– الوسط …إعداد وحوار : روعـة يـونـس

يجد اللغة “إرهابية” تخفي الكاتب حين حضورها .. محمد الترهوني : لا يفكر الأدب في سمعته إنما بالملذات التي يقدمها ..

الفلسفة مفتونة بالحديث عن المشاكل لا حلولها، والفلاسفة خيبوا آمالنا!

ال ، واختيار الأسئلة لتوجيهها إليه؛ أسهل بمرات من كتابة مقدمة لحوار “الوسط” معه. فهو إنسان وأديب استثنائي. إذ يضرب الأفكار السائدة والنظريات الجاهزة والمفاهيم التقليدية المتصلة بالأدب والفكر والفلسفة، بعرض الحائط. ينقلب عليها، وبسلاح الهدوء والرأي والفكر والتجديد؛ يحاربها ويتهمها بأنها سبب عدم تقدمنا وتميز إبداعنا لأننا نقولب الأدب ولا نراه فوضى عارمة! كما يتهم الفلاسفة الذين بجلهم التاريخ، بأنهم لم يقدموا سوى نظريات لا تمنح حلولاً للبشرية!
يذهب الترهوني إلى أبعد من ذلك! يدين الكاتب الذي يصبح مصلحاً اجتماعياً (!) ولا يفضح ممارسات المجتمع والعالم القاسي والسلطة الخبيثة، وكل ما فيه مهانة لإنسانيتنا.
حوارٌ، ممتعٌ، دسمٌ.. والأهم مغاير. نتعرف من خلاله على الترهوني، وعلى شؤون الأديب الليبي عامةـ  وشجون وطنه.

صعوبة وخطورة ..

نبارك لك بإصدارك الجديد “الأيدي الحزينة” ماذا عن ماهية  كتابك وفحواه ؟ ولمَ الزرقة في لون الغلاف ؟

  • للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نتحدث بشكل من التبسيط عن الكتابة ومآزقها، نعم الأيدي الحزينة كتاب أدبي، لكن هل هذا يعني أننا لن نجد فيه الأنثروبولوجيا والتاريخ والفن وعلم الاجتماع والفلسفة والجغرافية والسيرة.. إلخ، الحقيقة أننا سنجد كل هذا في الأيدي الحزينة، وسنجد أيضاً كل الأجناس الأدبية، فمن ناحية هو نقد بطريقة ما، لكنه في نفس الوقت رواية بطريقة ما، سيرة إذا أردنا أن نتحدث عنه كسيرة للقراءة أو سيرة للمعرفة، وحكاية إذا أردنا أن نتحدث عن سرد البطل فيه هو اليد، الأيدي الحزينة هو هذه التجربة التي أكتب فيها بعيداً عن الماهية وعن الأجناس، الشاعر سراج الدين الورفلي كتب في مقدمة الكتاب “لم يكن يحتاج هذا العمل إلى أي مدخل أو مقدمة أو أي وسيط، إنه من نوع الأعمال التي يُقذف به في وجه كل المحاولات البائسة لتصنيف الأنواع الأدبية”. لذا يخرج الأيدي الحزينة من هذه التصنيفات لأنه يشك في جدوها وحقيقتها، وفي هذا شيء من الخطورة والصعوبة. لكن من حق الأدب أن يدافع عن نفسه ضد المفاهيم الشائعة عنه، ضد الكليشيهات والقواعد التي تم وضعها في وجهه بتعسف، على الأدب أن يخون نفسه للخروج من حالة الخمول والكسل والراحة التي تمنحها فكرة الأجناس الأدبية للقارئ.

مع النقد وضده ..

إنما ينظر اليوم إلى النقد بوصفه عملية تحليلية أو تصحيحية. ماذا عن النقد في “الأيدي الحزينة”؟

  • هناك من ينظر إلى النقد على أنه عملية يتم فيها الاستيلاء على النص بالكامل لمقارنته بنص مثالي وطوباوي ليس له وجود،  وأن النقد مصدر لأحكام القيمة على النصوص، رديء، جيد، هذه نظرة قديمة جداً إلى النقد، لا تسمح بدخول شيء جديد إلى حيز الوجود! النقد بمعناه الحديث هو المساعدة على رؤية ما لا يمكن رؤيته في الصورة، وهو في نهاية الأمر كتابة نص على نص، عندما يخترع الأدب شعب لا وجود له، أو مواطن لا وأرض لا وجود لها، وواقع لا وجود له، فعلى شخص ما أن يسمح لنا برؤية كل ذلك. الفرق بين القراءة العادية والقراءة النقدية لنص ما، هو أن الثانية قراءة برجماتية تجريبية. القارئ العادي ليس أمامه سوى الخضوع للنص، أما القارئ الناقد فهو لا يرتاح إلا بخضوع النص له.
    لا شك أن العالم الأدبي اليوم، هو عالم النقاد الذي كتبوا نصوصاً نقدية أكثر روعة من النصوص المكتوب عنها، و بارت هو أكبر مثال على هذا النوع من النقاد.

