارفة بعطاءاتٍ رهيفة كأنّها منبعثة من فراديس النَّعيم فوقَ دنياه، فيجسِّدُ ألوانه فوقَ محيَّاها متناغمة مع موشور الفرح المنساب من موتيفات أشواقه المخضّبة بالحنين إلى ظلالِ البيوت العتيقة الّتي ترعرعَ في كنفها منذ أن حبا خطواته الأولى، وبدأ ينمو مثل أزاهير الصَّباح، وراح يحمل فوق أجنحته هذه الصَّباحات الوليدة من طفولته البكر حتّى غدا فنانًا معرَّشًا بهلالات الكروم وهي ترحّب بأنثاه العاشقة المتمايلة بين أغصان الدّوالي. رحلةٌ فنّية محفوفة بهفهفات نسيم البحار، وهو ينتقل من ربوع قرى عفرين وعفرين إلى طين الرّقة وانسياب عذوبة مياه الفرات وهو يناجي مخياله؛ كي يرسم من جديد بهاء أنثاه المسربلة بأمواجِ الفرح، وهو يرخي صباحاته فوق ألوانه الطَّافحة بحنينِ الطُّفولة والشَّباب إلى كنوزِ المرأة الغافية بين تراقصات ألوانه، فيرسمُها وهو في أوجِ تجلِّيات أحلامه، ويسافرُ معها في اللَّيالي القمراء بحثًا عن يخضورِ العشقِ المتناثرِ فوقَ أجنحتها المحبوكة بحليب السَّنابل.

غدت المرأة محور تناغمات ألوانه، وبدأ يرسمُها تغنِّي وتفرح وتهدهد روحه وحياته وخياله وحلمه، وتفتح رؤاه على مرامي الألوان وكأنّه أثناء انسياب فرشاته في حالة عشق مفتوح على جنائن حلمٍ لذيذ مفروش على سفوح القلب ومتاهات بوح الخيال، حتّى أصبح في عشقٍ غير قابل أن يخرج من بهائه وروعة تجلّياته إلّا عبر المرأة، ويقودنا شغف الفنّان إلى هذا التّساؤل: هل عنايت عطّار فنّان مفطور على جمال الطَّبيعة والحياة منذ أن فتحَ عينيه على ضياءِ الدُّنيا؛ لهذا اتّخذ من المرأة هدفًا أساسيًّا للوحاته، فلا تكاد ترى لوحة من لوحاته إلَّا وفي مروجها حبور المرأة وهي ترقص، وتغنّي وتعشق الحياة بكلِّ حبورٍ، وتناجي أحلامها وحبيبها عبر لوحاته الموغلة في التّأمل والتَّساؤل والابتهال وكأنّها جزء من معالم تجلّيات ألوانه على بياض اللّوحة؟!

يرسم الفنّان لوحاته بانسيابيّة فرحيّة رهيفة، ويناغي أحلامه وشهقات تجلّياته عبر ألوانه المفعمة بمناجاة الرّوح، فهو كائن مجبول بوهج الطَّبيعة الخلّابة، حيث نهل من حبق الطَّبيعة مذاق الفرح، ومن إشراقة الشّمس وشوشات الابتهال، ومن همهمات خرير المياه عذوبة الألوان، فجاءت لوحاته متوهّجة بوميض الطّفولة وخصوبة المرأة المتعانقة مع هفهفات زخّات المطر، وبعد تجربة طافحة بوهجِ الألوان يسافر الفنّان إلى ربوع فرنسا، بشغفٍ كبير، ويستقرّ به المطاف في مدينة “أنجيخ”، وبدأ يرسمُ فضاءاته اللَّونيّة المتعانقة مع المرأة الّتي لا تفارق هاجسه اللّوني، حتّى وهو يحلِّق في فضاءات تجريده اللّوني، تشعر وكأنّ المرأة ململمة بين ثنايا ألوانه من خلال دفء الألوان وتماوجات بهائها الطّافح بالعذوبة والانسيابيّة، وحقَّق في ربوع فرنسا شهرةً كبيرة، وحقَّقت معارضه نجاحًا باهرًا، وكان لها أصداءٌ طيّبة في الأوساط الفنِّيّة فتناولها النقّاد الفرنسيون أمثال: “جان مونيه”، و”آلين ماريز”، وغيرهم وقد قال “جاك ألتراك” عن تجربته الفنّية: (إن رسوم “عنايت” جذّابة، فاتنة، حية وديناميكيّة، إنّها لا تروي التّاريخ، ولا تعبّر عن فعل، ولكنّها تطرح علينا الأسئلة وتحرِّض مخيّلتنا). وأشاد الوسط الفنّي الفرنسي والكثير من الفنّانين بتجربته الفنِّيّة المتفرِّدة وخصوصيّة لوحاته وبهاء ألوانه من خلال تماهيات المرأة بطريقة رهيفة وكأنّها جزء من الطّبيعة والألوان المنسابة في فضاءات عالمه اللّوني البهيج.

تميّز الفنّان عنايت عطّار بسرعة البديهة والمرونة والطِّيبة في تعامله، مركّزًا على أن يتعامل بإنسانيّة ومصداقيّة عالية مع مَن يعاشره ويصادقه، ويميل أثناء لقائه مع أصدقائه ومعارفه إلى روح النّكتة والمرح.

لا يركّز الفنّان على رسم تفاصيل المرأة؛ فلا نراه يرسم العيون والأنوف والشِّفاه، يترك وجه المرأة منسابًا مثل الماء الزُّلال ونسيم الصّباح يهبُّ علينا بشفافية، وعندما ننظر إلى وجه المرأة في رسومه، نشعر وكأنَّنا نرى كل هذه التّفاصيل الّتي تركها نتخيّلها بأنفسنا، أو ربّما أراد أن يقول لنا:إنَّها البهاء الخفي الموجود في أعماقنا وتوقنا، كما أنّه لا يرسم أيضًا تفاصيل اليد والأصابع والأرداف؛ لأنّ تركيزه يتمحور حول انبعاث اللّون عبر هذه الكتلة الأنثويّة الطّافحة بالفرح والحياة، فتغدو المرأة كأنّها شطحات فنِّيّة عشقيّة متراقصة فوق بهجة اللَّوحة وتخرج من خصوصيّتها كمرأة وتصبُّ في آفاق الإبداع بأبهى تجلِّيات خيال الفنّان، لهذا لا نراه يتوقَّف عند إبراز مفاتن المرأة بكلِّ تفاصيلها؛ فهو يأخذها كحالة إنسانيّة ترمز للخصوبة والعطاء والعشق والفرح والبهاء والحياة، فمن ينظر إلى أعمال الفنّان، يلاحظ وكأنَّ المرأة جزء ممتدّ من تدفُّقات اللَّوحة بكلِّ ألوانها؛ حتّى أنَّ اللّوحات التّجريديّة الّتي يرسمُها ينثرُ فوقَ فضاءاتها بهاء المرأة من خلال وهج الألوان، وكأنَّنا نشتمُّ عبق الأنثى في ألوانه المزهوّة بغيمة تهطلُ فرحًا وشوقًا وعناقًا، ويبدو أنّ الفنَّان يحملُ في أعماقه وهج انبعاث القصيدة؛ فهو يرسمُ لوحاته بشاعريّة رهيفة؛ سواء عندما رسم أنثاه فيها أو خبّأها بين مرامي الألوان، ويريدُ أن يقدِّمَ لونًا متماهيًا مع هدهداتِ الشِّعرِ؛ فهو يحملُ في مخياله حبقَ الشِّعر عبر الألوان، فيحلّق بألوانه في شموخٍ لوني يكاد ينطقَ شعرًا، فهل كان يترجم الفنّان أحلامه عبر الألوان، فنرى كل هذه الأنغام والانسيابات اللّونيّة طافحة فوقَ خدودِ لوحاته، ويبدو أيضًا أنَّ الفنّان مغرم حتّى العمق بالموسيقى؛ فهو ينثرُ حبور الموسيقى في منعطفات ألوانه، حيث تبدو النّساء السّارحات والحالمات في فضاءِ اللّوحاتِ يرقصن ويغنين ويحلمن بأبهى دندنات الأغاني، وهكذا نستشعرُ أنّ الفنّان يعكس الكثير ممَّا يجول في خياله فوق نضارة اللّوحة، تاركًا انبعاثات الخيال متوَّجًا فوق بياض اللّوحات، مركِّزًا على بهجة الحياة والفرح والحبِّ والتّأمل، وكأنّه يقول للمشاهد: علينا أن نحبَّ الحياة كما نحبّ المرأة، وعلينا أن نحبَّ المرأة كما نحبّ الحياة؛ لأنَّ الحياةَ امرأة؛ ولأنَّ البشرَ -كلّ البشر- انبعثوا من رحمِ المرأة؛ فهي حاضنة الإنسان منذ الأزل!

 ستوكهولم: (2/ 1/ 2019).

  ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏ ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏٢‏ شخصان‏، ‏‏بما في ذلك ‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏بدلة‏‏‏‏

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اسم المؤلِّف: صبري يوسف.

عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.- الجزءالأوَّل.– مقالات نصوص أدبيَّة.- الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).

الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).- تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.- صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.- حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.

دار نشـر صبري يوسف – [email protected]

Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نبات‏‏
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*يليه بالنشر مجموعة الجزء الثاني :

نتابع تجليات خيال المبدع الأديب و التشكيلي السوري #صبري_ يوسف Sabri Yousef..عن الأديب التونسي #كمال_ العيادي ..في قلبِه أزاهيرُ الدُّنيا تنمو..كأنَّه حلمٌ مفتوحٌ على تيجان القصائد..– من كتاب تجليات الخيال – الجزء الأول..

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏

كمال العيادي في قلبِكَ أزاهيرُ الدُّنيا تنمو،

كأنَّكَ حلمٌ مفتوحٌ على تيجان القصائد

كمال العيادي

(14)

الأديب التّونسي كمال العيادي مبدع من العيار الثَّقيل في فلسفة الحياة ورؤياه العميقة في خفايا الزّمن/ العمر/ الوقت/ الحياة! .. تكتبُ نصَّكَ مثلما يتهاطلُ المطرُ فوقَ أرضٍ عطشى لنداوةِ النّدى، ينضحُ قلمُكَ بوحًا شاهقًا في كلِّ ما يتعلَّق بمسارات جوهر الحياة. أيّها الكاتب المتألِّق بخيالِكَ المجنّح نحو غيمات الصَّباح الطّافحة بهدهداتِ المطرِ الهتون. تكتبُ حرفك من أوجاعِ الحياة، من خبزِ الحياة، من الأحلامِ الهاربة نحوَ غبشِ اللَّيل، كمَن يستوحي حرفَهُ من رحيقِ السّماء الغامرة بالخيرات. في دنياكَ تشمخُ القصائد وتهفو الكلمات إلى إشراقةِ الصّباحِ المكلَّلِ بحبورِ الخيرِ والمحبّةِ وبسمةِ الأطفالِ، وصدْقِ الكهولِ وتجربةِ الشُّيوخِ والعجائزِ الَّذين قضوا حياتهم في أعماقِ منعرجاتِ الحياة، كأنّكَ في رحلةِ عشقٍ أزليّة لكتابةِ نصوصٍ من وحي هلالات النّسيم. تشعرُ أحيانًا أنّكَ نسمةٌ وارفة فوقَ خدودِ الأطفالِ، انبلاجُ نجمة طافحة بإشراقةِ هلالاتِ السَّلام. حرفُكَ يناغي شهيقَ كهلٍ غائصٍ في أسرارِ الحياة، ورؤياكَ تشمخُ مثلَ حكمةِ شيخٍ عجوزٍ، مكتنزة تجاربه بفلسفةِ الحياةِ. تنثرُ حرفَكَ على أجنحةِ اليمامِ وهي تحلِّقُ فوقَ خدودِ الدُّنيا. تُشبهُ في أعماقِكَ طائرًا ملفّحًا بأجنحةِ الوئامِ، يحلِّقُ بكلِّ انبهارٍ فوقَ أمواجِ البحارِ،. أراكَ في حالةِ شوقٍ دائمٍ إلى الكلمةِ الممراحة، دمعتُكَ لا تتوقّفُ شوقًا إلى أحلامِ حرفٍ ينسابُ من خميلةِ الرُّوحِ، في قلبِكَ أزاهير الدُّنيا تنمو كأنّكَ حلمٌ مفتوح تتهاطلُ ألقًا فوقَ تيجان القصائد.

هل كنتَ يومًا غيمة حُبلى بعبقِ النّارنج والسَّوسن البرّي، أو رحيقَ الغابات المنبعث في صباحات نيسان فوقَ خمائل الرُّوح، فترسمُ معالمَ جموحكَ من وحي كل هذا الابتهال؟! أرى في مرامي حرفكَ أجنحةَ حمامٍ ترفرفُ فوقَ سهولِ القمحِ؛ كي تنثرَ حبورَ الحنطة فوقَ وجهِ الدُّنيا. أنتَ يا كمال محبوكٌ من حليبِ الحنطة؛ لأنّ حبرَكَ معبَّقٌ باخضرارِ بهاءِ الحنطة. في أحلامِكَ تزهو بسمات العمَّال وهم يتصبَّبونَ عرقًا طافحًا بأصفى أنواعِ العطاء، وتسطعُ كلماتكَ ألقًا كأنّها منبعثة من مناجل الفلّاحين؛ شوقًا لباقاتِ السّنابل! أنتَ سنبلة وارفة معفَّرة بمذاقِ الخيرِ، ووهجِ السَّلامِ والفرحِ الهارب من غضب وجنونِ هذا الزّمان. هل تشعرُ بندمٍ كبير أنّك جئتَ في زمنٍ مفخّخٍ بالانكسار؛ لهذا تسعى دائمًا أن ترمِّمَ أوجاعَ هذا الزّمان من تفاقم الانكسار؟! تنبلجُ قامتك أمامي وأنتَ تعانقُ أدونيس، وتبتسمُ بفرحٍ كبير كلّما سمعتَ فيروز تشدو للبلابل والبحار الهائجة، تبدو لي حرفًا متهاطلًا مثلَ زخّاتِ المطر فوقَ جراحِ حزانى هذا العالم؛ كي تبلسمَ جراح الإنسان الخفيّة، وأوجاعه المتشظِّية من هولِ تفاقمِ عقم سياسات هذا الزّمان. تبتسمُ بسخريةٍ مريرةٍ من ضجرِ السِّياساتِ الفاقعة، تراها بلا لون ولا طعم ولا أيّة رائحة، إلّا رائحة الهزيمة نحوَ قيعانِ زمهريرِ الانحدار، فتقفُ بكلِّ عنفوانٍ وأنتَ ترصدُ قلمَكَ بكلِّ رهافتهِ؛ كي تبلسمَ الجراح الغائرة فوقَ وجوهِ الفلّاحين ومساكين هذا الزَّمان!

كمال العيّادي؛ كاتبٌ تونسي من أصولٍ معبّقة برحيق النَّرجس البرّي، يكتبُ حرفه من مآقي النّدى المنساب من هلالاتِ شهيقِ الصَّباح وهو في أوجِ اشتياقِهِ لإشراقةِ الشّمسِ فوقَ وجوهِ الأطفالِ والكهولِ والشُّيوخِ في آخرِ أيامهم، وإلى الكائناتِ الخيِّرة؛ كي ينامَ مرتاحَ البالِ عندما يغفو المساء فوقَ جفونِ اللَّيلِ الحنون!

 

ستوكهولم: (31/ 8/ 2019).

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏ و‏ماء‏‏‏ ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏٢‏ شخصان‏، ‏‏بما في ذلك ‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏بدلة‏‏‏‏

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اسم المؤلِّف: صبري يوسف.

عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.- الجزءالأوَّل.- مقالات نصوص أدبيَّة.- الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).

الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).- تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.- صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.- حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.

دار نشـر صبري يوسف – [email protected]

Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏أحذية‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*يليه بالنشر مجموعة الجزء الثاني :

 

نتابع تجليات خيال المبدع الأديب و التشكيلي السوري #صبري _يوسف Sabri Yousef….حول القس #جوزيف_ إيليّا ..الشاعرٌ المجبولٌ بيراع بوح القصيدة ..– من كتاب تجليات الخيال – الجزء الأول ..

