الصورة: الحدود ومجالات التأويل

“في يوم من الأيام طلب أحد أباطرة الصين من كبير الرسامين في القصر أن يمحو الشلال الذي رسمه في لوحة جدارية٬ لأن خرير الماء كان يمنعه من النوم” .
إن كل تلك الطاقة التعبيرية والترميزية التي ظهر عليها المحمل البصري منذ نشأته٬ وانبهار الجميع بإنجازاته (الصورة) في المجال التواصلي والدلالي٬ لم تحجب عنا العديد من عيوبه ومخاطره الناتجة أصلا عن ذلك التفاعل الإيجابي بين الإنسان ومحيطه الثقافي. فمع يسر التعبير بالمحمل البصرية وقدرته الفائقة على تكثيف المعنى والتأثير في المتلقّي من خلال سرعة نفاذه إلى وعيه٬ وسهولة إدراك دلالات العديد من مقاصد علامتها -وإن تفاوتت المستويات الذهنيّة- فإن الحدود واضحة في اطار ما تعجز الرسالة البصرية على بلوغه وإبلاغه للمتلقي.
فالمتأمل في الموضوع يدرك وبمجرد القليل من التركيز ان الحدود كثيرة وتشمل كل تفاصيل العمل البصري بمختلف مكوناته ومراحل إنجازه وفهمه وتأويل دلالاته. على اعتبار وأن هذا المحمل البصري هو إنتاج بشري متواضع على تفاصيل إنجازه٬ ويخضع لتسنين اجتماعي ينفي عنه الطابع الكلي٬ ويقصي كل إجماع يمكن أن يحصل حول إحدى توظيفاته الرمزية. وبالتالي فكل أثر بصري هو شخصي في توظيفاته وإن اتحدت مقاصده واصطبغت ببعد إنساني راق ومثالي.
فالصورة وكما نعلم تخضع في التقاطها إلى عدة مسائل تقنية٬ ترتبط في مستوى أول بنوعية وجودة الآلة الفوتوغرافية٬ ودرجة الإضاءة وطبيعة الألوان التي تختص بحيثيات اللحظة التاريخية. كما تراعي أيضا قدرات المصور ومدى تحكمه في الاطار واختيار التركيبة المناسبة في اللحظة المحددة٬ بزاوية النظر التي يعتقد في استكمالها للمشهد على طبيعته وبكل حيثياته. فهي تقنية خاضعة في جوانب كبيرة منها إلى القسم الانفعالي لدى الإنسان ومستوى منسوبه الثقافي٬ كما تحكمها الآلة وحداثة تكنولوجيتها٬ وهي ذات العوامل التي تكون محددة للطاقة التعبيرية والترميزية لهذه الرسالة البصرية. بحيث لن يكون نفس المشهد بكل مكوناته وفي ذات اللحظة الزمنية على نفس درجة الجودة والإتقان عند كل جمّع من ملتقطيه٬ وإن تقاربت ثقافاتهم وتكوينهم التقني. فكل غياب أو تجاهل أو توظيف مغاير وسيء لأي جزئية تقنية متدخلة في عملية صنع هذا المشهد قادرة بمفردها على قلب معاني الصورة ودلالاتها رأسا على عقب. بل لعل استعمال آلتين فوتوغرافيتين من نفس الجيل التكنولوجي وعلى ذات القدر من الجودة التقنية من شأنه أن يأثر في المردودية التواصلية والتعبيرية للصورة٬ بمجرد إختلاف مصدر الآلة ونوعية الجزئيات التقنية المستخدمة في صنعها.
لكن هذا العامل التقني وإن بدى مصيريا في تحديد نوعية الرسالة البصرية٬ فإنه وبدوره يعد أحد أسباب الثراء البصري الناتج عن تعدد المحاولات في كل مرة يتغير فيها معطى تقني ما للصورة٬ والذي يؤكد لنا الطابع الظرفي لهذا المحمل ونسبية جودته٬ لأن مستويات قراءته وفهمه ستكون حتما خاضعة بدورها إلى هذا المعطى المتغير بطبعه.