أزرق .. وضد التموقع ..

ولمَ الزرقة في لون الغلاف والأصابع ؟ لا شك ثمة دلالات، قد تشي بعوالم أو حالات ما ؟

  • الفنان إيف كلاين قال “الأزرق ليس له أبعاد، الأزرق وراء كل الأبعاد، هو لون اللانهائية، السماء، البحر، كل شيء واسع هو أزرق بطريقة ما، كل شيء حزين هو أزرق بطريقة ما”. لهذا اللون تاريخ طويل، وسيرة ذاتية متناثرة في الكثير من الكتب، ما الذي يمنعنا من كتابة سيرة ذاتية لهذا اللون أو ذاك؟ ما الذي يمنعنا من كتابة السيرة الذاتية لكلمة بدلاً من الاكتفاء بوضع معناها في قاموس؟
    لقد تعرض هذا اللون للإذلال كأي شخص عرف النجاح والفشل. كأي شخص كان مكروهاً في لحظة ومحبوباً في أخرى كأي شخص، لا تقل متعة قراءة سيرته الذاتية عن متعة قراءة سيرة أي كاتب أو فنان.

علينا أن نتوقف مع إصداراتك السابقة.. ومع اهتماماتك الفكرية .. فما ستقوله  قادر أن يعرّف قراء “الوسط” بعض الشيء على واقع الليبي محمد الترهوني!

  • كتابي الأول هو “العقلية العربية بين ماضوية التأسيس وحداثة البناء” عن دار قورينا-بنغازي. وكتابي الثاني “الكتابة بالأشياء” عن مجلس الثقافة العام- بنغازي. وكتابي الثالث “تاء مربوطة” عن الدار العربية للعلوم-بيروت. أنا من بقعة لها خصوصية وهي ليبيا –كما تعلمين- إذا تحدث المشرق العربي عن المغرب العربي فهو يعني تونس الجزائر المغرب. وإذا تحدث المغرب العربي عن المشرق فهو يعني مصر وما بعدها. نحن في هذه البقعة لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء! هذا ما يعطي الكاتب في ليبيا خصوصية الإطلاع على الفكر والأدب في المشرق والمغرب دون الشعور بالانحياز إلى أي منهما، وهو غير محسوب على أحد الطرفين، ما حاولت القيام به دائماً هو الاستفادة من هذا الوضع بمنح النص هذه الحرية التي يريدها، لأن نصي لن “يتموقع” في خانة ما أو مدرسة ما أو جهة ما.
    أيضاً هناك خصوصية أخرى، تتصل بالوضع السياسي الفريد الذي عاشت فيه ليبيا لمدة نصف قرن تقريباً، وعاش جيلي كله هذه الفترة بكل ما فيها أحداث سريالية! ربما هذا ما جعل الكاتب الليبي بعيد عن جذب الانتباه إلى نفسه أو عمله، فكل مثقف في تلك الفترة كوّن نفسه بنفسه دون مساعدة من أي مؤسسة أو شخص. كل هذه العوامل ترسم كائناً لا مرئياً لكنه واع بكل ما يدور حوله ويحاول صياغة الواقع بعيداً عن فائض الرعاية من أحد. هذا هو حال الكاتب والمفكر الليبي بوجه عام و ليس محمد الترهوني فقط.

القبض على الفيلسوف!

