Sabri Yousef
-12-10-2020م ·
مَن يَحرقُ الحنطةَ، يحرقُ الحياةَ!
(ومن يحرق البساتين وأشجار الزَّيتون واخضرار الغابات يحرق الذّات والرّوح!)!
10
مراراً راودني أن أعانقَ أنثاي هناك
على ضياءِ النُّجومِ
أرسمُ قبلتَين فوقَ تكويرةِ نهديها
أسمعُ همهماتِ اللَّيلِ وتغريدِ البلابل
زقزقاتُ العصافيرِ تُشبهُ قبلةَ عاشقة
مسترخية تحتَ ظلالِ البيلسانِ
ليالي صيف ديريك
أشبهُ ما كانت هدايا منسابة علينا
كم كانَ هواءُ ديريك الغربي ينعشُ قلوبنا
يرتسمُ أمامي شارعُ المشوارِ شامخاً
كأنّهُ لوحةُ حبٍّ من أبهى تجلِّياتِ الشِّعرِ
بعدَ ثلاثةِ عقودٍ من عبوري البحارِ
ما تزال ديريك وقراها البديعة
ما يزال الشّمال السُّوري
شهقةُ فرحٍ ممهورةٍ على سفوحِ القلبِ
مَنْ حرقَ كنوزَ الخيرِ في عزِّ النّهارِ
من يحرقُ الحنطةَ، يحرقُ أجنحةَ السّماءِ!
تنمو سنابلُ القمحِ
كما تنمو أجنحةُ الرّوحِ
تضيءُ صباحَ الغدِ الآتي
الحياةُ منارةُ حبٍّ
فوقَ مآقي الأرضِ
تستقبلُ الطَّبيعةُ حبّاتِ الحنطةِ
كَمَنْ تستقبلُ أسرارَ البحارِ!
الحنطةُ صديقةُ كينونةِ الإنسانِ
غذاءُ الرّوحِ ووهجُ جموحِ الخيالِ
تمنحُنا رحيقَ الأرضِ
وتمهرُ جبينَ الفلّاحينِ
بأزهى خيراتِ الاخضرارِ!
يحلِّقُ الشّاعرُ عالياً
مثلَ نُسورٍ مفروشةَ الجناحينِ
ترفرفُ بكلِّ شغفٍ نحوَ
نحوَ تيجانِ الحنينِ
كي تنثرَ فوقَ السّنابلِ سناءَ الانبهارِ!
كلّما نظرَ القمرُ إلى عذوبةِ البحرِ
وأمعنَتِ النُّجومُ في مروجِ العشقِ
الممتدّةِ على مدى انبعاثِ الحلمِ
غمرَنِي شوقٌ إلى حوشيَ العتيقِ!
كلّما غفيتُ في سماءِ غربتي
رفرفتْ أزقّةُ ديريك فرحاً
في رحابِ الحلمِ
كلّما أمعنْتُ في حنايا الذّاكرةِ
حلَّقَتْ دالياتي في أرخبيلاتِ الخيالِ
ديريك قصَّةُ عشقٍ مبلَّلةٌ بوهجِ الحرفِ
ذكرياتُ الماضي البعيدِ
تزدادُ رسوخاً في قبّةِ الرّوحِ
تخفِّفُ من غربةِ الحياةِ
منحتني ديريك صداقةَ المكانِ
فانبعثَ عناقٌ عميقٌ عبرَ شهوةِ الحرفِ
ديريك منارةُ خيرٍ في آفاقِ الحلمِ
مَن يحرقُ الحنطةَ، يخونُ خميرةَ الخيرِ!
حياتي خرافةٌ منبعثةٌ من خيالِ شاعرٍ
مدمنٍ على تجلِّياتِ أشهى الأحلامِ
عمري أوجاعٌ مرصرصةٌ بالآهاتِ
حروفٌ منبجسةٌ من بسمةِ السّماءِ
خرَّتْ نجمتانٌ في فضاءِ الأعالي
هل خرّتْ حزناً
على ما آلتْ إليه لظى الاشتعالِ؟!