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نبات‏‏

القس جوزيف إيليّا شاعرٌ مجبولٌ بيراع بوح القصيدة

القس جوزيف إيليا

(5)

 الشَّاعر البديع والقس الفاضل جوزيف إيليَّا شاعرُ الكلمة الخلَّاقة، ابن “كهني مطِرْبِه”، القرية الوديعة المتعانقة بربوع براري ديريك، شاعرٌ مشبَّعٌ بمشاهدةِ الطَّبيعة النَّقيّة والبراري الفسيحة، منحته هذه الآفاق الرِّيفيّة رحابة فسيحة لخياله الشِّعري، انتقلَ إلى مدينةِ ديريك المحبوكة بطابعٍ ريفي، ترعرعَ الشّاعر جوزيف إيليا المجنّح نحو بهاء السَّلام والوئام بين البشر في بيئة ريفيّة وعائلة أدبيّة فنّيّة روحيّة مجنّحة نحوَ أصفى ينابيعِ الأدبِ والفنونِ؛ابتداءً بالشِّعرِ والقصّة، مرورًا بالفنونِ المسرحيّة والتَّشكيليّة وسائر الأجناس الإبداعيّة، فاستحوذَ على آفاقِهِ بريقُ الشِّعرِ، وأصبحَ هاجسه الأكبر منذُ باكورةِ عمرِهِ. بدأ كتابة الشِّعر منذ أن كان على المقاعد الدِّراسيّة في الحلقة الإعداديّة والثَّانويّة مرورًا بالمرحلة الجامعيّة. قرأ الشّعر الكلاسيكي بكافّة مراحله وعصوره، والشِّعر المعاصر، ونهل من أمّهات الكتب الشِّعريّة أشهى ما في خصوبة الشِّعر من تجلِّيات الإبداع، وتلّمس برهافة شفيفة مسارات استيلادِ الشِّعر، فتشرَّب مذاق حبور ولادة الشِّعر، إلى أن غدا الشّعر وهجًا روحيًّا وشغفًا عميقًا يناغي ليله ونهاره، متوقِّفًا عند بحورِ العروض بإيقاعاتها المتنوّعة، فكتبَ الشِّعر العمودي وشعر التَّفعيلة، كما لديه عبور شفيف في كتابة قصيدة النّثر بين الحين والآخر، وإنْ كان الشِّعر العمودي والموزون شعفه الأكبر، كما توغّل رويدًا رويدًا في قراءة الكتب المقدّسة، وتابع شغفه الرُّوحي في قراءة اللّاهوت في جامعات القاهرة إلى أن حصل على اللّيسانس في اللَّاهوت. وفي العام (1993) رُسِمَ قسيسًا وتزوَّج ورزق بولد وابنتين. اصطبغ شعره بالأوجاع والألم والشَّوق إلى الوطن ومسقط الرّأس، ولم ينقطع عن قراءة الشِّعر وهاجس كتابة الشِّعر منذ أن أصيب بعشق الشِّعر حتّى الآن. لُحِّنتْ بعض قصائده كترنيمات وأغاني، ونشرت عبر الشَّبكة وقُدِّمَ بعضُها على مسارح ديريك وغيرها من المسارح. تهيمن على أشعاره رؤية روحانيّة صوفيّة إنسانيّة فسيحة في آفاق تطلُّعاته الإيمانيّة والإبداعيّة والفكريّة الَّتي تصبُّ في جوهرها في الإيمان الصَّافي والتَّنوير والتَّطوير الإنساني الخلَّاق! يتميَّز الشّاعر القس جوزيف إيليا بفضاءاته الجَامحة نحو حبورِ المحبّة والوئام بين البشر، يرسم حبق الرُّوح على إيقاعِ هديل اليمام في مسارات بوحِ القصائد، أشبه ما يكون شمعة فرحٍ تضيءُ ألقًا وسلامًا في دنيا مفخّخة بالضَّجر، بسمة أملٍ مشرعة على حنين الينابيع إلى خدودِ السَّماءِ، يكتبُ القصيدة كأنّه يناجي فراشات بشائر السَّلام والحلم الآتي، جاهدًا أن يبلِّلَ جبين المتعبين راحةً وأملًا من تفاقمِ شفير الاشتعال، هذا الشَّاعر القسِّيس مسكون بهلالاتِ قمرٍ، ينقشُ روعة الفراشات وهدهدات هديل اليمام، يناجي ويعظ نفسه قبل أن يعظَ الآخرين، شاعرٌ مسربلٌ ببهجة الكلمة المنسابة نحو صفوةِ مرافئ الإبداع. تتقاطع رؤاه مع وهجِ الحداثةِ رغم أنّه يكتب الشِّعر العمودي، وهذا ما يميِّز شعره العمودي عن سواه.

يرى الشّاعر أنَّ الكلمة هي الأبقى والأكثر سطوعًا على جبين الحياة، لا يبالي بسواطير هذا الزّمان؛ لأنّها ستهرُّ عاجلًا أم آجلًا أمام هلالات الكلمة الحق، الكلمة العدالة، الكلمة الوجود، الكلمة الحياة، الكلمة المحبّة؛ لأنَّ الكلمة أقوى بكثير من سواطير الكون. الكلمة عناقٌ عميق مع شهقةِ الصَّباح، الكلمة هي أجنحة اليمام المرفرفة عاليًا، الكلمة مفتاح العبور إلى أحضانِ مهجةِ السّماء، هي أريجُ أرضٍ مبرعمة بالاخضرار، هي محبّة وارفة في وجه بُلَهَاءِ هذا الزّمان، الكلمة قبلة خيرٍ مبلَّلة بأزاهيرِ الوئامِ، الكلمة هي سموُّ الرّوح نحو فراديس نور الحياة، الكلمة أسبق من الحياة؛ لأنّها روح الحياة، وهي أبقى في الحياة من سلاطين الكون على مرِّ الأزمان، هي وهجُ الخير المستنير على وجه الدّنيا إلى أبدِ الدُّهور.

يستمدُّ الشَّاعر شعره من وحي مهجة الرّوح التَّوّاقة إلى بسمة الأطفال، من رؤاه الصُّوفيّة المتعانقة مع روعةِ الحياة، من ثقافة مستنبتة من أزاهير المحبّة ووئام الإنسان مع أخيه الإنسان، من خيالٍ مجنَّحٍ نحو رفرفاتِ طيورٍ تحلِّقُ في فضاءاتِ زرقة السّماء. ينسج قصيدته كأنّه في رحلة حلميّة نحو اخضرار الكروم، شوقًا إلى أشهى العناقيد، يشعلُ شموعه مبتهلًا للأعالي على إيقاع حنين الرّوح، مُسربَلًا ببهجةٍ عارمة. تغمرُهُ حالات فرحيّة باذخة عندما يغوصُ في بزوغِ وميضِ القصيدة، كأنّه يترجم لنا حبورَ الأطفالِ في صباحِ العيدِ، وهم في حالةِ لهفةٍ عميقةٍ لإشعال قناديل السَّلام وهم يرتِّلون مزامير تجلِّيات الرّوح لرسول السَّلام والمحبّة، رسول الطّفولة المتعانقة مع زخّاتِ المطر. ينظرُ الشّاعرُ إلى بهجةِ الأطفالِ المرتسمةِ فوقَ محيّاهم النّضير، فيستوحي نصّه بانسيابيّة شفيفة من هذه الأجواءِ السّامية، كأنّهُ يطيرُ ألقًا في مرامي حلمٍ مفتوحٍ على مروجِ الحياةِ، مركّزًا على أزليّةِ اللهِ وخلودِ المحبّةِ، وكلّ ما عداها زائل وباطل الأباطيل.

يتوقَّفُ الشّاعرُ عندَ أهميّة تواصل البشر مع بعضِهم، بعيدًا عن لغةِ البغضِ والكراهيةِ وتناحرِ الصّراعات المريرة التي لا طائل منها، بل تقودنا إلى الدّمار والهلاك، لهذا نراه يركّز في شعره وتطلُّعات رؤاه على ضرورة التَّآخي مع الإنسان ومناصرته بغضِّ النّظرِ عن دينه ومذهبه وطائفته؛ فهو شاعر وقسيس منفتح على إنسانيّة الإنسان في رؤاه الفسيحة، ويدعو إلى الحوار الدِّيني الإنساني الخلّاق، مادام أنَّ الإله واحد، وهو خالق الإنسان والأرض والسّماء والجماد والكائنات كلّ الكائنات.

للأمِّ مكانة مقدّسة لدى الشّاعر، يكتب نصوصًا بمناسبة عيد الأم ويهديها لأمّه، وإلى جميع الأمّهات؛ لأنّه يعتبر أمّهات العالم بمثابة أمّه؛ لأنَّه ينظرُ إلى الأم كينبوعِ الحياة، ومن رحمها تتبرعمُ أغصانُ الحياة.

الشّاعر جوزيف إيليا، قسيس متنوِّر ومنفتح على كلِّ الأديان والطَّوائفِ والمذاهب والأقوام الّتي تقودنا إلى واحات الخير والمحبّة والعطاء الإنساني القويم، وهو شاعر بحق، ورجل دين بحق وحقيقة، وكم من مساجلة شعريّة وحوار ووعظات سمعته يركّز على الحوار الإنساني الخلّاق بين البشر. كم نحتاج في الوقت الرّاهن وفي كلِّ الأوقات، إلى هكذا قساوسة وشعراء وإلى كل مبدع من مبدعي العالم يحمل هكذا رؤية انفتاحيّة وئاميّة؛ كي يُسهِمُوا في تقريب وجهات نظر البشر إلىفيما بينهم؛ لفتح باب الحوار على آفاق المحبّة والسَّلام والإخاء على رحابة الكون، كما منحنا إيّاه رسول السَّلام، عبر الكلمة الطّيّبة مركّزين على روح التَّسامح والتَّعاون والتَّضامن ورفع راية الإخوة الإنسانيّة؛ كي نرتقي إلى مصاف إنسانيّة الإنسان الَّتي تعتبر أسّ الأسس الَّتي يجب أن نركّز عليها في رسالتنا وتوجّهاتنا وأهدافنا الحاليّة والقادمة على مستوى المعمورة؛ لأنَّ الإنسان هو جوهر الوجود وهدف الوجود، وعليه يتوقّف الكثير من المهام الّتي تقودنا إلى مرافئ الأمان والخير الوفير، وعلى هذه المناحي الخلّاقة يتوجَّب أن يسير المجتمع البشري؛ كي يحقِّقَ الأهداف المنشودة الَّتي رسمت معالمها منذ قرون كافّة الأديان والفلسفات والرُّؤى الحكيمة الَّتي كتبها مفكري وفلاسفة وأنبياء على مرِّ العصور، حيث تبيَّنَ أنَّ بعضَ البشر في الوقت الرّاهن قد زاغَوا عن الطَّريق القويم، ابتعدوا كثيرًا عن إنسانيّتهم وجوهرهم كبشر، ويبدو لي في الكثير من جغرافيات العالم أنَّ بعضَ البشر ازدادوا غوصًا في عوالمِ الشّرورِ والحروبِ والصِّراعاتِ الَّتي تقضي على حضارةِ الإنسانِ وإنسانيّة الإنسان ووجودِ الإنسان، في الوقت الّذي نحتاجُ فيه إلى أن نغوصَ عميقًا في مؤازرةِ بعضنا، كبشر ونؤسِّسُ رؤية إنسانيّة عميقة تتآلفُ مع تطلُّعاتِ وآفاقِ الأديان والمـــــذاهب والطَّوائف ومع رؤيةِ الإنسان المفــــكِّر والمتنوِّر لبناءِ مجتمعٍ إنساني يليقُ بنا كبشر في سائرِ أنحاءِ العالم، وهذا ما يدعــــو إليه الشَّاعر جوزيف إيليا، وما أدعو إليه منذ سنين من خلالِ نصوصي وكتاباتي مع بقيّة مبدعي ومبدعات العـــالم.

الصَّديق الشَّاعر القس الفاضل جوزيف إيليا، شاعر مدهش في تجلِّياتِ بوحِ القصائد، يركِّزُ الشّاعر على نشر ثقافة السَّلام والحب والفرح في أرجاء العالم؛ لأنَّ عالمنا مخلخل الأجنحة، وعلى جميع شعراء ومبدعي العالم أن يبلسموا جراحات الإنسان ويخفِّفوا من عذاباته بأقصى ما لديهم من رؤى خلّاقة!

أيّها الشّاعر الحاضر مثلَ رفرفاتِ الحمائم في ابتهالاتِ بوحِ القصيدة. تُشبهُ مطرًا نقيًّا تتهاطلُ ألقًا من مآقي السَّماءِ. تستلهمُ نصوصَك الشِّعريّة من تدفُّقاتِ مخيَّلة رهيفة، شفيفة، معبّقة بأشهى رحيقِ الشِّعرِ. تكتبُ في كلِّ آنٍ وحينٍ، كأنَّكَ مسكونٌ بالشِّعرِ والإبداعِ والانسيابيّة الطّافحة بجموحِ التّجلِّي. حرفُكَ ينسابُ مثلَ نسيمِ الصَّباحِ المندَّى بأبهى خيوطِ الحنينِ. كم أشعرُ يا صديقي بطاقاتك في انبعاثِ بوحِ القصائد، كأنّكَ تحلِّقُ فوقَ مهجةِ اللَّيلِ الحنون، وتجلّيات أحلامكَ الوارفة تنسابُ على مساحاتِ غربةٍ مفتوحةٍ على مدى شهقاتٍ شوقيّةٍ معتّقةٍ بسنينِ الخيرِ والبركةِ والحصادِ الوفيرِ. أشعرُ بفرحٍ وغبطةٍ عارمة عندما أقرأ قصائدَكَ المخضوضرة كأهازيجِ الرّبيع. هل تخضّبتْ كينونَتُكَ ببهاءِ الرّبيعِ ونقاوةِ المطرِ، وأغصانِ الزّيتون، وعناقيد الدّاليات المتدلّية فوق مذاقِ الأحلامِ الفسيحة، الممتدّة على مساحات كروم ديريك وبراري قرية “كهني مطربه” مسقط الرّأس؛ كي تتلألأ بهذهِ الحفاوة السّامقة كأشجارِ المحبّة؟ أراكَ شاعرًا مجبولًا حرفه بحليبِ السَّنابل. تكتبُ قصائد موزونة بعيارِ الذّهبِ الصّافي، قصائدُك تحاكي الرُّوحَ والقلب والوئامَ والذَّاكرة المحبوكة بالطُّفولة والماضي البعيد والقريب والخيال المكتنز بأسئلة متهاطلة من حفاوةِ المطر.

 

ستوكهولم: (2017، 2019).

 

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏نبات‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏٢‏ شخصان‏، ‏‏بما في ذلك ‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏بدلة‏‏‏‏

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اسم المؤلِّف: صبري يوسف.

عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.- الجزءالأوَّل.- مقالات نصوص أدبيَّة.- الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).

الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).- تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.- صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.- حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.

دار نشـر صبري يوسف – [email protected]

Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)

لا يتوفر وصف للصورة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*يليه بالنشر مجموعة الجزء الثاني :

 

نتابع تجليات خيال المبدع #صبري _يوسف ..حول الأب #يوسف_ سعيد.. يبني الأبُ يوسف سعيد قصيدته كَمَن يترجم مشاعره ..– من كتاب تجليات الخيال – ج 1 – صبري يوسف Sabri Yousef..أديب و تشكيلي سوري مقيم في السويد ..