لا بد من سؤالك من أين استقى الترهوني لغته وصوره ؟ الحقيقة لغتك آسرة. قد -أقول قد- لا يكترث بعض القراء لفهم المعنى والمراد والرسالة، إذ يكفيه التشبع والتلذذ بلغتك وصورك في سياق السرد النثري ؟

  • قبل أن أكون كاتباً أنا قارئ، ولا أخفي أبداً حبي للقراءة أكثر من الكتابة! القراءة المثقلة بالأسئلة هي ما تستهويني، ودائما كنت أهتم بالكاتب الذي يخاف من مصير الكلمات بين يديه، يخاف من إظهار عدم كفاية الكلمات نفسه، يخاف توبيخ هذه الكلمات له.
    يعتقد البعض أن الكلمات تريد أن تكون مثالية في نصوصهم، وهذا ما يجعلها شائعة ومألوفة ومملة، الكلمات تريد أن تكون عامضة ووحشية، تريد أن تعود إلى عذريتها في النص، هذا العودة إلى عذرية الكلمة تحتاج منا نسيان أن اللغة مجرد وسيط ومترجم للأفكار، اللغة إرهابية لا ترضى إلاّ بأن يختفي الكاتب في لحظة حضورها! هذا هو ما يجعل نقص اللغة يختفي ويظهر كمالها. ما يحجب اللغة في الكثير من النصوص هو ظهور الكاتب بحجم أكبر من حجمها هي فالصورة –هنا- في هذه الصورة نجد الكلمات رثة و متعبة، لأن صاحبها يحاول جعلها مكان المثالية والوضوح. من ناحيتي أحب ذاك النوع من الغموض الذي يثير في نفوسنا السرور، أحب المتعة غير المحددة بالكلمة غير المحددة، لدي الأدب حالة يحسد عليها، فهو بعيد عن حالة الموسيقى العقلانية للغاية، المنظمة للغاية، والمحسوبة للغاية، الأدب فوضى عارمة، وفي كل مرة يحاول فيها تنظيم هذه الفوضى يخرج من المحاولة بفوضى أكبر، لهذا لا يفكر الأدب في سمعته، بل يفكر في الملذات التي يقدمها.

من ناحية أخرى، معظم كتاباتك إنسانية الهوى اجتماعية الهوية، بروح فلسفية فكرية، ربما كان الترهوني مشروع فيلسوف ومصلح اجتماعي ؟

  •  فيلسوف، مصلح اجتماعي؟! هذه كلمات كبيرة على شخص مثلي! لكن إذا كان لابد من الفلسفة فلن تكون إلا بعيدة عن مثالية أفلاطون! هناك فرق بين أن يكون الإنسان مسؤولاً عن العالم أو مسؤولاً عن تجربته الشخصية، لا يجب أن يتم القبض على الإنسان وهو يقول: أنا فيلسوف. يجب القبض عليه وهو يمارس الفلسفة، لأن كل من يمارس الفلسفة هو عدو للفلسفة بطريقة من الطرق!
    ما هي الفلسفة؟ ما هو هدفها؟ ما هي فائدتها؟ أعتقد أن جميع الفلاسفة قد خيبوا أملنا في وضع حلول لمشاكلنا.. لا وجود لفكرة فلسفية واحدة يمكن أن تعزينا في الحال الذي وصل إليه الإنسان و العالم، وهذا لأنها تطالبنا بنزع فتيل العمل من أجل التأمل. إن لا بد من وجود فلسفة، فيجب أن تكون عملية وبعيدة عن التجريد الذي يشبه المؤامرة. لهذا الفلسفة من وجهة نظري مشبوهة ومفتونة بالحديث عن المشاكل وليس حلها. أما إذا تعلق الأمر بالمصلح الاجتماعي فمن منا ليس لديه حزنه ونقاط ضعفه؟ الكاتب يصبح مصلحاً اجتماعياً في حالة واحدة، عندما يفضح ممارسات المجتمع الذي يعيش فيه، فضح العالم القاسي، السلطة الخبيثة، يفضح تبرير العالم والوطن والسلطة لمعاناتنا بشكل سخيف وفيه مهانة لإنسانيتنا، فضح الانحطاط الذي وصل إليه العالم في تعامله مع المهمشين والضعفاء والمتمرين على قانونه الذي يشبه روث البهائم، هذا النوع من الإصلاح هو ما يمكن أن يقدمه الكاتب وبشكل غير مباشر.

المربوطة .. والمخنوقة ..