ثم إن أقل تدخل وتغيير في الجوانب التقنية لأي محمل بصري سيأثر وجوبا على بنائه التشكيلي٬ بداية من طريقة توزيع العناصر والكتل الضوئية على كامل الفضاء وزاوية التقاط المشهد٬ وصولا إلى أضعف حلقات التوظيف المقصود للعلامات الرمزية والدلالية. فجودة صنع الآلة وحداثة تقنيتها من شأنها الرفع من قيمة أمانتها في نقل الأحداث والوقائع بكل حرفية٬ وإلا سقطت في التزوير والتلاعب بالحقائق من دون أن تدري بمجرد تأثيرها وتدخلها بشكل غير مباشر في تغيير درجة إضاءة لون أو مساحة مسطح في المشهد.
من هذا المنطلق تكون قدرة الآلة على نقل الأحداث بكل تفاصيل جزئياتها وقربها من الواقع إحدى العوامل المأثرة في رسالتها التعبيرية والتواصلية على إعتبار وأن كل درجة إضاءة لمسطح وإن بدت غير ملحوظة في بادئ الأمر فإنها قادرة على قلب العديد من الحقائق بل وعكس دلالات الكثير من المعاني والرموز٬ من منطلق طبيعة توظيفها وفهمنا الجمعي لخصوصية الأثر الفوتوغرافي. وبالتالي تكون الصورة الفوتوغرافية وإن أسرت بصائرنا بقدرتها على استنساخ الوقائع والأحداث إفتراضا على مسطح من ورق٬ أو تمثلتها لنا –آنيا- شاشة بنقاط من ضوء٬ فإنها تخضع في حكمنا عليها إلى منسوبنا الثقافي والحضاري٬ وقدرتنا على الاسترجاع وفهم دلالات الكثير من الرموز الاجتماعية وتوظيفاتها اليومية في الرسائل التواصلية.
منسوب ثقافي وردت فعل ذاتية تكون المحددة لطبيعة العلاقة التي تجمعنا في لحظات دفق تعبيري من المشاعر قد ترتقي بإنتاجنا الإبداعي إلى مرتبة الفنية والعمل التقني المبتكر كما قد يرتد الأثر سخطا ونقمة على فعل يرى فيه البعض مسا من خصوصيته واعتداء على مشاعره فيقابله بالتجاهل أو الصدّ الذي قد يرتقي إلى درجة العنّف. وفي كلا الحالتين يرتبط الأمر برسالة بصرية أهدافها تعبيرية تواصلية لكن نتائجها قد تختلف بحسب السياق الزمني الذي صيغة فيه وطبيعة الأطراف المتلقية لها٬ والتي تخضع في ردة فعلها بدورها إلى درجة تمكنها من فهم طرق توظيف الكثير من الرموز والعلامات وتأويل مقاصدها٬ وهذا ما لا يشترك فيه اثنان من البشر٬ على اعتبار خصوصية هذا المجال واختلاف طرق فهمنا وتوظيفنا لأدنى الرموز والعناصر التشكيلية في أي مشهد فوتوغرافي.
توظيف للصورة قد يختلف من شخص إلى آخر على قدر المكتسبات المعرفية لكل منهما٬ وما يحمل من منسوب ثقافي قادر على تحويل واستبطان مشاعر الفرد لحظة تعرضه لهذا المثير البصري إلى إعادة إنتاجها في شكل وتركيبة تشكيلية مميزة٬ قد يجمع فيها العديد من العناصر والرموز والعلامات ذات الأبعاد الدلالية القادرة على إيصال الكثير من الرسائل والمضامين لأي مشاهد قد يتفاعل بدوره مع بعضها وينتقد وجود أخرى٬ دون أن يخرج ذلك عن اطار التفاعل البصري. لأن طرق توظيف جملة تلك العناصر التشكيلية على اختلاف جنسها ولونها وطبيعة تركيبتها سوف يختلف من أثر إلى آخر ومن شخص إلى ثان بحسب حيثيات لحظة التوظيف والغاية المراد إيصالها في بعدها الرمزي والتعبيري.