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏ و‏ماء‏‏‏

يبني الأبُ يوسف سعيد قصيدته كَمَن يترجم مشاعره

بتوهُّجات حلميَّة باذخة في التَّأمُّلات

 

الأب يوسف سعيد

(3)

 

يبني الأب يوسف سعيد قصيدته كمن يترجم مشاعره الدَّفينة ضمن توهّجات حلميَّة باذخة في التَّأمُّلات، كأنَّه يبني برجًا شاهقًا من الدُّرَرِ والأحجار الكريمة، يبنيها من خلال تدفُّقات عفويّة منبثقة من خياله وذاكرته وخبراته وتأمُّلاته وأفكاره وأحلامه، مستنبطًا جملته الشِّعريّة من كلِّ هذه الرُّؤى والمسارب المتعدِّدة بإيقاعٍ انسيابي، مركزًا على تأمُّلات روحيّة علميّة أدبيّة فنِّية مدهشة، حيث يشيدُ عوالمه من ينابيع رؤاه المتشكِّلة من هذه الرَّوافد المتعدِّدة ومن تجربته العميقة في الكتابة، معتمدًا على خبراته ومشاهداته وخياله السَّيَّال، كأنّه تدفُّقات شلّالٍ، تتهاطلُ رذاذاته بانتعاشٍ لذيذ من أعالي الجبال، لينثر لنا حروف قصيدة شعريَّة من مذاقِ التفَّاحِ ورحيقِ الحنطة.

يلملم الشَّاعر المبدع مفرداته ويموسقها ضمن سياق طفولي راقص، متَّخذًا أحيانًا من كلمةٍ ما، ذات دلالات معيّنة ويسقطُ عليها أفكاره وجموحات خياله،ويعيد تكرار العبارة عدّة مرّات بأشكالٍ وصورٍ مختلفة، وأحيانًا يلتقطُ حالة مشاعريّة ويصيغ منها بناء شعريًّا يتداخل مع عوالم رحبة بعدَّةِ طرقٍ وكأنّه فنّان يرسم مشاعره وهو متوهِّج في بناء جملته الشِّعريّة، حيثُ خبرته في الكتابة تطوّرَتْ، فأصبح كلّ ما ينطقُ به شعرًا؛ لأنَّ إبداعه يولدُ من خلالِ حالات وتجلِّيات صافية، فلا يكتبُ إلّا من منطلق حاجة الرُّوح والقلب والفكر، لترجمة ما يختلجُ في ذهنه، وكأنّه في رحلة حلميّة؛ لأنَّ طابع البناء الفنّي قائم على هذه الانسيابيّة الحلميّة المصهورة في مرايا الشَّاعر، حيثُ تعكسُ مرامي روحه، أفكاره، خياله، طموحه، أمانيه، كلّ ما يتراءى له في لحظات الإشراقات الشِّعريّة.

هناك انصهار وتفاعل بديع بينه وبين نصّه الشِّعري، وهو متوفِّز وجاهز للكتابة في كلِّ آن، لهذا تراه يكتب أينما كان، فلا يوجد عنده طقوس معيّنة، بل هو جاهز للكتابة في كلِّ الأمكنة، حتَّى ولو كان في القطار، في حديقة، في استراحة، في مقهى، في الطَّائرة، في رحلة مع بهاء القصيدة وهو في طريقه لزيارة الأحبَّة الأصدقاء والأهل. إنَّ هذه القابليّة المفتوحة للكتابة وهذا الاستعداد الدَّائم لاحتضانِ القصيدة، إنَّما يدلُّ على مخزون عميق في جوانيّة روح وعقل وخيال الشَّاعر، حتَّى أنَّه عدَّة مرّات أشار إلى أنَّه كتب ديوانًا شعريًّا، (مخطوطًا) بعنوان، “مدن باطنيّة”. ولو أمعَنَّا النَّظر في عنوان هذا الدِّيوان الَّذي أشار إليه أكثر من مرّة في حواراته التّلفزيونيّة، نجد أنّه توغَّل عميقًا في بواطنه، مجسِّدًا شعريًّا ما يعتري في أعماقه من عوالم ومدن باطنيّة الَّتي حلم بها طويلًا، ونقلها بكلِّ دلالاتها إلى حيِّز الشِّعر ولكنّها تبقى باطنيّة بحسب العنوان الَّذي أطلقه على الدِّيوان!

حبذا لو أطَّلِع على هذا الدِّيوان المخطوط، وهل هو مخطوط، أم أنّه مجرّد أحلام معرَّشة في “مدنه الباطنيّة” الَّتي ترعرعت وغدت باسقة في أحلامه الوارفة؟! وربَّما كتب هذه المدن الباطنيّة؛ لأنَّ الأب يوسف سعيد يكتب أحلامه ويترجم عوالمه الباطنيَّة بانسيابيّة كبيرة؛ فهو حالة شعريّة صافية، كأنَّه جاء إلى الحياة خصيصًا كي يكتب لنا شعرًا مصفَّى من “ذهب الجنّة”؛ هذه الجنّة الَّتي يراها مسترخية فوق مآقي الشِّعر، ومتهاطلة من حنينِ السَّماء إلى مروج القصيدة.

إنَّ الأب بوسف سعيد يبني نصّه الشِّعري من خلال صداقته مع الكون، مع الحياة، مع السَّماء، مع التُّراب، مع الشِّعر، مع الكلمة، مع موشور الأحلام المتدفِّقة من خيوط الشَّمس، حتّى أنّه أحيانًا يكتب عن ذاته كأنَّه جزء من الطَّبيعة، من هذه العوالم الَّتي يستمدُّ منها جملته الشِّعريّة وعلى ضفافها يبني نصّه الجميل! وأجمل ما في أدب وشعر الأب يوسف سعيد، أنّه لا يخضع ولا ينتمي إلى أيَّةِ مدرسة أو تيّار أدبي أو فنِّي معيّن، وممكن أن نطلق عليه “تيار سعيدي”؛ نسبة إلى كنيته من جهة؛ ولأنّه يترجم شعرًا سعيدًا مفرحًا يصبُّ في الوئام والمحبَّة والسَّلام، فلِمَ لا نطلقُ عليه التَّيار السَّعيدي، المنبعث من رؤاه الفرحيّة النَّقية السَّامية الصَّافية، مثل صفاء سموّ السَّماء الَّتي ترجمها بيراعه الشِّعريِّ الفيَّاض؟! لهذا لا يمكن أن ندرجه في سياق منهجي معيّن لدراسته نقديًّا؛ فهو أشبه ما يكون بانبعاثاتٍ فرحيّة، شأنه شأن الفنّان الَّذي يتدفَّق ألوانًا رائعة، وشأن الملحِّن الَّذي يتدفَّق ألحانًا بديعة ولا يعلم النقَّاد كيف يموسقونها ضمن تيَّار معيّن؛ فهي سيمفونيّة ناضحة بتجلِّيات روحيّة، إنسانيّة، عفويّة، شوقيَّة، وكأنَّ المبدع يكتب لذاته التوّاقة إلى متعة العطاء، متعة الإبداع، متعة التّأمُّل، متعة التَّجلِّي، فهل ممكن أن نسبر أغوار شاعر كهذا، في الوقت الَّذي يرى هو ذاته أنّه في حالة حلميّة راقية، ولا يشعر بالضَّبط كيف بدأ وكيف انتهى من بناء نصِّه الشِّعري، حتَّى أنه يُخيَّل إليَّ أنَّه ممكن أن يضيف إلى شعره ما لا نهاية من الإضافات؛ لأنَّ نصوصه مفتوحة، ولا يمكن أن نصل إلى نهاياتها حتَّى عندما يضع النّقطة الأخيرة؟! إنَّ نصوصه تشبه حالة النّشوة القصوى؛ نشوة التَّأمُّل، نشوة الحياة في أرقى بهائها، نشوة الرّوح في أرقى تجلِّياتها، نشوة العناق العشقي العميق، فهذه النَّشوة الإبداعيّة في حالةِ عطشٍ مفتوح إلى آمادٍ لا نهائيّة.

من هذا المنظور، أرى الأب يوسف سعيد حالة شعريّة خلّاقة، يكتبُ بطريقةٍ لا تخطرُ على بال؛ فهو كشاعر وإنسان منسجم مع ذاتِهِ الشَّاعريّة الانسانيّة، فقد عاش الحالتين؛ شاعرًا وإنسانًا، متصالحًا مع ذاته إلى أقصى درجات المصالحة؛ فهو الشَّاعر الإنسان المبدع بدون أيّة تزويقات أو رتوش؛ لأنَّه عاش شاعرًا، وترجم كلّ ما يعتريه شعرًا بديعًا وخلّاقًا، نظرَ إلى الحياة بمنظورِهِ العميق كأنَّها قصيدة معرَّشة بأزاهير الخميلة! لهذا لم يقلقه أي شيء على وجه الدُّنيا، حتَّى الموت نفسه لم يقلقه؛ حيث قال منذ يفاعته في إحدى مقاطعه الشِّعريّة: “لا أنا ولا أنت نموت!”.

استلهم الأب يوسف سعيد أبهى نصوصه من أوجِ حنينه إلى طفولته الرّحبة؛ طفولة محفوفة بالسَّنابل وأغصان الدَّوالي والبراري المبرعمة بالطّيور والأزاهير والنَّباتات البرّيَّة! كم يبهرني في بنائه الفنِّي وفي تدفُّقاته وصوره الخلّاقة! وتدهشني لغته المبنيّة على بوحٍ طازج، والعصيّة عن الفهم أحيانًا وصعوبة الولوج إلى مغاليقها الخفيّة أحيانًا أخرى! ومع كلِّ هذا الغموض، أجد متعةً كبيرة عندما أتوغَّل في فضاءات نصوصه؛ خاصَّة القصائد الَّتي تنساب بإيقاعٍ ملحمي، حيث يكتبُ بنَفَسٍ طويل كأنّه في سباقٍ مع الفرح، مع هبوب نسيم الصَّباح؛ لما يمتلكُ من قدراتٍ راقية في بناء خيوط النَّصّ الَّذي يغوص في متاهاته بعفويّةٍ باهرة، مع أنّه لا يهتم بخيط القصيدة، ومع هذا ترى قصيدته كأنّها معبّقة بنكهة الحنطة، منسابة كأغنية تنشدها جوقة الفلّاحين على إيقاع المناجل وهم يحصدون باقات السَّنابل بمتعةٍ غامرة وشهيَّةٍ مفتوحة!

أخَذَتْ قصيدة الطُّفولة للشاعر الأب يوسف سعيد وقتًا مطوَّلًا منّي، وكلَّما قرأتها؛ وجدتُ شيئًا جديدًا، وما وجدْتُ نفسي إلّا وأنا أزدادُ توغُّلًا في عوالم هذا الشَّاعر المتدفِّق شعرًا شفيفًا، مستمِدًّا رحيق أشعاره من عوالم طفولته الرَّحبة تارةً، ومن تجاربه الغنيّة في الحياة تارةً أخرى. أيُّ عالم شفَّاف هذا الّذي يغرف منه الشَّاعر توهُّجات شعره المتلألئ في الذَّاكرة البعيدة؟! قصيدة الطُّفولة أشبه ما تكون بترتيلة الحياة؛ حياة الشَّاعر نفسه، إنّه يرغب عبر نصّه الشِّعري العودة إلى نقاء الطُّفولة، إلى الماضي الحميم؛ رغبةً منه في تجسيد هذا العالم المكتنـز بالصَّفاء ونزوعه إلى الحرّية، رغم قساوة الحياة الّتي عاشها!

يسقطُ الشَّاعر في ثنايا نصّه دلالات فكريّة وحياتيّة واجتماعيّة ورؤاه الكثيفة في الحياة وموقفه منها دون أيِّ تحفُّظٍ، وكأنّه يتلو في حالة انتشاء ترتيلته المفضّلة من أخصب وأنقى محطّات عمره، حيث يبدو واضحًا أن الشَّاعر كتب قصيدته بكلِّ مشاعره وأحاسيسه وأحلامه ودمه وأعصابه؛ فهذه القصيدة هي أنشودته الرُّوحانيّة الشَّفَّافة، والّتي انبثقَت من نقاط دمه؛ حيث يقول:

“أتركُ نقاط دمي على جوانب محبرة، بعض هذه النِّقاط انساب كدهنٍ مهراق، ….

أشيِّدُ أعشاشًا لطيورٍ مصنوعة من دم الكلمات” ..

وهناك أمثلة كثيرة تشير إلى أنَّ الشَّاعر ملتحمٌ بكلِّ مشاعره وأعصابه ودمه مع بناء القصيدة، فيعلنها صراحةً ويقول: “هذا العالم أعصابه من دماء الشِّعر، …”

يربط الشَّاعر هذا العالم الَّذي نعيشه بالشِّعر، ويعتبر أعصاب العالم ودماء العالم متأتِّية من وداعة وانبعاثِ الشِّعر، وبهذا يضعُ الشِّعر في مقام جوهر الحياة، ومحرّك الإنسان والكائنات كلّ الكائنات، وحالته هذه أشبه ما تكون بحالة النّيرفانا، عندما تتحوَّل الذَّات إلى حالة انصهاريّة متوحِّدة ومتماهية في الموضوع الَّذي تتوق إليه، كحبِّ الإله أو حبِّ أيّ شيء إلى درجة ذوبان الذَّات فيه، فالأب يوسف سعيد عَشِقَ الشِّعر والحرف والإبداع إلى درجة الذَّوبان فيه، فيراه جزءًا لا يتجزَّأ من كيانه، بل يعتبر كلّ ما في الحياة منبعثًا من دماء الشِّعر ومن أعصابه. لقد التحمَ في الشِّعر خلال سنين حياته، ولهذا يعتبر الشِّعر بمثابة كائن بديع فيه تصفو القلوب وفيه ومنه ترتقي الحياة إلى أرقى تجلِّيات العطاء! وعندما نتوغَّل في فضاءات ورحابة الشِّعر الَّذي كتبه الشَّاعر، نجد موضوع الحرّية ساطعًا، يتلألأ في أوجِ نصوصه، ويبدو أنَّ الشَّاعرَ يتوقُ توقًا عميقًا إلى الحرّية والتَّسامي والارتقاء والتَّأمُّل، وهذه الخصائل تشتركُ مع بعضها في مسألة صفاء الرُّوح ونبلها وسموِّها؛ حيث يقول:

“نفسي وهي في انتعاشتها المتسامية تحتسي شوقًا من مياه ينابيعها”.

“جدائل ليلي قرب ساقية تروي شجرة التَّأمُّل” ..

“نسوةٌ قرب سريري يحدثنني عن هلاكي المؤجّل، بينما أراقبُ كوكبًا كبيرًا، متمنِّيًا الارتقاء إلى دياره،

هل في أحواضه السَّماويّة زنابق من نوع ٍآخر؟!” ..

هناك توق شديد لدى الشَّاعر للارتقاء والسُّموّ نحو أحضانِ السَّماء، وقد تلوَّنت شفافية روحه بهذا النّزوع نحو عالم السُّموّ والارتقاء؛ ربّما لكونه أبًا روحيًّا، عمل أكثر من نصف قرن من الزَّمن في عالم الكهنوت، جنبًا إلى جنب مع عالم الشِّعر، المتعطِّش إلى سماء القصيدة، سماء الرُّوح، سماء الإبداع، سماء الأب يوسف سعيد. وسماؤه لها نكهة خاصّة، نراها مطرّزة برحيق الكلمة، المتطايرة من تعاريج الحلم!.. مستمدًّا من رحاب رؤاه الحلميّة بناءً مختمرًا في ذاكرة الشَّاعر التوَّاقة إلى مزج الواقع بالحلم والخيال فتأتي القصيدة متفرِّدةً في بنائها وأسلوبها وألقها.

إنَّ ما يميِّز أسلوب الأب يوسف سعيد عن غيره من الشُّعراء هو عفويَّته في الكتابة ودمج نزوعه الصُّوفي الشَّفّاف مع رؤاه السُّورياليّة النَّابعة من تراكمات الحالات الحلميّة، ورؤاه المستمدّة من تجربته الفسيحة في عالم الكلمة؛ حيث يقول:

“يخرجُ حلمُ المجدليّة من أحلامي”، “ترشقني سهام الأحلام”، “وحدُها الفراشات تستريحُ على أجنحةِ البرق”.

هذه الصُّورة الشِّعريّة الأخيرة تحمل بُعدًا عفويًّا مجنّحًا في عالم الإبداع! .. مع العلم أنّ الفراشات لا يمكن أن تستريح على أجنحةِ البرق، ولكن طالما ارتأى الشَّاعر أن يقول ذلك، فما علينا إلا أن نسمعَ إليه، دونما أن نناقشه في كيفيّة بناء هذه الصُّورة الغرائبيّة؛ لئلا نجرح أحاسيس (فراشات) الشَّاعر؛ لأنّه كما أنَّ للشاعر حساسيّة أدبيّة من نوعٍ خاصّ، كذلك لفراشاته استراحات من نوعٍ خاصّ!