لديك أكثر من مدونة “الوورد برس-  تفاصيل إنسانية- تاء مربوطة” ألا تكفي مدونة واحدة وجمهور واحد واسع؟ ثم ما هي منطلقاتك في تبنّي قضايا المرأة ومناصرتها؟

  • مدونة “تاء مربوطة” خاصة بكتابي “تاء مربوطة” أما “تفاصيل إنسانية” فهي المكان الذي أنشر فيه بعض كتاباتي لكي أكون على تواصل مع القراء.
    أما ما يخص تبني قضايا المرأة ومناصرتها فهذا أمر واضح في كل نصوصي، لا يمكن للكاتب أن يميز نفسه من خلال تبنيه لقضايا المرأة ومناصرتها، لأن الكثير من الرجال يتحملون عبء هذه القضية ويقومون بواجبهم تجاهها، هذا في الغرب بكل تأكيد. أما في الوطن العربي فمسؤولية الكاتب تجاه هذه القضية مضاعف، فهو من ناحية رجل، أي من الجانب الذي يضطهد المرأة ويخنقها، وهو كاتب ولديه فرصة أكبر في التكفير عن جرائم جنسه تجاه المرأة.
    تتعرض النساء في العالم الثالث إلى التهميش والإقصاء والعنف اللفظي والجسدي، تتعرض في كل لحظة للحط من قيمتها وقدرتها على أن تكون نداً للرجل. ولا يحتاج الرجل للبحث عن مبررات كل ذلك، فهذه المبررات جاهزة ولها تاريخ طويل.
    الكاتب مسؤول عن إبعاد اليد التي تريد خنق المرأة، اليد التي تمتد إلى فمها لتقوم بتكميمه، اليد التي توضع على عيونها لتحجب عنها شمس الحقيقة.

إقصاء وتهميش ..

هناك الكثير من الأدباء في ليبيا، خاصة الشعراء.. لماذا لم نعرف الكثير منهم ولا وصلنا نتاجهم. وحده إبراهيم الكوني، شغل الكون؟

  • عانى الأدب و الفن في ليبيا الكثير من الإقصاء والتهميش، وإلى هذه اللحظة يعاني الكاتب والشاعر والفنان الليبي؛ العزلة.
    لم يكن لدينا أبداً صحافة أدبية قادرة على عبور حدودنا الجغرافية، وليس لدينا إعلام مهتم بتسويق الكتاب والشعراء والفنانين. السياسي هو الوحيد المادة القابلة للتسويق، هناك فشل ذريع في بلادنا في مدى احترام مهنة الكاتب أو الشاعر أو الفنان، فهذه الأعمال من وجهة نظر المجتمع لا تجلب إلا الموت والسجن  والفقر!
    عرفت ليبيا أكثر من غيرها هذا الهوس والخوف من كلمة ثقافة ومثقف، ثم أن هناك نظرة دونية من قِبل المثقفين العرب للمثقف الليبي! ولا أعرف سبب هذا الأمر، مع أن الكاتب والشاعر الليبي في الحد الأدنى لا يسأل مثقف عربي آخر: هل لديكم بحر في بلادكم؟ هل صحيح أنكم إلى الآن تسافرون على ظهور الخيول و الجمال؟ ما هي الدول المحيطة بكم؟ فهذه الأسئلة نسمعها من الكثير من المثقفين العرب! لكن الإعلام في دول أمثال هؤلاء قادر أن ينفخ في الرماد للحصول على جمرة يحولها إلى نار كبيرة.

عبث لا طائل منه !..

طيّب، رغم ذلك، هل ظهرت إبداعات أدبية خلال الحرب في ليبيا؟ وما مدى تأثر مفاعيل الثقافة عموماً في ليبيا، بالراهن السياسي؟

  • نعم ظهرت الكثير من الأقلام في فترة الحرب على منصات التواصل الاجتماعي.
    الصحف والمجلات متوقفة منذ زمن بعيد! تحتاج هذه الأقلام إلى النشر في مكان يصل إليه القارئ الليبي، واستمرارية هذه الاقلام هو ما يحدد هوية مشروعها وجدوى وجودها.

الترهوني، إلام تطمح الآن ؟ هل يمكنك تَبيّن ملامح مشروعك المقبل، في ظل الأوضاع التي تعيشها ليبيا ؟

  • في ظل الأوضاع التي تعيشها ليبيا لا يمكن تَبيّن أي شيء.. فأنا لا أعرف معنى للمستقبل في ظل الأزمة التي تعيشها البلاد، لا أعرف متى تنتهي فترة النزوح، لا أعرف موعد نزول مرتبي، ولا متى يكون في المصرف سيولة للحصول على هذا المرتب. لهذا كل حديث عن المستقبل هو عبث لا طائل منه.
    الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أني قادر على الكتابة، وأنا لدي رواية تحت الطبع بعد “الأيدي الحزينة” وهي أيضا ستكون ضمن منشورات “دار البيان” في دورة “معرض القاهرة الدولي للكتاب”.

 

 

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.