من هنا ندرك بأن كل عنصر تشكيلي وجد في أي محمل بصري سيخضع في توظيفه٬ قراءته وفهمه أو الحكم عليه لحيثيات اللحظة الزمنية التي أحاطت بتأطيرنا له في صلب المشهد٬ وسيستجيب لجملة مقاصدنا الرمزية والدلالية في إطار الوظيفة التواصلية لهذا المحمل. فالصورة بما هي حدث بصري بامتياز لا يمكن إدراكها إلا ضمن حيّز فضائي خاص ومحدد٬ ويحتاج إلى إعداد مسبق وثقافة عملية وعلمية متراكمة عبر التجارب. وعليه فإن جميع تلك الوحدات والعلامات الرمزية تفترض، قبل كل شيء، إدراكا كليا للموضوع الذي تقدمه الصورة٬ من أجل إعداد مساحة قادرة على استيعاب مجمل الانفعالات التي تودعها العين المبدعة داخل هذا المحمل البصري.
فكل تلك العناصر تشكيلية، ورغم كونيتها وارتباطها الكلي بالإدراك الإنساني للأشياء، فإن استيعابها وتمثلها ليس من الكونية في شيء. بمعنى إن إدراك هذه الأشياء هو إدراك ثقافي، وكل شعب ومجموعة بشرية تسند لها قيمة ودلالات تعبّر من خلالها عن الحالة النفسية التي تمر بها. لذلك فإنه لا يمكن الحديث عن خطاب ومعاني كوّنية موحّدة حول هذه العلامات والرموز نظرا لمحلية دلالاتها وإرتبطها بسياق ثقافي بعينه. فلا وجود لمعاني جاهزة ومطلقة لتأويل تلك التوظيفات، لأن الأمر في اعتقادنا “يتعلق بحساسية خاصة تجاه محيط المؤول وتجاه ثقافته وتاريخه وتاريخ الآخرين أيضا” ٬ فهو لا يملك دلالة قارة وثابتة ومشتركة بين جميع الكائنات البشرية.
بمعنى أن كل توظيف لأي علامة رمزية مهما بلغت درجة كبرها أو صغرها ستكون لها جملة دلالات ومقاصد محددة ومرتبطة بالمشهد عينه دون سواه٬ إذ لا يمكن أن تتوحد كل تلك المعاني والاستعمالات وإن أردنا لها ذلك٬ نظرا لطبيعتها التواضعية الاجتماعية الغير خاضعة لنسق علمي موحد وأزلي٬ وإلا انتفت منها الصبغة البشرية والفنية التي تثري وظيفتها التواصلية والتعبيرية. وتلك من مميزات العلامة الرمزية٬ ولعلها من طبيعة وحدود توظيفها في الأثر الفوتوغرافي٬ الذي ينفي صبغة الجمود والنمطية عنها. فمجمل الدلالات التي تثيرها أية صورة من خلال بعديها الأيقوني والتشكيلي ليست وليدة جملة من المعاني القارة والمثبتة في أشكال لا تتغير، بل إن لها أبعاد أنتروبولوجية متغيرة ومشتقة من الوجود الإنساني ذاته.