أنا قصيدةُ عشقٍ هاربةٌ
من ضجرِ هذا الزّمان
حلمٌ مجنَّحٌ نحوَ أمواجِ البحارِ
أرفرفُ معَ النَّوارسِ شوقاً
إلى إشراقةِ خصوبةِ الشِّعرِ
أنسجُ فوقَ هاماتِ الجبالِ
أسرارَ أسرابِ الطُّيورِ ..
أنا كتابٌ مفتوحٌ على أجنحةِ الرِّيحِ
أكتبُ شعري على إيقاعِ دقَّاتِ القلبِ
أهدهدُ أشواقي إلى أقصى شمالِ الرّوحِ
حيثُ تشمخُ هاماتُ القمْحِ!
أحنُّ إلى سهولِ الخيرِ المعرّشةِ
في حنايا القلبِ
تمرُّ فوقَ خميلةِ الذَّاكرةِ
حصادُ ثمارِ الشِّمالِ
مثلَ حلمٍ مزدانٍ بأزاهيرِ الحنينِ
تزدادُ الذُّكرياتُ تلألؤاً
كلَّما عانقَّتْ عناقيدَ العطاءِ
غربةُ الإنسانِ عن الذَّاتِ
أخطرُ أنواعِ الغرباتِ!
تئنُّ أرواحُنا من جمرِ الاشتعالِ
هربنا من ظلالِ أحواشنا
من أحضانِ بيوتنا العتيقةِ
شعرتُ وكأنَّنا خرجنا من مساماتِ جلدِنا
حياتُنا تُشبهُ خرافةً تائهةً
في مهبِّ التِّيهِ
لم تبقَ مساحةُ فرحٍ في فضائنا
إلَّا أُضرِمَ في مراميها لهيبُ النَّارِ
الكتابةُ بلسمُ الرّوحِ لانسيابِ طُفوحِ الدَّمعِ!
كيفَ يحرقونَ حنيني المفتوحِ
إلى خيراتِ السّنابلِ
ويعفِّرونَ ينابيعَ الحصادِ الأخيرة؟!
ثخينةٌ جراحي إلى أقصى أوجاعِ الأنينِ
تغيَّرَ وجهُ البلادِ وسديمُ الصَّباحِ
أينَ فرَّتْ أسرابُ الطُّيورِ؟!
احترقَتْ أعشاشُ القطا
والعصافيرُ طارتْ بعيداً
عن أغصانِ البساتينِ!
تفحَّمتْ الحقولُ من لهيبِ النِّيرانِ
بكتْ أشجارُ الغاباتِ من شراهةِ الاحتراقِ
تهاوَتْ فوقَ شقوقِ الغدرِ
خيَّمَ الحزنُ فوقَ أزقَّةِ البلادِ
ماتَتِ فراخُ العصافيرُ في أعشاشِها
لم تستطِعْ أن تطيرَ معَ الأمّهاتِ
احمرَّتْ عيونُ الغزلانِ من لهيبِ الحريقِ
تاهَتْ بعيداً في أعماقِ البراري
هرباً من أجيجِ النَّارِ في ثمارِ السُّهولِ!
ألمحُ أمِّي تلملمُ باقاتِ الحنطةِ
يتراءى طيفُها أمامي
مثلَ حلمٍ خاطفٍ
بسمةُ الأمُّ تظلِّلُ أوجاعَ القصيدِ
تبلسمُ آهاتِ الشَّوقِ والحنينِ
تتعانقُ روحانا كلّما خفقَ قلبي
شوقاً إلى خبزِ التّنورِ
أمِّي قصيدةُ حبِّ معجونةٌ
برحيقِ حليبِ الحنطةِ
زخَّةُ مطرٍ منسابةٌ من حنينِ السَّماءِ!