ولو أمعنّا النَّظر في هذه الصُّور المدهشة، نرى في ثنايا تجلِّياتها وكأنَّها لوحات فنّية؛ حيث نراهُ يفرش سورياليته ورمزياته وصوره المدهشة في خمائل القصيدة، فتأتي القصيدة معتّقة بنكهة الحياة وكأنّها خلاصة تجربة فنّان عشق الحرّية، واللَّون، والحرف، والسَّماء المستوطنة فوق مهجة السموِّ والارتقاء، كل هذا ينثره الأب يوسف سعيد ببراعة فائقة من خلال براعم مستنبتة من وهج الكلمة!

وبالرُّغم من أنَّ الشَّاعر أبٌ روحي، كاهن عمل طوال حياته في سلكِ الكهنوت، فمع هذا نرى بين ثنايا قصيدته حضورًا قويًّا للمرأة، مؤكِّدًا عبر نصِّه على أهميّة المرأة في حياة الإنسان من جهة، وإلى حاجة الإنسان للمرأة عبر كلِّ العصور من جهةٍ أخرى، وقد طرحها عبر تساؤلات:

“هل ستأتي امرأة الحيّ إلى ديارنا؟ وهل في سلّةِ أحلامها عناقيد من عنبٍ أو تفّاحٍ أخضر؟

هل سترقصُ قربَ سريرٍ من الجوز؟” ..

مركِّزًا على المرأة كمرأة وعلى المرأة كعمل، كما أنّه يشطح نحو عوالم البهجة الَّذي تقدِّمه المرأة من خلال الرّقص وما يرافقه من فرحٍ غامر، حيث يراه حاجة كيانيّة حياتيّة وارفة.

وللشاعر موقف جليل تجاه الشُّعراء ويعتبرهم حكماء هذا العالم، قائلًا:

“.. أيُّها الشُّعراء، أنتم حكماء العالم”.. “مَنْ يقتلُ شعراءنا؛ يحذفُ مليون حكمة من دفاتر الشَّرائع” ..

ويعتبر الشَّاعر أنّ الشِّعر هو بمثابة روح الحياة التي تدبُّ فينا، حيث يشبِّه العالم بإنسان، وهذا الإنسان (أعصابه من دماء الشِّعر)، وهكذا، فإنَّ حبَّ الأب يوسف سعيد للشعر والشُّعراء، جعله يضع الشَّاعر في مصافّ الحكماء والمشرِّعين، واعتبر الشِّعر عصب الحياة في هذا العالم:

“أعلنها صراحةً: هذا العالم أعصابه من دماء الشِّعر” ..

ونستشفّ من هذه الأمثلة أنَّ الشَّاعر لديه موقف تجاه نفسه كشاعر واتجاه الحياة كوجود، وموقفه تجاه نفسه هو أن يكون حكيمًا يحمل بين جناحيه رحيق الشَّريعة والحكمة ليقدِّمها للحياة والوجود، وكأنَّ لدى الشَّاعر نزوعًا ورغبة داخليّة في أعماق كينونته للالتحام في الحياة، في هذا العالم الّذي عاش فيه.

حملت قصيدة الطُّفولة بين ثناياها هموم الغربة وهموم الحياة، وهذه الهموم هي اِمتدادات لعذابات الطُّفولة وتشرُّدها؛ فقد عاشَ الشَّاعر طفولةً قاسية، ذاق خلالها مرارات التَّشرُّدِ والفقر، لكنّه مع كلّ هذا حافظ على نقاوته منذ الطُّفولة؛ حيث يقول:

“لا شيء في حياة هذه الطُّفولة، سوى ممارسة التَّشرُّد، ماشيًا بلا زوجين من الأحذية، ومن فرط الانشقاقات في قميصي، الشَّمس تغزو جسدي ..” ..

إلا أنَّ الشَّاعر (الطِّفل) ما كان يهتمُّ بمسألة الفقر، وما كانت الانشقاقات في قميصه تشكِّلُ له مشكلةً حتّى ولو غزَت الشَّمس جسده .. لقد كان يوسف سعيد (الطِّفل) كما يرسمه الشَّاعر، يحلم برائحة الكباب والطّرشي المطجن، ولكنَّه كان أكثر سعادةً منهم (أي من الأغنياء)؛ لأنّه كان يستمدُّ سعادته من حرّيته وتجواله في غابات المدينة ويصوِّر لنا الشَّاعر هذه المواقف بوضوح في قصيدته؛ حيث يقول:

“الموصل العذراء تعرف جيّدًا كم كنتُ أعاني الفقر. مرارًا مارستُ طقوسه في سبوتي اليتيمة، أمخرُ في عباب مياهِ الكنائس، ومع هذا كنت أحلم برائحة الكباب والطّرشي المطجن، لكنّني في تشرُّدي كنتُ أكثر سعادةً منهم، كنـتُ حرًّا في الظَّهيرة المحرقة، أسوح في غابات المدينة” ..

إنَّ يوسف سعيد (الطّفل)، يحمل خصائص يوسف سعيد الشَّاعر، ويبدو من خلال تصوير الشَّاعر لطفولته، أنّه كان ينـزع نزوعًا عميقًا نحو الحرّية وهو طفل، وكان يحبُّ السُّموّ فوق المادّيات، مفضِّلًا مشاهدة الطُّيور في الحديقة عن لذائذ الطَّعام، وكلّ هذا يشير إلى أنّ نفسيّة يوسف سعيد (الطّفل) كانت راقية وسامية بالرَّغم من الفقر الذّي كان يعانيه، وهذه إحدى الدَّلالات الّتي تشير إلى أنَّ الشَّاعر ما كان يهتم بمادّيات الحياة منذ نعومة أظفاره، مفضِّلًا التَّمتُّع بمشاهدة الطُّيور عن لذائذ الطَّعام، وتبدو لنا مواقفه مجسّدة من خلال المقطع التَّالي:

“.. ربّما تلك القيلولة عادة مكتسبة في الظَّهيرة، تناول الأغنياء غذاءهم الدَّسم من مقاصفهم. أغزو موائدهم ببراثن جوعي، أحيانًا أنظر خلسةً، آكلُ سريعًا من مقاصفهم، أتناول فتاتهم فقط، ثمَّ أهرع إلى برّيَّة المدينة، راكضًا وملاحقًا أسراب القبّرات وأعودُ أدراجي، وقد نسيتُ لذائذ تلك المناسف، مراقبًا الطُّيور في الحديقة الوحيدة ..” ..

إنَّ تفضيل يوسف سعيد (الطّفل)، مراقبة الطُّيور على لذائذ الطَّعام، ينمّ عن وجود خصوصيّة مزاجيّة تقترب إلى عالم فضاءات الشِّعر والحرّية منذ أن كان طفلًا. ولو اهتمَّ منذ الطُّفولة بالمادّيات؛ لأصبحت هذه الاهتمامات في مقتبل الأيام على حساب حساسيته الشِّعريّة، ولكنّه لم ينجرف إلى عالم المادّيات رغم قساوة طفولته، لهذا حافظ على نقاوة ذاته الشِّعريّة، ويبدو لي أنّ يوسف سعيد (الطّفل)، كان في داخله شاعرًا، وذلك من خلال سلوكه وتوقه إلى عالم الطُّيور والبراري الفسيحة، تاركًا خلفه لذائذ الطَّعام ومادّيات الحياة، مركِّزًا ومستمتعًا بمباهج الطَّبيعة. وعندما شبَّ الشَّاعر عن الطَّوق، وبدأ يمارس رسالته الكهنوتيّة، نراه يمارس (نزوعه الطُّفولي النَّقيّ)، حيث لم يجده أحد طوال عمله في رسالته الكهنوتيّة الّتي امتدّت أكثر من نصف قرن، أن قَبِلَ عرضًا ماليًّا خلال قيامه بأعمال أكاليل الزّفاف، والعماد ومراسيم التَّأبين والدَّفن، على عكس رجالات الدِّين الآخرين، الّذين ما كانوا يتوانون دقيقة واحدة عن استلام الهبات الّتي كانت تُقدَّم إليهم، بل غالبًا ما كانوا يبدون امتعاضهم لو كانت الهبة المقدّمة إليهم قليلة، لا يضعون بالاعتبار فقر الآخرين أو ظروفهم القاسية، لهذا نرى أنّ الأب يوسف سعيد حالة استثنائيَّة نادرة في عالم اليوم، حيث تحوَّلت العلاقات إلى عالم مادّي بغيض، إلا أنَّ الأب الشَّاعر كان بمنأى عن هذا العالم، ترك لذائذ الطَّعام منذ الطُّفولة، واتّخذَ من القلم رايةً له، غير مبالٍ بمادّيات هذا العالم على الإطلاق!

فهل نجح في حمل القلم؟

نعم، نجحَ إلى حدٍّ بعيد!.. حيث لم ينقطع الأب يوسف سعيد عن الكتابة منذ أن مارسها حتَّى نهايات العمر؛ لأنَّه وجدَ في الكتابة متعةً لا تضاهيها متعة على الإطلاق، وكلَّما كتب نصًّا جديدًا، اتّصل بأصدقائه الشُّعراء وقرأ لهم نصّه عبر الهاتف بفرحٍ عميق كأنَّه عثر على درَّةٍ ثمينة، كلّ هذا يدلّ بوضوح على نجاحه واستمتاعه بحمْلِ القلم.

 ستوكهولم: (2012).

 

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نبات‏‏

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏٢‏ شخصان‏، ‏‏بما في ذلك ‏‎Sabri Yousef‎‏‏، ‏‏بدلة‏‏‏‏

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اسم المؤلِّف: صبري يوسف.

عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.- الجزءالأوَّل.- مقالات نصوص أدبيَّة.- الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).

الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).- تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.- صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.- حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.

دار نشـر صبري يوسف – [email protected]

Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نبات‏‏

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*يليه بالنشر مجموعة الجزء الثاني :

 

نتابع تجليات خيال المبدع #صبري _يوسف ..حول الدكتورة الشَّاعرة والأديبة #أسماء_ غريب.. المشبَّعة بإشراقةِ وهجِ الرُّوح.. – من كتاب تجليات الخيال – الجزء الأول – الشخصية الثانية – المؤلف :صبري يوسف Sabri Yousef..أديب وفنان تشكيلي سوري مقيم في السويد ..

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏

 

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏نبات‏ و‏منظر داخلي‏‏‏

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏نبات‏ و‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏‏

لا يتوفر وصف للصورة.

الشَّاعرة والأديبة أسماء غريب مشبَّعة بإشراقةِ وهجِ الرُّوح

 د. أسماء غريب

(2)

 كتاباتُ الشَّاعرة والأديبة الخلَّاقة أسماء غريب، حرفٌ مندلقٌ من خاصرةِ نيزكٍ، مشبَّعٌ بإشراقةِ وهجِ الرُّوح، حرفٌ يستنهضُ أحلامًا غافية بين وهادِ النِّسيان، منتشِلًا إيَّاها نحو ظلالِ القصيدة البكر. تكتبُ نصَّها من وحي تراكمات مشارب ثقافيّة فكريّة أدبيّة حياتيّة غزيرة، كأنَّها في رحلةِ استكشافٍ حلميّة لاستشرافِ أنقى ما في تجاعيد الذَّاكرة، وتجسيدها في رحابِ خيالٍ فسيح متعانق مع تهاطلاتِ إشراقة الحرف على مرامي أسرارِ اللَّيل. حرفُها منبعث من طينِ المحبَّة، من مذاقِ قُبْلةِ الشَّمسِ لنسيمِ الصَّباح، من وهجِ عشقٍ معرَّشٍ في أدغالِ البساتين، من هدوءِ اللَّيلِ الهائم في عناقِ بهجةِ اندهاشِ القصائد!

تتدفَّقُ بانسيابيّة شفيفة بأفكارٍ ورؤى مجنّحة بأجنحةٍ مماثلة لطيورِ الجنَّة، تتناثرُ رؤاها على مسارِ بهاءِ الشِّعرِ، كأنّ عوالمها محبوكة بنغماتِ موسيقى متماهية مع تراقصاتِ خيالٍ متدفِّقٍ على إيقاعِ شلّالٍ منسابٍ مع شهقةِ الفرح. تداعبُ عرشَ الحروفِ، وتغوصُ في أعماقِ دهشةِ الاشتعالِ، ثمّ ترسمُ بانتعاشٍ عارم رغبات مكتنزة في ظلالِ الرُّوحِ منذُ أمدٍ بعيد. حرفُها مخضَّبٌ بأشجارِ الحنين، وينسابُ خيالها بين شغافِ الحروفِ كرذاذاتِ مطرٍ ناعم، فتولدُ انبعاثات وميض البوح من أعماقِ أحلامٍ متوارية في متاهاتِ الزّمن، فتنسجُ ألقًا شعريًّا متجدِّدًا فوقَ سموِّ الاِبتهال.

كيفَ تلملمُ هذه الدَّهشة فوقَ هلالاتِ الحروفِ؟ هل تشكَّلت مزاميرها من حليب السَّنابل، أم تبرعمت من مساحاتِ الخيال عبر انبلاجِ خيوطِ الشَّوقِ إلى هالاتِ قداسةِ الكلمة منذُ أن انبثقت من قبَّةِ السّماءِ فوقَ سديمِ البحارِ، وانسابت مسترخيةً فوقَ ينابيع منارةِ الرّوح؟! كيفَ تموسقُ منارةَ البوح معَ تيجانِ القصيدة، في أتونِ انشراخاتِ هذا الزَّمان؟! زمنٌ تائهٌ في مهبِّ الانحدارِ، تنجو القصيدة من شفير الانزلاقِ في شراهاتِ العبورِ في فخاخِ الشُّرورِ، وحدَها القصيدة تناغي أبهى ما في ثمارِ الرّوح.

أسمعُ هدهداتِ اليمامِ في حنايا حرفِها، تبتهلُ لحنينِ السّماءِ وتغدقُ أطيبَ الثِّمارِ فوقَ طراوةِ الأرضِ، تمتازُ بذاكرةٍ مشبوبةٍ بالصَّفاءِ كأنّها مصطفية من عذوبةِ البحرِ، فأرى شاعرة مشرئبّة برحيقِ حرفٍ مزدانٍ بأنوارِ شموعٍ حالمة بالضِّياء، شاعرة مفعمة بشذى بخورِ القناديل، تنثرُ بهاءَ القصيدِ على مساحاتِ حلمٍ مجدولٍ من ينابيعِ الرُّوحِ المبلَّلة بحبقِ الحياةِ. هل تستمدُّ بوحَها من إشراقةِ الشّمسِ على إيقاعِ رفرفاتِ أجنحةِ العصافير في صباحٍ مندَّى بهبوبِ النَّسيمِ، أم من تراقصاتِ موجاتِ البحرِ، أو من بسمةِ الأطفالِ وهم يغفونَ فوقَ أبهى مآقي الزُّهورِ؟!

نصُّها يشبه طفلة مسكونة بعصافير النَّعيم، كأنّه متجذِّرٌ بأشجارٍ باسقة مخضلَّة بشهوةِ الاخضرار، وشامخة شموخَ جبالٍ مسروجة بحنينِ البحارِ. يبدو نصُّها في بعضِ تجلِّياته كأنّه طنين نحلة تحومُ حول بهاءِ فراشاتٍ مسترخية فوقَ بتلاتِ زهرةٍ مكسوَّة بزغبِ القصيدِ. تلتقطُ صورًا هاربة من واحاتِ الخيال، مندهشة من قدرةِ الحرفِ على عبورِ أهازيجِ الرُّؤى المتناثرة فوق تيجانِ العمرِ. تموجُ حروفُها في ثنايا البوحِ فرحًا متماهيًا معَ بهجةِ الطّبيعةِ، وتهمسُ لروحِها بكلِّ انتعاشٍ، نِعمةُ النِّعَمِ أن نعانقَ روعةَ الغاباتِ، ونتمتّعَ بجمالِ الكونِ، ونستوحي عبيرَ الحرفِ من خميرةِ الحياةِ.