فالصورة الفوتوغرافية أثر بصري متحول ومتجدد المقاصد والتأثير٬ قد يحيي فينا مشهد خاص من الانفعالات والمشاعر بعد سنوات أو عقود على التقاطها أكثر مما فعل في أناس غيرنا لحظة التقاطه (والعكس صحيح أيضا). لا لرفعة الأنا الأعلى لدينا وتفاخر بالأنساب وشرف الانتماء٬ بقدر ما نخضع في تفاعلنا مع هذه المحامل لتأثير رجعي للحظة الآنية وأحكامها النفسية٬ أو لمقاصدنا وتوظيفاتنا السياسية والاجتماعية والذاتية الضيقة التي تسعى دائما لتحويل المعنى٬ والاستفادة من تلك الشهادات الحية في الظفر بغنائم وافتكاك المساحات من الآخر المخاطب والمعني بالرسالة بصفة مباشرة أو غير مباشرة. وهذا ما نستطيع حصاد نتائجه كلما ارتددنا على أعقاب تاريخنا القريب -الذي أمعن الآخر الغريب في تدنيسه وإهانتنا- لندرك الأثر البالغ الذي خلفته مثل تلك المشاهد من سجن أبو غريب في نفوس الكثيرين منا إبان الاحتلال الأمريكي للعراق٬ مشاعر وإنفعالات قد تضعف أو تتعاظم بمرور الزمن على وقوعها وغياب الكثير من حيثياتها.
ثم إن تلك الحركية والصبغة التوليدية المتجددة للأثر البصري هي من أبرز خصائصه وإحدى أسباب اختلافنا حول فهمه وطرق تأويله وتوظيفه٬ دون أن ينقص ذلك شيئا من طاقته التعبيرية. بل لعلها مصدر جاذبية وقوة هذه الرسالة٬ برغم اختلاف توظيفاتنا وحدودها التعبيرية والرمزية٬ واتفاق المشاهد والمتلقي لهذا الأثر مع بعض مقاصدنا. فتأويل المحمل البصري يحتاج في عمومه إلى إعادة بناء جملة السياقات المفترضة٬ من خلال استعادة المعاني الأولية للعناصر المكونة للصورة، وضبط العلاقات التي تربط بينها ضمن نص المشهد. لنخلص إلى أن كل القراءات التي تتناول الرسائل البصرية هي عبارة عن تأويلات فردية وخاصة يستحيل معها تطابق الأثر مع مرجعه، فالصورة في خلق وتأويل متجددين.
مُشاهد ومُتلقي مُستهدف بالصورة٬ وله الدور البارز والمحوري في فهم وتأويل مختلف تلك العلامات والرموز التي تحويها٬ وإكسابها معاني ودلالات من أجل ادعاء بلوغ مقصد الرسالة وإتمام فعل التواصل مع الآخر. لكنه أيضا فعل متوقف بدوره على درجة وعي المشاهد بقيمة هذا المحمل وطاقاته التعبيرية والترميزية٬ ومدى إمكانياته التواصلية. بمعنى إن تفاعل الإنسان مع هذه الرسالة مرتبط أساسا بما يمتلك من منسوب ثقافي وحضاري عبر تجارب السنين٬ تحكم أسلوبه في الفهم والتأويل٬ وتحدد مدى ارتباطه بالآخرين وبالعالم المحيط به.
لكنه ومع ذلك فهو يخضع في هذه العلاقة لنوع من الإكراه والتسلط البنيوي بما أنه محكوم بنظام علامات خارجي مؤسس اجتماعيا٬ ولم يخصص بالأساس من أجل تأمين نوع من التفاهم البينذاتي. وهذا يعد من علامات التباين الذي يعيشه الإنسان في ارتباطه بمحيطه٬ نظرا لأنه يضطر إلى اعتماد منظومة رمزية تمثل بديلا عن واقعه المعيش. تجبره على التخلي عن طرق التواصل المباشر مع الآخرين من أجل التأسيس لعلاقة تكون أكثر انفتاحا وقبولا لمختلف مكونات محيطه الاجتماعي٬ بالنظر لقدرتها على فتح باب التأويل والفهم المغاير لتعبيرات الإنسان عن خوالج ذاته وأحكام علاقته بالآخرين. ومن هنا تحول ذلك المحمل البصري الذي كان في الأصل رسالة تواصل وتعبير٬ إلى عنصر تأثير مفسد للتواصل ومعطل للحوار مع الذات. بما أنه بمقدوره بث العديد من السموم ومعاني الكره داخل رسائل المحبة٬ وقلب مقاصد الكثير من التعبيرات من خلال فرض تأويلات مميزة وتوجيه مقاصد وأهداف الرسالة لتوظيفات تشكيلية محددة تخدم بعض الأغراض الخاصة٬ أو يمكن أن تكون أيضا قد بلغتها عن جهل بمعاني بعض التوظيفات التشكيلية.