أكتبُ أوجاعَ الأنينِ فوقَ ضفائرِ اللَّيلِ
تجذبني تلألؤاتُ النُّجومِ
إلى ضياءِ السّماءِ
يندلقُ حرفي من هلالاتِ البدرِ
حلمي مفتوحٌ على مساحاتِ المدى
ألملمُ رمادَ الجمرِ مذهولاً
من احتراقِ أجنحةِ الغاباتِ
كيفَ حرقوا بغمضةِ عينٍ أحلامَ العمرِ؟!
كم كانَ خبزُ أمِّي شهيّاً
كانت تعجنُ العجينَ على إيقاعِ الصَّلاةِ
على دندناتِ المحبّةِ
على ضياءِ الشُّموعِ
ثمَّ ترسمُ بابهامها وسبابتها شارةَ الصَّليبِ
مراراً وجدْتُ نساءَ الكردِ
يرسمنَ أيضاً شارةَ الصَّليبِ فوقَ العجينِ
سألتهنَّ من بابِ الفضولِ
فقلنَ لي كي لا يفقسَ العجينُ ويتخمّرَ جيّداً
هذه عادة توارثناها من الأجدادِ!
عندما كنتُ أشرحُ لهنَّ
أنّهنَّ يرسمْنَ الصَّليبَ
كي تحلَّ البركةُ في طراوةِ الخبزِ
سرعانَ ما كنَّ يفرحْنَ لهذا التّحليلِ
مؤكِّداً لهنَّ أنّها عادة سريانيّة خالصة
توارثوها عن جدَّاتنا
على مدى قرونٍ من الزَّمانِ!
الحياةُ سلسلةُ خيرٍ وعطاءٍ
بينَ بني البشرِ
رسالةُ سلامٍ مخضوضرةٌ
بشموخِ السَّنابلِ!
تنبعثُ ينابيعُ الخيرِ
من سهولِ القمحِ
من اخضرارِ الكرومِ
تلتقطُ العصافيرُ حبّاتِ الحنطةِ
بشغفٍ كبيرٍ
مع أسرابِ القطا والحجلِ البرِّي!
مَن يحرقُ الحنطةَ، يحرقُ الحياةَ
لا يفقهُ أبجدياتِ الخيرِ
ولا يقدِّرُ نعمةَ النِّعَمِ!
حبّاتُ الحنطةِ نعمةٌ من الأعالي
مباركةٌ بِلمْسَةٍ
من أقدسِ لمْساتِ السّماءِ!
مَن يحرِقُ الحنطةَ، يحرقُ شهيقَ العمرِ
الحنطةُ نعمةٌ تهاطّلتْ علينا
من جفونِ السّماءِ
مَن يحرقُ الحنطةَ، يبيدُ إشراقةَ الحلمِ
الحنطةُ بركةٌ مستنبتةٌ
من رحيقِ الرُّوحِ
مَنْ يحرقُ الحنطةَ، يقتلُ شموخَ الإنسانِ
الحنطةُ منارةُ عشقٍ
تضيءُ أملاً في دروبِ العمرِ!
مَن يحرقُ الحنطةَ، يغتالَ حكمةَ الحياةِ
الحنطةُ قصيدةُ فرحٍ محتبكةٌ
بأشهى رحيقِ الأرضِ
مَن يحرقُ الحنطةَ، يذبحُ جنائنَ الرّوحِ
الحنطةُ حكايةُ حضارةٍ
معرَّشةٍ في ترابِ الخيرِ
مَنْ يحرقُ الحنطةَ، يعفِّرُ وجنةَ السّماءِ
الحنطةُ طريقُنا إلى النُّورِ
إلى أعلى أبراجِ الخيرِ!
…………………………………….!
نهاية الجزء التّاسع عشر من أنشودة الحياة
صبري يوسف

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.