عندما أقرَؤُها؛ أشعرُ وكأنَّ طاقة فرحٍ تغمر صباحي، تنعشُ ليلي الغافي على وشوشات البحر. شِعرُها مصحوبٌ بتغريدِ الأملِ، مزدانٌ بتلاوين سموِّ الرّوحِ، وحرفُها رسالةٌ ممهورةٌ بحفاوةِ العشقِ. هل تستلهمُ حرفَها من بخورِ الوفاء، من نورِ القداساتِ، من ابتهالاتِ شموخِ القلبِ؟! هل تكتبُ القصيدة من وحي تجلِّياتِ الرّوحِ وهي تحلِّقُ بين هلالاتِ زرقةِ السّماءِ، أم أنَّها تستلهمُ حرفَها من تلألؤاتِ النُّجوم الغافية بين منعرجاتِ أحلامِ الطُّفولة؟! .. طموحُها جانحٌ نحوَ الأعالي، مسربلٌ بهلالاتِ غيمة تهطلُ بهاءً فوقَ قبابِ سديمِ الرّوحِ؛ بحثًا عن نورانيّة قداسةِ الحرفِ، كأنَّها شاعرة مجبولة بأسرارِ الطّينِ الأوَّل، جانحة نحوَ خصوبةِ الرّوحِ المخضلَّة بيراعِ الاخضرارِ، تنقشُ هواجس الحنين فوقَ نضارةِ مويجات البحر، مستلهمةً من شهوةِ الغابات، مساراتِ العبورِ إلى مذاقِ الحروفِ ودهشةِ الانبهارِ. تسرجُ حفاوةَ الحرفِ من نكهةِ التّينِ المتدلّى فوقَ عناقيدِ العنبِ، بحثًا عن مساحاتِ بوحٍ شعري متآلف مع آفاقِ الخيالِ، ورغبةً في العبورِ في مرامي أحلامِها المجدولة بأريجِ أبهى الأزاهير.

تستنهضُ مخيّلتها طاقاتٍ دفينة، تستعيدُها من الأغوارِ السَّحيقة، وتفرشها فوقَ أوجاعِ الأمّهاتِ الهاربات من ضجرِ اللَّيلِ الطَّويل. تبلسمُ حروفُها الجراحَ النّازفة من شراهةِ نيرانِ الحروبِ المندلقة من رؤى بليدة، غارقة في الانشراخ. تمتلكُ وئامًا بهيًّا معَ قلقِ الرُّوحِ، وتزرعُ حرفَها فوقَ قلوبٍ عطشى للمطر، يتهادى حرفها مثلَ نوارسِ البحرِ فوقَ رشقةِ الأمواجِ، راسمًا فوقَ أجنحةِ النَّوارسِ صفاءَ البحرِ وشوقَ القصيدة إلى أشجارِ البيتِ العتيق، تطفحُ عيناها ألقًا إلى كتابةِ نصٍّ من خصوباتِ دهشةِ الانبهار! ..

حرفُها مكتنزٌ بثمارٍ شهيّة، تتهاطلُ رفرفاتُه من أجنحةِ قلبٍ معرَّشٍ بنسغِ المحبّة، فتنقشعُ خلال انبعاثات شهوة الحرفِ، كلّ الأحزانِ والمراراتِ العالقة في سراديبِ الرُّوح، وتصفو الرُّوح من الشَّوائب العالقة في هلالاتها على مدى هبوب الغبارِ على وجه الدُّنيا. تسمو روحُها الشَّفيفة عاليةً متطهّرة من أدرانِ الحياةِ؛ شوقًا إلى معانقة سموِّ السَّماءِ في ليلةٍ مكلَّلةٍ بأغصانِ الزَّيتونِ على خفقةِ رفرفاتِ حمائم السَّلام، محلِّقةً فوقَ مآقي المدائن، قاصدةً ملاذ الرّوح في عرشِ الأزل؛ كي تنعمَ في مروجِ النَّعيمِ على مدى بهجاتِ الانبعاث، وتهفو إلى عناقِ حرفٍ مصفّى كالماءِ الزُّلال! .. بهجةٌ غامرة تسربلُني كلّما توغَّلتُ في تجاويفِ الخيال المنساب من حبورِ بوحِها المنبلج من لجينِ الأفكارِ المنسوجةِ من شراعِ الأفراحِ المرفرفةِ فوقَ مآقي الحنينِ إلى شموخِ تيجانِ المدائن.

أُلامسُ زغبَ حرفِها، فيبدو في الكثير من وهادِهِ، كأنّه مجبول من رعشةِ طيرٍ يلهو معَ نسائم الصَّباح، يمنحنُي حرفُها أجنحةً وارفة بألقِ السُّموِّ، فأشعرُ أنّي أحلِّقُ عاليًا وأداعبُ ضياءَ القمر. تضيءُ القصيدةُ معالمَ الطَّريقِ، وتخفِّفُ من سماكاتِ السَّديمِ فوقَ أحداقِ العيونِ.

لا تكتبُ أسماء غريب القصيدةَ كلمةً كلمةً، تغمرُها الرُّؤى كشلَّالِ فرحٍ منبعثٍ من إشراقةِ الشّمسِ، وتسربلُها حتَّى الامتلاء خلال توهُّجات شهقة العبور في حنايا تجلِّيات خصوبة الإبداع!

أسماء غريب قامة أدبيّة باسقة، شاعرة مخضلَّة بتوهّجاتِ حرفٍ مكوَّرٍ بألقِ الانبهار، مشبّعة بينابيع شعريّة صافية كنسيمِ اللَّيلِ العليلِ. تسعى منذ أن غاصت في أسرارِ الحرفِ أن تغدقَ ألقَ الانبعاث نحوَ أقصى مساراتِ وهجِ الاشتعال؛ كي تطهِّرَ الرّوحَ من شوائبِ الحياة، عبرَ ابتهالاتِ بوحِ القصيدة.

كلَّما عبرتُ معالمَ حرفها؛ رأيته مبلَّلًا بأعشابِ الطُّفولة؛ لما فيه من أصالةٍ مترعرعةٍ في أنساغِ حنينها إلى البيوت العتيقة العالقة في أخاديدِ الذَّاكرة، متوجِّهةً نحو التِّلالِ البعيدة، بحثًا عن أسرابِ الحمامِ؛ كي تنسجَ قصيدتها على أنغامِ هديلها الطَّافح بالوئامِ بين شهيقِ الكائنات.

شاعرة منشرحة القلب، تسمو عاليًا على إيقاعِ خيالٍ جانحٍ نحو قِبابِ الوئامِ، تهفو أن تزرعَ هدهدات بهجة الرّوح في لجينِ السَّديمِ المتناثرِ فوقَ مآقي الغمام. تنسجُ أحلامَها الوارفة فوقَ جبينِ الصَّباح، مسترسلة في حفاوةِ عناقٍ متدفِّقٍ مع حبّاتِ المطرِ، راسمة بسمة الحرف بطراوةٍ منعشةٍ فوقَ مسارِ تجلِّياتِ الخيال، مستلهمةً من وهجِ الشَّمسِ جموحَ شهوةِ الانبعاث!

الشّاعرة أسماء غريب، حالة شعريّة نقديّة ثقافيّة فريدة في تمايزها في بناءِ رحابةِ شعرها وقصصها وحوارها، وانفراجِ مسارات نقدها، ودقّة غوصها في معالم النُّصوص الَّتي تعكفُ على ترجماتها؛ حيث تتوغَّل في فضاءاتِ الشَّاعر والأديب وتقرأ بشغفٍ عميق مسارات شاهقة من تجربته، وكأنّها إزاء بحثٍ تحليلي عميق عن أسرارِ بهاء الحرفِ، إلى أن تبني صورة عميقة عن إبداع الشّاعر والأديب الَّذي تنوي ترجمة نصوصه، ثمَّ تبدأ بترجمة قصائد الشّاعر، فيسهل عليها العبور عميقًا في الظِّلال الخفيّة للشاعر، ولهذا عندما أقرأُ نصوصها الَّتي ترجمتْها شعرًا أو نثرًا، تبدو لي وكأنّني أقرأ نصًّا أصيلًا وليس مترجَمًا؛ فهي تمتلكُ مهارات وتقنيات نقل الوهج الشِّعري والألق الأدبي عبر الصُّورة المماثلة للغة المنقولة إليها بهاءات النُّصوص المترجَمة، وكلّ هذه الرُّؤى السَّديدة، أسهمت في تعميق تجلِّيات آفاقها الشِّعريّة والأديبة وترجماتها عندما تسبغ فوق حرفها خيوطَ تجلِّيات وهج الانبعاث!

 

ستوكهولم: (2016) صياغةأولى.

            (2018) صياغة أخيرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صبري يوسف Sabri Yousef

*أديب وفنان تشكيلي سوري

اسم المؤلِّف: صبري يوسف.

عنوان الكتاب: تجلِّيات الخيال.

الجزءالأوَّل.

مقالات نصوص أدبيَّة.

الطَّبعة الأولى: ستو كهو لم (2020م).

الإخراج،التَّنضيد الإلكتروني،والتَّخطيطات الدَّاخليّة : (المؤلِّف).

تصميم الغلاف:الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو.

صور الغلاف:للأديب التَّشكيلي صبري يوسف.

حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف.

دار نشـر صبري يوسف

[email protected]

Sabri Yousef – (محررمجلةالسلام)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يليه بالنشر مجموعة القسم الثاني بعد أول مجموعة:

 

حوار مع الذّات.. ألف سؤال وسؤال..الجزء الأول – السؤال من 1- 10 – للفنان والأديب السوري#صبري_ يوسف Sabri YOUSEF ..

 

اسم المؤلِّف: صبري يوسف

عنوان الكتاب:حوار مع الذّات، ألف سؤال وسؤال

الجزء الأوَّل – حوار

الطَّبعة الأولى: ستوكهولم 2017

الإخراج، التَّنضيد الإلكتروني، والتَّخطيطات الدَّاخليّة (المؤلِّف)

تصميم الغلاف الفنّان التّشكيلي الصَّديق جان استيفو

صور الغلاف للأديب التَّشكيلي صبري يوسف

 حقوق الطَّبع والنَّشر محفوظة للمؤلِّف

 دار نشـر صبري يوسف

[email protected]

الإهداء

أهدي هذا الحوار الموسوعي:

“حوار مع الذّات، ألفُ سؤال وسؤال”،

إلى كلِّ إنسانٍ يسعى إلى تحقيق

السَّلام والوئام بين البشر

في كلِّ بقاعِ الدُّنيا

 

مقدّمة

 

أحاور ذاتي بذاتي؛ لأنَّني لن أجد محاوراً على وجه الدُّنيا ممكن أن يفهم ذاتي مثلما أفهمها، ولا يستطيع أيُّ صحافي في الكون أن يضع أسئلة تغوص في عوالمي العميقة الّتي ممكن أن أقدّمها أنا نحو ذاتي؛ لهذا قرّرتُ – وأنا أعبر عتبات السّتين – أن أحاور ذاتي ألفَ سؤالٍ وسؤالاً، ألخِّصُ عبر تساؤلاتي آرائي وتطلُّعاتي وآفاقي في الحياة، ما دام لم ولن أجد من يحاورني بهذا الإيقاع، ولا من يحاور بهذه الطَّريقة الشَّاملة الشَّفيفة العميقة الرَّهيفة، ولا يمكن أن تخطرَ على بال أيِّ صحافي أو محاور؛ لهذا وجدتُ نفسي مندفعاً لهذا الحوار بكلِّ تفاصيله، الَّذي سيكون خلاصة فهمي لنفسي أولاً، وللحياة ثانياً، ولأدبي وفكري وفنِّي ثالثاً وأخيراً، ويبدو لي أنّنا نحنُ البشر لا نفهم أغلب الأحيان ذواتنا، كما لا نفهم ذوات الآخرين في الكثير من الأحيان؛ لأنّنا غامضون عن أنفسنا؛ وبالتَّالي سنكون غامضين عن الآخرين أيضاً.

من هذا المنطلق أودُّ أن أغوصَ عميقاً في حيثياتِ حواري مع الذّاتِ؛ ذاتي، وأحاولُ كشْفَ المستورِ إلى أقصى الحدود، خاصّةً ما يتعلَّقُ بالحياةَ، والكونِ، والطُّموحِ، والآمالِ، والأحلامِ، والأهدافِ، والإبداعِ، والحبِّ، والطُّفولةِ، واليفاعةِ والشَّبابِ، ورحلتي الفسيحة في الحياة، تاركاً نفسي تحلِّق في أقصى ما يمكنُ أن يُقالَ؛ كي تكونَ مكنوناتي عبرةً لغيري على مرِّ الزّمان؛ لأنَّ البشرَ عبارة عن آمال وأهداف وطموحات متماثلة في الكثيرِ منها مع البشر، لكن الكثير من هذه الآمال تنمو في دواخلنا، تكبرُ وتكبرُ وتبقى حبيسةً في داخلنا، نرحلُ عن الحياةِ وتبقى غارقة في دواخلنا، فلماذا لا نكشفها قبل أن نرحل، ونعرضها للأجيال؛ كلِّ الأجيال القادمة عبر كلّ العصور؟!

صبري يوسف

 حوار مع الذَّات

ألف سؤال وسؤال

الجزء الأوَّل

 

  1. وُلِدْتَ على يد “دادي زومي”، ماذا تعني لك الدّاية دادي زومي الّتي وُلِدَ على يديها مئات الأطفال؟

تعني لي دادي زومي تاريخاًطويلاً من حبورِ الطُّفولة، تعني لي الولادة الأمينة بين يدينِ مباركتَين، مزدانتَين بأبهى أنواعِ العطاء، مسروجتَين بعناقيد الفرح، مشبّعتَين بينابيع الأمومة، ومتدفِّقتَين بدفءِ الحياة وإنسانيّة الإنسان. زرعَتْ دادي زومي في قلبي غابة من الذّكريات الطَّافحة ببهجة عارمة على مساحات الطُّفولة واليفاعة والشَّباب، تعني لي بسمة مبهجة للروح والقلب؛ لأنّها سرْبلَت حياتي بأزاهير المحبّة والهدوء فمنحتني سلسلة متعاقبة من العطاءات الخلّاقة والنّجاحات الموصولة على مدى رحابة الحياة!

دادي زومي تعني لي الحياة برمَّتها، فقد أعطت للحياة أبهى معانيها، وَوُلِدَ على يديها المباركتَين مئات مئات الأطفال.

كم من اللَّيالي والصّباحات والمساءات المعتمة كانت توجّه أنظارها نحو مخاض الأمّهات، وتولّد الأطفال على إيقاع زخّات المطر، كي تمنحَ الأطفال بركة السَّماء، كم من المرّات ركبتْ فوق ظهورِ البغال في “أنصاص”: اللَّيالي، موجِّهة أنظارها نحو القرى البعيدة الَّتي لا تصلها سيارات ذلك الزَّمان، بسبب تراكم أكوام الطِّين في الطُّرقات الطِّينيّة، فكانت تعبر الطّريق على ظهور البغال تارة، وعلى رفاريف التراكتورات في أيّام الرّبيع، كي تستقبل شهقات الأطفال وهم في أوج الحنين إلى نور الحياة، فتزرع البسمة على وجوه الأمّهات والآباء.

دادي زومي أسطورة امرأة شامخة في كرم العطاء، حيث قدّمت على مدى سنوات عمرها أجمل ما يمكن أن يقدّمه إنسان في الحياة! .. ستبقى دادي زومي حلماً جميلاً متلألئاً في ذاكرتي على مدى انبعاث الحرف عبر مسارات انبلاجِ أشهى إشراقات بوح الذَاكرة عبر انبعاث تجلّيات الخيال!