من هنا ندرك أن لتصريح العلامات والرموز حدود أيضا في التوظيف من أجل توجيه رسائل الصورة٬ وبلوغ مقاصدها التعبيرية. إذ تخضع درجة تصريح أو غموض هذه العلامات إلى مدى وعي ومعرفة الموظف أو المؤول بمنظومة الرموز المستعملة -في أي محمل بصري كان-٬ دون التغافل طبعا عن الحيثيات الحضارية والتاريخية التي حفت بسياق الاستعمال٬ ودرجة مواكبة المستهدف بالرسالة البصرية لتعاقب التطورات التقنية والتكنولوجية المصاحبة للأثر البصري بالأساس.
من هذا المنطلق يتأكد لنا بأن درجة التصريح أو انحصار غموض أي رسالة بصرية مرتبط أولا وأخيرا بطبيعة المنظومة الرمزية المتداولة في تلك الحقبة التاريخية دون سواها٬ والتي هي إنعكاس لمدى تطور تلك المجموعة البشرية. بحيث تبتذل العلامة الرمزية في استعمالها وفهم مقاصدها كلما إشّتد تخلف المجتمع٬ وتراجع منسوب إنتاجه الثقافي٬ في حين تشّحن الكلمات والعلامات رمزية ودلالة في حالات التطور التقني٬ وتوتر أو انسجام التفاعل الاجتماعي. ليكون بذلك المحمل البصري سيّد نفسه ونتاج بيئته٬ من المحال تكرار تجربته وإن تشابهت الظروف. ف” لا يمكن التعامل مع منتجات الفنون البصريّة على أنّها مستنسخات من الواقع وإنّما هي إبداع وخلق٬ بقدر ما يتوافر على عناصر التشابه والتماثل يتوافر على عناصر الاختلاف والتمايز وهو ما يُضفي على العلامة الفنيّة بصمة خاصّة أو تسنينا خاصّا بإمكانه أن يخلق لدى المتلقّي إدراكا مميّزا” .
لكن هذه الخصائص المميزة للأثر البصري وإن مدحت فضاءات التحرر فيه٬ فإنها قد رسمت حدودا ضبابية لقدراته وإمكاناته التعبيرية والتواصلية٬ على اعتبار اختلاف وتمايز صلاحيات كل العناصر المتدخلة في عملية الإنتاج والإبصار ثم الفهم والتأويل. وهذا الأمر بقدر ما يحّد في اعتقادنا من القدرات التعبيرية لرسالة البصرية٬ فإن وظيفتها التواصلية تحافظ على قدر من الاستطاعة وتأمين درجة من التفاهم –وإن كانت دنّيا- بالنظر إلى الدور الذي تقوم به جميع العناصر التشكيلية المكونة للعمل البصري من جهة قيمتها التواصلية.
فجميع العناصر المكوّنة للأثر البصري٬ وحتّى أكثرها شكليّة وثانوية تملك قيمتها التواصليّة الخاصّة المستقلّة عن الموضوع٬ لأن مختلف تلك العلامات والرموز الموظفة في أي أثر إبداعي هي “لغة مسننة متواضع عليها٬ أودعها الاستعمال الاجتماعي قيما للدلالة والتمثيل” . فهي في جوهرها خاضعة لمبدأ العرف والتواضع٬ وجملة الدلالات والمعاني التي يمكن توليدها أو الكشف عنها من العلامات البصرية٬ وهي دلالات وليدة تسنين من طبيعة ثقافية٬ بدورها تخضع لجملة حيثيات حضارية وتاريخية أحاطت بواقع حالها. فندرك بعضا من مقاصدها التواصلية٬ وإن افتقدنا المنسوب الثقافي والمعرفي الذي باستطاعته تأمين فكّ شفرة العديد من التوظيفات الرمزية٬ وهذا يعود بالأساس للطبيعة الاجتماعية لتلك العلامات٬ “فالخطوط والألوان في صورة ما تعني شيئا (…) فالعمل الفنّي علامة وبنية وقيمة في الوقت نفسه” .
منظومة رمزية وإن اختلفت تعبيراتها وإمكانياتها التواصلية٬ واشتكت شيئا من الغموض في التوظيف بحسب المرجعية الحضارية والثقافية لمنتجها٬ لا يمكن تجاهل دور المتلقي أو الجهة المستهدفة بهذا المنتج البصري. لأن اختلاف المنسوب الثقافي والحضاري للمشاهدين وضعف مكتسباتهم التحليلية واللغوية من شأنه أن يوجه رسالة أي عمل إبداعي -وخاصة البصري منه- ويضمن نجاح أو فشل مقصده التعبيري والتواصلي٬ في خطوة ترتبط شديد الارتباط بطرق وزمن بث تلك الرسالة٬ دون التغافل طبعا عن مقاصد الباث ونواياه الخفية. فقد كانت مثلا أسطورة سقوط بغداد في أفريل سنة 2003 مرتبطة أساسا بصورة قامت ببثها العديد من وسائل الاتصال الجماهيري تزامنا مع زحف عسكري لم تستطع كل الدوائر العالمية تبين حقيقة نتائجه. لكن ذلك المشهد البصري الذي صُنع خصيصا للحدث٬ كان له الأثر البالغ في إقناع الرأي العام العالمي وإحباط عزيمة النظام العراقي بالكامل.
وبذلك نتبين من خلال هذا الأثر قدرة وسيلة الاتصال على التأثير وصنع أو توجيه الرأي العام٬ فالأمر استحال سوى بين المثقف المتمكن من آليات الفهم والتحليل للأثر البصري والمواطن البسيط الذي ينفعل استجابة لأثر المشاعر والعواطف عليه. ولن تتضح حقيقة الرسالة إلا بعد الاستفاقة من غيبوبة رد الفعل٬ فتتضارب المواقف وتختلف الحجج حول رمزية العلامة المصاحبة للفعل.
بمعنى أن قدرة الإنسان على فك شفرة أي رسالة بصرية وفهم وتأويل دلالات ومعاني علاماتها مرتهن أولا وأخيرا بحجم مكتسباته المعرفية والثقافية حول الموضوع. إذ لا يمكن أن نبلغ نفس درجة الفهم والتأويل لأي علامة رمزية كانت مهما تشابهت معارفنا واطلاعنا على دلالات توظيفها٬ فالعلامة إجتماعية عامة وفهمنا لأبعادها ومعانيها تحكمه الذاتية والإدراك الخاص لمختلف مكونات المنظومة الرمزية. فقدراتنا الخاصة على تحليل مكونات أي علامة بصرية٬ وإعادة تركيبها على نمط معرفي وثقافي معين حتى تستجيب لطاقة إدراكنا وفهمنا المحدود لطبيعة المقاصد والتعابير التواصلية٬ ليست على قدر المساواة وتخضع لجملة المكتسبات التحليلية واللغوية الشخصية٬ التي تتبدل بحسب موضوع الرسالة والغرض من وراءها أو مقاصدنا المباشرة والخفية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملحوظة: إدارة المجلة غير مسؤولة عن أي مقالة وهي بالضرورة تعبر عن رأي كاتبها..لذلك وجب التنويه..وشكراً

من فريد ظفور

مصور محترف حائز على العديد من الجوائز العالمية و المحلية في مجال التصوير الفوتوغرافي.