  1. مَنْ أطلق عليك اسم صبري، ماذا يعني لك هذا الاسم، وهل استمدّيتَ منه الصَّبر في رحلةِ الحياة؟

والدي أطلق عليّ هذا الاسم، ربّما عرف بحسِّه الأبوي الفطريّ أن هذا الوليد سيواجه صعوباتٍ وهموماً ومشاكلَ ومتاهاتٍ وبحثاً متواصلاً عن أعماقِ جوهر الحياة، ويتطلَّب من وليده أن يكون لديه صبرٌ فسيحٌ، بحيث يناغي صبر أيوب في بعض محطَّات الحياة، لهذا أطلق عليّ هذا الاسم الّذي استمدّيتُ منه كل معاني الصَّبر بكلِّ هدوء وفرح واطمئنان، ولولا اسمي لفقدتُ الصّبر والانتظار بآلاف المواقف والانكسارات والتّشظِّيات الَّتي مرَرْتُ فيها عبر مراحل عمري؛ ولهذا أعتبر أنّ والدي ورّثني ما لا يورّثه لبقيّة إخوتي وأخواتي، فقد انتشلي من الكثير من المآزق والهزائم والمعارك الحياتيّة، من خلال الصَّبر الَّذي كنتُ وماأزال أتحلَّى به؛ لأنّني في كلّ مرّة كنتُ أمرُّ في حالة صعبة، وصعبة للغاية، سرعان ما كنتُ أعدُّ للمئة والألف، ثمَّ أعودُ وأعدُّ من جديد؛ كي أنطلق من الصِّفر؛ كي أخوض أصعب المواقف حرجاً، وأحقِّق بناء الذَّات ذاتي من جديد، حيث سبق وقلت في سياق شعري في منعطفات غربتي ما يلي:

دائماً كنتُ أنطلق من الصِّفر

هذه المرّة سأنطلقُ

من تحتِ الصّفر!

وقد كتبتُ هذا المقطع الشِّعري مدخلاً لديوان يتضمّن مئة مقطع شعري ومقطعَين، ترجمت هذه المقاطع إلى اللُّغة السُّويديّة، وحمل الدِّيوان عنوان: “روحي شراع مسافر”، وسلْسَلْتُ ترقيمه على الشَّكل التَّالي:

ناقص واحد ـــ 1

صفر 0

1

2

3 . إلخ

وهكذا، معتبراً أنَّ الخطوة الأولى في دنيا الاغتراب لا تبدأ من الصّفر أو الواحد، بل من تحتِ الصّفر في بعضِ الأحيان، وربمّا أحتاج لبعض الوقت أو لكثير من الوقت؛ كي أصل إلى مرحلة الصّفر؛ لأنّه كما يُقال بالكرديّة: “عَرْد هِشْك وعوظمان بلندْ” أي “الأرض يابسة والسَّماء عالية”، بمعنى لا حول ولا قوّة؛ لأنَّ اللّغة جديدة، والثَّقافة جديدة، وكل ما يتراءى من حولي عالم جديد، فلا بدَّ أن أنطلق من تحت الصّفر بكثير؛ كي أؤسِّس لمرحلة البحث القويم وأنا أضع الخطوة الأولى بعد أن أجتاز مرحلة التَّوهان لأبدأ من الصّفر بثقة وأساس متين، وهذا ما تحقَّق فعلاً في مسار الكتابة من جهة، ومسار توازني مع متاهات الغربة، إلى أن وصلتُ إلى مرحلة الانسجام مع الأجواء الجديدة من أغلب النَّواحي، حتَّى شعرت في الكثير من الأحيان أنَّ الغربة أصبحت أليفة لدي، ولا أشعر بالغربة في سماء الغربة مثلما كنت أشعر بها في الكثير من المواقف الّتي كنت فيها في الوطن الأم أو في مسقط رأسي! وكلّ هذا يعود لفضل والدي عندما أطلق عليّ صبري ، فصبري طويل، أطول من أنشودة الحياة بآلاف صفحاتها؛ لأنّ كل تلك الصّفحات الشِّعريّة وغيرها من الصَّفحات السَّرديّة والحواريّة، انبعثَتْ من واحة الصَّبر الَّتي قمّطني بها والدي بسنابله المخضوضرة بأشهى أنواع العطاء!

  1. ماذا تعني لك الولادة، الشَّهقة الأولى، وسط باقات السَّنابل؟

تعني لي الفرح، الاخضرار، التَّجلِّي، التَّأمُّل، .. تعني لي كَرَمَاً باذخاً متهاطلاً عليَّ من السَّماء؛ لأنَّ الشَّهقة الأولى وأنا أترعرع وسط السَّنابل، جعلتني أن أشعر طوال عمري، وكأنّني سنبلة معطاءة تبرعمت في أحشاء أمِّي في ليلةٍ قمراء، من خلال حالة عشقيّة فريدة مع والدي الَّذي كان هو الآخر سنبلة شامخة على وجنة الزَّمن منذ أن تبرعمَ فوق تراب آزخ، فتنامت هذه السُّنبلة وسط اخضرار الحياة، وهكذا فإنّ الولادة الأولى بشهقتها الخيّرة المبلَّلة بألق السَّنابل، منحتني روحاً جامحة نحو نِعَمِ الحياة، تنمو بين مروج الكروم، وسهول القمح، ونسيم الصَّباحات النَّديّة، وسط أسرة فلَّاحيّة محبوكة بعبق الأرض وخصوبة الحياة والماء الزُّلال، فتعرَّش بين أجنحتي حرفٌ من نكهةِ الحنطة، ثمَّ تنامى حرفي معانقاً منعرجات العمر بكلِّ ضيائه وعتمته وتفرّعات سطوع شمسه واسترخاء ليله، إلى أن حلَّقَ عالياً بين أحضانِ زرقة السّماء، مستمدّاً من حفاوة الأرضِ وبهاء السَّماء مسار بوح القصائد، وحفاوة الكلمة من خلال ابتهال تجلّيات الخيال المندَّى بألق الدَّاليات وأزاهير الخطميّة وعبق النّرجس البرِّي، إلى أن غدا حرفي رسالة مبرعمة من وهج الأرضِ المنبعثة من شهوة السّماء المتناثرة فوق هفهفات بوح السَّنابل، هكذا تبدو لي الولادة، وهكذا بدأتُ الشَّهقة الأولى وأنا في غمرة ابتهاجي بين باقات السَّنابل!

  1. ما رأيك بحنان الأمومة، بالأم الّتي حملتكَ بين أحشائها تسعة شهور، ثمَّ أرضعتك من حنانها طويلاً؟

لا يضاهي حنان الأمومة أي حنان آخر على وجه الدّنيا، يروي عطشنا الأبدي للحبِّ للحياة لهدهدات الرّوح، يمنحنا طاقة ابتهاليّة عشقيّة فرحيّة اغتباطيّة مبهجة للقلب والحلم والنَّوم العميق، ولا يمكن لأيِّ حنان آخر أن يعوّض عن حنانِ الأمّهات. إنَّ أنهار حنان الأمومة هبة كبيرة تهاطلت علينا من لدن الآلهة، من لدن السّماء، من ينابيع المحبّة ؛ لأنَّ في بهاءِ حبورها تشدو أنغامِ الأعالي، وتبزغ في مروج الرُّوح وردة وارفة بعبق الحياة، وتزهو في مرافئ القلب تغاريد الطُّيور وأصفى أنغامِ الأغاني. يغمرنا حنان الأم  كاحتضان نبتة في أحشاء القداسة، الأم أيقونة مقدّسة، وهبتها لنا الآلهة منذ الأزل، الأم مبعثُ فرحِ الكائنات، ينبوعُ عطاءٍ مفتوح على شساعة الكون، يتهاطلُ خيراً علينا من مآقي السَّماء.

الأمومة صديقة البحار الدَّافئة، عطاءٌ مجنّح نحو أرخبيلاتِ النّعيم في صباحٍ مبلَّل بحبقِ الأرجوان. أمِّي حبقُ حرفي ولوني وشموخ كياني وألق مخيالي منذ أن تبرعمتُ بين أحشائها، ثمَّ وهبتني إلى ضياء الحياة، فتناثرتُ حروفاً متلألئة بألقِ الشّعرِ على وجهِ الدُّنيا، أناغي جمال الطَّبيعة وروعة الكائنات؛ كي أحقِّقَ ما كانت تطمحُ إليه بسمة أمِّي، لأنّني أراني شهقة رهيفة منبعثة من حنين أمّي عبر تجلِّياتِ حرفي الهائم في زرع بذور المحبّة والفرح والوئام بين البشر فوق مروجِ الدُّنيا!

5 ـ وُلِدْتَ في ديريك العتيقة، حارة دافئة بالمحبّة والتَّعاون، ماذا تتذكّر من الطُّفولة الأولى؟!

ديريك العتيقة مسقط رأسي، ومنبع فرحي وألقي وشوقي إلى زقزقات العصافير، حارة مجبولة بالطِّينِ الأوَّل، طين المحبّة المعجون بقهقهات براءة الطُّفولة، حيث الأصدقاء بين رحاب أزقّتها يلهون بألعاب الطُّفولة، أتذكّر من الطُّفولة الأولى ما يبهرُ الرّوح، ويبهج القلب، أحنُّ إلى فضاءات طفولتي بكلِّ ألوانها وبهائها وفرحها ومرحها وتعاساتها، حيث تبدو لي دموع الطُّفولة دُرَراً شفيفة منسابة فوق خدّي، طفولتي منبع إبداعي، لو حذفتُ معالم الطُّفولة من مخيَّلتي بكلِّمنعرجات تلاوينها، لما كتبتُ ورسمتُ وغصتُ عميقاً في مسارات بوح الإبداع، لهذا أراني مديناً لعوالم طفولتي وأزقَّتي وحارتي الَّتي ترعرعت فيها، ولولا الطُّفولة الأولى بكلِّ ذكرياتها الملوَّنة بألوان الحياة، لما جاءت كتاباتي معبَّقةً بنكهة الحنطة وهديل اليمام، فقد كان بيتنا العتيق مطرَّزاً بأجنحة الحمام، وهديلها كان يملأ صباحي ونهاري بهدهدات حنين الرّوح إلى نقاوةِ المطر، لهذا تولد كتاباتي متهاطلةً بغزارةٍ شفيفة كتهاطلِ براعم ذكريات الطّفولة فوق لجين الخيال!

” .. تعانقني طفولتي عبر حفاوةِ حرفي ولوني، مضمّخةً بأصفى شهقات الخيال وأشهى تجلِّيات بوح الرُّوح، فلا أجد أشهى من ولوجي في متاهات الذّاكرة البعيدة وأنا أغوص بكلِّ انتعاشٍ في مرافئ الطُّفولة، حيث كركرات الطُّفولة البكر تنفرشُ فوقَ أكوامِ الحنطة ونحن نركب النَّوارج مع أقراننا، طفولة محبوكة بأريج الحياة رغم شظف العيش الَّذي كان يلازمنا بين الحين والآخر، لكن براءة الطُّفولة كانت تسرج في يومنا فرحاً من أبسطِ الأشياء، حيث كنّا نتوه خلف الفراشات الجميلة، وكم كنت أفرح عندما أمسك فراشة مبهرة في جمالها الخلّاب، متمعِّناً في ألوانها ووبرها الرّهيف، كنت أبوسها من شدّة فرحي، ثمَّ أتركها تحلِّق في الهواء، وحالما كانت تطير بعيداً عن أنظاري، كنتُ أشعر بغصَّة ترافقني، فتنسابُ دمعتي شوقاً إلى بهائها الجميل، طفولتي معرّشة بأبهى مروج البراري، حيث المرح كان يقمّط قلوبنا، نلعبُ بين أحضان الطَّبيعة، نمسكُ الجراد الأخضر وفرس الأمير، وهي نوع من الجراد الجميل، تسير مثل الأمير، ونلمّي “شوقلّة العصفور وشوقلة الشّايك، والحَرشف والحِمْحِم”، ونقشّر “القيڤارات”، ونأكلها بلذّة عميقة كأنّها نبتة الحياة!

طفولتي هي حرفي المفتوح على فراديس النَّعيم!” ..

  1. 6. ديريك أيام ولادتك وطفولتك كانت بلدة بسيطة تعجُّ بالعطاءات بكلِّ عفويّة، ماذا تعني لك ديريك بكلِّ حفاوتها وعطائها وجغرافيّتها وأهلها؟

ديريك مدينة محفورة في الذَّاكرة، وغافية بين مروج الرُّوح، ومفروشة فوق شواطئ القلب، إنّها هديّة منبعثة من السّماء؛ لما فيها من خيرات وبركات وقداسة المكان، حيث الأديرة المقدَّسة الَّتي ظهرت فيها منذ مئات السّنين، ثمَّ انبعثت من جديد، وظهر فيها الكثير من العجائب، وتنامَتْ فيها العطاءات الخلَّاقة من شتّى أنواع الإبداع، والتَّحصيل العلمي والأدبي والفنِّي والمعرفي والموسيقي. ديريك حرفٌ مقدَّس لكلِّ الأجناس والأقوام الّذين عاشوا وما زالوا يعيشون فيها. إنّها مسقط رأسي وقلبي وروحي وبؤرة حنيني ووهج انبعاث حرفي بأقصى تجلِّيات الخيال، وستبقى هذه التَّجلِّيات منسابة على مدى الأيَّام والشُّهور والسِّنين.

تزورني ديريك مراراً في الحلم، وتعانقني عناقاً عميقاً، كما تتراءى لي في أحلام اليقظة، وتموج برهافة عميقة في أعماق بوحِ القصائد، وفي حنايا سردي ولوني وحنيني، أشبه ما تكون عاشقة مسروجة بحبورِ السَّنابل وعناقيد العنب في أوج عطاءاتها، وهي صديقة مبلَّلة بأرقى خيوطِ الحنين، لهذا أراني غائصاً في تفاصيل بهائها وعطائها وأزقّتها وكلّ ما يدور في محرابها، وأحنُّ بكلِّ اشتياقٍ إلى بيادرها ومواسم حصادها، فتنفرش أمامي سهول القمح وأكوام الحنطة وقوشات الجراجر وشالات التِّبن وأكياس الحنطة والعدس والخيرات الَّتي كانت تتهاطل علينا من كلِّ جانب، وتشمخ قامات الفلّاحين والعمّال واحداً واحداً، تتراءى أمامي حفلات الزّفاف، واحتفالات الأعياد فترتسم البسمة على وجوه الأطفال والكبار والآباء والأمّهات، تقمّطني براريها وكرومها وسهول قمحها بالغبطة والبهجة؛ فتمنحني طاقة رهيفة في تدفُّقات انبعاث الحرف، كأنّها ينبوع عميق الأغوار في انبعاث أشهى خيوط السَّرد وروعةِ الألوان وشموخ أبهى القصائد!

ديريك أسرة كبيرة متناغمة في الألفة والبسمة والتَّعاون والعطاءات المتبادلة، أنجبت آلاف الأزاهير ثمَّ غدوا شبّاناً ورجالاً ونساءً، وتبعثروا كحبّات القمح على وجه الدُّنيا، وأينما تلتقي بالأحبّة الَّذين أنجبتهم ديريك في سماء الغربة ومدائن العالم، ترَ دموع الفرح والحنين تطفح من مآقيهم، ويتعانقون بودادٍ عميق كأنَّ ديريك أمّهم الرّؤوم تجمعهم تحت أجنحتها كأسرة واحدة موزّعة بكلِّ خيراتها وعطاءاتها فوق ربوع الدُّنيا!

7 ـ ماذا تعني لك الطُّفولة، كيف تنظر إليها الآنبعد عقودٍ من الزَّمان؟

الطُّفولة كنوزٌ ثمينة تنعش مسارات العمر، ترافقني ببهجة غامرة عبر محطّات غربتي الفسيحة، لما اكتنز في عوالمها من ذكريات مخضوضرة بأبهى أنواعِ العطاء والفرح والبهجة والوئام.

ترتسم أمامي معالم الطُّفولة كشريط فيلم سينمائي محفور في مرامي الخيال بأصفى حبوره وتجلِّياته، فتمنحني ذكريات الماضي البعيد طاقات عميقة في التَّأمُّل، تكفي لاستلهام عشرات الكتب والرِّوايات والأقاصيص والقصائد والحوارات واللَّوحات الرَّهيفة، تبدو لي الطُّفولة كأنَّها حالة حلميّة مفتوحة على منائر الكون، لا أصدّق نفسي أنّني عشتُ تلك الأيَّام والشُّهور والسِّنين المفعمة بذكريات لا تنسى إلى الأبد، حيث ظلَّت معلّقة بكلِّ حميميّة بين مروج الرُّوح وشواطئ القلب. كم تنعشُ ذكريات الطُّفولة حاضري وحرفي ولوني وآفاقي المجنّحة نحوَ منارات بهجةِ الكتابة.

أنظرُ إليها بعد عقودٍ من الزّمان بحبورِ طفلٍ يلعب في أزقّة الطّفولة، كأنّني ما أزال طفلاً أطوف في محرابها ألعب مع أقراني، تشمخ أمامي مرابع الطُّفولة بكلِّ تفاصيلها وبهائها وصفائها، كأنّها ظلِّي المرافق لمحطّات عمري أينما حللْت ورحلْتُ، فأستلهمُ من أريجِ حبورها الكثير من تجلِّيات دُرَرِ الحرفِ وبهاءِ الألوانِ، وأجسّدها فوقَ نصاعةِ الورقِ وبياضِ قماش اللَّوحات.

الكتابة والطُّفولة صنوان متعانقان عبر خيوط الحنين، يرفرفُ حرفي فوق أغصانِ الطُّفولة المعرَّشة على مساحات كينونتي، فيبزغ من وهجِ الحرف مذاق ذاكرة منقوشة فوق منعرجاتِ الأيَّام الَّتي قضيناها في ربوع نسائم ديريك سنوات الطُّفولة، والَّتي ستظلُّ قلادة ساحرة متربِّعة فوق صدورنا، تغدق على مخيَّلتنا دندنات أعذب الأغاني، وتلهمنا بأقاصيص اللَّيالي القمراء، ونحن نناجي نُجيمات الصّباح وهي في أوج تلألؤاتها، كم من الذِّكريات والأفراح والدِّفء الحميم قضيناها هناك بين أحضان الأحبّة، حيث القهقهات تملأ قلوبنا فرحاً. يكبر الإنسان وتكبر معه الطّفولة، وتظلُّ ترافقه كأزاهير الغاردينيا كأنّها بلسم الحياة!

  1. 8. فتحتَ عينيكَ في غرفةٍ فسيحة من الحجر والطِّين وسقفٍ من الخشب، وحوشٍ كبير، وعائلة فلَّاحيّة بسيطة، ماذا تعلَّق في الذّاكرة من هذه العوالم الطُّفوليّة وما أثرها على الحرف والكتابة والإبداع؟

أجل فتحتُ عيني في غرفة دافئة، مبنيّة بوهج المحبّة، بناها والدي من الحجرِ والطّين، واشترى خشب السَّقف وعواميد الخشب الغليظة والمتينة من كنيسة السَّيدة العذراء، بعد أن عمَّروها بالإسمنت، وسقفوا سقفها بالإسمنت والحديد، وهكذا أصبح سقف الكنيسة سقف بيتنا في ديريك العتيقة، فتبارك بيتنا بسقف الكنيسة المبارك. ترعرعتُ في حوشٍ كبير، تلهو فوق سطحه الحمام الّتي كان يربِّيها والدي بشغفٍ كبير، كانت فراخ الحمام والحمام تهدل حولي، تلتقط حبّات الحنطة الَّتي ينثرها لها والدي بحبٍّ كبير، فأنظر إلى الحمام بفرحٍ وأنا طفل، وإذ بعصافير الدُّوري تحطُّ على الأرضِ،وتلتقط بمناقيرها الصَّغيرة حبَّات الحنطة، كانت الحمام والعصافير هائمة بالتقاط الحبّاتِ، وأنا أزدادُ حبوراً في مشاهدةِ بهاءِ الطُّيورِ.

أتذكّر مثل الغمام، فيما كنتُ غائصاً في عوالم الحمام، كم تمنَّيتُ في حينها لو كنتُ حمامةً؛ كي أطير عالياً في قبّة السَّماء، وظلَّت هذه الرّغبة تراودني بين حينٍ وآخر، إلى أن توَّجْتُ هذه الرّغبة عبر مخيَّلتي وحرفي، وحلَّقتُ في أجواء السَّماء، أجوب البحار والمحيطات، وأنسج ما يموج في خيالي وأحلامي من رغباتٍ ظلَّت كامنة في مخابئ الرُّوح منذ أن كنتُ طفلاً، وكأنّي حمامة بيضاء تبحث عن هديلِ السَّلام!

آهٍ .. مراراً جرفني الحنين إلى والدي وهو يعبر حوشنا القديم ببغلتيه، آتٍ من الفدَّان ورائحة الأرض المباركة مضمّخة فيه، حيث كان يحرث الأرض طوال النّهار، عائلة فلّاحيّة معطاءة ومعجونة بطين المحبّة. تشمخ أمّي أمامي وهي تسرج التَّنّور، ثمَّ تخبز لنا أشهى خبز التّنُّور، يا إلهي كم كان لذيذاً عندما كان يخرج مقمّراً من تنّورنا الكبير، فتعطيني أمّي قطعة ساخنة منه، أحياناً كانت تبلِّله بالماء الزُّلال؛ كي تخفّف من سخونته، فآكله بلذّة عميقة كأنّه خبز الحياة، أجل الخبز هو نعمة من نِعَمِ الحياة، أمِّي وخبز التّنور نعمتان من أسمى نِعَمِ الحياة الّتي هطلَتْ عليّ من جفونِ الحياة، تشطحُ بي الذَّاكرة نحو الماضي البعيد، فأرى جبلة الطِّين المخلوطة بالتِّبن النَّاعم، وأمّي تستلم سطول الطِّين من أخي الكبير، وهي تسيّع بيديها سطح المنزل في كلِّ عام، كي تغلق شقوق السّطح، تفادياً من انسياب المطر في سطح البيت؛ ومنعاً من الوكفِ وقطرات الدّلف الَّتي كانت تدلف في أيَّام الشِّتاء، ومع أنَّ أمِّي كانت تسدُّ كلَّ الشُّقوق في سطح بيتنا الكبير، عندما كانت تسيّعة في نهاية كلّ صيف، إلَّا أنّ السَّقف كان يستقبل بوداعة طيّبة بعض حبَّات المطر فكانت تجد طريقها إلى سقف البيت، وتنقّط في البيت كأنّها هدايا السَّماء، وسرعان ما كنّا نجلب الصّحون الكبيرة واللِّكان والتّناجر؛ كي تنقّط فيها حبّات الماء المتسرّبة من السَّقف، وكانت تصدر هذه القطرات المتهاطلة أنغاماً في الصُّحون والأواني الموزَّعة في أركان الغرفة، وكم كان إيقاع صوتها يعطي حياةً وحيويةً في المنزل، وأحياناً كنت أحدّد إحدى قطرات الوكف، وأقف تحتها كي تنقِّط على رأسي، وكنت أشعر بفرح وأنا أتلقَّى تهاطل القطرات فوق رأسي، وكانت أمّي تقول لي: هذه القطرات المباركة ستسقيك وستطول كما تطول الحنطة، وكنّا نضحك، فيما كان إخوتي الكبار يحضِّرون قليلاً من الطِّين، ويخلطونه بالتّبن والملح، ويصعدون فوق سطح المنزل، ويملَؤُون الشُّقوق الصَّغيرة والكبيرة؛ تفادياً من ازديادِ الوكف في المرّات اللّاحقة من هطول المطر، ثمَّ كان والدي يُمندر سطح المنزل بمندرونتنا، وهي حجرة اسطوانيّة مدوّرة وبحدود (60) سم؛ وفيها قَيْس من الحديد الغليظ مشبوك من الجانبين عبر فتحة صغيرة، ومربوط من نهايته بحبلٍ قصير، ويتمُّ جرّ المندرونة فوق السّطح؛ كي يترصرص، فتُردم الشُّقوق الصَّغيرة والكبيرة، والسَّطح يصبح مقاوماً لانسياب”الوكف”، مع أنّني كنت أجد متعةً أثناء نفاذ بعض الوكف إلى السَّقف؛ لأنّ قطراتها كانت تعطي حركةً ومرحاً في المنزل!

إنَّ أثر عوالم الطُّفولة على الكتابة وفضاء الإبداع كبير للغاية، وقد كتبتُ عشرات القصص والقصائد من وحي هذه العوالم الحميمة، وانبثق من مخيَّلتي عام 2015 تدفُّقات رهيفة منبعثة من عوالم الطُّفولة؛ فولدت روايتي الأولى “تجلِّيات في رحاب الذّات”، رواية محبوكة ومُستلهمة من فضاءات عوالم الطُّفولة الرَّحبة!

  1. 9. لم تَحْبُ مثل سائر الأطفال، كنتَ تحبو جلوساً، تجرُّ نفسك زحفاً على كعبيك، ماذا يعني لك هذا؟

فعلاً، لم أحْبُ على أربعة، بل حبوتُ قعوداً، وكأنّي منذ طفولتي كنتُ أريد أن أكون رافع الرّأس، لا أحنيه أبداً، مخالفاً أولى أبجديات الطُّفولة في الحبو، أجرُّ نفسي عبر كعبي زحفاً وأنا في حالة قعود، كانت حالة الحبو طريفة، أحبو مترإلى مترين ثمَّ أتوقّف، كانت هذه الطَّريقة في الحبو تساعدني على بقاء يديَّ متحرَّرتين؛ وبالتَّالي كنت أستطيع أن ألعب بأيّة لعبة أصادفها في طريقي، أو أمسك ملعقة أو طابة صغيرة وأدحرجها، ثمَّ أتوجّه نحوها، وكنتُ في وضعيّة الحبو مُهيَّأً للوقوف، حيث كانت حركة استخدام القدمين تساعدني في تقوية السّاقين؛ وبالتّالي النّهوض ومحاولة المشي مبكّراً، وصمّم لي أخي الكبير عربة صغيرة من الخشب بثلاثة دواليب صغيرة خشبيّة، لها مقود أمسكه من اليمين واليسار واستند عليه وأقف، ثمَّ أسير بها وتساعدني في الوقوف، وتحافظ على توازني وقوفاً، وكنت أمشي في حوشنا الكبير في العربة الصَّغيرة متدرّباً على المشي، وأحياناً كانت العربة تتعرقل في غَرَضٍ ما جاء في طريقي، فأترك العربة، وأمشي بضع خطوات من دونها ثمَّ أقع وأتابع الحبو على كعبي زحفاً، ثمَّ أحاول الوقوف وأمشي خطوات أخرى، وأسحب عربتي، ثمَّ أمسكها من مقودها وأعاود المشي في الحوش، وكانت أمّي تفرح عندما تراني أتفادى شيئاً ما يأتي في طريقي، فأقود العربة بعيداً عن اصطدام دواليبها، وكان إخوتي يصفّقون لي وأختي تحملني وتبوسني من شدّة فرحها؛ لأنّني كنت أحقّق نجاحاً بعدَ ارتطام دواليب العربة بما أصادفه في طريقي، وهكذا تمكَّنتُ بعد أسابيع من التَّدريب على المشي بالعربة الخشبيّة، من أن أمشي بدون العربة لمسافة أمتار، ثمَّ تمكّنتُ من السَّيرِ في الحوش كلّه برفقة أختي أو أحد إخوتي، طفولة بريئة طافحة بالمرح والحنان والدِّفءِ والحبورِ.

كانت أختي بين الحين والآخر تمسك يدي وتدرّبني على المشي، ونسير خارج الحوش في الشّارع المطلِّ على بيتنا، والجيران يروني أسير خطواتي الأولى ويدعون لي وهم يبتسمون، وعندما كنت أتعب كانت أختي تحملني على كتفها، وهذه الوضعية كانوا يطلقون عليها: “قربوجة” أي الحمل على أحد كتفيها، وأحياناً تضع ساقيَّ حول رقبتها وتمسك قدمي وأمسك رأسها، فرحٌ عميق كان ينتابني، وبعد أن آخذ قسطاً من الرَّاحة، كانت تنزِّلني وتمسك يدي وأبدأ بالمشي، وتترك أحياناً يدي؛ كي أمشيَ بدون مساعدتها، إلى أن تمكّنتُ أن أسير وحدي، بدون العربة وبدون أن يمسك أحدٌ يدي.

أكثر من ربع قرن قضيته في السُّويد، دون أن يمسك أحدٌ بيدي، غربتي واحةٌ فسيحة مفتوحة على مسار ابتهالات القصائد، كانت طفولتي تتراءى لي من بعيد وأنا في سماء غربتي، مراراً تبرعمَتْ مشاهد من الطّفولة في مخيَّلتي وأنا في أوج تأمُّلي، غربتي وطفولتي وحرفي إشراقات انبعاثٍ في اندلاعِ حبقِ الإبداعِ، الكتابة معبّقة بألقِ الطُّفولة، بكلِّ حلاوتها وشقائها وبهائها، غربتي صديقة حرفي، وحرفي شوقٌ مفتوح على متاهاتِ الذَّاكرة المعتّقة بأبجديات الحبو، بعكس تقاليد حبو الأطفال، وحدها الكتابة انتشلتني بكلِّ انتعاشٍ من ضجر الحياة وآهات الشّوق، تعالي يا طفولتي أُغَطّيكِ بين تلاوين بوحي وأشواقِ الرُّوح إلى حمائمِ البيتِ العتيقِ، يراودني أحياناً، بل مراراً، هل أنا أنا، الطُّفل نفسه، الَّذي حبا بطريقة مغايرة لمغامرةِ العبور، وإلَّا كيف عبرتُ البحار بحثاً عن أبجديّات جديدة للإبداع، تاركاً بهاء الطُّفولة وحميميّات ثلث قرن من الزّمن خلف ظهري، دون أن أعرف شيئاً عن محطَّاتِ الانتظارِ بعد عبوري أعماق عوالم المجهول؟!

حوار مع الذّات، ألف سؤال وسؤال، هو أقرب ما يكون من السِّيرة الذّاتية، لكنّه أكثر عمقاً من السِّيرة الذّاتية ذاتها؛ لأنّني عبر حوار مع الذّات أغوص عميقاً في تساؤلاتي، للولوج في أعماقي الدَّفينة، ولا يمكن أن يستطيع المرء عبر كتابة السِّيرة الذَّاتية أن يغوص بهذا العمق كما هو الأمر عبر طريقة الحوار مع الذَّات، لأنَّ الطَّريقة الَّتي أشتغل عليها عبر حواري، هي طريقة ممنهجة، حيثُ أتبع أسلوباً مدروساً ودقيقاً، أعتمد على الكثير من الحيثيّات والمشارب عبر أهم وأبرز محطّات عمري في صياغة ووضع السّؤال، ممّا يساعدني على تعميق هذا الحوار، وقد بدا لي الحوار منذ التَّساؤلات الأولى أنّه أكثر عمقاً ممَّا لو كتبت السِّيرة الذّاتيّة، لأنّ طريقة البوح مجنّحة نحو فضاءات مفتوحة عبر توهّجات الخيال في الكثير من منعرجات الحوار، ولا يمكن الإمساك بتفاصيل خيوط الحوار خلال كتابة السّيرة الذَّاتية، وهذه الطّريقة تحمل بين جوانحها منحىً إبداعيّاً حديثاً، لا أظن أنَّ هناك من طرقها قبلي بهذا العمق، وهذا الشّمول مع الذَّات، ذات المحاور نفسه، وسوف يتلمّس المتابع والقارئ والباحث والكاتب والنّاقد والمتخصِّص فيما بعد، عندما أستكمل فضاءات الحوار مع الذَّات، أن وضع الأسئلة هو جوهر الحوار، وحقيقة الأمر أنّني أشتغل على كيفية وضع الأسئلة بطريقة تضاهي كتابة عمل روائي متشابك يتضمَّن مئات الشَّخصيّات، حتَّى أنّني أعتبر حواراً كهذا بمثابة نص روائي في الكثير من فضاءاته، وممكنببساطة استلهام فضاء روائي من الحوار؛ لأنَّه يتضمَّن أسلوباً سرديَّاًّ قصصيَّاً، …

أشعر بسعادة غامرة وأنا أقضي ساعاتٍ طوال بوضع أسئلة حوار مع الذَّات، وعندما آخذ قسطاً من الرَّاحة أجيب عن بعض التّساؤلات خلال فترة الاستراحة؛ لانعاش وهج الذَّاكرة والخيال، فأشتغل على الجهتَين، وضع الأسئلة وبنفس الوقت الإجابة عن بعض الأسئلة، بعد أن أمسكت بالخطوط العريضة والمهمّة؛ من محاور الحوار، فقد وصلتُ حتّى الآن إلى السُّؤال رقم (400)، ومخطّط بحثي في وضعِ الأسئلة يسير بدقّة عالية، إلى درجة أنَّني أرقص فرحاً من توهُّجات غوصي في بهجة إشراقات السُّؤال!

  1. 10. لم ترتدِ البنطلون والقميص خلال الطُّفولة، بل كنتَ ترتدي الفستان على شاكلة الكلّابيّة، تحدَّث عن مرحلة ارتداء الفساتين/ الكلَّابيّات وكيف كانت تنقطع حزام الفساتين أثناء اللُّعب مع أقرانك؟!

هذه المرحلة الطُّفوليّة تعدُّ من المراحل الغنيّة بالألعاب والطَّرائف الَّتي كانت تحصل معنا أثناء اللُّعب، فقد جرت العادة أن يرتدي الأطفال آنذاك الفساتين الّتي كانت على شاكلة كلّابيات مقلّمة، فقد كان للكلّابيّة قشاطٌ من نفس القماش في أسفل منتصف الظَّهر على مكان قشاط الخاصرة، كان القشاط بحدود (20)سم طولاً، بعرض بضع سنتمترات، وقد كان يتعرّض هذا القشاط للتمزّق عندما كنّا نلعب ونركض خلف بعضنا؛ كي نلمس ظهر اللَّاعب الهارب، أو نلمس أقرب ما نصل إليه من جسمه، فأحياناً كثيرة كان الَّذي يركض خلفي يمسك بالقشاط وأنا في أقصى سرعتي؛ فيتمزّق القشاط ويتمزَّق معه قسمٌ كبيرٌ من الكلَّابيّة، ممّا تضطرّ أمِّي أن تخيّطه من جديد، وبعد أيَّام يتمزّق من جديد، وهكذا كنت أجد نفسي إزاء مشكلة عويصة في موضوع تمزّقات القشاط المتكرّرة، فما وجدت بدَّاً من أن أجد حلّاً يجنّبني من تمزّق قشاطي بين الحين والآخر، فقلت لأمّي: يا ماما أفضل حلّ في تجنُّب موضوع تمزّق قشاطي هو أن تخيّطي فساتيني في المرّات القادمة والقشاط، مخيّط مع الفستان من دون أن يكون مفتوحاً، أي أن يكون مصمَّماً كقشاط، لكن بحيث يكون ملتصقاً ولا يمكن إمساكه، لأنّه سيصبح جزءاً من الكلّابيّة، وبهذه الحالة سيكون من المستحيل تمزّقة أو الإمساك به، وفعلاً اقتنعت أمِّي بفكرتي وعرضَتْ على الخياط أن يخيِّط قشاطاتي القادمة لكلّابياتي ملتصقةً؛ تفادياً للإمساك بها ويصبح كديكور قشاط، وهكذا نجحت في تفادي تمزّقه، وسرعان ما بدأ بقيّة أقراني يقلِّدونني، ويخيِّطون فساتينهم بقشاطات مخيّطة وملتصقة على خواصر ظهورهم.

تتراقص أمامي الآن ذكريات تلك المرحلة البديعة، وكأنّي أسمع قهقهات الأصدقاء وهم ينظرون إلى قشاطاتنا الممزقة، ويظهر جزءاً كبيراً من ظهورنا، فنضحك ونضحك دون أن نعتبر تمزقات الفستان مشكلة بقدر ما كنّا نغوض في عالم القهقهات، طالما كانت أمّهاتنا تخيِّط تمزُّقات الفساتين برحابة صدر. كم كانت تلك المرحلة غنيّة وطافحة بالمرح والحبور والبهجة، وأجمل ما كان يبهجنا لعبة “الپرو پرڤانو پري وا چاوايا”، وألعاب عديدة كالمختبوية والصّلّابة والمزاعير والكلل والعديد من الألعاب، طفولة بريئة حافلة بالعفويّة والبهجة، صورٌ عديدة لا تبارح ذاكرتي، تنفرش على شرِّيط الذّاكرة كأنّ أحداثها حصلت منذ أيام!

الباحث السوري #صبري_ يوسف Sabri Yousef ..كتب مقالة بعنوان #كيف_ نقودُ_ الكونَ..

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، ‏‏‏‏جبل‏، ‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏ و‏طبيعة‏‏‏‏
Sabri Yousef
كيف نقودُ الكونَ؟!

***************
إلى متى ستبقى دول العالم بعيدة عن تطلُّعات مواطنيها، ولا تأخذُ بعين الاعتبار ما يراهُ المواطن؟
19
لو أمعنا النّظرَ في وجهاتِ نظرِ شعوبِ أغلب بلدان العالم، نجدُ أنّ أغلبَ مواطني بلدانهم، غير موافقين على ما تقومُ بهِ أنظمةُ دُولهم من انتهاكاتٍ وتجاوزاتٍ فيما يتعلّقُ بتوجُّهاتِ وآفاقِ تطلُّعاتِ بلدانِهم في الكثيرِ من قضايا الحياة، المتعلّقة بالاقتصادِ والسّياسةِ والعلاقاتِ الدَّوليّة، لأنَّ برامجَ الدّولة تنبعُ من القادةِ السِّياسيِّين وسياسةِ الدُّول، وغالباً ما تكونُ بعيدة عن تطلُّعاتِ الشّعبِ، وسؤالي هو إلى متى ستبقى دول العالم بعيدة عن تطلُّعاتِ وآفاقِ مواطنيها، ولا تأخذُ بعينِ الاعتبارِ ما يراهُ المواطن؟ ولهذا على دولِ العالمِ أن تقدِّمَ ما يحتاجُهُ المواطنون من متطلَّباتِ الحياةِ بما يناسب سرعة تطوُّرات العصر، لا أنْ تسيرَ الدُّولُ في وادٍ والمواطنون في وادٍ آخر، وتضعَ برامجَ متآلفة بما يتطلُّع إليه المواطن، لا كما تتطلّبُهُ السّياسات الهوجاء من حروبٍ وصراعاتٍ أودَتْ بالكثيرِ من البلادِ إلى قاعِ الجحيمِ، وأرى الكثيرَ من التّنافرِ في العديدِ من دولِ العالم ما بينَ التَّوجهاتِ السِّياسيّة لحكوماتِ بلدانهم ومواطنيهم، مع أنَّ كل سبل التَّعاونِ والرّفاهيّة وما يقودُ إلى سعادةِ البشرِ متاحة بسهولةٍ ويسرٍ، ومعَ هذا نجدُ الاختلافات في الرُّؤية قائمة وتتَّسعُ حدّةُ الخلافات أحياناً إلى درجةِ الصِّراعِ والمواجهة كما هو الأمر في بعضِ الدُّولِ النَّامية والمتخلِّفة، وفي البلدانِ المتقدِّمة نجدُ الصّراعات في أوجها قائمة بينها وبين دولٍ أخرى، وغالباً لا يوافقُ المواطنون في هذه البلدان على هذه الصِّراعات والخلافات لأنّها تسبِّبُ لهم الكثير من المشاكل والخسائر والدَّمار على أكثرِ من صعيدٍ، ولكن سياسات هذه الدُّول تزجُّ مواطنيها وتزجُّ نفسها في صراعاتٍ مريعةٍ، تصلُ أحياناً إلى الحروبِ والمواجهاتِ العنيفة، وكل هذه التَّوجّهات لا طائل منها حتّى وإنْ نظرَ بعضُ السِّياسيِّين إلى الأرباحِ الَّتي يجنوها خلال خوضِ الحروبِ والحصولِ على مكتسباتٍ معيّنة، وأرى أنّ أيّةَ مكتسبات تتمُّ عبرَ الحروبِ والصِّراعاتِ والقتلِ والعنفِ هي مكتسباتٌ غير شرعيّة وعقيمة ولا ضرورة لها، وتسبِّبُ خسائر فادحة لجهات أخرى الّتي خسرَتِ المعاركَ والحروبَ والمواجهات، ودائماً في كلِّ الحروبِ خسائر لكلِّ الأطراف وإن انتصرَ طرفٌ على آخر، ولا خير في أيِّ انتصار عندما يكونُ على حسابِ موتِ البشرِ، لأنّهُ يتوجَّبُ على البشرِ أن يتعاملوا معَ بعضِهم بعضٍ كبشر وليسَ كأعداءٍ وخصومٍ وتصفيات، ومن العارِ أن تلجأ الحكومات والبلدان والسِّياسات إلى لغةِ العنفِ والحربِ والقتلِ مهما كانت الأسباب والخلافات كبيرة فيما بينهم، لأنّ كلّ الخلافات مهما كانت كبيرة، يمكنُ معالجتها عبر الحوار والدِّيمقراطية والحقوق الّتي تقرُّها دساتير العالم، وعندما أقرأُ وأحضرُ الأخبارَ وأسمعُ تصريحات بعض الدُّول وهي تهدِّدُ بعضَها، أشعرُ أنَّ هؤلاء الحكّام غير جديرين أن يقودوا البلاد نهائيّاً، لأنّهم عبر تشدُّدِهم وعنفهم وخلافاتهم يصعِّدون المواقف إلى درجةِ إعلانِ الحربِ والقتلِ والخرابِ، وكلّ هذه المواقف تقودُني إلى القولِ: إنَّ الإنسانَ رغمَ أنّه خاضَ حروباً عالميّة فتَّاكة، ومعَ هذا لم يستفِدْ من هذه التّجارب المريرة وما يزالُ في أوجِ عنادِهِ واستعدادِهِ لخوضِ حروبٍ عالميّة جديدة، وللأسفِ حروب هذا العصر هي حروب مجنونة بامتياز، لما يتوفّرُ فيها من أسلحة فتّاكة يمكنُ أنْ تقودَ البشريّة إلى الهلاك وإلى خسائر لا تُعوَّض نهائيّاً، ولماذا لا يحكّمُ القادةُ والحكوماتُ عقولَهم ويحلُّوا مشاكلهم ويتعاونوا مع بعضهم بعضٍ، بدلاً من أن يتحاربوا ويقتلوا بعضَهم بعضاً، وبالنّتيجة كل الأطراف يخسر ومهما استمرَّتِ الحروب في النّهايةِ يجلسُ كل الأطراف المتصارعة والمتحاربة حتّى ولو ذهب ملايين القتلى والخسائر الاقتصاديّة الّتي لا يمكن حصرها، ولماذا يقتل الإنسانُ بني جنسه ويخلخلُ اقتصاده واقتصاد البلدان الّتي يتصارعُ معها، لماذا لا تضع كل دول العالم خططاً جديدة لتطوير البلدان الفقيرة والنّامية والدُّول الغنيّة والمتقدِّمة إلى أرقى درجات التَّقدم، ويضعوا خططاً لمعالجةِ الفقرِ والأمراضِ المستعصية والجوائح والكوارث الطّبيعيّة وكل مشاكل البشريّة، ابتداءً من الصّراعات على الحدود ومروراً بكلِّ مشكلة بين البلدان وفي البلد الواحد؟ لأنَّ الإنسان لديه عقل وعليه أن يفكِّر بحكمةٍ وأخلاقٍ راقية وبكلِّ عدالة وديمقراطيّة، لا أن يتحدَّثَ في الحرّيّة والدِّيمقراطيّة والعدالة وهو يسلّطُ سيفَهُ على رقابِ البشرِ بأفتكِ الأسلحةِ، ولا داعي نهائيّاً صناعة الأسلحة بمختلفِ أشكالها وأنواعها، ويجبُ التَّركيز على خيرِ الإنسانِ ورفاهيّته وتقدُّمه بغضِّ النّظرِ عن دينِهِ ومذهبِهِ وطائفتِهِ وقوميّتِهِ، ولا بدّ من استنهاض الدُّول الّتي تحتاجُ إلى دعم ومساعدة، لتقليصِ الفجوة بينَ الدُّولِ والقارّاتِ كي يعيشَ الإنسانُ في حالةِ استقرارٍ ويخطِّطَ لرفعِ مستوى دخلِ الفردِ وتقديمِ كل سبل الرّفاهيّة والسّعادة والهناء له على كافّةِ المستوياتِ، ولا أرى أنّ الحياةَ الَّتي يعيشُها الإنسانُ تتحمّلُ دقيقة حرب ومواجهة وعنف، بل تتطلَّبُ المزيد من الوئامِ والفرحِ والتَّمتُّعِ في الحياةِ، ولا داعي للحروبِ والقتلِ على الإطلاق، وكل مَن لديه توجُّهات في فتحِ أبوابِ الصِّراعاتِ والحروبِ هو إنسانٌ مريض ويحتاجُ إلى علاج، ولا يجوزُ أن يقودَ الاقتصادَ إلى الحروبِ والمنافساتِ السّلبيّة، يجبُ أن تكونَ منافسات البشر خيّرة وإيجابيّة وتنويريّة وتحقِّقُ رفاهيّة المجتمع البشري وليسَ تدميره، وإنّ أيَّةَ توجّهات سياسيّة تقودُ إلى العنفِ والقتلِ والحربِ هي توّجهات حمقاء وتخلو من الحكمةِ والإنسانيّةِ والأخلاقِ الرَّاقية، ولابدَّ من أن يتميّزَ الإنسانُ بحكمةٍ وأخلاقٍ إنسانيّةٍ عالية، وإلّا فهو من فصيلةِ الوحوشِ المفترسة لو ظلَّ يركّزُ على لغةِ القوَّةِ والقتلِ والحروبِ والصِّراعاتِ بينَ البشرِ، ومن خلالِ قراءاتي لتاريخِ البشريّة، أرى أنَّ حضارةَ ومدنيَّةَ هذا الزّمان تزدادُ انحداراً نحوَ التَّحجُّرِ الفكري والحروبِ المجنونة، إلى درجة أنّني أرى أمامي وكأنَّ تقدُّم البشريّة يكمنُ في الحروبِ والقتلِ والدّمارِ، بينما واقع الحال يجبُ أن يصبَّ تقدُّمُ البشريّة في المزيدِ من الوئامِ بينَ البشرِ وإحلالِ السّلامِ بينَ البشرِ والدّولِ والقارّاتِ، وأنّ أيّةَ دولة لو ملكَتْ لوحدِها ميزانيّة عشرة أضعاف ميزانيّة الكونِ من خلالِ الحروبِ والمنافسات السّلبيّة، فلا خير في كلّ ميزانيّات هذه الدُّول، لأنَّ الإنسانَ يصلُ إلى مرحلةِ أنَّ المالَ يصبحُ في نظرِهِ مثلَ التّبنِ! ولا قيمة لهُ طالما يقومُ على سحقِ جماجمِ البشرِ، ولا يتمُّ توزيعه على البشر بشكلٍ عادل، ولا قيمة للمالِ ما لم يُستخدمْ لرفاهيّةِ وسعادةِ البشر، ولو عاشَ الإنسانُ بشكلٍ بسيط وعادي بحيث يعيشُ بكرامتِهِ ولا يحتاجُ أحداً، خيرٌ له أن يكونَ بيليارديراً على حسابِ قتلِ البشر، ومن الحماقةِ أن يؤجّلَ المجتمعُ البشري موضوع التَّآخي والتّعاون بينَ البشرِ دقيقةً واحدةً، وعلى الدُّول والسِّياسات في كلِّ أنحاءِ العالم أن تسنَّ دساتيرَ جديدة منبعثة من آمال وطموحات المواطنين في كلِّ دول العالم وتركِّزَ على تحقيقِ خيرِ وسعادةِ وتقدُّمِ البشرية، بعيداً عن لغةِ العنفِ والقتلِ والتّدميرِ!

يتبع 20

صبري يوسف

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، ‏‏‏‏جبل‏، ‏نشاطات في أماكن مفتوحة‏‏ و‏طبيعة‏‏‏‏